ولاية الفقيه

 مع ولاية الفقيه في دليلها العقلي والفطري

(1) إنه لا ريب في أن الأمة تحتاج في كل عصر إلى من يدبّر شؤونها، ويشرف على مصالحها. ولا يمكن تركها هكذا هملاً بلا قائد ولا رائد. فقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام):

"الإمامة نظام الأمة"[1].

وعنه (عليه السلام): "سبع حطوم أكول خير من والٍ غشوم ظلوم، ووالٍ غشوم ظلوم خيرة من فتن تدوم"[2].

وقال (عليه السلام):

"لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر"[3].

وقد روى الصدوق بسنده إلى الفضل بن شاذان عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام)، حين ذكره لعلل جعل أولي الأمر والأمر بطاعتهم، قوله (عليه السلام) بعد كلام له:

".. ومنها أنّا لا نجد فرقة من الفرق، ولا ملة من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس لما لابدّ لهم منه في أمر الدين، فلم يجزِ في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابدّ لهم منه، ولا قوام لهم إلاّ به، فيقاتلون به عدوهم، ويقسمون به فيئهم، ويقيمون به جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم"[4].

(2) وبعد.. فإن المرجع في أمر الحكومة وتعيين الحاكم لابدّ وأن يكون هو الله سبحانه وتعالى، وذلك لأن هذا الأمر مما قد اختلف فيه الناس، وقد قال تعالى:

{وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربّي عليه توكلت وإليه أنيب}[5].

(3) وقد وجدنا أن القرآن يقرّر بما لا يقبل الشك أن مهمة الأنبياء ليست مجرد بيان الأحكام وتبليغها، بل إن عليهم أيضاً مسؤولية الإجراء والتنفيذ، وإقامة حكم الله سبحانه وتعالى على الأرض، وإقرار القسط بين الناس ـ ولو بالسيف ـ، وهو ما أشار إليه تعالى بقوله:

{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا معهم الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز}[6].

وقال تعالى:

{وكأي من نبيّ قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين}[7] والآيات التي بعدها.

وقال تعالى بالنسبة لداود (عليه السلام):

{يا داود إنّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق}[8].

هذا كله.. عدا عما اتضح من سيرة سيد المرسلين محمد (صلى الله عليه وآله الطاهرين) الذي أقام حكومة العدل وأرسى قواعدها، وقاتل الكفار والمناوئين بكل قوة في سبيلها. وعدا عن ذلك.. فإن الشيعة يعتقدون بأن الإمامة من أصول المذهب، بل إن ذلك أمر متفق عليه بين أهل السنة والشيعة على حد سواء، وإنما الاختلاف بينهم في كيفية وصول الإمام الحاكم والولي للأمر إلى منصب الإمامة والخلافة، والحكم والولاية..

(4) وبعد.. فإنه إذا كان الاحتياج إلى الحاكم المدبّر للأمور، والمشرف على مصالح الأمة ـ سواء في عصر الحضور أو في عصر الغيبة ـ أمراً واضحاً وضرورياً، وكان موقف الإسلام في عصر الحضور هو ما تقدم. فإن من غير المعقول ولا المقبول أن يكون الإسلام قد وقف موقف اللامبالاة بالنسبة لهذه القضية في عصر غيبة الإمام المفدّى (صلوات الله وسلامه عليه). بل لابدّ وأن يكون قد وضع الحل المنطقي المناسب وأعطى الأطروحة الواقعية والواعية والمنسجمة مع طبيعة منطلقاته، ومع أهدافه السامية والنبيلة، وتتلاءم مع تطلعاته ومراميه، ومع سعة تشريعاته وشموليتها. حيث يفترض فيه ـ وهو دين الفطرة والعدل والواقعية ـ أن يتجاوب مع هذه الحاجة الطبيعية، وأن يعطي المواصفات التي لابدّ من توفرها في من يدير شؤون الأمة، ويتولّى أمورها، ويحدد صلاحياته، كما يعطي رأيه وحكمه في شكل الحكم أيضاً.

(5) ومن الواضح أن الفقيه الكفوء العارف بأحكام الله والمتقي المطيع لأوامر سيّده ومولاه[9] هو الذي يكون مؤهلاً أكثر من أي شخص آخر ـ سواء من حيث القدرة على التنفيذ أو من حيث توجه نظر المولى إليه في مقام الاختيار ـ لأن يحقق الأهداف الإلهية، ويطبّق الأحكام الشرعية بدقة وأمانة ووعي ومن دون أي نقص أو تحريف أو تعدّ في ذلك على الإطلاق. والعقل السليم يحكم بلزوم اختيار هذا الشخص بالذات لحمل الأمانة وإقامة الحكم الإسلامي وتحقيق الأهداف الإلهية على الأرض، أو على الأقل لابدّ وأن يعطيه صلاحية الإشراف على جميع الشؤون، وحق النقض والتدخل فيها في الوقت المناسب[10].

(6) بل إن ذلك هو ما تحكم به الفطرة السليمة والسجية المستقيمة حيث ينساق الإنسان إليه فطرياً وطبيعياً، فنجد من يريد معالجة ولده من مرض ما لا يتردد في اختيار الطبيب دون سواه، لأنه الخبير الماهر في هذا الأمر. بل هو ينساق طبيعياً نحو اختيار الأكثر خبرة من الأطباء وأكثر تقوى وأمانة في أداء هذه المهمة.

(7) وإنه.. وإن كان موضوع ولاية الفقيه ونيابته عن الإمام (عليه السلام) في إدارة شؤون الأمة أمراً فطرياً وطبيعياً، ومما يحكم به العقل السليم. إلاّ أن ذلك لا يكفي لإثبات درجة واسعة من الولاية، حيث إنه دليل لبّي لا إطلاق فيه، فلابدّ من الاقتصار فيه على القدر المتيقّن.

وهذا. ما يؤكد الحاجة إلى دليل لفظي يمكن أن يتمسك بعمومه أو إطلاقه في موارد الشك والشبهة.

الدليل اللفظي على ولاية الفقيه

ويمكن القول بكل ثقة واطمئنان إن هذا الدليل اللفظي موجود. وقد ذكر العلماء عدّة روايات، اعتبروا أنها يمكن الاستدلال أو تأييد الاستدلال بها على هذا الموضوع. وكان نصيب الرواية المعروفة بـ (مقبولة عمر بن حنظلة) هو التضعيف منهم لسندها، والتوهين لدلالتها أيضاً.

أمّا نحن فنرى أنها تستطيع أن تكون السند القوي والدليل القاطع على هذا الموضوع؛ موضوع ولاية الفقيه، وأنها تامّة سنداً ودلالة على حدّ سواء. بل إنها ليست مقبولة، ولا حسنة، بل ولا معتبرة وحسب، وإنما هي صحيحة السند، حسب المصطلح للصحيح من الحديث عند المتأخرين.

وهذا ما يقضي علينا بالتوسع في البحث حول سند هذه الرواية بما يسمح لنا به المجال، من أجل إعطاء أيضاً الصورة التي تقرب القارئ إلى الاطمئنان، ثم القطع بصحة ما ذهبنا إليه.

ثم نعقّب ذلك بالإشارة إلى بعض ما يرتبط بدلالتها على ما نحن بصدده، مع الإشارة إلى ما هنالك من مناقشات، وإلى بعض الأجوبة المناسبة لها. كل ذلك مع مراعاة ما أمكن من الاختصار، الذي لا يخلّ بالتصوّر العام لهذا البحث الهام.

فإلى كل ذلك الذي ذكرناه فيما يلي من صفحات..

رواية عمر بن حنظلة

محمد بن يعقوب، عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة، قال:

"سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا، بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحّل ذلك؟ قال:

من تحاكم إليهم في حق أو باطل فإنما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنما يأخذ سحتاً وإن كان حقاً ثابتاً له؛ لأنه أخذه بحكم الطاغوت، وما أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى:

{يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}[11].

قلت: فكيف يصنعان؟

قال: ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا، ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه فإنما استخف بحكم الله، وعلينا ردّ، والرادّ علينا رادّ على الله، وهو على حدّ الشرك بالله.

قال: فإن كان كل واحد اختار رجلاً من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقهما؛ فاختلفا فيما حكما، وكلاهما اختلفا في حديثكم؟

فقال: الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث وأورعهما، ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر..." الحديث.

ورواه الشيخ بإسناده عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن محمد بن عيسى، وبإسناده عن محمد بن عليّ بن محبوب، عن محمد بن عيسى نحوه[12].

سند الرواية

يعبّر الفقهاء عن هذه الرواية بـ (مقبولة عمر بن حنظلة)، على اعتبار أن علماء الرجال لم ينصّوا على توثيق عمر هذا، ولكن المشهور قد قبلوا روايته هذه، وعملوا بها، فأطلق عليها لفظ: (مقبولة ...الخ).

ولكننا نعتقد أن عمر بن حنظلة هذا من الثقات.. فالرواية تكون معتبرة وصحيحة لتمامية السند الأول والأخير، أمّا السند الثاني فضعيف بمحمد بن الحسن بن شمون.

وذلك لما يلي:

أولاً: إن الذين يروون عن عمر بن حنظلة حوالي اثنين وعشرين رجلاً، فيهم كبار العلماء وأعاظم الفقهاء. بل نستطيع أن نقول إنه لم يثبت ضعف واحد منهم إلا المفضّل بن صالح (أبو جميلة)، الذي حكم الرجاليّون بضعفه.

وكثرة رواية الثقات عنه، واعتمادهم عليه يجعلنا نطمئن إلى أنه لم يكن من الكذابين ولا الوضاعين، وإلا لم يصحّ لأمثال هؤلاء العظماء أن يتّخذوه شيخاً لهم، يتلقّون عنه العلم، ويأخذون عنه حديث أهل البيت (عليهم السلام).. لا يضرّ، لما سيأتي.

والذين رووا عنه بحسب ترتيب حروف المعجم باستثناء أبي جميلة طبعاً، هم:

1ـ أبو أيوب الخزّاز (إبراهيم بن عثمان) وهو ثقة كبير المنزلة.

2ـ أبو المغراء (حميد بن المثنى الصيرفي) ثقة ثقة.

3ـ ابن بكير (عبد الله) ثقة، وهو ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، كما يقول الكشي.

4ـ ابن مسكان (عبد الله) ثقة عين، وهو من أصحاب الإجماع أيضاً عند الكشي.

5ـ أحمد بن عائذ، ثقة.

6ـ إسماعيل، إن كان هو ابن عبد الخالق الذي يروي عنه محمد بن خالد البرقي فهو ثقة، وإن كان هو الآتي فسنرى أن:

7ـ إسماعيل الجعفي (إن كان ابن عبد الرحمان) فقد ترحّم عليه الصادق كما ذكرته بعض الروايات، واستظهروا توثيقه، وإن كان هو ابن جابر بن يزيد كما هو الظاهر، فهو موثّق مشهور ومعروف أيضاً.

8ـ حريز، ثقة.

9ـ حمزة بن حمران، يروي عنه ابن أبي عمير وصفوان بن يحيى اللذان يقال إنهما لا يرويان إلا عن ثقة.

10ـ داود بن الحصين، ثقة. ووقفه ـ إن ثبت ـ لا يضّر.

11ـ زرارة، ثقة، وهو من أصحاب إجماع الكشي.

12ـ سيف بن عميرة، ثقة.

13ـ صفوان بن يحيى، ثقة ثقة عين، وهو من أصحاب إجماع الكشي.

14ـ عبد الكريم بن عمر الخثعمي، ثقة ثقة عين.

15ـ عليّ بن الحكم، ثقة جليل القدر.

16ـ عليّ بن رئاب، ثقة جليل القدر.

17ـ عمر بن أبان، ثقة.

18ـ منصور بن حازم، ثقة، عين، صدوق، من أجلّة أصحابنا وفقهائهم.

19ـ هشام بن سالم، ثقة ثقة.

وكل ما قدّمناه من مدح وتوثيق لهؤلاء، إنما أخذناه من جامع الرواة وحسب، ولم نحاول استقصاء كلام الرجاليين في توثيقهم، ولا ذكرنا كلمات الأئمة (عليهم السلام) في مدح عدد منهم، لأن ذلك ليس محط نظرنا في هذه العجالة. بل غرضنا مجرّد الإشارة إلى وثاقتهم، وعلوّ شأنهم ليس إلا.

20ـ يزيد بن خليفة، ورد مدحه في رواية مرفوعة عن الصادق (عليه السلام) بأنه نجيب بني الحرث، ويمكن تأييدها برواية أخرى عنه نفسه وردت في مطاعم الكافي.

كما أن ابن مسكان، الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه يروي عنه. كما ذكره الكشي وغيره.

كما أن يونس بن عبد الرحمان، الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، يروي عنه أيضاً على ما يظهر من الرواية التالية تحت عنوان: وثالثاً:

وأيضاً، فإن صفوان بن يحيى، الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، وذكر الشيخ الطوسي أنه لا يروي إلاّ عن ثقة، بل لقد ادّعي الإجماع على ذلك[13] ـ صفوان هذا ـ يروي عن يزيد بن خليفة المذكور.

وعليه، فلا بأس بقبول روايته، والاعتماد عليه، ووقفه لا يضر، لما سنشير إليه حين الكلام على البطائني.

وثانياً: إن من الرواة عن عمر بن حنظلة صفوان بن يحيى، الذي يقول الشيخ ـ بل ادّعي الإجماع ـ على أنه لا يروي، ولا يرسل إلاّ عن ثقة، كما تقّدم.

وثالثاً: لقد روى الكليني، عن عليّ بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت.

فقال أبو عبد الله (عليه السلام): إذن لا يكذب علينا.. الحديث[14].

وأورِد على الرواية هنا بـ: أن الرواية ضعيفة السند، فإن يزيد بن خليفة واقفي لم يوثّق، فلا يصحّ الاستدلال بها على شيء[15].

ولكن قد قدّمنا آنفاً أنه لا مانع من الاعتماد على روايته، بعد وجود مرفوعة في مدحه، وبعد رواية صفوان، وابن مسكان ويونس عنه. وأما وقفه فغير ضائر، لما سنشير إليه حين الكلام عن البطائني.

وأورد المولى الصالح على الرواية أيضاً بأن التنوين في (إذا) هو تنوين العوض، أي لا يكذب في ذلك الذي رواه لكم؛ فلا يدل على انتفاء أصل الكذب عنه، وأنه لا يكذب أصلاً.

بل في تعليقه الوحيد أن دلالة الوحيد الرواية على الذم أظهر ولعل نظره إلى أن نفي كذبه عليهم (عليهم السلام) يثبت بمفهوم اللقب كذبه على غيرهم، وكذبه عليهم في غير الوقت.

وأجاب المامقاني (رحمة الله): أما عن الأخير، فلعدم إرادة هذا المفهوم منه، سواء قرئ مبنيّاً للفاعل أو للمفعول. فما في منتهى المقال من أنه على الأول على الذم أدلّ، أما على الثاني؛ فيدل على المدح في وجه، لا وجه له.

وأما عمّا ذكره المولى الصالح؛ فهو أن نفي الفعل المتعدّي يفيد العموم، كما حققه الأصوليون، ولا يخصصه المورد[16].

ونزيد نحن هنا: أن (إذا) هنا ليست هي (إذ) مع تنوين العوض، والتي هي اسم زمان، وإنما هي (إذن) التي هي حرف جواب وجزاء أو مكافأة، وهي إن أعملت كتبت بالنون، وإلاّ فبالألف، كما قيل.

وأيضاً: لو كان المراد نفي خصوص كذبه في هذا المورد، لكن الأنسب التعبير بـ (لم يكذب)، أو (ما كذب)؛ فالنفي بـ (لا) يدل على أن المراد نفي أصل الكذب عنه.

وأما بالنسبة لمفهوم اللقب، فقد قال العلماء إنه أضعف المفاهيم، بل لا مفهوم للّقب إلاّ إذا كان ثمة قرينة حالية أو مقالية تقضي ذلك، وهي غير موجودة في المقام. ولو سلم، فإن المقصود، وهو عدم كذبه عليهم، كاف في المطلوب، سواء كان يكذب على غيرهم أو لا يكذب أصلاً.

وعلى كل حال، فإن مما يؤيد أيضاً وثاقة واستقامة عمر بن حنظلة، وأنه كان إمامياً ما رواه في العوالم عن إعلام الدين للديلمي، من كتاب الحسين بن سعيد، قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) لعمر بن حنظلة: يا أبا صخر، أنتم والله على ديني ودين آبائي. وقال: والله لنشفعن، والله لنشفعنّ ـ ثلاث مرّات ـ حتى يقول عدوّنا: فما لنا من شافعين، ولا صديق حميم... الخبر[17].

ورابعاً: لقد حكي عن النجاشي توثيق عمر بن حنظلة[18].

وخامساً: لقد روى عن عمر بن حنظلة أربعة ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم وتصديقهم والإقرار لهم بالفقه، وهم:

1ـ زرارة بن أعين.

2ـ عبد الله بن بكير.

3ـ صفوان بن يحيى.

4ـ عبد الله بن مسكان[19].

كلام حول أصحاب الإجماع

ومعنى إجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، أنه ينظر في سند الرواية إلى أن يصل إليهم، ثم لا ينظر فيمن بعدهم إلى المعصوم (ع)، لأن هؤلاء لا يروون إلاّ عن ثقة. فمراسيل ومرافيع ومقاطيع هؤلاء كمسانيدهم معدودة من صحاح الأحاديث، لإجماع العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.

والمراد بالصحّة هو الوثاقة والاعتبار. لأن بعض من يروون عنه ليس إمامياً. بل والشك في كون بعضهم أنفسهم إمامياً موجود أيضاً. فالمراد بالصحيح باصطلاح القدماء الأعم منه ومن الموّثق باصطلاح المتأخرين.

وعلى كل حال، فقد اختار التفسير الذي ذكرناه لعبارة: (تصحيح ما يصحّ عنهم)، وأن المراد أنهم لا يروون إلاّ عن ثقة، اختاره أبو علي في رجاله، واعتبره الظاهر المنساق من العبارة، ونقل عن بعض أجلاء عصره وصفه بالشهرة، وهو نفسه وصفه بالشهرة أيضاً في آخر كلامه، ونسبه المحقق الداماد في الرواشح السماوية إلى الأصحاب مؤذناً بدعوى الإجماع عليه، وحكي عن أمين الدين الكاظمي، واختاره المامقاني، والعلامة، وابن داود، والشهيد، والداماد، والمجلسيان[20].

كما أن الشهيد الثاني قد حكم في غاية المراد، في مسألة عدم جواز بيع الثمرة قبل ظهورها، بوثاقة أبي الربيع الشامي بنحوٍ ما، لرواية ابن محبوب عنه بواسطة خالد بن جرير[21]. وصاحب الجواهر حكم أيضاً في مرسلة حريز بأنه لا يقدح ضعف من بعد حمّاد، لأنه ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم[22].

بل لقد نقل المحقق الداماد في رواشحه أن أصحابنا (رضوان الله عليهم) إذا قالوا ثقة، صحيح الحديث، فمعنى ذلك أنه لا يروي إلاّ عن عدل[23]. وهذا معناه أن غير تلك الجماعة أيضاً جماعة آخرون لا يروون إلاّ عن ثقة.

أمّا كيف عرفت العصابة أن هؤلاء لا يروون إلاّ عن ثقة، فيمكن أن يكون ذلك من خلال معاشرتها لهم، وتعاملها العلمي معهم، بحيث اتّضح لكل أحد ـ من حالهم ـ أنهم ملتزمون بذلك مواظبون عليه.

هذا، وقد جزم المحدث النوري (رحمه الله تعالى) بأن الشيخ الطوسي (رضوان الله تعالى عليه) حين ذكر الثلاثة ـ صفوان، وابن عمير، والبزنطي ـ وغيرهم من معروفي الأصحاب الذين لا يروون إلاّ عن ثقة، إنما كان ينظر بقوله: (معروفي الأصحاب) إلى أصحاب الإجماع المشار إليهم؛ إذ لا يوجد في طبقة الثقات عصابة معروفة مشتركة في فضيلة غير هؤلاء[24].

وبعد، فقد رأينا البعض يذهب إلى أن المراد من تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء، أنه إذا صحّ عن أحدهم، فلا تعتبر العدالة فيمن بعده، بل يصحّ نسبته إلى المعصوم (عليه السلام)، ولو كان قد رواه عن معروف بالفسق والوضع[25].

وأيّد ذلك بعض المحققين بأن من الممكن أن يكون الأصحاب قد رأوا أن روايات هؤلاء لها خصوصيات معينة بحيث صحّ عندهم نسبتها إلى المعصوم، من غير الطريق الضعيف الذي رواه الجماعة، خصوصاً بملاحظة أن الأصول الأربع مائة قد اشتهرت بين الأصحاب، وصحّت لديهم نسبتها إلى أصحابها. إلاّ أن هذه الجماعة (المجمع على تصحيح ما يصحّ عنها) ما كانت تكتفي بالوجادة المجّردة، بل يروون الكتاب الثابت نسبته لمؤلفه بواسطة شيخ ضعيف، يرويه عن صاحب الكتاب، فالرواية صحيحة عنده، وإن كان راويها ضعيفاً[26].

ولكننا لا نستطيع أن نقبل بهذا التفسير لهذا المحقق. إذ ما هي الخصوصيّة التي جعلت هؤلاء يختصّون بهذا الحكم دون كل من عداهم من الرواة‍؟ وإذا لم يكن ثمة خصوصية، فما هو المبرر لإجماع كهذا؟ وما ذكره ذلك البعض كخصوصية في المقام لا دليل عليه، وإنما هو مجرد تكهن لا يغني شيئاً. كما أنه يرد سؤال: لماذا يختار هؤلاء لرواية ذلك الأصل المعروف شيخاً ضعيفاً؟ ولماذا يوقعون الناس بعدهم في هذه الورطة؟‍ فهل كان المهم عندهم الشكليات فقط؟ إننا نجلّهم عن نسبة ذلك إليهم، فإننا نطمئن إلى أنهم يهتمّون باتصال أحاديث الأئمة إلى من بعدهم بأفضل طريق ممكن، وذلك معناه تحرّي الوثاقة في الرواية؛ ليجعلوا من يأتي بعدهم يطمئن إلى صحة ما يأخذ. وهذا بالذات هو ما أشار إليه النوري في تفسيره لكلام الشيخ، حسبما قدمناه؛ فكلامه (ره) بالنسبة لكلام الشيخ هو الأكثر معقولية وقرباً، كما هو واضح.

هذا، وما أبعد ما بين ما يقوله هؤلاء، وبين ما يقوله آخرون؛ من أن الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن المذكورين لا يدل على أكثر من عدالة ووثاقة هؤلاء المذكورين وصدقهم، وأما من قبلهم، ومن بعدهم؛ فلابد من إحراز وثاقتهم من طرق أخرى، ونقل هذا المعنى أبو علي في رجاله عن بعض معاصريه، بل لقد ادّعى البعض الإجماع عليه[27].

وهو تفسير بما لا يرضى به صاحبه؛ إذ لو صحّ هذا التفسير لم يكن معنى لإضافة قوله: (أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم)، ولكان اللازم الاكتفاء بقوله: (أجمعت على تصديقهم، والإقرار لهم بالفقه).

كما أن كون الرجل ثقة لا يختص بهؤلاء النفر؛ فلا يبقى ثمة مبرر لإجماع كهذا، ولا فائدة، إلاّ أن يكون المزيد من التأكيد على الوثاقة وتقويتها. كما أن من يراجع تراجم غير هؤلاء يجد كثيرين آخرين يعترف لهم كل أحد بالوثاقة والجلالة والعدالة، وأنهم من وجوه الطائفة وكبارها وأعيانها المعروفين لدى الجميع.

وإذا تحقق أن المعنى الأول هو الأقرب إلى مفاد النص المنقول، وأن المراد أن الإجماع قائم على أن أولئك الأعاظم لا يروون إلاّ عن الثقات؛ فإذا ثبتت الرواية عن أحدهم، فإنه يحكم بوثاقة من بعدهم إلى الإمام (عليه السلام)؛ بحيث لو وقعوا في أسانيد أخرى ليس فيها أحد أولئك الأعاظم، فإنه يحكم باعتبار ووثاقة الرواية أيضاً، ولا يتوقف فيها لأجلهم. كما أنه لو ورد جرح في أحدهم؛ فإنه يكون معارضاً لهذا التوثيق الناشئ عن رواية أحد هؤلاء عنه، فلابد من الرجوع إلى الترجيح.

بقي أن نشير إلى أن البعض يرى أن الإجماع على تصحيح ما يصحّ عن هؤلاء لا يلزم منه وثاقة من رووا عنه، لجواز كون وجه الصحة هو احتفاف أحاديثهم بقرائن خارجية تفيد القطع بصدورها عن المعصوم، وإن كان الراوي ضعيفاً، لأن الصحيح عند القدماء أعم من الذي رجال سنده ثقات، ومن الذي احتفّ بقرائن توجب القطع بصدوره[28].

ولكن هذا الكلام مما لا تمكن المساعدة عليه:

أولاً: قد حقق المحدث النوري أنه لم يثبت أنه كان لهم مصطلح آخر في إطلاق لفظ (الصحيح)، بل لقد ذكر (رحمه الله) شواهد كثيرة على أن للقدماء مصطلح لا يختلف عن مصطلح المتأخرين. إلاّ أن الصحيح عندهم أعم منه ومن الموثق عند المتأخرين[29].

وثانياً: قد تقدم أن الظاهر من الشيخ هو أن أصحاب الإجماع جميعاً لا يروون إلاّ عن ثقة.

وثالثاً: إنه لابد من وجود خصوصية عامّة اشترك فيها الجميع فيما رووه كلّه؛ لأن ظاهر الإجماع هو الشمول والعموم لرواياتهم كلّها. ولا نجد خصوصية يمكن أن يشترك فيها الجميع تصلح لجعل مروياتهم قطعيّة الصدور، سوى أنهم لا يروون إلاّ عن ثقة، وإلاّ فلو كان المراد بعض مروياتهم لم يكن معنى لتخصيصهم بالذكر؛ إذ كل خبر ثقة يحتفّ بقرينة تفيد الوثوق بصدوره يحكم بصحته، حتى ولو كان قد رواه عن ضعيف أو مجهول، فما هو المميز لهؤلاء عن غيرهم؟.

ورابعاً: قال النوري: إن نفس مطابقة أخبار راوٍ لما علم من الخارج صحته يعتبر من إمارات الظن بالوثاقة[30].

وأخيراً، فإن ما ذكرناه كافٍ في حصول الظن لنا بأن هؤلاء الجماعة لا يروون إلاّ عن ثقة، والمدار في الرجال على الظنون[31].

________________________

[1] غرر الحكم، ودرر الكلم، المطبوع مع الترجمة الفارسية، ج1، ص36.

[2] دستور معالم الحكم، ص170.

[3] نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الخطبة رقم 39، وعند غيره رقم 40. وراجع أنساب الأشراف، ج2، ص377 و352، طبعة الأعلمي. وتاريخ اليعقوبي، ج2، ص209. ونقله في مصادر نهج البلاغة، ج1، ص440 عن قوت القلوب، ج1، ص530، وعن غيره.

[4] عيون أخبار الرضا، ج2، ص101، وعلل الشرايع، ج2، ص، 253، طبعة سنة 1385 هـ في النجف، وتفسير نور الثقلين، ج1، ص412 و 413، وراجع المكاسب للشيخ الأنصاري، ص153.

[5] الشورى:10.

[6] الحديد:25.

[7] آل عمران:146.

[8] سورة ص:26.

[9] بالإضافة إلى مواصفات أخرى مذكورة في مباحث الفقه الإسلامي، لا مجال لبحثها هاهنا.

[10] وبعد أن كتبت ما تقدم، وجدت عبارة مختصرة تصلح إجمالاً لما تقدم، وهي التالية: (لو فرض السؤال عنه (ع) عن حاجة الناس إلى الرئيس في زمن الغيبة، فإن سكت في الجواب، فليس هذا من شأن الإمام (ع)، بعد السؤال عن الواقعة المبتلى بها، وإن أجاب بعدم احتياجهم إليه وإن لزم الفساد والهرج والمرج، فهو مناف لقوله (عليه السلام) بأن بقاءهم وعيشهم لا يكون إلا بالرئيس ولحكمة الحكيم. وإن أجاب باحتياجهم إليه فهو المطلوب، إذ ليس لنا اليوم من يقوم بأمور المسلمين على وجه ينتظم به معاشهم ومعادهم غير الفقهاء، فالإمام الغائب (عجل الله تعالى فرجه) غير متصرف فعلاً على وجه ينفع بحسب الظاهر بحالهم، بحيث متى احتاجوا رجعوا إليه في الحوادث والنوائب، ويكفي أمورهم، وبدونه يختل النظام جزماً. فإذا ثبت أن الفقيه أيضاً مثل الإمام (عليه السلام) في احتياج الناس إليه في كل عصر وأوان كان نائباً عن الإمام (ع)، ويجب طاعته في الأمور مثله، وأنه مثله في الاستقلال بالتصرف، وتوقف تصرف الغير في بعض الأمور على إذنه). حاشية المكاسب للاشكوري، ص114.

[11] سورة النساء:60.

[12] راجع الوسائل، ج18، ص99، والكافي، ج1، ص412، والتهذيب، ج6، ص301ـ302 و218، وذكر الصدوق ذيل الحديث في من لا يحضره الفقيه، ج3، ص5، والاحتجاج، ج2، ص106، ومستدرك الوسائل، ج3، ص187، والجواهر، ج40، ص32.

[13] راجع مقباس الهداية، ص73، ورجال المامقاني، ج3، ص326، ومستدرك الوسائل، ج3، ص758، والعدة في الأصول، ص63، وقواعد الحديث للغريفي، ص41 عنه.. فقد دّعي الإجماع على ذلك في ابن أبي عمير، أو هو مع أخويه صفوان والبزنطي، وراجع الوسائل، ج20، ص88، وعبارة الشيخ هكذا: (وإن كان أحد الراوين مسنداً والآخر مرسلاً نظر في حال المرسل، فإن كان ممن يعلم أنه لا يرسل إلاّ عن ثقة موثوق به؛ فلا ترجيح لخبر غيره على خبره؛ ولأجل ذلك سوت الطائفة بين ما يرويه محمد بن أبي عمير، وصفوان بن يحيى، وأحمد بن محمد بن أبي نصر، وغيرهم من الثقات، الذين عرفوا بأنهم لا يروون ولا يرسلون إلاّ عمن يوثق به، وبين ما أسنده غيرهم، ولذلك عملوا بمراسيلهم إذا انفردوا عن رواية غيرهم.. الخ) انتهى.

[14] الكافي، ج3، ص275، والوسائل، ج20، ص91 و ج3، ص97، والتهذيب للطوسي، ج2، ص21، والاستبصار، ج1، ص260 و267، والوسائل، باب5 و279 من أبواب المواقيت.

[15] معجم رجال الحديث، ج13، ص32.

[16] راجع: رجال المامقاتي، ج2، ص342.

[17] رجال المامقاني، ج2، ص342.

[18] الرياض، ج2، ص391، ومستند الشيعة، ج2، أوائل كتاب القضاء.

[19] والباقون هم: بريد، ومعروف بن خربوذ، وأبو بصير الأسدي (أو المرادي)، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم، وجميل بن دراج، وحماد بن عثمان، وحماد بن عيسى، وأبان بن عثمان، ويونس بن عبد الرحمان، وابن أبي عمير، وعبد الله بن المغيرة، والحسن بن محبوب، والحسن بن علي بن فضال، وفضالة بن أيوب، (أو عثمان بن عيسى)، وذكر غيرهم معهم، أو بدلاً عنهم، فراجع. وقد ذكر في مقباس الهداية، ص70: أن هذا الإجماع قد تواتر نقله، وصار أصل انعقاده في الجملة من ضروريات الفقهاء والمحدثين، وأهل الدراية والرجال، وحجيته لا ريب فيها؛ لكفاية الظن في المقام، وهو مفيد له. راجع نتيجة المقال، ص78.

[20] راجع: مقباس الهداية، ص71، وقواعد الحديث، ص47 و48، ومستدرك الوسائل، ج3، ص760، الخاتمة، وعن منتهى المقال، ص9ـ10 ونتيجة المقال في علم الرجال، ص73 و80.

[21] رسالة ابن عثمان للجيلاني،ص6، ومستدرك الوسائل، ج3، ص759، الخاتمة، ونتيجة المقال، ص79.

[22] قواعد الحديث، ص67 عن الجواهر، ج2، ص316.

[23] مستدرك الوسائل، ج3، ص769، الخاتمة، عن الرواشح السماوية.

[24] راجع: مستدرك الوسائل، ج3، ص758، وراجع: ص767، الخاتمة.

[25] راجع: مقباس الهداية، ص71، واختاره في الوسائل، ج20، ص81، وعن الوافي، ج1، ص12.

[26] كذا ذكر بعض المحققين حينما عرضت هذه الرسالة عليه.

[27] راجع: نتيجة المقال في علم الرجال للبارفروشي المازندراني، ص74 و75 و79، ومستدرك الوسائل، ج3، ص760، الخاتمة، ومقباس الهداية، ص71، وقواعد الحديث، ص47 عن منتهى المقال، ص9ـ10.

[28] مستدرك الوسائل، ج3، ص759 و763، الخاتمة، وقواعد الحديث، ص59، ونتيجة المقال، ص80.

[29] مستدرك الوسائل، ج3، ص764ـ765، الخاتمة.

[30] مستدرك الوسائل، ج3، ص767ـ768، الخاتمة.

[31] راجع: نتيجة المقال في علم الرجال، ص78.