الغدير امتداد لخط الرسالات الإلهية

 

المناسبة: عيد الغدير الأغرّ

الزمان والمكان: 18 ذي الحجة 1422هـ ـ مشهد / حرم الإمام الرضا(ع)

الحضور: حشد غفير من أهالي مشهد وزوار الإمام الرضا (ع)

أجواء الكلمة

إن يوم الغدير يمثل في الحقيقة امتداداً لخط الرسالات الإلهية بأسرها، وهو تتويج لهذا الخط اللاحب الزاهر على مرّ التاريخ.

هذا ما استهل به سماحة ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله) حديثه في عيد الغدير، موضحاً أن الدين يعني صراط الحياة وتوجيه النشاطات الإنسانية وترشيدها سواء على المستوى الفردي، أو الجماعي الذي يشكل الجانب الأعظم منها ويطلق عليها (السياسة)، وهذا ما تكفل به الدين حيث المعصومين يتوالون جيلاً بعد جيل فيمسكون بزمام الأمور ويتصدون لهداية البشرية.

ثم أشار سماحته في جانب آخر من حديثه إلى مغزى واقعة الغدير، وقال: إن ذروة ما بلغه مزيج الدين والسياسة بصورته الرائعة البديعة وتبلوره كسنة خالدة تؤمّن الهداية للمجتمع منذ عهد آدم حتى انطلقت النبوات والرسالات وتشكلت حكومات الأنبياء مرات ومرات على مرّ التاريخ قد تحقق في واقعة الغدير.

العناوين الرئيسة في حديث سماحته:

ـ الغدير امتداد لخط الرسالات الإلهية

ـ الدين يرشد الحياة

ـ آفتان تتهدان الدين والسياسة معاً

ـ سمات الحاكم

ـ مغزى واقعة الغدير

ـ الخطر الأعظم الذي يتهدد النظام الإسلامي

ـ مكافحة الفساد الاقتصادي من أولويات سياسة أمير المؤمنين (ع)

ـ أعداء في الطريق

ـ أخطاء أمريكا تمهّد لسقوطها

ـ بلدنا بلد أهل البيت (ع)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين سيما بقية الله في الأرضين.

قال الله الحكيم في كتابه: {اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}.

إنه ليوم عظيم وميمون، والحمد لله الذي منَّ علينا بتوفيق الاجتماع بكم أيها الأخوة والأخوات الأعزاء من أبناء مشهد وزائري هذا الضريح المعلّى في يوم عيد الغدير المبارك وتحت ظلال المرقد الطاهر للإمام علي بن موسى الرضا (عليه الصلاة والسلام) ونحيي ذكرى الغدير.

أبارك لكم أيها الأعزاء وللشعب الإيراني العظيم والشيعة جميعاً ومسلمي العالم حلول عيد الغدير السعيد.

على مدى هذا العام والذي سبقه أحيا أبناء شعبنا العزيز الذكر المبارك لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه الصلاة والسلام)، وأدى اقتران هذين العامين باسم "عام الإمام علي" و"عام السيرة العلوية" إلى أن تزداد القلوب توجهاً نحو هذه القبلة التي تمثل مهوى قلوب العارفين وعشاق العدالة في العالم.

 الغدير امتداد لخط الرسالات الإلهية

في مستهل حديثي أرى من الضروري التطرق باختصار لمفهوم الغدير، فينبغي أن لا يُنظر إلى واقعة الغدير التاريخية الكبرى التي اتخذناها اليوم عيداً على أنها مناسبة مذهبية؛ فحادثة الغدير بمغزاها الحقيقي لا تخص الشيعة لوحدهم وإن كان الشيعة يتخذون من يوم تنصيب مولى المتقين للإمامة والولاية عيداً ويقيمون فيه مراسم الشكر، حيث إن يوم الغدير يمثل في الحقيقة امتداداً لخط الرسالات الإلهية بأسرها، وهو تتويج لهذا الخط اللاحب الزاهر على مر التاريخ. وإذا ما ألقينا نظرة على الرسالات الإلهية نجد أن الأنبياء والرسل قد تناقلوا هذا الخط اللاحب عبر التاريخ حتى آل إلى النبي الأكرم الخاتم، ثم تجسّد وتبلور عند نهاية حياة هذا الرجل العظيم على هيئة واقعة الغدير.

وحري بي هنا الإشارة إلى أهمية دعاء الندبة الذي يمثل في واقع الأمر خطبة غراء في بيان معتقدات الطائفة الأمامية وتطلعاتها وآلامها على مر تاريخها، فإذا ما تمعنتم تجدون هذا الخط الواضح مرتسماً عند مطلع دعاء الندبة "الحمد لله على ما جرى به قضاؤك في أوليائك"، وهذا الخط متواصل منذ فجر تاريخ الرسالات حتى النبي الخاتم، ومضمون الرسالة الذي هو عبارة عن دين الله هو في الحقيقة بلورة وتوجيه وصياغة جهود الإنسانية، فالدين إنما يعني صراط الحياة، وإذا ما أمعنتم النظر في أي مجتمع إنساني أو أي بلد تجدون أن الناس فيه يمارسون نشاطات متنوعة ومختلفة لتأمين شؤونهم الشخصية والعاطفية والمعاشية العامة، فالدين هو الذي يتولى توجيه هذه النشاطات ويرشدها ويرفد العقل الإنساني كي يتسنى للإنسان تنظيم هذه النشاطات وتنسيقها مع بعضها كي يحقق سعادته الدنيوية والأخروية.

الدين يرشد الحياة

إن الجهود التي يبذلها الناس يتصل بعضها بقضاياهم الشخصية، وهو ما يشتمل على جانب صغير من النشاطات الإنسانية من قبيل المعيشة والأمور المعنوية والعاطفية وعلاقاتهم المتبادلة، أما الجانب الأعظم من الفعاليات الإنسانية فهو تلك الفعاليات التي تمارس على شكل مجهود جماعي على صعيد المجتمع، وذلك ما يطلق عليه "السياسة" من قبيل السياسات الاقتصادية، والاجتماعية، والعسكرية، والثقافية، والمدنية، والسياسات الدولية التي تمثل الجانب الأساس من نشاط الإنسانية خلال حياتها. ولكن لماذا تعد هي الأساس؟ ذلك لأن هذه السياسات هي التي تسوق الناس نحو اتجاه ومنحى معين وهم يمارسون نشاطاتهم الفردية.

 

إن الجانب الأهم من عمل الإنسان هو عمل جبّار يحدد الاتجاه العام للنشاطات الفردية الدقيقة والصغيرة، والدين على تماس بكلا الميدانين: النشاط الفردي للإنسان، وميدان السياسة الذي يتميز بسعته وشموليته بالنسبة لحياة الإنسان.

آفتان تهددان الدين والسياسة معاً

ثمة آفتان تهددان الدين والسياسة معاً: إحداهما تتمثل في تلوث دين المجتمع أو الفرد بالانحراف أو اللامبالاة أو التحجر والجمود أو تجاهل رسالة العقل أو الالتقاط وما شابه ذلك؛ أما الآفة الأخرى فهي تفسير الدين بحدود الحياة الفردية، فيهمل مسرح الحياة الجمعية للبشر على سعتها أو يجري السكوت إزاءها والانزواء عنها.

وهناك خطران يتهددان السياسة أيضاً: أحدهما ابتعاد السياسة عن مكارم الأخلاق وخواؤها من المعنويات والفضيلة مما يعني غلبة الأساليب الشيطانية على السياسة واستيلاء الأهواء النفسية للأفراد واستحواذ مصالح الطبقات المتجبرة والثرية في المجتمعات عليها وجرفها بهذا الاتجاه أو ذاك. وإذا ضربت هذه الآفة السياسة فحينها يعتري الخلل والمرض ميدان الحياة الاجتماعية للبشر. والآفة الأخرى التي تصيب السياسة هي استيلاء ذوي النظرة الضيقة والصبيانيين والضعفاء من الناس على السياسة وخروجها من الأيدي التي تتميّز باقتدارها وسقوطها بأيد تعوزها الكفاءة.

سمات الحاكم

ما هو الحل يا ترى؟ إن السبيل الأمثل للحل يتمثل في وقوف من لا وجود لهاتين الآفتين في دينهم وسياستهم على رأس السياسة وإدارة شؤون المجتمعات؛ أي أن يتصدى لإدارة شؤون البشرية من يتميزون بتدينهم ومعنوياتهم وسمو فكرهم الديني، محصنين من الانحراف والخطل والالتقاط واعوجاج الرؤية في الدين، بعيدين عن التحجر والجمود والعجز عن فهم الدين، وأن لا يجعلوا من الدين ألعوبة يقضون بها وطر حياتهم؛ أكفاء مدبّرين شجعاناً على الصعيد السياسي؛ لا ينأون بالسياسة عن المعنويات والأخلاق والفضيلة؛ فإذا ما أمسك أمثال هؤلاء بزمام الأمور في أي مجتمع إذ ذاك سيظل المجتمع في مأمن إزاء الكثير من الأخطار التي ربما يتعرض لها. فأين تكمن ذروة هذه المزايا؟ إنها حيث يقف الانسان المعصوم من الخطأ والهفوات على رأس السلطة السياسية والدينية، وهو ما يعني الإمام.

إن الإمام المعصوم إنسان رفيع؛ قلبه من الناحية الدينية يمثل مرآة مضيئة لأنوار الهداية الإلهية، وروحه تتصل بمنهل الوحي، خالصة هدايته؛ ومن ناحية الأخلاق الإنسانية فإن سيرته وأخلاقه ممزوجتان بالفضيلة، لا سبيل للأهواء النفسية إليه؛ لا تغلبه المعصية، ولا يغلِّب الشهوات والنزوات على نفسه؛ ولا يبعده الغضب والسخط عن صراط الله.

أما سياسياً، فله رؤية ثاقبة بنحو يرقب بعينة الفاحصة أخفى التحركات وأدق الأحداث في حياة المجتمع، وكما يقول أمير المؤمنين: "والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم"؛ مقدام ذو قوة روحية ومعنوية في مواجهة عواصف الحياة والوقائع التي ليست على دينه، فيردد لأجلها "فلو أن امرأً مسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً".

لقد كان أمير المؤمنين "عليه الصلاة والسلام" شجاعاً في مواجهته للأخطار بالمستوى الذي يصرح بعدم قدرة أي أحد على مواجهة الفتنة التي فقأ عينها ـ ومراده بذلك فتنة الخوارج أو فتنة الناكثين ـ، فتلك المعنويات والتدين والأخلاق والفضائل من ناحية، وتلك الرؤية الثاقبة والشجاعة والتضحية والمشاعر الإنسانية المرهفة إلى جانب الصلابة والقوة المعنوية والروحية في ناحية أخرى؛ إنما منشؤها جميعاً العصمة؛ لأن الله سبحانه قد اجتباه لمنزلة العصمة ولا منفذ للمعصية والخطأ إلى عمله؛ فإذا ما وقف مثل هذا الإنسان على هرم المجتمع تحقق بذلك غاية ما تنشده الرسالات بأجمعها؛ هذا هو معنى الغدير، وهذا ما تحقق في الغدير.

مغزى واقعة الغدير

لا تنظروا إلى الغدير في حدود تنصيب أو تعريف عادي حيث قام النبي الأكرم (ص) بتعريف شخصٍ ما، ولا شك ـ بطبيعة الحال ـ أن النبي نصّب أمير المؤمنين للخلافة على مشهد عشرات الآلاف من المسلمين، وليس هذا بالأمر الذي يرويه الشيعة فقط، بل إن واقعة الغدير مما يرويها إخواننا أهل السنة ومحدّثوهم بنفس المواصفات التي ينقلها الشيعة، وهو ليس بالأمر الذي يسع المرء إنكاره؛ بيد أن القضية لا تقف عند هذا الحد.

القضية هي: أن ذروة ما بلغه مزيج الدين والسياسة بصورته الرائعة البديعة وتبلوره كسنّة خالدة تؤمّن الهداية للمجتمع منذ عهد آدم حيث انطلقت النبوات والرسالات وتشكلت حكومات الأنبياء مرات ومرات على مر التاريخ ـ من قبيل حكومة سليمان وداود وغيرهما من أنبياء بني إسرائيل حتى عهد نبيّنا ـ قد تحقق في واقعة الغدير، لذا فإننا نقرأ في دعاء الندبة ـ كما أشرت ـ "فلما انقضت أيامه أقام وليَّه علي بن أبي طالب صلواتك عليهما وآلهما هادياً، إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد".

يا حبذا أن نتوجه بدقة وتمعن لما بين أيدينا من معارف ننهل منها أفكارنا بفضل هدي أهل البيت "عليهم السلام"، ودعاء الندبة ـ كما أسلفت ـ خطبة غرّاء تستعرض تاريخ هذا الفكر وجذور هذه المسيرة منذ عصر الرسالات، وإذا ما تمعنتم جيداً فلن تجدوا في هذا الدعاء موضعاً يثير الاختلاف بين الشيعة والسنة ـ حيث النزاع التاريخي الذي أجّجه أناس تحركهم دوافع شتى ـ وفيه يتم بيان قضية الإمامة والولاية بشكل استدلالي "إذ كان هو المنذر ولكل قوم هاد"؛ أي ان للنبي موقع الرسالة والإنذار والتبشير فهو البادئ في شق الطريق والفاتح للآفاق أمام البشرية. بيد أن النبي ليس مخلّداً وأزلياً، والمجتمعات بحاجة لمن يهديها، والإسلام قد تكفل بهذا الهادي، وهم المعصومون الذين يتوالون جيلاً بعد جيل فيمسكون بزمام الأمور، ويتصدون لهداية البشرية من خلال التعاليم القرآنية الأصيلة الخالصة أجيالاً وقروناً. وهم في الحقيقة إنما يقومون بعملية تجذير للأفكار والخصال والسلوكيات والأخلاق الإسلامية في المجتمع؛ لتبقى حجة الله حيّة فيما بعد في أوساط المجتمع، فلا وجود للدنيا والبشرية دون حجة قائمة، على أن تشق البشرية طريقها، وهذا ما لم يتحقق، وهذا هو ما خطط له الإسلام ومشروعه الشامل، وهذا هو المغزى من الغدير.

الإمامة هي تلك القمة في المعنى المنشود من إدارة المجتمع قبال ضروب وأصناف الإدارة المنبثقة عن مكامن الضعف والشهوة والحمية في الإنسان ومطامعه، والإسلام يطرح أمام البشرية نهج الإمامة ووصفتها؛ أي ذلك الإنسان الطافح قلبه بفيض الهداية الإلهية، العارف بعلوم الدين المتميز بفهمه ـ أي يجيد تشخيص الطريق الصحيح ـ ذو قوة في عمله {يا يحيى خذ الكتاب بقوة} ولا وزن لديه لنفسه ورغباته الشخصية، لكن أرواح الناس وحياتهم وسعادتهم تمثل أهم ما لديه، وهذا ما عبّر عنه أمير المؤمنين عملياً أثناء حكمه الذي استمر أقل من خمس سنوات، فإنكم تلاحظون أن فترة ما يقل من خمسة أعوام هي فترة حكم أمير المؤمنين تمثل أنموذجاً ومقتدىً لن تنساه البشرية أبداً، وستبقى خالدة وضاءة قروناً متطاولة، وهذه هي ثمرة واقعة الغدير والدرس والمغزى والتفسير المستقى منها.

لمدة عامين اجتذبنا شعبنا وقلوبنا باسم أمير المؤمنين نحو عظمة هذا الرجل الشامخ وهذه الشخصية التاريخية الخالدة، بيد أن ذلك لا يعني انتفاء حاجتنا للسيرة العلوية والتزامنا بحياة أمير المؤمنين بانتهاء هذا العام ـ 1380هـ.ش ـ وتبقى يستهلكها التاريخ؛ كلا، فنحن بحاجة في كل آنٍ إلى أن نتطلع نحو ذلك الأنموذج والشاخص والمعلم الذي تزخر به حياة أمير المؤمنين فنقتدي به ونقلص الهوة السحيقة التي تفصلنا عنه خطوة فخطوة.

الخطر الأعظم الذي يتهدد النظام الإسلامي

إن أعظم خطر يتهدد نظاماً وحكومة كنظامنا وحكومتنا اللذين قاما باسم الإسلام هو أن نتناسى قدوتنا في الحكم وهو أمير المؤمنين؛ فننظر إلى ما شاع من نماذج في الدنيا وعبر التاريخ ونقرن أنفسنا إليها، فنوجه أنظارنا نحو النهج الذي اتبعته الحكومات المنحرفة التي وجهت الضربات المتوالية للبشرية على مر التاريخ؛ فلئن عملت على ازدهار جانب معين من حياة الإنسان فقد أنزلت خسائر لا تعوض بجانب آخر. فيجب أن تتركز جهود الجمهورية الإسلامية على الاقتراب من ذلك النموذج الذي طرحته واقعة الغدير وتجسد خلال فترة السنوات الخمس من حكم أمير المؤمنين، ولو أمعنتم النظر في الحروب التي خاضها أمير المؤمنين خلال هذه الفترة الوجيزة تجدون أنها جميعاً في سبيل الحؤول دون استبدال الإمامة والولاية الإسلامية بتلك النظم المنحرفة؛ استبدال الإمامة بالسلطنة، استبدال حكومة المعرفة بحكومة الجهل؛ استبدال الحكومة القائمة على التجرد عن المصالح الشخصية بحكومة يقف على رأسها من هاجسهم التفكير بمصالحهم الشخصية واكتناز الأموال وحطام الدنيا دون غيره.

اليوم وفي ظل الجمهورية الإسلامية، لو أردنا ضمان السعادة لهذا البلد وأن يحقق الشعب الإيراني العزيز ـ بما يزخر به من طاقات أودعها الله لدى هذا البلد وهذا الشعب ـ طموحاته وآماله المشروعة، فعلينا اقتفاء هذا الخط والاقتداء بتلك الحكومة على صعيد ديننا ودنيانا، فمنها نأخذ السياسة المصفاة من لوث الأهواء والرغبات والشهوات، سياسة منبثقة عن الدين والأخلاق، سياسة الرجحان في صياغتها للمصالح الوطنية العامة على المصالح الشخصية والفئوية والقومية وعلى مصالح الأجانب الذين يبغون الدنيا بأسرها لهم، سياسة تضمن للشعب عزته واقتداره الوطني والمنزلة على الصعيد العالمي والثقافة السامية والتطور العلمي؛ وتغذيه بالمعنويات والفضيلة والدين والأخلاق إلى جانب ضمان دنياه وحياته ومعيشته.

إننا الآن بحاجة إلى ذلك الذي إنما يتحقق على أيدي الحكام والمسؤولين الذين يجلسون على مسند المسؤولية وينهضون بمهامهم عن طريق إرادة الجماهير وانتخابها ورغبتها وعواطفها الجياشة وعلى أساس ما تعتقد به، وهذا ما يعد أنموذجاً أمثل. ونحن في الجمهورية الإسلامية إذا ما واصلنا هذا الدرب والمسير ـ وهو خطوة عملية قد اكتسب مسؤولو البلاد الخبرة والتجربة فيه على مدى السنوات الثلاث والعشرين المنصرمة والحمد لله؛ وهو كذلك موضع رضى من لدن الشعب ـ إذ ذاك سننال الرضى الإلهي وتزداد ثقة الشعب ويضطرد النظام اقتداراً.

مكافحة الفساد الاقتصادي من أولويات سياسة أمير المؤمنين (ع)

خلال هذين العامين لاسيما العام الحالي ـ عام السيرة العلوية ـ وببركة اسم أمير المؤمنين جرت الكثير من الفعاليات باتجاه الاقتراب من هذا الأنموذج على امتداد ربوع الوطن، وكمثال على ذلك مكافحة الفساد الاقتصادي، ولقد تعالت الأبواق الإعلامية من كل حدب وصوب في العالم معبّرة عن حساسيتها، وبكل دهشة، إزاء هذا التوجه الذي سلكته الجمهورية الإسلامية، فأثبتوا لنا بشكل جلي من خلال انزعاجهم صحة هذا التحرك.

إن مكافحة الفساد الاقتصادي والانحدار نحو الفوضى في الشؤون المالية وما يخص بيت المال كانت من الأولويات في سياسة أمير المؤمنين، ونحن في نظام الجمهورية الإسلامية حري بنا أن نفتخر حيث نواصل هذا الطريق.

يقول لنا البعض: إنكم إذا تنادون بمكافحة الفساد الاقتصادي فهذا يعني توجيه الاتهام لمسؤولي النظام وكوادره المتفانين. كلا، فهذا خطأ؛ فلو استشرى الفساد في مختلف الأجهزة فلا يصلح ذلك لأن يسمى مكافحة، ولن يكون هنالك فكرة للمكافحة التي إنما تأتي لمواجهة تلك الظاهرة الطارئة قسراً على النظام، والدليل على سلامة النظام هو عندما تنطلق عملية مكافحة الفساد الاقتصادي يلقي المسؤولون من الطراز الأول ومن الدرجة الوسطى في النظام بثقلهم في الميدان بكل اندفاع وشغف حقيقيين، وهذا ما يعني أن النظام يواصل مسيرته العامة الأصولية مكللة بالصلاح والسؤدد بفضل الله سبحانه وببركة اسم أمير المؤمنين.

إن أيَّ نهر صافٍ وطهور ربما تصب فيه بعض السواقي الآسنة من هنا وهناك، ونحن نريد التصدي لهذه الحالة، وإن كبار المسؤولين في البنية الأساسية للنظام ـ شأنهم شأن أبناء الشعب ـ تسرّهم مكافحة الفساد؛ بيد أن أعداء هذا الشعب وأولئك الذين لا يرغبون في أن نشن حملة المكافحة هذه، كي يستشري الفساد في المجتمع يفسّرون مكافحة الفساد على أن الفساد قد عمّ المجتمع! كلا، فنحن في نظام الجمهورية الإسلامية إنما نكافح الآن ظواهر تعد عرفاً دارجاً في الكثير من الأنظمة السائدة في العالم حيث تجذر الفساد فيها.

إن مكافحة الفساد تحرك وفعل علويّ، وهي بحاجة إلى حزم علويّ، ويجب على المتصدين لها ممارسة هذا الحزم وسيمارسونه مستلهمين ذلك من أمير المؤمنين (عليه الصلاة والسلام).

وخلال هذا العام ـ عام السيرة العلوية ـ بذلت الجهود لتطوير الحال المعاشي للطبقة المحرومة في المجتمع، وذاك ما يمثل إحدى الخطوات الأساسية للسياسة العلوية، ومسؤولونا ينجزون أعمالاً جمة، غير أنهم لا يروّجون لها عبر وسائل الإعلام، وحسناً يصنعون؛ فنحن نرى عدم ضرورة الترويج للوعود وينبغي عدم تهويل مصطلح "سوف نقوم" وتضخيمه، ولابد ـ بطبيعة الحال ـ أن يعلم الشعب بأن هنالك جهازاً يعمل من أجل ذلك، ولكن يتعين إطلاع الشعب على ما يحصل ويتحقق. وما يؤسف له أن إعلامنا قاصر إلى حد كبير في هذا المجال؛ فالجهود التي بذلت خلال هذا العام من قبل الحكومة ومؤسساتها من أجل توفير فرص العمل تعد نموذجاً للفعاليات التي أنجزت باتجاه تحقيق السيرة العلوية وهي ليست كافية، ولقد أكدت مراراً على الأخوة المسؤولين في مختلف المرافق التنفيذية للحكومة على ضرورة تواصل العمل كي يعطي أكله وتظهر آثاره على حياة الجماهير؛ أما بدء العمل وانطلاقته فهي بحد ذاتها مباركة، وإن مثل هذا التحرك هو من صلب سياسة الدولة، لكن الاستمرار بهذا التحرك وإبراز هذه النشاطات يمثل جانباً من بركات عام السيرة العلوية، على أمل أن تؤتي ثمارها بإذنه تعالى.

أعداء في الطريق

إن سلوك هذا الدرب له من يعاديه ويضايقه؛ وأعتى أعداء هذا الدرب عبارة عن ما يقبع في سرائرنا من إخلاد للدعة والغفلة والتكاسل والتماهل والرغبة في تجنب الميادين الشاقة؛ فهذا الدرب يستلزم جداً وجهداً وجهاداً، وإن رغبات الإنسان المنحرفة ـ من قبيل حب حطام الدنيا والحياة في مناطق راقية، والتعلق بالشهوات ـ كلها عراقيل في هذا الطريق، وما علينا ـ نحن المسؤولين والأخوة والأخوات في مختلف مرافق البلاد ـ إلاّ أن نعتصم بالله سبحانه ونكون على حذر ونتواصى فيما بيننا، فالعدو الباطني أشد خطراً من العدو الخارجي.

ولهذا الدرب أعداء في الخارج أيضاً؛ وهم الذين يرقبون إيران الإسلام وهي تتحول الآن إلى أنموذج، وهذا ما لا يروق لهم. وهم على علم بأن الجمهورية الإسلامية لو تسنّى لها تحسين الحالة المعاشية والجوانب المادية وحلحلة المشاكل التي يعاني منها كل بلد في العالم بأي نحو من الأنحاء وحققت الازدهار والانتعاش على صعيد حياة الجماهير لتحرك المسلمون بكل حماس واندفاع نحو هذا الأنموذج، لذلك مافتئوا يثيرون العراقيل في طريقها؛ فسنوات عديدة وأعداؤنا في الخارج يختلقون العراقيل بشكل سافر وبأساليب متنوعة في طريق تقدم البلاد، ولن تقوى هذه العراقيل على ثني شعب وحكومة ونظام ومسؤولين شأنهم التصميم والحزم والشجاعة عن الاستمرار في عملهم؛ فها هم الآن ـ بعد أن جرّبوا سبلاً شتى لعرقلة مسيرة التقدم في الجمهورية الإسلامية ولم يجنوا شيئاً ـ هدّدونا عسكرياً، مما يعني أن افتعالهم لشتى العراقيل على مدى السنوات التي أعقبت انتصار الثورة وحتى يومنا هذا، لم يحقق مآربهم.

أخطاء أمريكا تمهدّ لسقوطها

إنني أقول لكم بأن التهديد العسكري لن يقوى على تحقيق ما يريدون، وسيكون لي حديث مفصل ـ بعون الله ـ في القريب العاجل حول تصريحات الرئيس الأمريكي والبيان الذي أصدره المثقفون من أذناب النظام الاستكباري في أمريكا، وإن بقيت على قيد الحياة ستسمعون مني ما نرتئتيه في هذا الصدد بإذنه تعالى، ولا أشاء الآن الدخول في هذا الموضوع، ولكن إذا ما أردتم إيجازاً عن هذا الأمر، فهو: ان أرباب السياسة في أمريكا وأذنابهم من المثقفين، وعلى العكس من مزاعمهم السابقة في الدعوة للسلام، أخذوا الآن يوحون قولاً وفعلاً بأن الحروب أمر مقدّس وتصوير القيم والمبادئ الأمريكية على أنها مطلقة ومقدسة، وهو ما يعاكس بالضبط ما كانت تروج له أبواقهم الدعائية سنوات متمادية من احترامهم للتعددية وعقائد الإنسانية، فطالما كانوا يزعمون دعمهم للسلام ويقولون إن نزولنا في المكان الفلاني وما قمنا به بحثاً عن السلم؛ لكنهم خلال تصريحاتهم الحالية استدرجوا مرغمين لتقديس الحرب وتصويرها أمراً مقدساً، فهذه الأخطاء الفادحة التي لا تُنسى هي التي ستفضح ما مضى من مزاعمهم أمام الرأي العام العالمي.

إنهم يجهلون ما فرض عليهم هوى النفس من خطوات خاطئة أقدموا وسيقدمون عليها واحدة بعد الأخرى؛ فهم يبدون على الصعيد العالمي وجهاً عسكرياً فظّاً محباً للحرب مداناً من قبل الرأي العام العالمي حالياً وفي المستقبل. إنهم يزعمون وقوفهم إلى جانب الديمقراطية والحكومات المنبثقة عن الانتخاب الشعبي في حين أنهم يدافعون عن حكومات عديدة جاءت إلى سدة الحكم عن طريق الانقلاب العسكري أو حكومات لم يساهم ولو صوت واحد من أصوات الشعب في إقامتها! وهذه هي الفضيحة أمام الرأي العام العالمي؛ لكنهم لا يعرفون ولا يدركون ما يقومون به، وهذه الأخطاء المتلاحقة هي التي أوقعتهم وستوقعهم في أخطاء جديدة تمثل تمهيداً لسقوطهم.

لقد طفقوا بكل وقاحة ودون شعور بما يقولون يخاطبون شعباً عظيماً حضارياً مقداماً أثبت جدارته لسنوات متمادية في ميادين عديدة ويقولون له: عليك أن تبقى تابعاً ضعيفاً كي تبقى بمنأى عن عدائنا وتهديدنا! إن الشعب الإيراني لن يكون موضع رضىً لديهم إن غدا مقتدراً مستقلاً متوحداً؛ فرضاهم في اختلاف الشعب الإيراني داخلياً وانهيار وحدته وتنازع أبنائه فيما بينهم ونفي كل فئة من فئاته لمشروعية الفئة الأخرى دون دليل أولاً، وتبعية الوطن لأمريكا كما هو شأن بعض دول المنطقة حيث ارتبطت شعوبها البائسة بأمريكا نتيجة السياسة الخاطئة التي انتهجها حكامها ثانياً، وأن يكون الشعب الإيراني ضعيفاً عسكرياً وسياسياً لا قدرة له على الدفاع عن نفسه وحدوده ثالثاً؛ وإذا ما أصبح كذلك فحينها سيرضى الرئيس الأمريكي عن الشعب الإيراني!

إن ردّنا هو: لقد نال الشعب الإيراني عزته واستقلاله ووحدته بفضل الإسلام، ولن يتخلى عن طريقه اللاحب الذي اختاره وسيواصله معتمداً على هذه الوحدة وعلى قدراته الذاتية والوطنية وتاريخه العريق والقيم الإسلامية الخالدة الراسخة متوكلاً على الله سبحانه؛ وسيصمد بوجه التهديدات، عالماً بأن الذي يحاول تجربة حربته مع هذه الصخرة المتماسكة لن يكون مصير هذه الحربة سوى الانكسار.

بلدنا بلد أهل البيت (ع)

بعد أكثر من أسبوعين من الآن تحل السنة الشمسية الجديدة، وهي تقرن مع حلول العام الهجري القمري الجديد، أي بداية شهر محرم الحرام، وإنني على ثقة بأن الشعب الإيراني بالرغم من تعلقه بعيد النوروز، وإننا على مر السنوات التي أعقبت انتصار الثورة اتخذناه عيداً وطنياً، ولكن نظراً لتزامنه هذا العام مع عاشوراء الحسين وأيام محرم الحرام فإن شعبنا سيعبر عن احترامه للإمام الحسين وعاشوراء ودماء الشهداء في كربلاء وسيرعى حرمة شهر محرم.

إنكم تعلمون بأن هنالك من يرغبون ـ وبدوافع شتى ـ في إثارة النزاع داخل البلاد ويتطلعون إلى أن يعترض الجماهير التفرق والاضطراب، فلا تبالوا بهؤلاء، فلا معنى للشيعة والسنة والمسلم وغير المسلم في بلادنا، فالجميع يكنّون الاحترام لعاشوراء، فحتى غير المسلمين في بلادنا يحترمون عاشوراء، وحتى غير الملتزمين دينياً يجلّون ويحترمون الإمام الحسين وأبا الفضل وعلي الأكبر وعلي الأصغر وزينب الكبرى (عليهم السلام) ويقيّمون دماءهم الزاكية، فبلدنا بلد أهل البيت وبلد الإمام الحسين.

آمل أن تقام مراسم بداية السنة الشمسية الجديدة ومطلع الربيع وشهر فروردين ـ نظراً لتزامنها مع أيام محرم ـ بنحو يحفظ حرمة عاشوراء والإمام الحسين وأن يعمل الشعب على أساس ذلك والمسؤولون والمؤسسات ووسائل الإعلام.

اللهم إنّا نسألك بمحمد وآل محمد أن لا تزيل عنا ظِلال الإمام الحسين وأهل البيت والغدير.

اللهم مُنّ على الشعب الإيراني بالعزة والرفعة والتقدم في كافة المجالات، واقطع أيدي الأعداء عن هذا البلد.

اللهم أذل من أراد السوء بهذا الشعب، ومُنّ على قلوب أبناء الشعب والمسؤولين والعاملين في مجال السياسة لتكون أكثر قرباً إلى الحقائق وكذلك بعضهم إلى البعض.

اللهم اجعلنا ممن يشملهم دعاء ولي الله الأعظم بقية الله "أرواحنا فداه" واجعلنا من خلّص جنوده.

اللهم بحق محمد وآل محمد اجعل عيد الغدير هذا يوماً مباركاً ميموناً سعيداً على الشعب الإيراني، وأسبغ عليه بهدية حقيقية هانئة ببركة هذا العيد السعيد.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته