لا تُبنى الحكومة من وجهة نظر الإسلام على التصنيفات الطبقيّة التي تكرّسها أكثر المجتمعات بوصفها (تصنيفات الأمر الواقع)، فالإسلام لا يعترف بأيّ تصنيف طبقيّ، بل يُقرّ بدلاً من ذلك مبدأ الأخوّة الإيمانيّة، ويعتبر التقوى والعمل والصلاح والكفاءة أسساً ومعايير للتفاضل.
كما يرفض الإسلام أيضاً أن تقوم حكومته على مبدأ السلطة الفرديّة أو الجماعيّة؛ إذ الحكومة في الإسلام ليست ملكاً لفردٍ أو جماعةٍ أو حزبٍ أو فئة.. وإنّما هي تجسيد لتطلّعات شعب بأكمله، وهي تنبثق من توجّهات سياسيّة واجتماعيّة عامّة يحملها شعب واحد يعيش حالةً من الاتّحاد أو الانسجام في العقيدة والتفكير والرؤى، ويشعر بضرورة التغيير والإصلاح ليصل إلى السعادة الحقيقيّة، المعبّر عنها في الأدبيّات الإسلاميّة ﺑ (السير إلى الله).
ومن واقع هذا الشعور الواعي، ينطلق هذا الشعب ـ هو نفسه ـ في مسيرة الإصلاح والتنظيم، فيرغب باختياره وبمحض إرادته الانضواء تحت لواء حكومةٍ يقودها الإسلام، وتحكمها البرامج والقوانين الإلهيّة، تماماً كما حصل في حالة الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، حيث قامت الحكومة الإسلاميّة فيها عقيب استفتاء عامّ شارك فيه الشعب بمختلف فئاته وأطيافه.
ولأنّ الهدف من إقامة الحكومة الإسلاميّة إنّما هو هداية الإنسان للسير نحو النظام الإلهيّ، كمقدّمة لتجلّي الأخلاق الإلهيّة في كافّة المجتمع البشريّ، فإنّ هذا يتطلّب مشاركة فعّالة وشاملة من جميع أفراد هذا المجتمع في مسير التطوّر والتكامل والتكافل الاجتماعيّ، بمعنى: أنّ المطلوب من كلّ واحد ينتمي إلى هذا المجتمع أن يتحمّل مسؤوليّاته ويضطلع بها، وأن يمارس دوره على أكمل وجه، من موقعه الذي هو فيه، وبما تسمح له ظروفه وطاقته..
ففي حكومة الإسلام، كلّ فرد من الأفراد يكون شريكاً في صنع القرار، بل ومسؤولاً مباشراً عن إعمال القوانين الإسلاميّة وتنفيذها. ولا غرو! فإنّ حكومة الإسلام ما هي إلّا حكومة المستضعفين في الأرض، تلك التي يقول عنها تبارك وتعالى: ﴿ونريد أن نمنّ على الذين استُضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمّةً ونجعلهم الوارثين﴾.
وفي هذا الإطار، يأتي الدستور الإسلاميّ ليكون هو الوصيّ على عمليّة إعداد الأفراد وتأهيلهم لهذه المشاركة في الحكم وفي جميع مراحل اتّخاذ القرارات المصيريّة، وذلك من خلال ما تغرسه الأفكار الدستوريّة في الوعي الشعبيّ العامّ من حسٍّ وطنيّ وشعور بالمسؤوليّة وتذكيرٍ بالآمال والتطلّعات.
وفيما يلي نستعرض نماذج من النقاط المضيئة التي اشتمل عليها دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة، والتي كان لها، ولا يزال، الدور الكبير والفاعل في إنجاح هذه التجربة الثوريّة، والرقيّ بإيران إلى مصافّ الدول العظمى، وفي جعل نظام الحكم فيها واحداً من الأنظمة العالميّة المتصالحة مع شعوبها:
1) ولاية الفقيه العادل:
يقوم الدستور بإيجاد الأرضيّة المناسبة لتسليم القيادة للفقيه الجامع للشرائط، والذي يعترف به الناس قائداً لهم، على اعتبار أنّ العلماء بالله هم الأمناء على حلاله وحرامه، وأنّ عدالة الفقيه على رأس الدولة يضمن صيانة الأجهزة الحكوميّة المختلفة من الانحراف عن وظائفها الإسلاميّة الأصيلة.
2) الاقتصاد وسيلة لا هدف:
تتعامل المذاهب المادّيّة وغير الإسلاميّة مع الاقتصاد بوصفه هدفاً رئيسيّاً ومحوريّاً؛ إذ هي ترى في تكديس الثروة وزيادة الربح والمنفعة مطلباً يستحقّ أن يُفني الإنسان نفسه وعمره لأجله، الأمر الذي يحوّل الاقتصاد إلى لاعبٍ أساسيّ في ارتقاء المجتمعات وانحطاطها، بينما يجعله الإسلام مجرّد وسيلة يُراد منها بالدرجة الأُولى سدّ حاجات الإنسان في مسير تكامله ورقيّه، وفرق شاسع بين أن يكون الاقتصاد هو معيار الرقيّ والانحطاط، وبين أن يقتصر دوره على الإعداد للتكامل الإنسانيّ. وعلى أساس هذه النظرة الواقعيّة، يقرّ الدستور أنّ برنامج الاقتصاد الإسلاميّ هو توفير الفرص المناسبة لظهور المواهب الإنسانيّة المختلفة، الأمر الذي يُلزم الحكومة الإسلاميّة بأن يكون في صلب خططها السعي الجادّ نحو تأمين الإمكانات اللّازمة وفرص العمل لكافّة المواطنين، وبصورة عادلة ومتساوية.
3) المرأة في الدستور الإسلاميّ:
بعد تقويض مظاهر الاستغلال الأجنبيّ، وفي ظلّ الحكومة الإسلاميّة، يستعيد الإنسان قيمته وهويّته الحقيقيّة وكافّة حقوقه المدنيّة، وحيث إنّ المرأة على طول التاريخ هي أكثر من عانى من ظلم المستعمرين وتهميشهم لدورها الحقيقيّ، كونها تُعامل تارةً كمجّرد آلة للجنس والاستيلاد، وأُخرى كسلعةٍ تُباع وتُشترى، فمن الطبيعيّ أن يكون لها نصيب الأسد من الحقوق المستردّة بفضل نظام الحكم الإسلاميّ، ولا سيّما لجهة ما لها من الدور الكبير والذي لا يمكن الاستعاضة عنه بحالٍ من الأحوال، في تكوين الأسرة، التي هي اللّبنة الأساسيّة في المجتمع الإسلاميّ، فالمرأة هي أمّ المجتمع الإسلاميّ، وبالتالي: فهي ضرورة ملحّة في مسيرة الإنسان، كلّ الإنسان، نحو التكامل والنموّ. وبهذا المفهوم، تخرج المرأة عن كونها شيئاً جامداً لا كيان له، أو سلعة تُوظّف كأداة في عالم الاستهلاك المادّيّ والاقتصاديّ، ويكون لها الحقّ الكامل في أن تشارك الرجل في كافّة ميادين الحياة العمليّة.
4) القضاء في الدستور:
النظام القضائيّ النزيه والشفّاف ضرورة إنسانيّة ملحّة، وتشتدّ الحاجة إليه في مسيرة الحكومة الإسلاميّة؛ لكونها تأخذ على عاتقها القضاء على الانحراف والفساد داخل الأمّة الإسلاميّة. وفي هذا السبيل، يحتّم الدستور على الدولة الإسلاميّة العمل لأجل إيجاد نظام قضائيّ يقوم على العدالة الإسلاميّة، يديره قضاة عدول من ذوي الخبرة الواسعة بالأحكام الدينيّة الدقيقة.
5) السلطة التنفيذيّة:
السلطة التنفيذيّة في الدستور الإسلاميّ هي الجهاز الموكل إليه مهمّة تنفيذ الأحكام وتطبيق القوانين الإسلاميّة، وبالتالي: فهي القناة الأهمّ للوصول إلى الهدف النهائيّ للحكم الإسلاميّ، وهو بناء مجتمع إسلاميّ فاضل. والدستور الإسلاميّ مع أنّه لا يقيّد الآليّات التنفيذيّة بإطار معيّن، بل يتيح له سلوك كافّة السبل المتاحة والمشروعة للوصول إلى هذا الهدف الكبير، إلّا أنّه في الوقت عينه يرفض رفضاً قاطعاً الأسلوب الإداريّ البيروقراطيّ الذي تفرزه وتدعمه وتغطّيه الأنظمة الطاغوتيّة.
تعليقات الزوار