محمد صادق الحسيني

 

مرة أخرى تسقط إسرائيل في فخ "الفطنة الإيرانية المرعبة" وتخرج من مناورة بغداد "بخفي حنين"!، فقد راهنت على تفجير الخلاف بين مجموعة الخمسة زائد واحد مع طهران ظنا منها بأن أي مفاوضات جديدة تحت الضغط وتحت التهديد بالنار يمكن أن تدفع المفاوض الإيراني لتقديم تنازلات!

 

لقد فات حكام تل أبيب بأن إيران يوم بدأت مفاوضاتها مع الغرب في العام 2011 م لم يكن لديها لا الإمكانية في تخصيب اليورانيوم ولا أجهزة طرد مركزي يعتد بها ولا منشآت نووية مكتملة ولا حتى أوليات القدرة على صناعة الوقود النووي محليا ومع ذلك قبلت بفكرة "مداراة العدو" التي يتحدث عنها شاعرها الكبير حافظ الشيرازي بهدف اقتناص فرصة تطبيق المقولة المرادفة لها اي "المروءة مع الصديق"!

 

فيما دخلت اليوم مفاوضات بغداد وهي ليس فقط تملك القدرة على التخصيب المحلي لليورانيوم بنسبة عشرين في المائة, بل وطورت الجيل الرابع من اجهزة الطرد المركزي وهي من النوع المتفوق والمواكب لأعلى معايير التقدم العلمي الدولية وتقدمت في بناء المنشآت النووية لتصبح مالكة لمنشأة عالية التقنية والبنية التحتية ما يجعلها غير قابلة للاختراق من قبل المنظومة الهجوحية الصهيونية والأمريكية ألا وهي منشأ ة "فر دو" قرب قم في بطن جبالها والمحاطة بأعلى درجات التقنية للدفاع الذاتي, وأخيرا وليس آخرا فإنها ذهبت الى مفاوضات بغداد وهي قد انجزت "معجزة" الاكتفاء الذاتي في مجال صناعة الوقود النووي تخصيبا وصفائج مضغوطة أدخلت إلى مفاعل امير آباد للأبحاث الطبية قرب طهران قبل السفر إلى بغداد بأيام هذا في وقت بات لديها منظومة صاروخية دفاعية مكتملة الشروط لردع اي هجوم مباغت عليها من قبل أعدائها, ما يعني بان المفاوض الإيراني ذهب إلى العاصمة العراقية بمعادلة ستة مقابل ستة وليس ستة مقابل واحد كما ظن الإسرائيلي وتخيل!

 

من هنا كان كلام سعيد جليلي الامين على الأمن القومي الإيراني ليس فقط واضحا وشفافا جدا قبل وتوجهه إلى بغداد بل وحازما بما فيه الكفاية عندما قال:

 

أرجو من الغرب أن لا يخطئ في حساباته ولا يسئ تقدير الموقف تجاه إيران, فقد ولى زمن التفاوض تحت الضغط والنار وما يضيق ويضمر دوره هو عصا الضغوط وما بدا يلوح واضحا في الافق هو زمن الحوار وتكافؤ الفرص بين الغرب وبين طهران!

 

وهكذا الأمر في بغداد فعلا, إذ أن الغرب بكليته ومعه كلب حراسته الإسرائيلي قدم إلى بغداد وهو لا يملك إلا الاذعان لأمر واقع ألا وهو: إيران دولة نووية مكتملة ومكتفية ذاتيا لا يملك إلا الإذعان لهذه الحقيقة والتعامل معها معاملة الند للند!

 

لقد نسي الإسرائيليون المعربدون على أبواب محادثات بغداد بأن طهران المفاوضة في بغداد ذهبت هذه المرة لمحاورة الغرب وهي قوة جغرافية سياسية اخذت حيزا كاملا لها في فضاء مسرح ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير أو الموسع ما جعلها تجلس إلى طاولة المفاوضات وهي معنية ليس فقط بمناقشة ملفها النووي مع الطرف المقابل, بل ومناقشة كل الملفات الساخنة اقليميا ودوليا ان على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الأمني!

 

كيف حصل هذا وكيف افلتت إيران من حبال وحبائل الغرب المخادع والمنافق ولكن المتعالي والمتكبر أيضا!؟

 

ببساطة جدا, لأنها تمسكت بحبل اليقين بقدرة شعبها وقدرة علمائها واستعانت على قضاء حوائجها بالكتمان واعتمدت منهج الصبر الاستراتيجي والفطنة في التعاطي مع الغرب المغبي أو المستغبي والذي يقف خلف قوة حمقاء مستعلية وممقوتة لدى غالبية شعوب العالم اسمها "إسرائيل"!

 

لقد عملت طهران بصمت "مخيف" و"مرعب" كما تصفه بعض اقلام الغرب الواقعي والمتواضع, حتى جعلت خط العودة إلى الوراء في أية محادثات جدية مع خصومها أو أعدائها أمر غير قابل للتحقق نهائيا!

 

كما أدارت كل اشكال المفاوضات والحوار على قاعدة أن لا شيء لديها تخسره اذا ما بقيت مصممة على الحزم في مواقفها وإبقاء باب الحوار مفتوحا على الدوام ما دامت هي مطمئنة انها على حق في مطالبة حقوقها الثابتة والمشروعة في مشروع نووي سلمي!

 

على خط مواز لم تترك فرصة للعدو ليدخل إلى دوائرها الداخلية من اي ثغرة بل سرعان ما كانت تلملم جراحاتها اوجاعها ومعاناتها الداخلية وتعيد ترتيب البيت الداخلي كلما بدا عليه بعض التصدع على قاعدة مثلث القيادة العليا الشهير: العزة والحكمة والمصلحة العليا!

 

وهي نفس القاعدة التي ادارت فيها حوارا طويلا ومعقدا ومتشابكا مع الغرب المستكبر والمتعالي بصمت وفطنة "مرعبة" حقا!

 

ذلك انها كانت تدرس أوضاع القوة الامبريالية الأمريكية الاحادية ومعها حليفتها أوروبا العجوز المهترئة والمتهافتة اقتصاديا وحاجتها الماسة إلى أسواق ومقدرات هذا الشرق العظيم من جهة وتراجع قدراتها العسكرية والردعية في مواجهة اي صعود لعالم الشرق الجديد بسبب استنزاف قدرات كليهما اي امريكا وأوروبا في حروب عبثية متنقلة لم تأت عليهما إلا بالخيبة والفشل تلو الفشل وانكسار الهيبة وتراجع دور شرطي العالم الذي ارادته امريكا لنفسها اولا وتغنت بها الساكوزية لفترة ظنا منها أنها قادرة على حجز موقع ودور القيصر الأوروبي لساكن الاليزيه السابق فإذا به يخرج من حلبة السباق هو الآخر بخفي حنين!.

 

في بغداد كانت طهران تعرف ان الامريكي لا يمكنه تحمل اعلان الفشل في ظل المعادلة الآنفة الذكر وبالتالي فهو كان مضطرا لأي اتفاق يحفظ له ماء وجهه حتى نهاية السباق الانتخابي الرئاسي!

 

اما دول أوروبا العجوز فهي كانت تريد الخروج من شبح حرب مزعومة تهدد بها تل ابيب تعرف أنها لن تحصل لكنها ظلالها إن بقيت تخيم على سماء مفاوضات النووي الإيراني فإن أوروبا ستخسر ما تبقى لديها من احتياطي اليورو!

 

الروس والصينيون من جهتهم لم يريدوا لهذه الجولة من المباحثات سوى أن تثبت موازين قوى جيواستراتيجية جديدة يعرفون جيدا أن من أوجدها هو وصول إيران إلى المتوسط في ظل صمود "مرعب" ايضا للحليف السوري وتصاعد للقوة الردعية للذراع الشعبية لمحور أثبت أنه الاكثر رعبا في فطنته في تاريخ حروب المقاومات الشعبية العالمية ضد الاستعمار والامبريالية!

 

وهكذا تصرفوا بحكمة وصبر وفطنة تمكنوا من خلالها كسب المزيد من مواقع التقدم في المعادلة الدولية التي تتجه الى مزيد من تعدد الاقطاب على حساب احادية امريكية اثبتت يوما يوم انها كانت متهورة بل ومجنونة, بل وذاهبة بسرعة البرق الى الانحدار المتسارع في وادي الهزيمة الاستراتيجية مهما استعرضت عضلاتها الحربية وقدراتها التدميرية, ذلك ان قدرات الفطنة والإدارة المحكمة والحكيمة يمكن ان تحولها إلى كتل من الحديد الخردة غير القابلة للاستخدام أمام خصم اتقن "دبلوماسية حياكة السجاد"!