معطيات المنهجية الإحيائية للإمام الراحل

2007-08-21

المهندس الموسوي وقراءات سريعة في نمطية الإحياء الخميني

خالد توفيق

* منهجان

مع الذكرى الثامنة لوفاة الإمام الخميني دشنت طهران أسلوباً جديداً للاحتفاء بذكرى رحيله عندما بادرت لعقد مؤتمر (الإمام الخميني وإحياء الفكر الديني)؛ فمع هذا المؤتمر يكون المعنيون في إيران قد وضعوا أقدامهم على أول خطوة جادة في دراسة الإمام الخميني في إطار ما نطلق عليها بالمنهجية الإحيائية في مقابل المنهجية الترتيبية التي تقتصر على مماشاة الشخصية باستعراض حياتها موزعة على سني حياتها.

المنهجية الإحيائية تعني باختصار التعامل مع منظومات الأفكار بعكس الصيغة الترتيبية التي تؤكد على تفصيل السيرة الشخصية من الولادة حتى الوفاة. وبهذا المعنى تنطوي المنهجية الإحيائية على قدرة لمّ الأفكار وجمع التفاصيل وتشييدها في بنى ومنظومات، على عكس الصيغة الترتيبية التي تشظي الأفكار وتجزئ المواقف في تفاصيل تضيع المدلولات الكلية وتذوبها.

وبشمولها وقدرتها على الجمع والشد ترفع المنهجية الإحيائية الشخصية التي تدرسها إلى مستواها الذي تستحقه وتدرجها في حركة الإحياء الإسلامي التي عرفها المسلمون تاريخياً، وراحوا يعايشونها بكثافة منذ قرن ونصف.

والذي يؤسف له أن جل الدراسات التي تعاطت مع الإمام الخميني اختارت المنهجية الترتيبية غالباً ولغة العاطفة والخطابة والشعار في بعض الأحيان. لقد كان على طهران أن تبادر لانتهاج الصيغة الإحيائية منذ اللحظة الأولى لرحيل الإمام، لاسيما وان فكره وإنجازه يحملان ثراءً عظيماً ربما يتجاوز في غناه فكر وإنجاز الرموز الأخرى في حركة الإحياء الإسلامي الحديث. ومع ذلك فقد تأخرت طهران بسبب انشغالاتها وأضاعت ربما ثماني سنوات قبل أن تنتبه لهذا المنحى الدراسي وتألفه وتتجه صوبه بخطوة أولى عكسها مؤتمر الإمام الخميني وإحياء الفكر الإسلامي.

قد يبرر بعضهم التباطؤ في هذا المضمار بطبيعة العلاقة بين المنهجين؛ فالمنهجية الإحيائية غير ممكنة من دون المنهجية الترتيبية وأفكارها ومواقفها. وهذا أمر صحيح، فنحن لا نرى في اعتماد المنهجية الإحيائية إلغاءً للصيغة الترتيبية بعد أن تستوعبها وتستنفد أغراضها.

وبشأن الإمام الخميني نرى أن كثافة الأفكار وعظمة الإنجاز وضخامة الامكانات كان بمقدورها أن تتظافر جميعاً ـ لو توفر الوعي المطلوب ـ لانطلاق المسارين في آن واحد، لاسيما وان تاريخ الإمام لم يكن مجهولاً قبل وفاته، ولا كانت أفكاره وتفاصيل حياته ومواقفه غائبة. بتعبير أوضح لم ينطلق الإمام من الصفر، ولم يبدأ تاريخه بوفاته، بل كان حاضراً قبل ذلك حضوراً كثيفاً وفاعلاً، على امتداد خمسة عقود.

على أي حال، لا يعنينا الاستغراق بتفاصيل ما فات أكثر من هذا مادامت الخطوة الأولى قد انطلقت في الطريق الصحيح.

* سؤال

قد يتساءل البعض ـ بإزاء المقدمة الآنفة ـ عن طبيعة الإنجاز الذي حققه مؤتمر الإمام الخميني وإحياء الفكر الديني مما عجزت الوسائل الإحيائية السابقة عن تحقيقه. سؤال مشروع دون أدنى شك. والاجابة تعتمد على طبيعة ورقة العمل، والبحوث المقدمة ومستوى الضيوف وجدية الجهة المسؤولة عن المؤتمر.

لقد اطلعنا على ورقة العمل قبل أكثر من شهر وهي تتميز بمحاور جيدة، كما أن الجهة المشرفة عليه ـ مؤسسة نشر آثار الإمام الخميني ـ تملك من الامكانات المادية والمعنوية ما يؤهلها لإنجاح مؤتمر من هذا القبيل، خصوصاً وأن رئاسته أنيطت بشخصية ثقافية في البلد هو الشيخ احمدي.

ومع انه لم تتوفر بين أيدينا معطيات كاملة عن البحوث العلمية التي قدمت (ثمانون بحثاً من خارج إيران وأكثر منها من الداخل) باستثناء التغطية الاعلامية على مستوى الصحافة ووسائل الاتصال الأخرى، الا اننا نعتقد أن هذه الخطوة تمثل بحد ذاتها نجاحاً ملموساً بحكم اكتشافها للمنهج الصحيح وانطلاقها من البداية التي كان يفترض أن تبدأ قبل ثماني سنوات.

تبقى ملاحظة أساسية في هذه الأعمال، إذ الملاحظ أن المؤتمرات التي عقدت حول الإمام ليست قليلة، فربما عقدت حتى الآن عشرات المؤتمرات وهي تعالج جوانب مختلفة في حياته ورؤاه ومواقفه، بيد أن النجاح ـ بالمقياس العلمي ـ لم يكن يحالفها جميعاً. وبعض أسباب ذلك تعود للتوقيت والجو العام؛ فالمؤتمرات العلمية تحتاج عادة إلى توقيت بعيد عن أجواء المناسبات، كما تحتاج في طريقة الأداء وكيفيتها لاعتماد أسلوب الندوة أو الحلقة الدراسية الخاصة والمحددة بعدد من الباحثين والمناقشين كي تتسم الأبحاث بالجدية، وتستوفي حقها من النقاش الحقيقي.

إن أجواء المناسبات تفرض باعتباراتها وظلالها على العمل العلمي مهما كان جاداً، والأولى أن تتم الممارسة العلمية في أجواء هادئة بعيدة عن مناخ المناسبة وملابساتها.

نحن بانتظار أن نحصل على بحوث المؤتمر والمجموعة الكاملة لأعماله وندواته المتخصصة ومناقشاته، لكي تتوفر لدينا معطيات كاملة نعرضها للقارئ، وبانتظار تلك الفرصة، بودنا أن ندور على بعض الأفكار التي أدلى بها السيد مير حسين الموسوي حول موقع الإمام في حركة الإحياء الديني التي ظهرت بين ظهراني المسلمين إبّان الفترتين الحديثة والمعاصرة.

* حوار مع السيد الموسوي

سجل السيد مير حسين الموسوي رئيس الوزراء في سني الحرب حضوراً مميزاً في مؤتمر الإمام الخميني وإحياء الفكر الديني من خلال المشاركة بمدارسة داخل قاعة المؤتمر، ومن خلال حوار أجرته معه اللجنة المشرفة على المؤتمر.

والملاحظة التي تلفت النظر بشدة، أن المدارسة التي ساهم بها جاءت تشترك في النهج والمحتوى الفكري مع الحوار، وهذان الاثنان جاءا امتداداً لحوار موسع أجرته معه مجلة" الحوزة" التي تصدر عن المركز الاعلامي التابع للحوزة العلمية بمدينة قم. كما تحركت في السياق ذاته أجوبة حوار آخر معه نشرته إحدى صحف طهران الصباحية. والمهم في هذه الملاحظة هو ثبات المنهج ووحدة النسق الذي يتعاطى به السيد الموسوي مع فكر الإمام وشخصيته وإنجازه.

وإذ لا يتّسع المجال لاستعراض جميع هذه المشاركات فسنقتصر على بعضها مما له مساس بالجانب الإحيائي، عبر الأسئلة التالية:

* لاشك أن الإمام الخميني رمز من رموز إحياء الفكر الديني، من الوجهة التاريخية، كيف تنظر لموقع الإمام بالقياس لبقية الرموز المشهورين على خط الإحياء الديني؟

المهندس الموسوي: لاشك أن الإمام الراحل يندرج في سياق تصنيفات متعددة تقوم على أساس اعتبارات مختلفة، فللإمام موقعه ـ مثلاً ـ بين العرفاء والفقهاء والسياسيين، وكذلك هو بلحاظ المفهوم الإحيائي رمز من رموز الإحياء في المجتمع الإسلامي.

 يرتبط المفهوم الإحيائي بعدد من الشخصيات الإحيائية التي انطلقت حركتها بعد عصر النهضة والتجدد وهيمنة أوربا على العالم الإسلامي هيمنة شاملة سياسياً وثقافياً واقتصادياً.

وأنا أعتقد أن التصنيف ( المنهجية) الإحيائي مهم، لأن جميع الحركات الإحيائية تقريباً ظهرت إسلامياً خلال القرنين الأخيرين، لحل المشكلات الناشئة عن الصراع بين التجدد (الحداثة) وثقافة وحضارة العالم الإسلامي. أو على الأقل نجد أن الحافز الأصلي لرجال الإحياء هو عنصر خارجي هجومي يسعى للنفوذ داخل المجتمعات الإسلامية مستثمراً ضعفها التاريخي والذاتي الداخلي.

وهذا الهجوم الذي أصاب المجتمعات الإسلامية لم يكن من نوع الغارات التي تشنها القبائل البدوية الشجاعة على سكان المدن المرفهين، بل كان هجوماً شاملاً استهدف كل شيء في وجود المجتمعات الإسلامية، ومن جملة ذلك هويتها التاريخية والإسلامية الثقافية. ثم إن الصبغة الإحيائية تشير لفارق دقيق بين رجال الإحياء يتمثل بأن بعض الإحيائيين استخدم الإسلام كأداة في هذا الخط لدفع الهجمة الغربية، في حين كانت هذه العودة إلى الإسلام لبعضهم الآخر "غاية" وليست "أداة".

والإمام الخميني ينتمي للطائفة الثانية من رجال الإحياء.

* هل لكم أن توضحوا أكثر هذا التصنيف بين طائفتي رجال الإحياء؟

المهندس الموسوي: أظن أنني أستطيع أن أوضح مقصودي من خلال مثال: لاشك أن المرحوم المهندس بازركان هو أحد رجال الإحياء في بلدنا. ولو أردنا أن نقارن شعاره (الأساس) المتمثل بثنائية ( الإسلام ـ إيران) مع الهدف الذي كان يتوخاه سماحة الإمام لحل مشكلة البلاد الإسلامية، لرأينا أن الشعار الأول يسعى لكي يستفيد من الإسلام واليقظة الإسلامية كأداة في التحرر من حكومة الشاه الاستبدادية. وحين يتحقق هذا الهدف فمن الطبيعي أن يفقد الإسلام دوره، ليصير أساساً عنواناً لعقيدة لا شأن لها سوى بناء آخرة الإنسان الذي يؤمن بهذا الدين وحسب!

والنتيجة التي أريد أن اقتنصها على عجل، انه في كل مرة يستخدم الإسلام فيها كمجرد وسيلة للدفاع أو المقاومة، فإن هذا العنصر سيضعف بمرور الزمان، أي سيجر هذا النهج لضعف الإيمان والإسلام، أو على الأقل تقل فاعليته في لحظة الدفاع أو المقاومة ذاتها، وبهذا الشأن يكفينا أن نلقي نظرة على الجماعات السياسية المتعددة التي بدأت مقاومتها باسم الإسلام، بيد إنها لم تأخذ به سوى آلة وأداة، لنرى أن جذور الكثير من الانحرافات ـ التي أصيبت بها ـ تكمن في هذا التعاطي مع الإسلام واعتباره محض أداة.

* ما هو شأن الإمام بين رجال الإحياء هؤلاء؟

المهندس الموسوي: يقيناً إذا أخذنا التحولات التي أفضت إليها نظريات الإمام وتمعنّا إنجازه، فعندئذ سيكون على رأس هذه القافلة، بينه وبين الآخرين مسافة كبيرة. نحن في الواقع كنا على تماس مع بعض التحولات الناشئة عن نظريات الإمام ورؤاه ومواقفه، في إيران والعالم، ولم نقف عليها جميعاً.

* هل يمكن لكم أن تحدثونا عن البواعث التي نشأ عنها هذا التأثر العميق؟

المهندس الموسوي: ثمة أدلة كثيرة لذلك، وربما كان بعضها تاريخياً ووطنياً، بالمعنى الذي يشير إلى أن الإمام الراحل استفاد بذكاء في لحظة تاريخية خاصة من جميع معطيات الماضي وشروط الحاضر. ومع ذلك ربما استطعنا أن نشير إلى أن بواعث تفوقه على رجال الإحياء الآخرين، تكمن في عدد من النقاط منها:

أولاً: كان سماحته منتبهاً إلى أن أي تراجع في الأهداف الإسلامية أو جعلها في سقف الأهداف الوطنية أو المقطعية المؤقتة، سينتهي آخر المطاف بنفع العلمانية ويقود لانتصارها ولانتصار الاتجاهات المعادية للدين الناشئة عن الحداثة.

وفي هذا المضمار كان التوجه الإسلامي العالمي أصلاً عند الإمام. وطبيعي أن هذا لا يعني اهمالاً للقيم الوطنية الايجابية، وإنما يتضح من مجموع أحاديثه ومواقفه السياسية، أن الدفاع العملي عن بلد كإيران يمكن فقط في إطار هجوم شامل للتوجه الإسلامي العالمي.

لقد كان لهذه النظرية آثار عملية واسعة في السياسة الخارجية والداخلية، وبنظري أن الآثار الاعجازية التي امتدت بأقوال الإمام وعمله إلى أقصى نقاط العالم الإسلامي كانت معلولة لهذه النقطة بالذات.

ثانياً: نهض الإمام من موقعه كفقيه وعارف ومجتهد وقائد، للتعاطي مع أجد المسائل العالمية المثيرة للجدال (مواجهة تحدي الحداثة)؛ فالإمام لم يكن من أنصار ترك الساحة، لذلك قلّما ترى مسألة جديدة تطرح في عصرنا ولم يكن للإمام فيها نظر بنحو من المناحي، أو لم يأخذ بإزائها موقفاً عملياً.

ثالثاً: العنصر الثالث الذي جعل للإمام هذا التأثير ينبغي تقصّيه في البحوث النظرية التي كانت لسماحته حول الحكومة الإسلامية. وفي الوقت الذي كان اليأس والاحباط هما اللذان يحكمان المجتمعات الإسلامية، التي لم تكن تفكر بأكثر من الحفاظ على ما تبقى من المواريث الإسلامية التي انتُهبت، وفي الوقت الذي استحالت فيه اغلب الحكومات في العالم الإسلامي إلى أنظمة فاسدة وتابعة للغرب، أعلن الإمام أن الحكومة الإسلامية ليست "ممكنة" وحسب، بل هي "واجب" ينبغي السعي لتنفيذه بإقامتها.

رابعاً: تكمن النقطة الأخرى بما حققه الإمام من ردم للهوة الواسعة بين الأسس النظرية لمشروع الحكومة الإسلامية الحديثة الفاعلة وبين نموذجها العملي؛ فوسط دهشة العالم برمّته استطاع الإمام أن يشيد حكومة إسلامية تقوم على أساس الشرع وآراء الشعب، وتتسم بالطابع (التقدمي) وبصبغة مواجهة المستكبرين.

والعنصر المهم الأخير يكمن في توحد الإمام مع الملايين الشعبية واندراجه مع القاعدة الجماهيرية المستضعفة، إذ كان لهذا العنصر دوره في التأثير العميق الذي تركه الإمام على المسار التاريخي لحركة الإحياء.