قواعد الفكر السياسي للإمام الخميني(ره)
الكاتب: يحيى فوزي
هذه المقالة هي خطوة في اتجاه تعريف المحققين والمخاطبين ومحبي التعرف على الفكر السياسي للإمام الخميني:
مفهوم الفكر والفكر السياسي
كلمة الفكر في اللغة بمعنى التفكر والتأمل وتعتبر نوع من الفعالية الذهنية للإنسان العاقل لأجل كشف المجهول. وفي كتب المنطق فإن الفكر هو عبارة عن ترتيب المعلومات من أجل كشف المجهولات، أو هو عبارة عن حركة الذهن من المبادئ نحو المطلوب.
الفكر السياسي ـ هو مجموعة من الأفكار والعقائد ألتي تطرح وبطريقة عقلائية ومنطقية مع الاستدلال في كيفية بناء الحياة السياسية أو وصفها وبيانها، والفكر السياسي لشخص هي تمثل استطاعته في بيان آرائه وعقائده بصورة عقلائية مع الاستدلال المنطقي، إلى الجد الذي تكون أفكاره وآرائه تخرج عن النطاق الشخصي أو (ليست شخصية).
والهدف من الفكر السياسي ليس توضيحاً علمياً فقط بل هو تغيير للواقع مع التأييد أو المخالفة الأخلاقية له، وفي الواقع إن الهدف من الفكر السياسي هو إيجاد الطرق الجيدة واللائقة للعمل السياسي وإدارة المجتمع.
وفي الواقع إن التفكير السياسي هو الإجابة عن الأسئلة الأساسية لمجتمعك حول الأمور السياسية، أسئلة من قبيل من الذي يجب أن يحكم البلد؟ لماذا يجب اتباع الحكومة، كيف يمكن اتخاذ القرار الصحيح في إدارة المجتمع؟
مفهوم الفكر السياسي للإمام الخميني(رض)
الفكر السياسي للإمام الخميني هو جزء من فكره الضخم ذو الأبعاد المختلفة، إن الإمام الخميني هو شخصية متعددة الأبعاد فله مباحث عديدة في العرفإن / الفقه، الفلسفة، علم الكلام، والسياسة الباقية بيننا. كان مفكراً عظيماً وله باع وأهداف في النواحي العلمية المختلفة وهذه الصفات صاغت منه شخصية جامعة الأطراف، له فكره العميق الغني والباقي، بصورة تجد الفكر المنطقي المنسجم في آثاره بشكل مترابط الأجزاء، وعليه فإن معرفة فكره السياسي مترابط ارتباط وثيق بالأبعاد الأخرى لشخصيته. والصورة العالمية الغالبة للإمام الخميني هي صورة قائد سياسي، عنوانه قائد اكبر ثورة في القرن العشرين، عرفت شخصيته بكونه استطاع من التعبئة المليونية للناس، من إسقاط أكبر نظام شاهنشاهي في إيران والمتمتع بالحماية الدولية، وبناء نظام سياسي جديد بدلاً منه.
وفي الحقيقة فإن التعبئة لقائد الثورة وبناء النظام السياسي الجديد هي الوجه الغالب لتصوير الإمام الخميني، في الوقت الذي يكون فيه الوجه الحقيقي والمخفي للإمام والمهم هو عقائديته، فهو يعد مفكر من الطراز الممتاز، هذه صفاته التي جعلت منه شخصية مفكر خالد في العلم والفكر وله أتباع ونقاد كثر.
إن زيادة اتباع فكر معين أو نقاده علامة على أن هذا الفكر له أهميته الخاصة، يعني أن هذا الفكر له قابلية التأثير القوي. وهذا الأمر علامة على مكانة فكره في عالمنا المعاصر.
ممكن أن نطرح فكر الإمام الخميني في عالمنا المعاصر من أبعاده المختلفة:
أولاً: كان الإمام الخميني عقائدياً في الثورة الإسلامية، وعليه ولمعرفة إيديولوجية الثورة الإسلامية فنحن بحاجة إلى معرفة أبعاد وزوايا فكر الإمام الخميني.
ثانياً: معرفة فكر الإمام الخميني لأنه احد المصلحين الدينيين في عالمنا المعاصر أمر مهم للمسلمين وتحت عنوان مثالاً يحتذى به، لأنه سعى في أن يزاوج بين الدين والسياسة في عالم اليوم فهو أحيا مكانة الدين والمعنويات وأعاد بناء الروابط بين الدين والدنيا والعقل والدين، وهو أعطى نموذج للتقدم الذي يستطيع الصعود بالإنسان نحو إنسانيته ووافق بين التقدم والمعنويات، وهذه الأفكار تمثل الاضطراب الفكري لمسلم اليوم ولهذا فإن معرفة فكر الإمام الخميني بعنوانه عالم ديني لكثير من المسلمين الذين يحملون هذا الاضطراب أمر مهم جداً، ومعرفتها ستكون حلاً لكثير من مشاكل مجتمعنا المعاصر اليوم.
بالالتفات إلى النكات الواردة في هذه المقالة فقد قمنا بدراسة القواعد المؤثرة في الفكر السياسي للإمام الخميني، ومعرفة الفكر السياسي للإمام عادة يتأثر بنظرة الإسلام للعالم وللإنسان ومن جهة أخرى يتأثر بفكره العرفاني والفقهي والكلامي، ولهذا فنحن منذ البدء بحثنا في النظرة الفلسفة والعرفان ية للإمام فيما يخص العالم والإنسان وتأثيرها على فكره السياسي، ثم دور العرفان والكلام وفي النهاية دور الفقه في التأثير على الفكر السياسي للإمام الخمني.
مبادئ المعرفة ومعرفة الوجود والإنسان لدى الإمام الخميني
إن مبادئ المعرفة ومعرفة الوجود والإنسان لدى الإمام الخميني تدخل في إطار المبادئ الإسلامية ولدى سماحته أفكار مشابهة لبقية العلماء المسلمين حول وسائل معرفة الوجود وأبعادها ومكانة الإنسان في الوجود.
فسماحته يعتقد بأن الإحساس والعقل والقلب والفطرة والوحي هي الوسائل المستخدمة للتعرف على الوجود. وكل وسيلة من هذه الوسائل لديها مكانتها وحدودها الخاصة في التعرف على الأبعاد المختلفة للوجود.
كما إن معرفة الوجود لدى الإمام الخميني هي معرفة الوجود الدينية والإلهية والإسلامية. واستناداً لمكتب الإسلام فإن عالم الوجود يتكون من المادة والروح والوجود يتألف من المادة والمعنى. ومن وجهة نظر الإمام الخميني فإن عالم الوجود يتألف من مراحل وكمال قال سماحته:
إن عالم الملك هو الدنيا وعالم الملكوت هو عالم الغيب الذي تظهر فيه الصفات الصالحة والفاسدة للإنسان. في عالم الغيب هناك الآخرة التي تتألف من الجحيم والفردوس. والإنسان في هذه الدنيا يتجه نحوهما. واستناداً لهذه النظرة فإن الموت هو الحياة والآخرة هي دار البقاء والأبدية. إن عالم الناسوت هو عالم التعددية في حين أن عالم اللاهوت هو عالم الوحدة. إن العالم المادي تحيل المرتبة الدنيا من عالم الوجود. في حين أن عالم الإلوهية تحيل المرتبة العليا والمقصد النهائي. وأي شيء موجود في هذا العالم هو ناقص مطلق. في حين إن أي شيء في عالم الآخرة هو الكمال المطلق باعتقاد الإمام الخميني.
إن كافة العالم هي أسماء الله وكل الأشياء الموجودة في العالم هي آيات من الذات المقدسة للباري عز وجل. والوجود آية من آياته وهو موجود في كل مكان وزمان. لذلك لا يوجد هناك معنى للانفصال والابتعاد عنه. لأنه كافة الوجود هي مظهر من مظاهر الحق تعالى. والوجود لا يملك شيئاً بدون إرادة الباري تعالى. كل الأشياء الموجود في عالم الواقع هي انعكاس لهذه المظاهر. ولأن كافة الأشياء منه واليه ترجع، فإن ه لا يوجد هناك كائن يملك أي شيء من نفسه. نحن من الله والى الله راجعون.
(إنا لله وإنا إليه راجعون)
إن عملية خلق الوجود من قبل الله الحكيم لم يكن اعتباطياً وعشوائياً وإنما كان بهدف واستناداً لهذه النظرة، فإن العالم خلق على أساس العدل.
في الحقيقة إن معرفة الإنسان لدى الإمام الخميني هو جزء من معرفة الوجود لديه. حيث انه يعتبر الإنسان جزءاً رئيسياً من الوجود. بمعنى أن نظرته لطبيعة الإنسان ترتبط بأبعاد وجود الإنسان وفترة حياته ومكانته في هذا الوجود. وبتعبير الإمام الخميني: (إن الإنسان ليس شبيه بالحيوانات لتكون حياته حيوانية وننتهي بذلك. الإنسان يقع فوق مرتبة الحيوان حيث انه يملك العقل الذي يمكن أن يصله إلى مكانة لا توصف، قد يصفها البعض بالإلوهية).
على هذا الأساس فالإنسان هو كائن بإمكانه من خلال قدراته وموهبته الوصول إلى أعلى درجات الكلمات والمعنويات. وان ضرورة إرسال الأنبياء والرسل الإلهية ترتبط نوعاً ما بهذه المسألة التكاملية ورغبة الإنسان بالتكامل. ولكن إذا كان مطامح الإنسان كالكائنات الأخرى في الحياة المادية، لم تكن هناك حاجة لبعثة الرسل وإبلاغ الرسالة الإلهية. ولأن الإنسان كما يعبر عنه الإمام الخميني لديه قدرات سامية ويتمتع بعقل مجرد وستكون لديه أبعاد مجردة أيضا لذلك فإن بالإمكان تربية مثل هذا الإنسان. وبصورة عامة فالإنسان بمثابة مجموعة بحاجة إلى كافة الأشياء لكي يصل إلى السعادة الحقيقية ويصل إلى مكانة لا يرى فيها إلا الله سبحانه وتعالى. لا ويصل إلى ما بعد الطبيعة وتحقيق أي شيء عملياً).
إذاً فالإنسان من الناحية الجوهرية هو إنسان ناطق وبالإمكان تربيته، وعند تربيته يصبح بالإمكان تزكيته وإصلاحه وتحجيم شهوته وغضبه ونزعته للسيطرة وإزالة طبيعة التهور منه كي لا يتجاوز حقوقه وحدوده. لكن في غير هذه الحالة فإن مثل هذا الإنسان سيقف عند حدود حيوانيته أو حتى أسوأ من ذلك. كما إن هناك عوالم الغيب والشهود موجودة في الإنسان ولكل منها تربيتها الخاصة سواء على البعدين المادي أو المعنوي. واستناداً لنوع التعليم والتربية يصل الإنسان إلى أسمى معاني التكامل والصلاح أو قد ينحط إلى أرذل درجات الفساد. وعلى هذا الأساس فإن فطرة الإنسان هي فطرة إلهية تدعو إلى الحق والعدل. وهذه تعتبر رحمة إلهية خص بها الإنسان. إذا فإن فطرة الإنسان تتمتع بخصائص خاصة بالإنسان نفسه فقط وبقية الكائنات تفتقد ذلك أو لديها القليل جداً منه.
إن المبادئ والوسائل اللازمة للفطرة حسب نظرة الإمام الخميني هي:
الفطرة على أساس وجود المبدأ.
الفطرة على أساس التوحيد.
الفطرة على أساس جمع الذات المقدسة لكافة أنواع المطلق.
الفطرة على أساس المعاد.
الفطرة على أساس النبوة.
الفطرة على أساس وجود الملائكة وإرسال الكتب والإعلان عن سبل الهداية.
الفطرة على أساس البحث والسعي وراء الكمال.
الفطرة على أساس الانزجار من النقص.
الفطرة على أساس حب الراحة.
الفطرة على أساس الابتعاد عن الألم والجدل والنقاش.
الفطرة على أساس حب السعادة وتجنب التعاسة.
الفطرة على أساس حب الحرية.
الفطرة على أساس حب الخلود والأبدية.
الفطرة على أساس حب العدالة والانزجار من الظلم والقهر.
الفطرة على أساس حب الاستطلاع والحقيقة وطلب الحق.
يعتقد الإمام الخميني أن الفطرة وأحكامها تم وضعها في طينة وجوهر الإنسان، وأن كافة البشرية متفقة عليها وبالرغم من ذلك فإن البعض يتجاهلها. من ناحية أخرى فإن الهموم المادية والأهواء تضع حجاباً على فطرة الإنسان والطريق الوحيد للتخلص من هذا الحجاب هو تنمية هذه الفطرة وهي إحدى أهداف الأنبياء، وكما قال الإمام الخميني:
»إن الحق تبارك وتعالى، وبعنايته الأزلية ورحمته الواسعة بعث الأنبياء العظام(ع) إلى البشرية وانزل الكتب السماوية لتربية الإنسان ومساعدته في تنمية فطرته الجوهرية، وإنقاذ نفسه. لذلك فإن الأحكام السماوية والآيات الإلهية الباهرة وتعاليم الأنبياء العظام والأولياء الصالحين قد جاءت وفقاً للفطرة التي جبل عليها الإنسان«.
على هذا الأساس فإن الإمام الخميني وعلى ضوء الخصائص التي يتمتع بها الإنسان كما رسمها، وعلى ضوء مكانة وشأن الإنسان، يرى أن مصلحة وسعادة الإنسان الحقيقية تكمن في أن هذا الكائن ذات الأبعاد المتعددة والذي يتمتع بمواهب داخلية عظيمة بإمكان الوصول إلى مكانته الحقيقية التي تتمثل في أن يكون خليفة الله في الأرض.
من وجهة نظر الإمام الخميني فإن الإنسان هو خليفة الله على الأرض وهو كائن عظيم وسامي ويملك فطرة سليمة ومواهب بإمكانها إن تصله إلى السعادة الأبدية والحقيقية. لكن المهم أن يتمكن من استخدام هذه المواهب بالصورة الصحيحة ويقف على طريق الصراط المستقيم والعدالة التي تمثل أصعب طريق، لكي يصل إلى الإنسان الحقيقي الموجود في داخله. ولكي يصل إلى هذه المرحلة هناك مراحل يجب أن يقطعها عبر التربية والتعليم وتزكية النفس بصورة مستمرة ودائمية.
يعتقد الإمام الخميني، إن الإنسان في الأصل هو ابن الطبيعة وعلى هذا الأساس فإن مكانة تربيته وتكامله هو هذه الطبيعة، لذلك فهو يقف داخل حجاب وتقف معاه معنوياته وفطرته الإلهية وتعمل تدريجياً إلى فصله عن أحكام الطبيعة وترشده إلى المعنويات والملكوت.
»إن الإنسان الذي تم تربيته بصورة صحيحة سيكون مفيداً للمجتمعات بصورة حتى الملائكة والكائنات الأخرى لا يمكنها أن تكون مفيدة بهذا الشكل. إن أساس العلم هو تربية الإنسان. ولقد جاء الأنبياء لتحقيق هذا الهدف، أي ترشيد الإنسان من عالم الطبيعة نحو عالم المعنويات وما وراء الطبيعة. لقد جاءوا لكي يصلوا بهذا الكائن الطبيعي من الحالة الطبيعية إلى حالة سامية وما وراء الطبيعة وما وراء الجبروت«.
يعتقد سماحته (إن دائرة الوجود تنتهي بالإنسان الكامل) وإن كمال الإنسان هو رهن بمكارم أخلاقه وقيمه.
إن السعادة الحقيقية للإنسان تتحقق بطي طريق التهذيب والتزكية والصراط المستقيم للعدالة والاعتدال، وإن الشرع والعقل هما معيار هذه الحركة.
»إن الأنبياء(ع)، وضعوا القوانين وأنزلت الكتب السماوية عليهم لكي يحدوا من تطرف الطبيعة والأهواء النفسية في إطار قانون العقل والشرع.. إذاً فإن أي إنسان يواكب غرائزه مع القوانين الإلهية والعقلية فإن ه سيكون سعيداً ومن أهل النجاة.
من وجهة نظر الإمام الخميني فإن القرآن (النسخة الكاملة للوحي الإلهي يعتبر كتاباً لصناعة الإنسان). لذلك فإن تطبيق قوانين وتعاليم القرآن الكريم وإقامة حكومة إسلامية بإمكانها أن تكون الأرضية المناسبة لصناعة الإنسان.
وعموماً، فإن هذا النوع من النظرة للوجود والإنسان قد تركت تأثيراً شديداً على نوع النظرة للسياسة وسبل إدارة هذا العالم كما أثرت على الأفكار السياسية للمؤمنين بهذا الوجود والإنسان.
مبادئ الإمام الخميني العرفانية :
إن الإمام الخميني بالإضافة إلى إنه عارف وسالك فإن لديه الكثير من المؤلفات في مجال العرفان النظري والعملي. وبصورة عامة فإن أساس فكر ودراسات الإمام الخميني يدور حول العرفان وإن أول مؤلف للإمام الخميني خلال فترة شبابه هو دراساته في هذا المجال. ولابد من الإشارة هنا إلى أن العرفان هو دراسة عالم الوجود والله والعلاقة بين الإنسان ونفسه وبينه وبين الله، ويطرح سبل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والتي تعرف باسم السير والسلوك.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل إن المبادئ العرفانية للإمام الخميني قد تركت تأثيراً على أفكاره السياسية؟
هناك وجهات نظر متعددة بشأن العلاقة بين العرفان والسياسة. فالبعض يعتقد أن الفكر العرفان ي بإمكانه أن يكون أساساً للفكر السياسي لأن الفكر العرفان ي يعتمد على أساس الابتعاد عن الدنيا. في حين أن الفكر السياسي يعتمد على أساس البناء وإدارة العالم. في المقابل هناك مجموعة أخرى تعتقد بأن العرفان والسياسة متلازمان، ومن خلال الفكر العرفاني يمكن خلق فكر سياسي، وبالتالي يصبح الفكر العرفان ي الركن الأساسي للفكر السياسي.
والإمام الخميني أحد الذين أكدوا على العلاقة بين العرفان والسياسة، ويقدم تعريفاً للسياسة والعرفان مما يؤكد ارتباطهما. حيث يقول: بعض المجاميع تتصور إن العرفان عبارة عن: إن يعتكف الشخص في مكان ما ويقوم بقراءة الأدعية وممارسة بعض الحركات. فهل هذا هو العرفان ؟ إنهم يتصورون إن العارف هو الذي يترك الدنيا ويقرأ الدعاء ويردد بعض الأذكار.
ويواصل الإمام: إن هذا الأسلوب لا يتفق مع سيرة الأئمة. فالكثير من الأئمة والأنبياء مثل إبراهيم وموسى ومحمد وأمير المؤمنين(ع) وبالرغم من كونهم عرفاء فإن هم كانوا يتطرقون للسياسة ويمارسون العمل.
إن الإمام يعتقد بأن الفكر الذي أنير بمعرفة الله تعالى، ينبغي أن ينعكس على المجتمع لكي يستفيد من ذلك الجميع ويصرح: »إن الاعتزال الذي يمارسه الصوفيون ليس دليل على الارتباط بالله وليس الدخول في المجتمع وإقامة حكومة دليل على الانفصال عن الله تعالى، إن المعيار هو تنفيذ النوايا«.
في الحقيقة فإن الإمام الخميني يرفض، استناداً لنظرته إلى العرفان، الفصل بين الدنيا والآخرة ويقول:
لا ينبغي أن يتصور أحد أن الإسلام جاء فقط لإدارة العالم أو جاء فقط للاهتمام بالآخرة أو جاء فقط لكي يتعرف الناس على المعارف الإلهية وتقييدهم بأشياء خلافاً للواقع. إن الإنسان غير مقيد، وعدد المربين أيضاً غير محدود. كما إن تربية الإنسان طبقاً لتعاليم القرآن غير محدودة.
وفي رسالة لنجله اعتبر الإمام جوهر العرفان بأنه النية الإلهية وكان يشجع نجله لخدمة الناس بالتزامن مع تهذيب وتزكية النفس وكان يعتبر ذلك بأنه طريق الصالحين، وقد جاء في رسالته:
إن الذي قلته لا يعني أن تنفصل عن المجتمع وتنتهج العزلة تعتبر نفسك أفضل من الآخرين لأن ذلك من صفات الناسكين الجاهلين أو الدراويش التجار.
إن الأنبياء العظام(ع) والأئمة الأطهار (ع) الذين يمثلون رواد العارفين بالله والزاهدين بكل القيود والمرتبطين بالله سبحانه وتعالى، والذين هم أيضاً رواد النهضات المتعددة ضد الحكومات الطاغوتية وفراعنة العصر ورواد تحقيق العدالة في العالم قد عانوا الكثير وبذلوا أقصى الجهود لكي يمنحوننا الدروس. هذه الدروس التي ستنير طريقنا إذا كانت لدينا بصيرة (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم).
ولدي العزيز، لا اعتزال الصوفيين دليل على الارتباط بالله ولا الدخول إلى المجتمع وإقامة الحكومات دليل على الانفصال عن الله. إن المعيار هو في العمل ودوافعه. فهناك الكثير من الزهاد الذين وقعوا في فخ الشيطان مثل الغرور والتكبر والأنانية والنرجسية وتحقير الآخرين والشرك وأمثال ذلك مما يبعده عن الله سبحانه وتعالى. وهناك الكثير من الذين تصدوا لشؤون الحكومة بدافع إلهي ونوايا طيبة بهدف التقرب من الله مثل النبي داود والنبي سليمان(ع)، والأكثر من ذلك الرسول الأكرم(ص) وخليفته علي بن أبي طالب(ع) والإمام المهدي (أرواحنا له الفداء) ففي عهده ستكون الحكومة شمولية. إذاً فإن معيار العرفان والحرمان هو الدافع أو النوايا. فكلما كان الدافع والنوايا شفافة وأقرب للفطرة، كلما ابتعد الحجاب وأصبح الإنسان أقرب إلى مصدر النور.
إن الإمام الخميني يعتقد بأن الوصول إلى المعشوق يتم من وسط المجتمع والناس، وبالطبع فإن ه يقصد بالمعشوق، الله سبحانه وتعالى.
يعتقد الإمام الخميني إن الإنسان الكامل بعد قطعه المراحل الأربعة الخاصة بالعرفان ، فإنه سيصل إلى مستوى هو أقرب لمستوى ومكانة الأنبياء والأئمة، وان العارف الذي لا يصل إلى المرحلة الرابعة (أي من الحق إلى الخلق) ولا يساعد الآخرين فإن هذا العارف لن يصل إلى حد الكمال.
يقول الإمام الخميني حول آداب الصلاة:
»ان السالك الذي يسعى للوصول إلى طريق الحقيقة عليه أن يستقبل رحمات الله في قلبه ويؤمن بأن الله رحمان ورحيم والدليل على تحقيق ذلك فإن السالك سيتصف بنفس هذه الصفات خلال تعامله مع عباد الله الآخرين ويسعى إلى تحقيق الخير والصلاح للجميع«.
إن الإمام يعتقد بأن العارف الحقيقي هو ذلك الإنسان الذي يؤمن بأن الله موجود في كل مكان وزمان وبأنه شاهد على كافة أعماله. ,كان الإمام يسعى لترسيخ هذه الفكرة حتى بين رجال السياسة. حيث يقول للمسؤولين:
»نحن جميعاً داخل قاعة اختبار الله سبحانه وتعالى، فعندما تكتبون شيئاً أو تتحدثون عليكم أن تعلموا أن الله شاهد على كل شيء لأنكم في قاعة اختبار الله سبحانه وتعالى، إن العالم بأجمعه هو ساحة اختبار الله. فلا تعصوا الله في هذه الساحة. إنني انصح كافة الكتاب والمتحدثين والخطباء، إن الله شاهد على لسانهم وقلمهم وإنهم سيحاسبون على ذلك«.
إن الإمام كان ينظر إلى السلطة أيضاً من نفس المنظار، ففي شرحه لدعاء السحر يقول:
»إن السلطة هي وسيلة لإثبات الحق واستقرار نظام الحق. إن السلطة الوحيدة التي بإمكانها تحقيق الحق في عالم البشرية هي السلطة النابعة من الذات الإلهية بصورة مباشرة. فالسلطة والقدرة هي من الصفات الإلهية«.
على هذا الأساس، فإن المبادئ العرفانية للإمام الخميني، أي نظرته العرفانية لعالم الوجود والله ونوع العلاقات الإنسانية، كانت لها تأثير على أفكار الإمام السياسية، الأمر الذي جعل الفكر السياسي للإمام يتمتع بخصائص لا توجد لدى الآخرين. وعند دراسة محاور الأفكار السياسية للإمام نلاحظ بوضوح مدى تأثرها بالفكر العرفاني.
مبادئ الكلام عند الإمام الخميني:
إن مبادئ الكلام، هي مبادئ العقائد الدينية التي يتم قبولها عن طريق الاستدلال والجدلية. وتشمل على مواضيع مثل: التوحيد والمعاد والإمامة والعدل ومبدأ الانتظار بالإضافة إلى مواضيع أخرى تدخل في صلب العقيدة. ولهذه المبادئ تأثير كبير على الأفكار السياسية للمفكرين. من أهم مواضيع علم الكلام، موضوع التوحيد والبحث حول مبدأ الحكم لله وحده. فالإمام الخميني يعتبر ذلك هو أساس لكافة العقائد الأخرى بما فيها عقيدته السياسية. ورداً على سؤال لأحد المراسلين يقول:
إن عقيدتنا وعقيدة كافة المسلمين هي نفسها التي جاءت في القرآن الكريم أو التي أوضحها الرسول الأكرم(ص) وأولياءه من بعده. وإن مبدأ وجذور كافة العقائد وأهمها هي مبدأ التوحيد. واستناداً لهذا المبدأ فنحن نعتقد أن الذات الإلهية المقدسة هي خالقة كافة العوالم والوجود والإنسان. والله سبحانه وتعالى شاهد على كافة الحقائق وهو قادر على كل شيء ومالك لكل شيء. إن هذا المبدأ يعلمنا بأن الإنسان يخضع للذات المقدسة فقط ولا يجب أن يطيع أي إنسان آخر إلا إذا كانت طاعة هذا الإنسان هي من طاعة الله. على هذا الأساس، لا يحق لأي إنسان أن يرغم الآخرين على طاعته. ومن هنا نؤمن بحرية الإنسان، وهذا يعني أنه لا يحق لأي شخص أن يسلب حرية إنسان أو مجتمع أو شعب آخر، ويضع له القوانين ويتحكم بالعلاقات والروابط بين الآخرين وفقاً لمعلوماته الناقصة كثيراً أو وفقاً لأهوائه وميوله. نحن نؤمن أن الله سبحانه وتعالى هو الوحيد الذي يحق له سن القوانين بهدف الارتقاء بالإنسان والبشرية والوجود. كما أنه هو الذي وضع قوانين الخلق والوجود. وان سعادة وكمال الإنسان والمجتمعات لا تتحقق إلا من خلال الخضوع للقوانين الإلهية التي جاءت إلينا عبر الأنبياء. وان سقوط وانحطاط الإنسان جاءت بسبب سلبه حريته وخضوعه للآخرين. لذلك يجب على الإنسان النهوض ضد أولئك الذين سلبوه حريته ووضعوا القيود في يديه. وعلى هذا الإنسان أن يحرر نفسه ومجتمعه لكي يصبح الجميع خاضعين لله سبحانه وتعالى فقط. لذلك ينبغي أن تكون تعاليمنا الاجتماعية مناهضة لقوى الاستبداد والاستعمار. ونحن نستلهم من مبدأ التوحيد إن كافة الناس سواسية أمام الله. فهو خالق الجميع والجميع هم مخلوقات وعبيد له. إن المبدأ هو المساواة بين الناس والمعيار الوحيد الذي يميزهم عن بعض هو التقوى والابتعاد عن الانحراف والخطأ. لذلك يجب النضال ضد كل شيء يخل بمبدأ المساواة في المجتمع ويعمل على نشر المفاهيم التافهة في المجتمع«.
استناداً لهذه العقيدة فإن الإمام الخميني أكد على ضرورة استقرار حكومة دينية، ويعتقد انه طالما كانت السيادة وعملية الخلق لله وحده فقط، فإن الحكم يكون لله وحده فقط. ويقول:
»إن الحكومة والولاية هي ـ استناداً لمبدأ العقل ـ خاصة بالله فقط وانه لا يحق للآخرين سلب هذا الحق. فالله يملك هذا الحق ذاتياً، في حين أن الولاية عن الإنسان هي عملية عقلية واعتبارية، ولا يمكن للآخرين التدخل في ذلك. وعلى هذا الأساس عندما يفوض الله سبحانه وتعالى حق الحكم لأحد الأئمة فإن تصدي الآخرين للحكم وإدارة شؤون الآخرين بدل المفوضين من قبل الله سبحانه وتعالى (الأئمة) تعتبر عملية اغتصاب لحقوق الآخرين.
إن الإمام الخميني يعتبر أيضاً أن حق سن القوانين هو حق احتكاري لله تعالى:
»لا طاعة لمخلوق لمخلوق مثله، إلا الله سبحانه وتعالى لأنه خالق ومالك الكائنات وكافة المخلوقات. فمن الناحية العقلية فإن حكم الله ملزم للجميع... إذاً فإن الشارع لن يكون غير الله سبحانه وتعالى. ووضع القوانين هو حق إلهي، ولا يحق لأي شخص تسنين القوانين«.
من المواضيع الأخرى الهامة في علم الكلام، موضوع المعاد والعلاقة بين الدنيا والآخرة. وعلى أساس ذلك فإن الدنيا مزرعة الآخرة وإنه لا يمكن الفصل بين الدنيا والآخرة. وان الدنيا هي بداية الطريق الذي يؤدي إلى الآخرة. لذلك يجب تنظيم الحياة الدنيوية على أساس الحياة الأبدية في الآخرة.
وفي هذا السياق فإن للإمام الخميني نظرة خاصة لموضوع الدنيا وهو يعتبر الدنيا والآخرة موضوعاً واحداً حيث يقول:
»إن الذين يتصورون بأن دعوة خاتم الأنبياء الرسول الأكرم(ص) تتألف من محورين، الدنيا والآخرة، ويعتبرون ذلك فخراً كبيراً وكمالاً لنبوة الرسول الأكرم(ص)، فإن هم لا يفقهون من الدين شيئاً، ويجهلون المغزى الحقيقي للدعوة والنبوة. فالأنبياء العظام لا يدعون إلى الدنيا أبداً«.
إن الإمام الخميني يقصد من وراء هذه التصريحات إن الأنبياء لا يدعون إلى دنيا يغرق الإنسان فيها بالشهوات والأهواء النفسية. وان الهدف الرئيسي لبعثة الأنبياء وإرسال الوحي هو معرفة الله والعودة إلى التوحيد. وهذا لا يعني عدم اهتمام الدين والأنبياء بالشؤون الدنيوية. فالأنبياء العظام جاهدوا في سبيل استقرار العدالة وإصلاح شؤون المجتمع. ويقول الإمام الخميني:
»يجب أن لا يتصور أحد بأن الإسلام جاء فقط لإدارة شؤون الدنيا أو جاء فقط للاهتمام بالآخرة أو جاء فقط لكي يتعرف الناس على المعارف الإلهية وتقييدهم بأشياء خلافاً للواقع. إن الإنسان غير مقيد وغير محدود، وعدد المربين أيضا غير محدود. كما أن تربية الإنسان طبقاً لتعاليم القرآن غير محدودة«.
من المواضيع الأخرى في هذا السياق هو توجيه دور الدين في الشؤون الدنيوية، في هذا المجال هناك سؤال يطرح نفسه: هل يملك الدين برامج لكافة الشؤون الدنيوية؟ بمعنى آخر هل إن الدين شمولي أو إنه يحمل أجندة فقط للشؤون المتعلقة بالآخرة؟ في هذا السياق فإن الإمام الخميني يعتقد:
»إن الإسلام يحمل رسالة لهذا الإنسان الذي يعتبر أسمى المخلوقات، فهو يحمل رسالة بدءاً من الطبيعة وما وراءها إلى عالم الألوهية. إن الإسلام يملك برنامجاً شاملاً. الإسلام يسعى لخلق إنسان شمولي ومتكامل سواء على البعد الطبيعي أو الروحي. إن الأديان جاءت لكي تنضج الفاكهة التي لم تنضج بعد«.
وفي مكان آخر قال:
إن الأحكام الشرعية تشمل على قوانين وتعالم متنوعة بإمكانها أن تخلق نظاماً اجتماعياً متكاملاً. في هذا النظام فإن كل شيء متوفر لمتطلبات الإنسان. بعبارة أخرى، يقول الإمام الخميني:
»إن الدين الإسلامي يقول للإنسان اعبد ربك ويشرح له كيفية العبادة، فإنه يقول للإنسان أيضا كيف لك أن تعيش وكيف تقوم بتنظيم علاقاتك مع الآخرين. وحتى المجتمع الإسلامي وكيفية علاقاته مع المجتمعات الأخرى. لا توجد هناك أي حركة أو خطوة أو عمل يقوم به الشخص أو المجتمع لم يتطرق إليه الدين الإسلامي، أو لم يصدر أحكاماً به.
إن موضوع النبوة وفلسفة بعثة الأنبياء، أيضا هو احد النقاشات التي يتطرق إليها علم الكلام. والإمام الخميني يعتقد بهذا الخصوص:
»في الحقيقة إن أهم مهمة تقع على عاتق الأنبياء(ع) الذين بعثوا من قبل الله تعالى، هي، إقامة نظام اجتماعي عادل من خلال تنفيذ أحكام وتعاليم الإسلام وذلك لتتوفر الأرضية اللازمة والمناسبة لبناء الإنسان السماوي«.
كما يعتقد الإمام الخميني إن الرسول الأعظم(ص) والأئمة(ع) لهم حق الولاية السياسية أيضاً وبالتالي فإنهم كانوا يهدفون إلى إقامة نظام سياسي أيضاً. ويقول:
»لقد استلم الرسول الأكرم(ص) خلافة المسلمين بأمر من الله تعالى. (خليفة الله في الأرض)، ولم يقم ببناء الحكومة أو يصبح رئيساً للمسلمين بإرادته الذاتية. كذلك ونظراً لوجود احتمال بحدوث خلافات في الأمة الإسلامية التي لم يمر وقتاً طويلاً على إسلامها. فإن الله سبحانه وتعالى ـ وعن طريق الوحي ـ أمر الرسول الأكرم(ص) بأن يبلغ فوراً ووسط الصحراء المسلمين بموضوع الخلافة. لذلك قام الرسول الأكرم(ص) واستجابة للقانون الإلهي بتنصيب أمير المؤمنين(ع) خليفة للمسلمين، ولم يكن هذا التنصيب بسبب علاقة المصاهرة أو القرابة. حيث انه كان مأموراً وتابعاً لحكم الله تعالى«.
ويستنتج الإمام الخميني من ذلك:
»نحن نؤمن بالولاية وبأن الرسول الأكرم(ص) واستناداً للمهمة التي أوكلها الله سبحانه وتعالى له، عيّن خليفة وولي أمر المسلمين. لذلك ينبغي علينا أن نؤمن بضرورة إقامة حكومة. وعلينا أن نسعى لتأسيس جهاز تنفيذي لإدارة الشؤون المختلفة. إن النضال لإقامة حكومة إسلامية تستلزم الإيمان بالولاية. واستناداً للشرع والعقل، فإن الذي كان ملزماً في زمن الرسول الأكرم(ص) وامير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع)، أي إقامة حكومة وجهاز تنفيذي وإداري، فهو ملزم في زماننا أيضاً.
المبادئ الفقهية والأصولية للإمام الخميني:
إن مبادئ الإمام الفقهية والأصولية هي إحدى العوامل الهامة المؤثرة على الفكر السياسي لسماحته. وبدون التعرف على مبادئه الفقهية والأصولية لا يمكننا التعرف على فكر الإمام السياسي. إن الفقه والفكر السياسي للإمام الخميني يستند على نظرته الفقهية والأصولية وهي بدورها متأثرة من النظرة العقلية للأصوليين«.
فيما يلي نبذة عن أهم الخصائص الفكرية للفقهاء الأصوليين في المذهب الشيعي بما فيهم الإمام الخميني:
مبدأ بالحجة العقلية
يعتبر الأصوليون الشيعة إن إحدى مصادر التشريع بالإضافة إلى الكتاب والسنة والإجماع هو العقل. ويؤكد هؤلاء الفقهاء إن هناك علاقة لا انفصام فيها بين العقل والشرع وهما متلازمان. وعلى هذا الأساس فإن أي حكم يقرره العقل فإن الشرع أيضاً سيصدر نفس الحكم، وأي قرار يحدده الشرع. فإن العقل أيضا يصادق عليه. وفي الفقه الإسلامي فإن العقل بإمكانه إصدار الأحكام وأيضا بإمكانه استنباط الأحكام الشرعية أو تقييد الأحكام أو تخصيصها أو تعميمها.
وعلى الرغم من الإيمان بالحجة العقلية بين الأصوليين، إلا إن هناك بعض الخلافات الجزئية بينهم. فالإيمان بهذه الحجة يستوجب بعض الأمور مثل، فرض الاجتهاد (باب الاجتهاد يكون مفتوحاً)، والامتناع عن قبول بعض الروايات أو الأحاديث بدون تدقيق أو نقد، ومنع تقليد المجتهدين السابقين نظراً لتغيير الظروف المكانية والزمانية. بالإضافة إلى أن هذه الحجة بحد ذاتها جعلت الفقه الشيعي فقهاً حياً ومتطوراً مع ظرف الزمان والمكان بما فيها أفكار الإمام الخميني الفقهية.
مبدأ الاجتهاد ودور الظروف الزمانية والمكانية في الاجتهاد
وهذا هو أحد خصائص الفقهاء الأصوليين. وهذا المبدأ قد منح فقهاء الشيعة مجالات واسعة لمواجهة القضايا المستحدثة في عالمنا المعاصر. والاجتهاد هو القدرة العلمية على استنباط الأحكام الثانوية من الأحكام الأساسية للشرع. وكان الإمام الخميني يؤكد دوماً على ضرورة إحياء مبدأ الاجتهاد لمواجهة المشاكل. وكان يعتقد بأن باب الاجتهاد لا يجب أن يقتصر على الحوزات العلمية وينبغي عليه أن يولي أهمية كبرى لعامل الزمان والمكان في استنباط الأحكام. وقد لعبت هذه النظرة دوراً هاماً في الفكر السياسي للإمام، حيث تمكن من خلالها معالجة الكثير من المشاكل التي عانت منها البلاد منذ الثورة.
القبول بمبدأ خضوع الأحكام الشرعية للمصالح العامة
إن الإيمان بالمصالح العامة وخضوع الأحكام لها هو أمر بديهي يؤكده كافة الفقهاء الأصوليين الشيعة. حيث يعتقد هؤلاء الفقهاء أن كافة الأحكام الشرعية جاءت على أساس تحقيق المصالح ومكافحة المفاسد، ولا يمكن إصدار حكم يترتب عليه فساد أو لا توجد فيه مصلحة عامة. وفي الحقيقة فإن المصالح والمفاسد هي الأساس وراء إصدار الأحكام الشرعية. حيث يقول الشهيد مطهري بهذا الخصوص:
»إن القوانين الإسلامية هي قوانين سماوية وليست وضعية، أي إنها تصدر على أساس المصالح والمفاسد الموجودة في الحياة البشرية. ومن الخطأ أن نقول إن الله سبحانه وتعالى شرع القوانين وهو الذي يعلم أسرارها وأسبابها فقط. فالإسلام يؤكد أن هذه القوانين والأحكام قد جاءت على أساس تأمين المصالح وهذه المصالح قد ترتبط بالجسد أو الروح أو الأخلاق أو العلاقات الاجتماعية. أي أن الإسلام كشف عن أسرار وفلسفة الأحكام الصادرة. ولا ننسى في هذا المجال أن نؤكد أن هذه المصالح لا تكون مصالح فردية أو شخصية فقط وإنما هي المصالح العامة.
على هذا الأساس، إذا كان العقل البشري يتفهم بعض هذه المصالح، فإن الإنسان بإمكانه تغيير بعض الأحكام على أساس المصالح الموجودة. وقد تأكد ذلك في المجال السياسي لأفكار الإمام الخميني.
مبدأ مرونة الأحكام حسب الظروف
يقسّم الأصوليون الشيعة الأحكام إلى أولية وثانوية وأحكام حكومية. وهذا التقسيم يتيح مرونة خاصة للأحكام خلال مواجهتها للقضايا المختلفة. حيث يعتقد الأصوليون، أن الشارع المقدس حكيم وان كافة أحكامه تصدر على أساس تأمين المصالح البشرية ومكافحة المفاسد. فأي موضوع يحمل مصلحة للجميع يصبح واجباً، وأي موضوع يحمل مفسدة ما فإن ه يصبح حراماً. وهذا النوع من الأحكام يطلق عليها الفقهاء اسم الأحكام الأولية الحقيقية. وفي حال حدوث ظروف طارئة ولم يتمكن المكلف من تطبيق هذه الأحكام الأولية، فإن الشارع المقدس وضع أحكاماً أخرى بهذا الخصوص يطلق عليها الفقهاء اسم الأحكام الثانوية الحقيقية.
على هذا الأساس يمكن الاستفادة من الأحكام الثانوية في بعض الحالات الخاصة مثل شروط العسر والجرح والاضطرار والضرر والعهود، وذلك بهدف المحافظة على النظام العام والمصالح العامة. وقد ترك الخيار للعقل لتحديد الشروط والظروف الخاصة، الأمر الذي أتاح مرونة كبيرة في إصدار الأحكام في الحكومات الإسلامية.
الأحكام الحكومية هي الأحكام التي يضعها الحكام. وتحتل هذه الأحكام مكانة خاصة نظراً لأنها صادرة عن حكومة إسلامية تستند إلى شرعية الحاكم.
إن الأحكام الحكومية تعتبر أحكاماً إلهية لان الشرع فوّض ولاية الحاكم على شؤون المجتمع، لذلك فإن حكامه تصبح واجبة التنفيذ، وان تجاهلها خطأ ويحمل الذنب. وعلى هذا الأساس فإن الأحكام الحكومية تستند إلى الشارع عن طريق الوساطة. وبالتالي يصبح بالإمكان تحقيق أهداف الحكومة الإسلامية في إطار المصالح العامة للمجتمع.
مبدأ الاحتمال (الشك)
يعتقد الكثير من الأصوليين أن هناك مواضيع لا يمكن إصدار أحكام شرعية قطعية بشأنها. في هذه الحالة يمكن اللجوء إلى مبدأ الاحتمال. والعقل في هذه الحالة يسمح باستخدام هذا المبدأ في استنباط الأحكام. وهذا الأمر يحصل عادة بالنسبة للمواضيع المستحدثة التي لا توجد بشأنها أحكام ثابتة في أي من مصادر التشريع أو قد يتأتى منها أمور مستعصية على التطبيق أو قد تلحق الخلل بالنظام أو تثير مسألة العسر والحرج. لذلك يصدر الفقهاء أحكاماً يحتملون من وراءها قبول الله سبحانه وتعالى بها.
مبدأ القبول بآراء عقلاء القوم والأعراف والتقاليد في إصدار الأحكام الشرعية: إن سيرة عقلاء القوم أو الأعراف والتقاليد العامة، تحتل مكانة مميزة في أبواب الفقه فالأعراف والتقاليد تلعب دوراً هام في الكثير من المباحث الفقهية.
ويعتقد الإمام الخميني بهذا الخصوص، إذا كان الأئمة يعارضون المستجدات الجديدة لأعلنوا ذلك لأنهم مطلعين على المستقبل والحاضر. على هذا الأساس فإن كافة المستجدات الموجودة في عصر الغيبة تكون بتأييد من الأئمة، إلا تلك التي تعتبر مرفوضة. وهذا المبدأ يحتل موقعاً مميزاً لدى الفكر السياسي للإمام الخميني وبالتالي أصبح الكثير من الأعراف والتقاليد والأمور المستجدة مقبولة ولا تمثل خلافاً للشرع.
مبدأ الاستفادة من التجارب والخبرات بشأن الأمور التي لا يوجد فيها نص في القضايا التي لا يوجد فيها نص الهي. فإن الأصوليون يرجعون إلى مبدأ التجربة. ويتم استخدام هذا المبدأ في كافة أبواب الفقه. وهذا المبدأ يشتمل على: مبدأ البراءة ومبدأ الاحتياط ومبدأ التخيير، ومبدأ الاستصحاب.
مبدأ البراءة، يعني انه لا يوجد هناك حكم شرعي وبالتالي لسنا مكلفين بالعمل ومبدأ الاحتياط يعني ينبغي علينا أن نعمل بالأمر بصورة محتاطة، فإذا كان هناك حكماً بهذا الأمر فنكون قد عملنا به وإذا لم يكن هناك حكماً فلا نكون قد خسرنا شيئاً. ومبدأ التخيير، يعني أننا مخيرين بان نختار احد الأمرين. ومبدأ الاستصحاب يعني أن الأمر يبقى بحالته الأولية ولم يأت ما هو خلافه.
هذه المبادئ وخاصة مبدأ البراءة ويطلق عليها مبدأ الإباحة أيضا ويعني أن كل عمل مجاز ما لم يأت حكماً آخراً من الشارع. وهذه المبادئ توفر مرونة مناسبة للاستنباط. وخاصة بالنسبة للقضايا الاجتماعية والسياسية المستحدثة.
موضوع الإباحة
حسب نظرة الفقهاء الأصوليون، فإن الكثير من أعمال الإنسان تقع في إحدى التقسيمات، الواجب والحرام والمستحب والمكروه. وكل فرد مكلّف ينبغي مراعاة ذلك. ولكن بالإضافة إلى هذه التقسيمات هناك حالة يطلق عليها اسم الإباحة وهذه الحالة متروكة للعقل لكي يتخذ القرار بشأنها، ويطلق على هذه الحالة أيضا اسم حالة ما لا نص فيه أو حالة الفراغ. وعلى هذا الأساس فإن الكثير من الأمور تركت للأفراد والعقلاء لكي يتخذوا قراراً بشأن هذه الحالات على أن لا تتعارض مع المصلحة والواقع. وقد أتاح هذا الموضوع مرونة جيدة للأحكام الشرعية في مواجهة تحديات الحضارة الجديدة.
تعليقات الزوار