قراءة متجددة في رسالة الإمام الخميني إلى غورباتشوف

2007-08-21

د. محمد طي

بتاريخ الثاني والعشرين من جمادى الأولى، سنة 1409هـ، أرسل قائد الثورة الإسلامية الإمام روح الله الخميني (قدس سره) رسالة إلى غورباتشوف، رئيس السوفيت الأعلى للاتحاد السوفياتي، الذي كان يقوم بمراجعة للنظام السوفياتي، حاثا إياه على التفكير في قضية وجود الله عز وجل، وعلى التعرف إلى النظام الإسلامي الذي يحمل الحلول للمشاكل البشرية كافة، ومبينا له خطورة الانجرار إلى النظم الرأسمالية التي تعاني هي الأخرى من مشاكل لا تقل خطورة عما يعاني منه النظام الاشتراكي نفسه. وهذه الرسالة طرحت عددا من الأسئلة سنتولى، باذن الله، محاولة مناقشتها في ما يأتي، معتذرين سلفا عن التقصير الكبير الذي لابد من أن يعتري هذه المحاولة.

من الأسئلة التي تطرحها الرسالة:

أولا: لماذا كلف الإمام الخميني نفسه بارسال هذه الرسالة؟ ولماذا لم يتكلف غيره هذه المهمة؟

ثانيا: لماذا أرسلت هذه الرسالة إلى «غورباتشوف» نفسه، ولم ترسل إلى الآخرين من القادة في العالم؟

ثالثا: لماذا أرسلت في تلك الآونة بالذات ولم ترسل غداة انتصار الثورة الإسلامية مثلا؟

رابعا: ما هي أهمية هذه الرسالة، وما هو الجديد الذي حملته؟  

أولا: مرسل الرسالة

إن الدعوة إلى الإسلام هي المهمة التي أرسل الرسول (ص) من أجل القيام بها، وقد أدى الأمانة باخلاص وتفان، ونصح لعباد الله أفضل ما يكون النصح، وكان سيفه في مهمته وذراعه الأيمن الإمام علي بن أبي طالب (ع) أمير المؤمنين وحامل لواء رسول الله (ص) وقائد المعارك المعجزة بين يديه (ص).

وقد آتت دعوة الرسول (ص) ثمراتها المركزة في البداية، ثم انتشرت بفضل جهاد المؤمنين الصابرين حتى طبقت الآفاق، فعمت كلمة التوحيد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب المعروف في ذلك الوقت.

ولكن الردة الجاهلية ما لبثت أن وضعت حدا للدعوة، فأوقفتها عند الحدود التي كانت وصلتها كما أمعنت فيها افراغا وتشويها، محولة دماء المسلمين إلى مغانم للملوك وللمحاسيب والزبانية، الأمر الذي أدى، إلى جانب المحدودية الافقية، إلى محدودية عمودية سطحت الدعوة وحولتها إلى انواع من الغزو والاستيلاء على الاسلاب والمغانم من دون أي رغبة في نشر الدين الحنيف.

واستمرت هذه الحال زمنا طويلا، فعرفت جغرافية الإسلام الانتقاص فيما كانت الجيوش المسلمة تتوسع في غزواتها. فعادت الأندلس إلى أهلها الاصليين الذين لم تجر محاولات لجذبهم إلى الإسلام بشكل جاد، كما أن المناطق الواسعة في أوربا الشرقية التي غزتها الجيوش العثمانية لم تعتنق الدين الحنيف، ولعل ذلك عائد إلى كون ولاة الأمر مغتصبين لسلطة الإسلام وجاهلين بمبادئه السامية وبموجباته التي فرضها الله على المؤمنين، وإلى أن مصالحهم الشخصية ومصالح حواشيهم وقادتهم كانت تتعارض مع نشر الدعوة وتجذيرها.

ومنذ استشهاد الإمام علي بن أبي طالب (ع)، لم تعرف الأمة الإسلامية حاكما أخذ على عاتقه السير في طريق الجهاد الحقيقي من أجل نشر راية «لا اله إلا الله محمد رسول الله»، إلى أن قيض الله للمسلمين الإمام الخميني الذي حاول أن يعيد إلى الإسلام صفاءه وعمقه، وأن يتابع الخطى على الطريق الذي رسمه أجداده الرسول (ص) وعلي (ع) وأبناؤهما الذين استشهدوا من أجل تكريسه وتعبيد الطرق إليه وعدم السماح باندثار معالمه. وهكذا وجد الإمام الخميني نفسه، بما له من الولاية، مكلفا بالدعوة إلى الدين الحنيف إلى جانب الدفاع عن مقدساته وتعاليمه. فيما لا يهتم الآخرون إلا بمصالحهم الخاصة وأغراضهم الدنيوية.

وإذا كان ارسال الرسالة واجبا على القائد الإسلامي، فإنه بالتالي معيار لإسلامية القائد نفسه، وامتحان لها، وهو الامتحان الذي فاز فيه الإمام، بينما لم يفكر الآخرون بمجرد القيام به، بل هو لم يراود خواطرهم البتة. وهكذا يثبت الإمام مسوغات قيادته تجاه الجميع، وهذا ما يتأكد أكثر عندما نتناول موضوع الرسالة ومحتوياتها، الأمر الذي يكشف طبيعة معظم القادة الآخرين المتنطحين لقيادة المسلمين.

ولعل أهم أسباب فوز الإمام تمسكه بالإسلام الحقيقي، الإسلام الثائر على الظلم والطغيان، والمقاوم لأحاييل الشيطان، والرافض لهيمنة الكفر بالله والاستكبار، بينما يعيش القادة السياسيون للعالم الإسلامي، في غالبيتهم الساحقة على فتات موائد أرباب الكفر والاستكبار، وهم يتلبسون مسوح الإسلام ويتظاهرون عند الضرورة بالتقوى من دون أن يؤرق نومهم قتل المسلمين ونهب ثرواتهم واغتصاب حقوقهم.

كما تميز الإمام عن الآخرين بعلمه وفقهه وعرفانه، فهو ليس قائدا سياسيا عظيما يحسن وضع الاستراتيجية والتكتيك، بل هو علم ديني مشهود لا يشق له غبار بقدرته السياسية وعلو كعبه في العلوم الشرعية والإلهية، وبميزاته الأخرى من الشجاعة والاقدام والاستهانة بالموت. استحق الإمام قيادة المسلمين وولاية أمرهم، لا بدعم الكفر والاستكبار ولا بالأحاييل التي تحاك في الغرف السوداء ولا بوضع النفس في تصرف موازين القوى. وبسبب تكامل شخصية الإمام وجهاده السياسي المكشوف والمعلن الذي لا تشوبه شائبة في راد الضحى، استحق تلك المبايعة الشعبية التي باتساعها وعمقها لم تحصل لزعيم ولا لخليفة باستثناء جده الإمام علي (ع) منذ قام الإسلام حتى اليوم.

وباختصار فإن الإمام استحق الولاية لقدرته على بعث الإسلام المحمدي واطلاقه من عقاله في وجه كل قوى الكفرو الاستكبار والطغيان التي عبثت بالعالم الإسلامي قرونا مديدة دون رادع حقيقي. 

المرسل إليه

هو ميخائيل غفيتش غورباتشوف، وهذا الشخص لم يكن رئيسا لدولة عظمى وحسب، بل امبراطورا يتربع على عرش شرقي أوربا وشمالي آسيا اللذين يحتلان مساحة تتجاوز ربع مساحة الكرة الأرضية على أقل تقدير، فيما تنتشر مصالحهما في جميع أرجاء العالم من دون استثناء، وهكذا فإن الرسالة موجهة إلى الشخص الذي كان يملك فعليا أعظم سلطة سياسية على وجه البسيطة، كما يملك من القوة العسكرية ما يكفي لتدمير جميع معالم الحياة، إن وجدت، على وجه عدة كواكب بحجم الكرة الأرضية. والذي يمسك بمقاليد الايديولوجية التي أمكن فرضها على الناس منذ أكثر من سبعين عاما.

ولعل بعض الناس يرى، بسبب ما كان قائما من الفارق الهائل في القوة المادية بين الجمهورية الإسلامية والامبراطورية الاشتراكية، أن في الأمر شيئا لا يمكن أن يحمله العقل على محمل الجد، ذلك أنه حسب ظاهر الأمور، لا يمكن التصور بأن رسالة من زعيم دولة صغيرة يمكن أن تكون ذات تأثير جدي، وبأي شكل من الاشكال، في ذاك الزعيم العالمي الممسك بأزمة تلك القوة الجبارة عسكريا وعقائديا والذي لا يرضى باقتفاء آثار أسلافه بل هو يأخذ على عاتقه مهمة التجديد الايديولوجي والسياسي والاقتصادي والاداري في تلك الامبراطورية مترامية الأطراف. يقول الإمام (قدس سره): «لقد وجدت أنه من الضروري التذكير بأمور بعد تسلمكم السلطة لشعوري بأن حضرتكم قد بدأتم دورا جديدا في التحليل السياسي... وأن جرأتكم وشجاعتكم في التعامل مع الأحداث العالمية كثيرا ما تكون سببا لتطورات جديدة». إلا أن عمق الرسالة والتحدي الذي تحمله يعوضان الفارق المادي الظاهر بل والكاسح لمصلحة المرسل اليه.

وإذا تجاوزنا الجانب المادي الظاهري، فهل تبقى المعادلة مختلة لصالح غورباتشوف؟ إننا نؤمن بعكس هذا تماما، ذلك أن امبراطورية غورباتشوف لم تبلغ حجم امبراطورية الإسلام، رغم كل ما اعتراه. كما أن ايديولوجية ماركس ولينين رغم القوى المادية الهائلة، والتدميرية منها بشكل خاص، لم تستطع الصمود أمام إسلام شعوب آسيا الوسطى الملحقة ظلما بروسيا بل انهزمت أمامه فلم تجد مناصا من اللجوء إلى الدبابات والطائرات لمقاومة الروح الإسلامية المنبعثة في صدور العزل، ولكنها هزمت، وكانت آخر هزائمها في تشيشينيا ذات المليون من الأنفس والتي تحاول اليوم اعادة قهرها بآلاف الدبابات والطائرات ومئات آلاف الجنود.

على أن المرسل اليه، لم يكن غورباتشوف وحده، بل قيادة المعسكر الشيوعي كله، ومن ثم قيادات العالم ومن ورائها جميعا شعوب الكرة الأرضية المسلمة أولا وغير المسلمة ثانيا، وخاصة مسلمو الاتحاد السوفياتي الذين ما لبثوا بعد ارسال الرسالة بفترة وجيزة أن انتفضوا تأكيدا لتمسكهم بالإسلام الذي طرحه الإمام على غورباتشوف.

ولعلنا إذا أمعنا النظر، وعدنا بالذاكرة إلى أيام المسلمين الأولى، نجد أن ما قام به الإمام هو الشبه لما قام به رسول الله، بعد غزوة الحديبية، حيث لم يكن تحت سيطرته إلا منطقة يثرب، إذ بعث برسائل إلى الملوك المجاورين وفي مقدمهم كسرى وقيصر اللذين يحكمان أكبر امبراطوريتين في ذلك الوقت. 

مناسبة الرسالة

أتت الرسالة في آونة بدا فيها غورباتشوف باعادة النظر في البناء وفي النهج السابقين في الاتحاد السوفياتي، وبتطبيق ما سمي بالروسية «البيريسترويكا» أي اعادة البناء الشاملة على كل المستويات. يقول الإمام بهذا الصدد: «.. قد بدأتم دورا جديدا في التحليل السياسي واعادة النظر والتعامل مع قضايا العالم وقضايا الاتحاد السوفياتي بشكل خاص». كل ذلك، بعدما وصلت البلاد إلى الطريق المسدود على صعيد التطور الاقتصادي، حيث شلها ما سمي بأوالية الكبح على الصعد كافة، وبعدما بلغ الغليان في الاتحاد وفي سائر بلدان العالم الاشتراكي درجة الانفجار الذي ينذر باطاحة النظام كله وبفرط الاتحاد وتناثره واستقلال الشعوب المختلفة التي كانت خاضعة لسيطرة موسكو، ولم يكن انفصال ليتوانيا وانتفاضة اذربيجان إلا المقدمات لما سيحصل. الأمر الذي دفع القيادة السوفياتية إلى استباق الأمور قبل انطلاق المارد الجماهيري من عقاله واكتساحه الأخضر واليابس، وهو ما سيحصل بعد فترة وجيزة من ارسال الرسالة، في كامل أوربا الشرقية، ويكون له انعكاساته الخطيرة في جميع أرجاء العالم. وهكذا أتى لفت النظر من قبل الإمام في مرحلة لجوء القيادة السوفياتية إلى تلمس المخارج من الأزمة الخانقة المهددة باطاحة كل شيء، لعل تلك القيادة إذا كانت جادة فعلا في التفتيش عن الحلول، تستفيد من النظم الإسلامية والحلول الإلهية الحقيقية، وإلا فإن الإمام القائد يكون قد قام بتكليفه الشرعي من باب أن ما على الرسول إلا البلاغ المبين، لأنه لا يستطيع أن يهدي من لا يهديه الله، فيمعن في البحث عن مصلحته ومصالح بطانته الخاصة، لا عن مصلحة من يتحكم بمصائرهم. وهذا الأمر لم يكن غائبا عن ذهن الإمام حيث خاطب الزعيم السوفياتي قائلا: «مع أن من الممكن أن يكون اطار تفكيركم واجراءاتكم الجديدة مجرد طريقة لحل المعضلات الحزبية وبازائها حل بعض المشاكل التي يعاني منها شعبكم». إلا أن ذلك لن يكون في نظر الإمام بدون قيمة «ولكن شجاعتكم ولو بهذا الشكل المحدود في اعادة النظر في مذهب ظل لسنين طوال يكبل ثوار العالم بقيوده الحديدية، لهي جديرة بالثناء».

لكل ذلك فقد أرسل الإمام رسالته في التاريخ المعلوم ولم يعمد إلى ارسالها بعيد انتصار الثورة، ذلك أن الكلام إذا أتى بمعرض الحاجة يكون وقعه أشد ويثير الاهتمام بشكل من الجدية أكبر. 

محتويات الرسالة

وهنا ندخل في أساس الموضوع وجوهره أو على الأقل في الجزء الأهم منه. فبعد ذكر مناسبة الرسالة، يفصح الإمام لغورباتشوف عن ادراكه بأنه لم يعد يؤمن بالماركسية. كما يحدد الإمام لب المشكلة في الاتحاد السوفياتي، معتبرا أنه يتمثل في نكران وجود الله ذلك النكران النابع من الفكر المادي والقائم على أساس المذهب التجريبي، ثم هو يحذر الزعيم السوفياتي من مغبة البحث عن الحلول في العالم الغربي الرأسمالي، ويلفت نظره إلى النظام والفكر الإسلاميين اللذين لابد أن يوفرا الحلول للمعضلات الاجتماعية المادية والروحية في امبراطورية السوفيات. أجل لقد صارح الإمام الزعيم السوفياتي بأنه لم يعد يؤمن بايديولوجية ماركس ولينين، وأنه إذا استخدم بعض مفرداتها اللفظية فما ذلك إلا لتسويغ خطواته في نظر أعضاء الحزب الشيوعي الذي يترأسه. يقول الإمام في هذا الصدد: «من الممكن ألا تصرفوا النظر، ظاهرا عن بعض جوانب الماركسية بل لعلكم ستحاولون من خلال تصريحاتكم ابداء اعتقادكم الكامل بهذا المذهب، ولكنكم تعلمون أن ما هو ثابت ليس كذلك».

ويسوق الإمام الدليل على اعتقاده هذا، حيث يؤكد أنه بعد أن سددت القيادة الصينية أول ضربة للشيوعية تلاها غورباتشوف نفسه بضربته فكانت القاضية مما أدى إلى زوال الشيوعية من أذهان العالم: «إن زعيم الصين كان أول من أنزل ضربته بالشيوعية وأنتم الشخص الثاني، ويبدو أنكم قد أنزلتم آخر ضربة بها. قد أصبح العالم اليوم لا يرى شيئا يسمى الشيوعية».

ولكم كانت بصيرة الإمام نافذة، فبعد وفاته بقليل خطا غورباتشوف الخطوة الحاسمة على طريق ازالة النظام الاشتراكي من الاتحاد السوفياتي، فاقرت التعددية الحزبية والغيت النصوص الدستورية التي تكرس الدور القيادي للحزب في النظام السياسي؛ تلك النصوص التي كانت تقضي في ظل الدستور الستاليني الصادر في الخامس من كانون الأول (ديسمبر) 1936 بأن الحزب الشيوعي يشكل «طليعة العمال والنواة القائدة لكل منظمات العمال وكذلك المنظمات الاجتماعية ومنظمات الدولة» (م 126).

أما في ظل الدستور الأخير الصادر في السابع من تشرين الأول (اكتوبر) سنة 1977 فقد تزايد دور الحزب، وأصبح حسب منطوق المادة 6: القوة القائدة والموجهة للمجتمع السوفياتي والعنصر المركزي في نظامه السياسي»، وقد أتت هذه المادة ضمن الفصل المخصص لـ «أسس النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي وترجمة لمهمته القيادية فإن الحزب كان في ظل النصوص السابقة لدستور 1977 يقوم دوره على «تنظيم ومراقبة مختلف الشؤون الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في الاتحاد السوفياتي وعلى السهر على الاحترام العام والدائم للنظام الدستوري القائم» وهذا يتم «بتكريس الحزب جهوده بشكل أكثر فاعلية من أجل تنظيم وتعبئة الجماهير لتحقيق المهمات الملموسة التي ترسمها الخطط الانتاجية في ظل الديمقراطية العمالية الواسعة».

هذه النصوص وما شابهها الغيت في شهر آذار لسنة 1990 وأصبحت أثرا بعد عين، وهي التي كانت من أهم الأسس التي أرساها المؤتمر العشرون للحزب الشيوعي السوفياتي منذ حوالي ثلاثين عاما، ذلك المؤتمر الذي بشر بدخول المرحلة الشيوعية بشكل متدرج، فإذا بالظروف تفرض التراجع عن ديكتاتورية الحزب وعن دوره القيادي لدولة «الشعب بكامله» التي ورثت دولة ديكتاتورية البروليتاريا التي انجزت مهماتها المزعومة في العصر الستاليني. كل هذا إلى جانب غيره مما يحصل على الصعيد الاجتماعي من اعادة نظر ونسف مقررات المؤتمرات السابقة ومراهناتها مترافقا مع خطاب يركز على لينين فيصور «البريسترويكا» من نتاج أفكاره، فغورباتشوف يطالب بالعودة إلى لينين (ص 30) ويقول علمنا لينين (ص 60) وأن المشاكل نجمت عن اهمالنا لينين (ص 62) وأن وضعه شبيه بوضع لينين مع عديمي الفهم (ص 66) وأن لينين كان يعطي الأولوية للمصالح الإنسانية العامة على حساب المصالح الطبقية (ص 206). كما أن المصطلحات الماركسية لا تغيب عن الخطاب، فالدول الغربية منقسمة طبقيا (ص 208) وأن الصراع الطبقي مازال العامل المميز (ص 210) وأن لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية (ص 67) وأن «من كل حسب قدرته ولكل حسب عمله» (ص 38) وأن هناك نفسية برجوازية صغيرة عمت (ص 139، 144) وأن هناك اغترابا اصاب القادمين (ص 146) وأن الحل هو مزيد من الاشتراكية ومزيد من الديمقراطية (ص 47 و145) كما يكرر كلمة «الكادحين» على نطاق واسع (ص 162، 158، 163...). وبهذا يؤكد ما تنبأ به الإمام من أنه سوف يحافظ على بعض مظاهر الماركسية ارضاء للمحافظين من رفاقه. على أن وفاة الشيوعية التي كشف عنها الإمام قدس سره لم تكن مسألة مبالغا فيها وهي لم تتم بفضل العوامل الخارجية، بل هي أتت خاتمة طبيعية لنظام فرض بالتعسف على البشر بشكل مخالف لفطرتهم، فأدى إلى سلسلة من المشاكل المستعصية أسماها الإمام (قده) «العقد العمياء» التي أدت إلى «الطريق المسدود». هذا الاعلان لم يصدر عن موقف ذاتي بطبيعة الحال، بل عن تشخيص موضوعي للوضع القائم في الاتحاد السوفياتي والذي تولى غورباتشوف نفسه تفصيل ملامحه في كتابه «البريسترويكا»، ومن أهم ما كشفه الزعيم السوفياتي في هذا الصدد الأمور التالية:

1ـ على الصعيد الايديولوجي: يعدد غورباتشوف المشاكل على هذا الصعيد، فإذا هي التكلس الفكري أو ما يسميه الجمود العقائدي (ص 63) و«دغمتة الوعي الاجتماعي والنظرية» (ص 57) أي تحويلهما إلى عقائد جامدة، والسطحية (ص 24) واللجوء إلى الشعارات المفخمة (ص 149).

2ـ على الصعيد الحزبي والاداري: فإذا هي جمود القيادة (ص 25) والمركزية الشديدة (ص 62) وتفشي الدواوينية (ص 46) والبيروقراطية والروتين (ص 25) وكذلك انتشار الرشوة (ص 26) التي طالت حتى الجسم القضائي نفسه (ص 153) والمحسوبية والمحاباة (ص 26) وحتى تورط المسؤولين في الجريمة (ص 26) وكذلك الضمور الديمقراطي(ص 63 و 65) ونشوء طبقة من أصحاب الامتيازات تسبح في انهار الحليب (ص 97)، تتجاوز الشرعية وتستهتر بالمبدئية (ص 25) وتطوع القوانين لمصلحتها (ص 38) وتعتبر أن ما تقدمه على الصعيد الاجتماعي تفضل منها (ص 140) وليس واجبا تجاه المواطنين.

هذا بالاضافة إلى انعدام الربط بين المصلحة الاجتماعية ومصلحة القادة الشخصية (ص 63)، الأمر الذي أدى إلى تفشي السلبية عند المسؤولين (ص 140) وانتظار الأوامر من فوق حتى في أبسط الأمور (ص 90) وانعدام المبادرة حتى أصبح الوزير هو الذي يهتم بالتفاصيل (ص 90 و129)، فانعدمت الاستفادة من الطاقات الكامنة واهدرت الامكانيات على كل المستويات (ص 63) واستغني عن مشاركة الكادحين في الاسهام في رسم مصيرهم (ص 64)، كل ذلك ترافق مع ظاهرة انعدام النقد (ص 90) والرعب أمام من بيده السلطة (ص 100). فكان من نتيجة كل ذلك سيادة السلبية والتباطؤ (ص 69) والتسيب (ص 63) فأخذت القيادات تلجأ إلى الادعاءات الاعلامية (ص 24) ورفع الشعارات المفخمة ونشر أوهام النجاح (ص 149).

ولم تنج النقابات نفسها من كل هذا وهي المؤتمنة على مصالح العمال، فأخذت ترى تردي أوضاعهم دون أن تحرك ساكنا فتراجع نشاطها بشكل واضح (ص 162)، وكذلك أصيبت السوفياتات بالشلل والخمول هي الأخرى (ص 160). وهذه المشاكل لم تكن وليدة اللحظة التي سبقت وصول غورباتشوف إلى الحكم واقراره نهج البريسترويكا سنة 1985، بل هي تعود في جذورها إلى مرحلة الثلاثينات والأربعينات (ص 62)، أي المرحلة الستالينية، التي أصبحت كبش المحرقة لكل معضلات الاتحاد السوفياتي، تلك الفترة التي عرفت إنجازات هامة ولكن بثمن باهظ للغاية (ص 62). على أن غورباتشوف ليس أول من تصدى لظاهرات التردي الشامل، بل سبقه إلى ذلك قادة الماضي الذين حاولوا أن يجدوا الحلول في المؤتمر العشرين وفي دورة سنة 1964 للجنة المركزية وفي الاصلاحات الاقتصادية لسنة 1965ولكن تلك الجهود باءت بالفشل وانكبحت وبقيت المشكلات تتفاقم بشكل متواصل (ص 58 59).

3ـ على الصعيد الاقتصادي: يحدد غورباتشوف المشاكل على هذا الصعيد، فيصف الوضع الاقتصادي بالركود (ص 20) وبأنه على شفا التأزم (ص 27) وذلك بسبب ما أسماه نشوء أوالية الكبح (ص 20)، وقد حاولت القيادات الاحتيال على هذا الوضع عن طريق الطنطنة الاعلامية ومنح المكافآت الاستعراضية (ص 25) وبواسطة الحوافز المادية التي تحولت إلى نوع من الاعالة (ص 22، 37)، ولكن ذلك لم ينفع، فإذا الانتاج يتدهور كما ونوعا (ص 24) وتزداد تكاليفه (ص 21) ويتفاقم الهدر (ص 63) ويتحول الاتحاد السوفياتي رغم امكاناته الكامنة الهائلة إلى مستورد للحبوب (ص 23).

كل ذلك ترافق مع تفاقم مشاكل المستهلكين سواء على الصعيد الغذائي أو السكني (ص 21، 24) أو صعيد المواصلات وطالت الأزمة الجانب الصحي (ص 23) مع ارتفاع نسبة الأطباء وأسرّة المستشفيات، كما طالت المستوى التعليمي (ص 23) فتدنى بشكل ملحوظ، كل ذلك في ظل تطور تقني خارق في بعض المجالات، كالمجالات الفضائية، فيما التخلف يخيم على مستوى الحاجات المنزلية (ص 24). فقد أصبح لدى الاتحاد السوفياتي علماء يحددون بدقة موقع مذنب هالي بين النجوم دون أن يتوفر لديه بالمقابل من يحدد حاجات الأسر من الغذاء والكساء.

وهكذا طرحت المشاكل نفسها بشكل لا مثيل له وأصبحت مستعصية على الحل (ص 26)، فيما يتجاهل القادة أبسط المبادئ الاقتصادية، فيفرضون الأسعار بشكل متعسف (ص 63) ويستهترون بالدورة النقدية (ص 63) ويبتعدون عن اعتماد الحساب الاقتصادي (ص 30) ويطبقون تقنية تخلفت بالنسبة لما هو قائم على الصعيد العالمي (ص 132) وذلك ليس ناجما عن تخلف علمي، بل عن عدم القدرة على الاستفادة من الاكتشافات العلمية للعلماء السوفيات التي أصبحت تطبقها بعض البلدان الأخرى قبل الاتحاد السوفياتي نفسه (ص 134).

4ـ على الصعيد الاجتماعي: كشف الزعيم السوفياتي في هذا الصدد عن أزمة جامحة تتجاوز المعقول من تقوض للقيم (ص 24) وعدم احترام العمل (ص 28) وضعف الشعور بالتضامن (ص 25) والنزوع إلى الاثراء (ص 28) بل الاثراء غير المشروع (ص 63) وكذلك التباطؤ (ص 69) والخمول والسيبان (ص 63) بحيث أصبح الناس يرون حقوقهم ولا يرون واجباتهم (ص 38). فاغترب الإنسان عن ممتلكات الشعب (ص 63) وانتشر التزلف والتملق (ص 100) وضعفت الحوافز للعمل (ص 121)، وسادت النظرة إلى الإنسان كقوة عمل (ص 138) وانتشرت المساواة المسطحة في التقديمات بين من يعمل ومن لا يعمل (ص 44) وسادت سيكولوجية الاستهلاك البرجوازية الصغيرة (ص 39 و44) وكان من نتيجة ذلك على المستوى الشعبي أن انتشرت الجبرية (ص 25) وتفككت الروابط الأسرية (ص 166) لا سيما عندما كلفت المرأة، بسبب نقص الرجال، القيام بالأعمال الشاقة فأخذت تعجز عن القيام بدورها الانثوي (ص 167) وتفشت المشكلات السلوكية عند الفتيان والشباب (ص 166) وانحطت القيم الخلقية (ص 25) وساد الادمان على المخدرات (ص 25) وعلى الخمور بشكل لم تعد تنفع معه حملات التوجيه والتصدي لبيع المسكرات التي لم تؤد إلى انخفاض الاستهلاك بل إلى ضمور صناعة الخمور العلنية، فقامت الصناعة البيتية بسد الفراغ (ص 145). ونتيجة لكل ذلك أصبح المجتمع السوفياتي مجتمعا غير قابل للإدارة (ص 27).

5ـ على صعيد العلاقات الاتحادية: لم يتوسع غورباتشوف في المشكلات المتعلقة بهذا الجانب، ويبدو أن السبب كان حساسية هذه المسألة وخطورتها وبلوغها مرحلة ما قبل الانفجار التي تجلت في ما بعد، وهكذا فهو يشير بشكل خجول إلى ظهور النزعات والغطرسة القومية (ص 169)، وإلى تسعير الشعور القومي بسبب بعض الممارسات، وإلى زعزعة الصداقة والتلاحم داخل الاتحاد السوفياتي بين الشعوب والقوميات المختلفة (ص 172).

ولكن ما أغفله غورباتشوف كشفت عنه السنوات اللاحقة، فإذا المشاكل القومية والعرقية والدينية التي كانت كالنار تحت الرماد ما لبثت أن تأججت وانفجرت، من مشاكل الآذريين والأرمن، في أقليم ناغورني كاراباخ إلى مسألة ليتوانيا وبقية جمهوريات البلطيق التي أعلنت استقلالها إلى ثورة أذربيجان إلى التحلل في اوكرانيا الخ... وقد كان الآتي أعظم.

6ـ على صعيد العلاقة مع بلدان المعسكر الاشتراكي: يعترف غورباتشوف في هذا الصدد باللامساواة داخل «الأسرة الاشتراكية» (ص 230) وبكون الأحزاب الشيوعية في بلدان المعسكر الاشتراكي كانت تنسخ عن موسكو ومنظريها (ص 231) دون أن تأخذ خصوصيات بلدانها بعين الاعتبار (ص 231). كما يؤكد غورباتشوف عدم جرأة زعماء «المنظومة الاشتراكية» على توجيه أي نقد تحت حجة امكانية سوء فهمه في موسكو (ص 231)، وهكذا أمست العلاقات اضافة إلى سمة التبعية تتصف بالطابع الاستعراضي (ص 232) الذي لم يستطع تلافي الأزمات الخطيرة خصوصا في المجر وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا ابان الخمسينات والستينات (ص 231). وبعد هذه اللوحة «الرسمية» للزعيم السوفياتي، هل يبقى من مجال للتحدث عن ميزات الاشتراكية وامكاناتها في حل المشكلات الداخلية والعالمية، وأين هي مما رسمه المؤتمر العشرون تطبيقا لمبادئ ماركس، للمجتمع الذي أصبح على أبواب الشيوعية والذي يتغير فيه الإنسان تغيرا جذريا، فيصبح العمل عنده متعة وينال حسب حاجته ويبتعد عن العقلية الاستهلاكية المفرطة التي تضر بالآخرين، وأين أصبحت الاممية البروليتاريا وتقسيم العمل على الصعيد الدولي وعلاقات التعاون والتكامل، وأين أصبح الاتحاد السوفياتي في المباراة الاقتصادية مع الغرب؟ إن لوحة غورباتشوف كانت كافية للاقناع بدفع الشيوعية إلى المتحف لأنها استنفدت نفسها فجفت عروقها وأصيبت بتصلب الشرايين والمفاصل، وهذا ما أكده الإمام (قدس سره) بقوله: «السيد غورباتشوف: من الواضح للجميع أنه يجب تحنيط الشيوعية من الآن فصاعدا في متاحف التاريخ السياسي العالمي لأنها لم تعد تلبي أي حاجة من الحاجات الواقعية للإنسان، إضافة إلى أن الدول اليوم لم تعد مستعدة لأن تواكبكم مع حرصها على أوطانها وشعوبها في هدر ثرواتها الطبيعية أكثر مما حصل لترسيخ أقدام الشيوعية التي باتت أصوات تهشم عظامها تصك مسامع أبنائهم». وكم كان في هذه الرؤيا من نبوءة! 

التحذير من اللجوء إلى الحل الغربي

يتخوف الإمام (قدس سره) من أن تكون ردة الفعل ضد البيروقراطية والكبت والقمع وشل المبادرات واستبعاد دور الجماهير وسائر أنواع الممارسات الخاطئة لا سيما على الصعيد الاقتصادي وضعا باتجاه تبني مؤسسات الغرب، ذلك أن مشكلة الاتحاد السوفياتي الأساسية كانت مشكلة نكران وجود الله وفرض الالحاد على الناس واعتبار الدين أفيونا للشعوب، فإذا تجاهل هذا الأمر ولجأ إلى مؤسسات الغرب فإنه يرتكب خطأ جسيما يجعل الاتحاد السوفياتي بحاجة إلى منقذ بعد فترة من الزمن، لأن الغرب غارق في مشاكله التي تشبه في جزء منها مشاكل الاتحاد السوفياتي بالاضافة إلى جزء آخر يتكون من مشاكل خاصة أخرى. لذلك فقد لفت الإمام نظر غورباتشوف قائلا: «من الممكن جدا أن تبدو، من خلال السياسة والممارسات الاقتصادية الخاطئة للمسؤولين الشيوعيين السابقين، دنيا الغرب وكأنها الحديقة الغناء المنشودة، ولكن الحقيقة هي شيء آخر. فلو حاولتم في هذه الفترة أن تحلوا العقد العمياء التي واجهتها الاشتراكية والشيوعية باللجوء إلى مركز الرأسمالية الغربية فإنكم، بالاضافة إلى عدم تمكنكم من ازالة معاناة مجتمعكم ستحتاجون إلى أفراد آخرين لتصحيح ما ستقعون فيه من أخطاء في هذا المجال، وذلك لأن الماركسية اليوم وأساليبها الاقتصادية والاجتماعية تواجه طريقا مسدودا، وأن عالم الغرب هو أيضا يعاني من هذه القضايا ولكن بشكل آخر، كما يعاني من قضايا أخرى». والإمام في تنبيهه هذا ينطلق من تشخيص للاستعداد الكامن لدى فئات المعارضة السوفياتية التي كان اتجاهها يحرز الانتصار تلو الانتصار، ذلك الاستعداد الذي يعتبر المؤسسات والنظم الغربية هي المثال لما يمكن أن يكون عليه أي نظام اجتماعي. ولعل غورباتشوف نفسه كان يمتلك الاستعداد نفسه، وهذا ما تبدى من وراء خطواته «الاصلاحية»، على الرغم من تصريحاته المستمرة بأنه لن يتخلى عن النهج الاشتراكي ولن يتبنى الديمقراطية الغربية التي يوجه إليها النقد الواضح. وهكذا فهو يؤكد أفضلية الاشتراكية على الرأسمالية (ص 122) وأنه وقيادته لن يؤمنا بالديمقراطية الغربية إلا حين يمنح العمال والموظفون حق الانتخاب الحر في الاجتماعات المفتوحة لمالكي المصانع والفبارك، ولمديري البنوك، وإلا حين تبدأ وسائل الاعلام الجماهيري بالانتقاد المنتظم للشركات والمصارف ومالكيها وبالتحدث عن المجريات الواقعية للأمور في دول الغرب، وليس فقط عقد المجادلات التي لا نهاية لها ولا جدوى منها مع السياسيين (ص 181).

ألا أن كل هذا لم يكن ينسجم مع المسيرة التي كانت قائمة في الاتحاد السوفياتي والمتجهة صوب التعددية الحزبية وصعود الصهيونية ولعبها دورا متزايدا على طريق إقامة مؤسسات سياسية واجتماعية من الطراز الغربي، كما أن النقد واللوم الموجه لأوربا العريقة في ثقافتها لاستيرادها ثقافة العنف والتفاهة والخلاعة والمشاعر الرخيصة مما وراء المحيط، من أميركا (ص 299)، هذا النقد لا ينسجم مع السماح بوفود خطر مظاهر «الحضارة» الأميركية كنوادي القمار وما إليها مما كان يغزو الاتحاد السوفياتي حينها. ولعله لكل هذا لم ينخدع الإمام بتأكيدات غورباتشوف أو هو على الأقل لم يطمئن إليها فاقتضى الأمر أن يلفت نظره إلى مخاطر اللجوء إلى المؤسسات والنظم الغربية، فيما يكمن الحل والضمانة في النظم والمؤسسات الإسلامية وفي الفلسفة الإلهية التي لا يمكن أن يصمد الالحاد أمامها. 

الإسلام هو الحل

فيما يشير غورباتشوف إلى الشراكة الدينية بين أوربا والاتحاد السوفياتي الذي احتفل سنة 1988 بالذكرى الألفية لدخول المسيحية إلى روسيا (ص 274) وإلى مقتل عشرين مليونا من السوفياتيين عندما هددت أوربا من قبل النازية (ص 284)، وعلى الرغم من أن غورباتشوف كان يتناسى احتواء الاتحاد السوفياتي على بضعة عشرات من الملايين من المسلمين، فإن الإمام يصر على دعوة الزعيم السوفياتي إلى البحث عن الحلول في الإسلام الذي بقي حيا رغم مرور عقود طويلة على محاربته الشرسة من قبل الفكر الماركسي الالحادي، مفندا الزعم القائل بأن الدين أفيون الشعوب ومبيّنا قدرة الإسلام على حل المشكلات السوفياتية العالمية، وعلى أن يؤسس كل ذلك على أساس الايمان بالله وبعالم الغيب وبالمعرفة العقلية التي لا تقوم بازائها التجريبية الغربية. 

تغلب الإسلام على الالحاد

لقد قرر الشيوعيون بعد ثورتهم سنة 1917 تحويل الكنائس والمساجد إلى زرائب للحيوانات، ولكنهم ما لبثوا أن تراجعوا، عدا أنهم جعلوا أجهزة الاعلام وهي أصبحت ملكا للدولة، في خدمة الفكر الالحادي المادي، وحاولوا القضاء على الفكر الإلهي وعلى ممارسة الشعائر الدينية، وظنوا أنهم بذلك خلقوا الإنسان الشيوعي الملحد في كل الاتحاد السوفياتي، ولكن، ما أن ارتفع الكابوس وسمح بممارسة الشعائر الدينية حتى تدافع المؤمنون إلى المساجد بقلوب ملؤها السرور وعيون دامعة من الفرح، وهذا ما عبر عنه الإمام في رسالته حيث يقول: «السيد غورباتشوف، حين سمع نداء الله اكبر بعد سبعين عاما من مآذن مساجد بعض الجمهوريات السوفياتية وسمع نداء أشهد أن محمدا رسول الله (ص)، فإن هذا النداء أبكى عيون أنصار الإسلام المحمدي الأصيل شوقا». وهذا دليل كاف على الفرق النوعي الهائل بين عقيدتين: الإسلامية التي ما زالت حية نابضة منذ حوالي أربعة عشر قرنا، ورغم كل ما تعرضت له في بلاد السوفيات في السبعين سنة الأخيرة، والعقيدة الماركسية التي طبقت في فترة سبعين عاما، فاستنفدت كل طاقاتها وتحولت إلى كابوس وكابح ينتظر الناس الخلاص منه بفارغ الصبر. 

الدين ليس أفيونا للشعوب

إن الدين الحقيقي هو عامل تثوير مطلق للشعوب المطالبة بحريتها وكرامتها، وهو إذا ما تمكن من شعب من الشعوب فإنه يصنع المعجزات، ولكم كان قصور نظر ماركس عندما وصفه بأفيون الشعوب، هذا الوصف الذي لا يعتقد أن غورباتشوف يتبناه حسب رأي الإمام الذي يخاطبه قائلا: «لقد أثبتم من خلال الحريات النسبية التي أعطيت للمراسم الدينية في بعض الجمهوريات السوفياتية أنكم لا تعتقدون بعد الآن بأن الدين أفيون الشعوب. يا ترى هل الدين الذي جعل من ايران الجبل الصامد أمام القوى الكبرى هو أفيون المجتمع؟ هل الدين الذي يطالب بإقامة العدل في العالم ويطالب بحرية الإنسان من القيود المادية والمعنوية هو أفيون المجتمع؟» إن دينا كهذا هو المنبه والمنشط، هو المحرض النضالي والجهادي للشعوب.

إن افيون الشعوب هو دين من نمط آخر، هو دين الامبريالية والتسلط والقهر، دين الاستغلال، دين الغزو الثقافي واستلاب القيم المعنوية للشعوب الإسلامية، وللشعوب المسيحية وغيرها، الدين الذي يمنع الإنسان من أن يشارك في تقرير مصير نفسه تاركا هذا الأمر للقوى العالمية الكبرى، وهذا الدين هو الذي تتولى التبشير به زعيمة العالم الامبريالي، الشيطان الأكبر، أي الولايات المتحدة الاميركية، وهذا مصداق قول الإمام: «أجل، إن الدين الذي يصبح وسيلة لسلب القوى المادية والمعنوية للبلدان الإسلامية وغير الإسلامية، ويضعها تحت تصرف القوى الكبرى وباقي القوى العالمية أو ينادي بفصل الدين عن السياسة هو أفيون المجتمع. ولكن مثل هذا الدين ليس دينا واقعيا بل هو دين يسميه شعبنا دينا أميركيا». 

الدين الإسلامي هو الحل للمشاكل الإنسانية عامة والسوفياتية خاصة

يوفر الدين الإسلامي الحل للمشاكل الإنسانية، سواء منها الفردية أو الجماعية. أما المشاكل الفردية القائمة على الخوف والقلق من المصير بشكل عام، ومن الهاجس النووي بوزنه الضاغط على الأفراد، وكذلك الخوف من الغد، فإن الإسلام الذي يدفع إلى التسليم لأمر الله فإنه يعفي الإنسان المؤمن من مؤونة التفكير المؤدي إلى الرعب. وأما المشاكل الجماعية فإن الإسلام يؤمن لها الحلول العادلة في جملة من نظم للعلاقات بين الأفراد والجماعات، ومن مؤسسات توفر الجو الملائم لتفتح شخصيات الأفراد والأمم وتكاملها في المثل العليا على الطريق الإلهي المؤدي إلى السعادة المطلقة. وهذا ما أكده الإمام في رسالته حيث يطلب من غورباتشوف التحقق والتمعن في الفكر الإسلامي لأجل اكتشاف القيم العالمية الرفيعة للإسلام التي بامكانها انقاذ كل الشعوب واسعادها وحل المشكلات الأساسية للبشرية.

وفيما يؤمن الإسلام هذه الحلول فإنه المنقذ كذلك للاتحاد السوفياتي مما كان يعاني منه، لا على الصعيد الداخلي وحسب بل وعلى صعيد مشاكله الدولية أيضا، يقول الإمام مخاطبا غورباتشوف: «إن النظرة الجادة للإسلام بامكانها انقاذكم إلى الأبد من قضية أفغانستان وما شابهها من القضايا في العالم». وما ذكر مسألة أفغانستان إلا لأنها بلاد إسلامية ارتكبت بحقها جريمة تسلط أقلية ملحدة مدعومة من الدبابات والطائرات السوفياتية التي غرقت في وحولها، فلم يعد الاتحاد السوفياتي ولمدة طويلة يستطيع ايجاد حل لورطته فيها حتى بعد انسحاب جيوشه منها. والسبب أن بلادا إسلامية لا يمكن أن تحل مشاكلها خارج اطار الإسلام، ذلك أن مشكلات العالم كافة لا حل لها إلا بالإسلام، فكيف بمشكلات البلدان الإسلامية نفسها؟ 

لمصلحة غورباتشوف لا لمصلحة المسلمين

وتلافيا لما كان يمكن أن يشعر به الزعيم السوفياتي خطأ من أن قائد الثورة الإسلامية طامع في إسلامه لتقوية المسلمين به وببلاده التي كانت القوة العظمى الثانية في العالم، يعمد الإمام إلى افهام المرسل إليه أنه يخاطبه «ليس لأن المسلمين والإسلام بحاجة (إليه) بل لأجل القيم العالمية الرفيعة للإسلام». وفي هذا ينطلق الإمام من اليقين بأن الله تعالى أقوى، وأن الحاجة إليه وحده سبحانه، لا للبشر، وأن الإسلام لا ينتصر بالكثرة وبالقوة المادية، بل بالايمانقبل كل شيء. ولعل في ذلك استرجاعا لمواقف علي بن أبي طالب (ع)، لا سيما ذاك الذي طرحه على عمر بمناسبة تهديدات الشعوب المهزومة للمسلمين. فبعد أن اقترح بعضهم على عمر أن يحشد المسلمين من جميع أرجاء العالم الإسلامي من اليمن ومن الجزيرة العربية ومن الشام ومن العراق لمواجهة التهديد، وقف الإمام علي (ع) ليعلن أن المسلمين لم يكونوا يقاتلون بالعدد بل بالايمان والمدد الإلهي وليطرح مواجهة الموقف بحشد جزء من مقاتلي البصرة إلى جانب مسلمي الكوفة فيمكن مواجهة كل ذلك التهديد، وهذا ما اقتنع به الخليفة حينذاك. 

مسؤولية الجمهورية الإسلامية

بصدد ما يتعرض له المسلمون في هذا الجانب يواجه الإمام بشجاعة فائقة ذلك المبدأ الذي كرسته الدول الأوربية منذ فترة طويلة، والقاضي بتحريم التدخل من قبل أي دولة في شؤون الدول الأخرى والذي تحول في الواقع العملي إلى تحريم لتدخل أي دولة إسلامية لنصرة المسلمين المضطهدين في ظل الأنظمة الجائرة، وحتى تحت ربقة الاستعمار، فيما تسمح القوى الكبرى لأنفسها بأن تتدخل حيث تشاء وتحت أي ذريعة كانت، في شؤون الدول الأخرى، كما تسمح للصهاينة بالتدخل في شؤون جميع البلدان، وفي الاتحاد السوفياتي نفسه لكي يسهل حينذاك هجرة اليهود السوفيات إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وهكذا فقد أعلن (قده) وبشكل صريح للغاية أننا «نعتبر مسلمي العالم كمسلمي بلدنا، ونعتبر أنفسنا شركاء في مصيرهم دائما». كما ينطلق الإمام من مسؤولياته الشرعية ومسؤوليات الجمهورية الإسلامية القادرة ليبدي الاستعداد لمد الاتحاد السوفياتي، ومن ورائه غيره من البلدان، بالفكر الإلهي الضروري لحياة أي شعب من الشعوب، إذ هو يعلن لغورباتشوف بكل صراحة قوله: «إن الجمهورية الإسلامية في ايران تعد أكبر وأقوى قاعدة في العالم الإسلامي، بامكانها أن تملأ بسهولة الفراغ العقائدي في نظامكم». 

الإسلام هو الرد على المادية

أما في الجانب الفكري البحت الذي حملته الرسالة، ولعله من أهم ما حملته، فقد بدا الإمام بتشخيص سبب الاخفاقات الأساسية في الاتحاد السوفياتي، أوضحه لغورباتشوف قائلا: «.. إن مشكلة بلادكم الأساسية ليست قضية الملكية والاقتصاد والحرية، بل أن مشكلتكم هي فقدان الاعتقاد الواقعي بالله». وهي بطبيعة الحال ليست مشكلة الاتحاد السوفياتي وحده بل مشكلة الأنظمة الملحدة على الصعيد الفعلي، هي ذات المشكلة التي جرت الغرب وستجره إلى الانحطاط والطريق المسدود. ذلك أن المذاهب الفكرية والفلسفية المؤسسة على الالحاد قد استنفدت شرقا وغربا، فلم تعد تستطيع أن تحل المشاكل المتراكمة، وهي لم تستطع أن تقنع جماهير الناس بأية مثل عليا أو مشاريع حضارية يمكن أن تطرحها، ولقد وقفت عاجزة أمام ذلك القلق المصيري والرعب الوجداني اللذين أشرنا إليهما سابقا والنابعين من عدم الاعتقاد بالحياة الآخرة الذي يضع الإنسان وجها لوجه أمام العدم فلا يبقى أمامه إلا أن يتدبر أموره في الحياة الدنيا في جو من اليأس والقنوط. وهذا ما يؤكده الإمام بقوله: «إن الشيوعية لم تعد تلبي أي حاجة من الحاجات الواقعية للإنسان، لأنها مذهب مادي، ولا يمكن للمادية أن تنقذ البشرية من أزمة عدم الاعتقاد بالمعنويات، هذه الأزمة التي تعد أهم أساس لمعاناة المجتمعات البشرية في الشرق والغرب».

على أن الاتحاد السوفياتي لم يقف عند حدود الالحاد السلبي، بل هو شن تلك الحملة الدائمة المستعرة ضد الايمان بالله، وهو أمر كان بامكانه أن يستغني عنه، لأنه لن يصل به إلى أية نتيجة سوى المزيد من الاخفاق والتقهقر والفشل. يقول الإمام (قده): «إن مشكلتكم الأساسية هي التورط في صراع لا طائل تحته مع الله مبدأ الوجود والخلق».

وبعد تشخيص الداء، يعمد الإمام إلى وصف طريقة اجتثاثه، وطريقة الاجتثاث تقوم على تفنيد المذاهب المادية القائمة على المناهج التجريبية، وعلى اثبات وجود الله بالبراهين والطرق التي لا يأتيها الباطل من بين ايديها أو من خلفها. 

قصور المذاهب المادية على صعيد المعرفة

يقارن الإمام بين مقياس المعرفة لدى الماديين ولدى أصحاب النظرة الإلهية، فيقول: «لقد عرف الماديون مقياس المعرفة في نظرتهم إلى الكون، وهم يطردون كل ما هو غير محسوس من محيط العلم، ويرون أن الوجود هو قرين المادة، وأنه لا وجود لكل ما ليس بمادي. وهم يرون عالم الغيب ووجود الله والوحي والنبوة والقيامة من الأساطير. في حين أن مقياس المعرفة في النظرة الإلهية للكون أعم من الحس والعقل وأن كل معقول يدخل في محيط العلم حتى ولو لم يدرك بالحس. لذلك فإن الوجود يعتبر أعم من عالمي الغيب والشهادة، وأن ما لا مادة له يمكن أن يكون موجودا. وبعد هذا التحديد لأساس النظرتين، يطرح الإمام ردا من القرآن الكريم على الفكر المادي الالحادي فيقول: «إن القرآن المجيد ينتقد أساس الفكر المادي، ويقول للذين يظنون عدم وجود الله لعدم امكانية رؤيته حيث يقول القرآن على لسان هؤلاء {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} ويجيبهم القرآن {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير}. 

وجود المعرفة العقلية وأولويتها

يؤكد الإمام وجود المعرفة العقلية، كما يؤكد أولويتها على المعرفة المنبثقة عن الحس، وذلك بقوله: «إن كل ما لا مادة له يمكن أن يكون موجودا. وكما أن الوجود المادي يعتمد في وجوده على المجرد، فإن المعرفة الحسية أيضا تعتمد على المعرفة العقلية». وللبرهان على ذلك يطرح الإمام بابين كبيرين من أبواب المعرفة غير التجريبية: «الأول: باب الفلسفة العادية، والثاني الباب الاشراقي والعرفاني والصوفي». 

باب الفلسفة المشائية

يحيل الإمام الزعيم السوفياتي إلى المباحث الفلسفية لدى الغربيين، وكذلك لدى فلاسفة الإسلام من المشائيين كالفارابي وابن سينا رحمهما الله، كي يتضح له «أن قانون العلية والمعلولية الذي تعتمد عليه كل المعارف، هو قانون معقول وليس بمحسوس وأن ادراك المعاني الكلية والقوانين الكلية أيضا، التي يعتمد عليها كل استدلال، هي من الادراكات المعقولة غير المحسوسة. فبالنسبة إلى الجزء الأهم من تأكيد الإمام والقائل بأن «ادراك المعاني الكلية والقوانين الكلية التي يعتمد عليها كل استدلال هو من الادراكات المعقولة غير المحسوسة». لقد ذهب الفارابي بهذا الخصوص إلى وجود العلم العقلي سواء في مجال ما قبل الحس أم في شكل مرافق للحس أم في مجال ما بعد الحس. فهو عندما يتكلم عن المقدمات الكلية التي بها يحصل اليقين الضروري لا عن القياس، يصنفها في صنفين: الأول الحاصل بالطباع، والثاني الحاصل بالتجربة. «أما الحاصل بالطباع فهو الذي حصل لنا اليقين به من غير أن نعلم من أين حصل ولا كيف حصل، ومن غير أن نكون شعرنا في وقت من الأوقات أننا كنا جاهلين به ولا أن نكون قد تشوقنا معرفته ولا جعلناه مطلوبا أصلا في وقت من الأوقات، بل نجد أنفسنا فطرت عليه من أول كوننا وكأنه غريزي لنا لم نخل منه، وهذه تسمى المقدمات الأولى الطبيعية للإنسان وتسمى المبادئ الأولى». ويضيف الفارابي في مكان آخر قوله: «المقدمات اليقينية وهي مبادئ العلوم النظرية، هي المقدمات الكلية المطابقة للأمور الموجودة التي نقبلها ونصدق بها ويستعملها كل واحد منا من جهة يقين نفسه بمطابقتها للأمور».

أما الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا فيذهب إلى أن «القسم من الأمور الذي يقع به التصديق» إما أن يكون التصديق به على وجه ضرورة أو تسليم أو ظن. والذي يحصل على وجه ضرورة فإما أن تكون ضرورته ظاهرية وذلك بالحس أو التجربة أو التواتر أو تكون ضرورة باطنية، والضرورة الباطنية إما أن تكون عن العقل وإما أن تكون خارجة عن العقل، فأما الذي عن العقل فإما أن يكون عن مجرد العقل أو عن العقل مستعينا فيه بشيء، والذي عن مجرد العقل فهو الأولي الواجب قبوله، كقولنا: الكل أعظم من الجزء...». ولا يكتفي الشيخ الرئيس بدور العقل في مجال المعرفة القبلية بل هو ينسب إلى النفس دورا في هذا المجال إذ يضيف إلى ما سبق قوله: «وأما الذي هو خارج من العقل مما هو على وجه الضرورة فهو أحكام القوة الوهمية... وتلك الأمور خارجة عن المحسوسات.. والنفس تحكم بهذه الضرورة، (مثل) كل موجود ففي مكان، وما ليس داخل العالم ولا خارجه فهو غير موجود..». 

العلة والمعلولية

من بين المعاني الكلية ذكر الإمام بشكل خاص قانون العلة والمعلولية معتبرا أن جميع المعارف تعتمد عليه، وهذا القانون يطرح اليوم بعض المشاكل على الفلاسفة المعاصرين. لذلك رأينا واجبا علينا القاء نظرة توضيحية عليه.

اعتبر هذا المبدأ في الأساس برأي الفلاسفة المشائيين ولو ضمنا من المبادئ الأولية الضرورية التي يحملها العقل ويستخدمها لتفسير العلاقة الضرورية بين الظاهرات التي يؤدي وجود إحداها إلى إحداث الأخرى، دون أن يكون نابعا من الاستقراء ومن التجريب، بل مفسرا لبعض نتائجهما. ولكن بعض العلماء أخذ اليوم يشكك في ضرورته وفي جدواه، لا سيما في مجال العلوم الطبيعية، وعلى الأخص في مجال الميكانيكا الكمية والفيزياء الكمية الذريتين بعد أبحاث أنشتاين على الضوء وبوهر وسومرفيلد على فيزياء الذرة. وذلك بعد اختلال مبدأ الحتمية في هذه المجالات، أي حتمية حدوث الظاهرة انطلاقا من بعض المقدمات، إلا أن هذا الموقف ليس عاما وهناك من يعتبر أن المكتشفات في المجالات المشار إليها، إذا كانت لا تزال غير قادرة على تحديد علاقة ضرورية حتمية بين مقدمات ما وظاهرة ناجمة احتماليا عنها، فإن هذا لا ينسف مبدأ العلية والمعلولية، بل يؤكد عدم التوصل إلى التحكم الدقيق في مجال تلك الظاهرات.

ولعل أفضل مطالعة موجهة للمشككين بمبدأ العلية، هي تلك التي قام بها الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه فلسفتنا، حيث يعتبر مبدأ العلية من أوليات ما يدركه الإنسان في حياته الاعتيادية ويصنفه بين المبادئ العقلية الضرورية التي لا يمكن اثباتها بالحس ولا بالتجربة. ثم يشير الشهيد الصدر إلى أهمية هذا المبدأ على الصعيد العلمي، فيعتبر أن على أساسه يتوقف اثبات الواقع الموضوعي للاحساس، وكل النظريات أو القوانين العلمية المستندة إلى التجربة وكذلك جواز الاستدلال وانتاجه في أي ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية.

أما في مجال الفيزياء الذرية بشكل خاص وهو المجال الذي تلقى فيه مبدأ العلية النقد والتشكيك، فإن الشهيد الصدر يشرح أولا الأساس الذي قام عليه هذا التشكيك فيقول: «أعلن (هايزنبرغ) العالم الفيزيائي أن من المستحيل علينا أن نقيس، بصورة دقيقة، كمية الحركة، التي يقوم بها جسم بسيط، وأن تحدد في الوقت عينه، موضعه من الموجة المرتبطة به، بحسب الميكانيكا الموجية التي نادى بها (لويس دوبروغي). فكلما كان مقياس موضعه دقيقا كان هذا المقياس عاملا في تعديل كمية الحركة، ومن ثم في تعديل سرعة الجسيم، بصورة لا يمكن التنبؤ بها. وكلما كان مقياس كمية الحركة دقيقا، أصبح موضع الجسيم غير محدد... ومهما تعمقنا في تدقيق المقاييس العلمية ابتعدنا أكثر عن الواقع الموضوعي لتلك الوقائع. ومعنى ذلك أنه لا يمكن فصل الشيء الملاحظ في الميكروفيزيا، عن الأداة العلمية التي يستعملها العالم لدرسه، كما لا يمكن فصله عن الملاحظ نفسه. إذ إن ملاحظين مختلفين، يعملون بأداة واحدة على موضوع واحد سوف يصلون إلى مقاييس مختلفة، ومن هنا نشأت فكرة اللاحتمية التي تناقض بصيغة مطلقة مبدأ العلية». وبعد العرض يرد الشهيد الصدر، فيقول: «إن (مبدا العلية) لو كان مبدأ علميا قائما على أساس التجارب والمشاهدات في حقل الفيزياء العادية، حيث كان معترفا به لكان رهن التجربة في ثبوته وعمومه، فإذا لم نظفر له بتطبيقات واضحة في ميادين الفيزياء الذرية... كان من حقنا أن نشك في قيمة المبدأ بالذات... غير أنا أوضحنا فيما سبق أن تطبيق مبدأ العلية على المجالات الاعتيادية للفيزياء والاعتقاد بالعلية كنظام عام للكون فيها، لم يكن بدليل تجريبي بحت وأن مبدأ العلية مبدأ فوق التجربة... وإذا وضعنا مبدأ العلية في موضعه الطبيعي من تسلسل الفكر الإنساني فسوف لا يزعزعه العجز عن استكشاف النظام الحتمي الكامل (في الفيزياء الذرية مثلا) بالأساليب العلمية. وكل ما جمعه العلماء من ملاحظات على ضوء تجاربهم الميكروفيزيائية لا يعني أن الدليل العلمي قد برهن على خطأ مبدأ العلية وقوانينها، في هذا المجال الدقيق من مجالات الطبيعة المتنوعة. ومن الواضح أن عدم توفر الامكانات العلمية والتجريبية لا يمس مبدأ العلية في كثير أو قليل، ما دام مبدأ ضروريا فوق التجربة». ثم يفسر السيد الشهيد الصدر فشل التجارب العلمية في الكشف عن أسرار النظام الحتمي للذرة بنقصان الوسائل العلمية وعدم توفر الأدوات التجريبية التي تتيح للعالم الاطلاع على جميع الشروط والظروف المادية للظاهرة، وهذا النقصان ليس أمرا أبديا، بل من الممكن تلافيه مستقبلا فيصح بالامكان اكتشاف النظام الحتمي للذرة، عندما يمكن اكتشاف وسائل القياس التي لا تؤثر في مسار الظاهرة، بل تسمح بمراقبتها بشكل حيادي. 

باب الاشراق والعرفان

في هذا المجال يحيل الإمام إلى حكمة السهروردي الشهيد وصدر المتألهين وابن عربي، على أن يتم الاطلاع على هذه الحكمة على الطبيعة من قبل بعثة من الأساتذة الكبار والخبراء الأذكياء الضالعين في مثل هذه المعارف يفدون إلى قم «حتى يطلعوا، وبعد التوكل على الله، بعد أعوام، على عمق منازل المعرفة اللطيفة التي هي أدق من الشعر، لأنه ليس بالامكان الاطلاع على هذه المعرفة بغير هذا الشكل».

إن هذا الاقتراح يشكل تحديا كبيرا، لأنه يراهن على امكانية حصول نوع من المعرفة لا يتوصل إليه عن طريق الدرس النظري وحده بل وعن طريق الممارسة العملية التي تقوم إلى جانب ذلك الدرس. أما المعارف التي تكتسب بهذه الطريقة فهي معارف لا يمكن أن يرقى إليها الشك بشكل من الأشكال. خصوصا وأن نماذج الحكماء الذين يطرحهم الإمام هي نماذج متفوقة متفردة، بل اعلام ومثل لمن يريد سلوك طريق المعرفة اللدنية العرفانية القائمة على الاشراق والكشف والشهود. فالسهروردي يرى أن الاشراق هو الذي يؤدي إلى المعرفة وليس العالم المادي «فنور العظمة» وهو «المنبع الاشراقي الحقيقي» هو الطاقة التي تبث الوجود في كل كائن، وهو يتمثل كاشعاع خالد يشعه نور الأنوار. فعندما ينير بتسلطه الاشراقي جميع الكائن، وهو النور الذي جاء منه، فإنه يجعله حاضرا أبدا.

وهكذا فكما أشار الإمام فإن «كل جسم أو موجود مادي محتاج الى النور المحض المنزه عن الحس» في حكمة السهروردي. أما بالنسبة لمعرفة النفس، فإن الإنسان الذي يتلقى برهان ربه لا يدرك هذه المعرفة عن طريق تجريبي أو مادي أيا يكن نوعه، وهذا ما يوضحه السهروردي بقوله: لدينا علم حضوري، اتصال شهودي واشراق حضوري تشرق به النفس على الموضوع وذلك بصفتها كائنا نورانيا أي تستحضره أمامها وذلك بأن تستحضر نفسها. فظهورها هي نفسها لنفسها هو حضور هذا الحضور. وهكذا ترجع حقيقة كل علم موضوعي إلى الشعور الإنساني العارف بذاته. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النفس الإنسانية وذلك تبعا لانتزاعها نفسها من برزخ «منفاها المغربي» أي عالم المادة الأرضي.

وبذا يكون «ادراك الإنسان الشهودي لحقيقة نفسه لا علاقة له بأية ظاهرة من ظواهر المادة» كما يرى الإمام في مذهب السهروردي الشهيد رحمه الله. أما عن امكانية حصول الاشراق المشار إليه لسائر الناس فإن السهروردي يعبر عنها بطريقة غير مباشرة وذلك في رده على المشككين إذ يقول: «ومن لم يصدق بهذا. .. فعليه بالرياضات.. فعسى يقع له خطفة فيرى النور الساطع في عالم الجبروت ويرى الذوات الملكوتية والأنوار...». أما صدر المتإلهين، صاحب الأسفار الأربعة في الحكمة المتعالية، فهو يرى «أن المعرفة تحصل عن طريقين: طريق البحث والتعلم والتعليم الذي يستند إلى الأقيسة والمقدمات المنطقية، وطريق العلم اللدني الذي يحصل من طريق الالهام والكشف والحدس: وهذا العلم الأخير هو بنظره العلم الحقيقي اليقيني، ذلك «أن الفرق بين العلمين كالفرق بين علم من يعلم الحلاوة بالوصف وبين علم من يعلمها بالذوق، (فلا شك) أن الثاني أقوى وأحكم ولا يمتنع وقوعه، بل هو واقع فعلا للأنبياء والأوصياء والأولياء والعرفاء».

أما عن كيفية الفوز بالعلم اللدني المذكور فإن حكيمنا يرى أنه «إنما يحصل بسبب تجريد النفس عن شهواتها ولذائذها والتخلص من أدران الدنيا وأوساخها، فتنجلي مرآتها الصقيلة وتنطبع عليها صور حقائق الأشياء كما هي إذ تنجد النفس بالعقل الفعال، حينها تحدث لها فطرة ثانية بذلك. وهكذا «تبين ـ كما يقول الإمام (قدس سره) ـ أن حقيقة العلم هي وجود مجرد عن المادة وأن كل فكر لا علاقة له مطلقا بالمادة وهو منزه عنها ولا يمكن الحكم عليه بأحكام المادة».

وأما بالنسبة إلى ابن عربي، فهو مدرسة أخرى في العرفان الذي تعتمد المعرفة فيه على المدد الإلهي وليس على معطيات الحس، وهذه المعرفة هي المعرفة الخارقة التي تتميز عن غيرها باليقين الثابت والبينة الواضحة وهي تسري من الله كما أشرنا. ولكن هذه المعرفة على درجات، ولا تكتسب دفعة واحدة، بل لابد فيها من الترقي من مستوى إلى مستوى آخر. وهي تبدأ بالمكاشفة، حيث تزول الحجب التي تمنع النفس من رؤية الجلال الإلهي، أما الحجب المذكورة فهي كل مخلوق مادي أو روحاني يحجب الخالق عن المخلوق. ثم يتلو المكاشفة التجلي، وهو ظهور نوراني للذات الإلهية وصفاتها وللأمور الروحية والإلهية. وعن ظهور هذا النور يوضح ابن عربي، أن كل موجود بسبب صدوره عن الله، منير، ولكن الانارة تكون بدرجات متفاوتة. أما النفس فهي نور ولكن خف ضوؤها لاتحادها بالبدن وبالذنوب، ولكن هذا لا يمنع استعادتها للنور بشكل مطلق، لأنه بقيت فيها ذبالة كذبالة المصباح المنطفى منذ قليل، والذي مازال يتصاعد منه شيء شبيه بالدخان، فإذا وضع على الدخان نور مصباح، ينزل النور ويمسك بالذبالة. وأخيرا تكون المشاهدة، وذلك إذا طويت الحجب وأشرقت النفس بنور ربها. وهذه المشاهدة تكون كاملة حقيقية حين يشاهد الشخص الله بشعور امتثالي ولكنه ليس تجريبيا، أي أنه يرى نفسه في الله دون ادراك وجود ذات مشاهدة. أما الطريق إلى كل ذلك فيكون بالرياضات والمجاهدات والتخلي عن المخلوقات.

وهكذا فإن الطريق إلى المعرفة الحقيقية التي يطرحها الإمام ليس فقط طريق العقل والبحث بل وأيضا الطريق العرفاني الكشفي الالهامي الذي لا يمكن السلوك إليه إلا بواسطة الانقطاع عن حطام الدنيا والتوجه إلى ذات الله وهذا يكون بالتأمل الذي تصحبه الرياضات والمجاهدات أحيانا، لذلك لم يذهب الإمام إلى أن بالامكان شرحه للزعيم السوفياتي بل طلب إليه ارسال نخبة من علماء بلاده إلى ايران لكي ينقطعوا إليه ويتدربوا على أصوله. 

وجود الله

على أن اثبات الإمام للمعرفة العقلية والعرفانية لم يكن مقصودا لذاته فقط بل كان الوسيلة التي تستخدم للفوز بالايمان بالله عز وجل، والذي يشكل الطريق للخلاص من المشاكل في الاتحاد السوفياتي. وقبل أن يدخل الإمام في برهان وجود الله، فهو يعمد إلى التنبيه من الحلقة المفرغة التي تدور فيها الفلسفة العقلية لا سيما الفلسفة الإسلامية التقليدية، تلك الفلسفة التي سعت لاثبات وجود الله عن طريق براهين لا تلبث أن تتعرض للنقد فيأتيها التعديل ثم يتعرض التعديل للنقد وهكذا... وهذا ما جعل الالحاديين يستهزئون بهذه البراهين. وقطعا للطريق على الأحكام المسبقة لدى القيادة السوفياتية والمفكرين السوفيات في هذا المجال، خاطب الإمام غورباتشوف قائلا: «لم أكن أرغب في الأساس أن آخذكم إلى الطريق الملتوية الوعرة التي اتبعها الفلاسفة وبخاصة الفلاسفة الإسلاميون».

وبعد ذلك يعرض الإمام برهانين واضحين يمكن لغير الاختصاصيين في الفلسفة أن يفهموها، بحيث يستطيع حتى السياسيون الاستفادة منهما: البرهان الأول أو المثال الأول: وهو المثال الفطري، ويشرحه الإمام بقوله: «إننا فيما نشاهد بالحس أن الإنسان والحيوان بامكانهما الاحاطة بكل أطرافهما وهما يعرفان مكانهما وماذا يحصل في محيطهما ويدركان ما يدور في العالم الذي يحيط بهما»، أما «المادة فمهما تكن فهي لا تدرك شيئا عن كنهها، وأن أي تمثال مادي للإنسان فإن كل جانب منه محجوب بالنسبة إليه عن الجانب الآخر». والتمثال الذي يشير إليه الإمام، ليس التمثال المنحوت بطبيعة الحال، بل أي جهاز يحاكي الإنسان مهما كان متطورا، فلو تصورنا امكانية أن يصنع رجل آلي يزود بأجهزة تتأثر بكل أنواع المؤثرات الطبيعية من موجات صوتية وضوئية وحرارية وما إلى ذلك ومكّناه من تأدية بعض المهمات، فإنه لا يمكن التصور أن نجعله يتأثر بجميع المؤثرات الطبيعية ناهيك عن غير الطبيعية من أحداث اجتماعية أو عاطفية أو ما أشبهها. وهو أن تعددت المهمات التي يقوم بها، فهي لن تتجاوز ما زود به مسبقا، وهو لن يقوم من تلقائه بأي مهمة لم يخطر على بال صانعيه أن يجهزوه للقيام بها. وإذا تجاوزنا كل ذلك، وتمكنا من أن نعطيه كفاءة تفوق التصور، فهل نستطيع تمكينه من القدرة على التجريد العقلي ناهيك عن ادراك ذاته وكنهه. إن هذا الأمر لا يخطر على بال العلماء نظرا لاستحالته، بل أن ما هو أسهل منه بكثير هو أبعد بما لا يقاس عن مدى طموحاتهم، التي لا تتطلع إلى إقامة ما يعدو أن يكون امتدادا، ولو جبارا لحواس الإنسان، وإلى تسخير بعض القوانين التي نظم الله تعالى بها شؤون المادة وتفاعلاتها. أما ما يتعدى ذلك فهي المجالات المستحيلة استحالة مطلقة.

أما المثال الثاني فهو البرهان الوجداني: يؤسس الإمام هذا البرهان بشكل ضمني على قضية تقول: إن الإنسان يتعلق بما هو موجود ويمكن ادراكه أو الحصول عليه، ولكن ليس من الضروري أن تكون الامكانية هذه متوفرة لأي إنسان أو لمطلق الإنسان بل ربما لما يفوقه بكثير. فالتطلع إلى معرفة أسرار الكواكب في الأفلاك القصية وإلى وصول الإنسان إليها مسألة تدغدغ الخواطر. ولكن هذا الأمر مستحيل سواء بشكل مطلق أو بشيء نسبي، ولكن تلك الاستحالة لا تلغي وجود تلك الأفلاك. وتطلع الدولة الضعيفة إلى أن تكون قوة عظمى في فترة قصيرة مسألة يمكن أن تكون حاصلة واقعا وإن كان تحقيقها أمرا مستحيلا، نسبيا أو مطلقا، ولكن قوة الدولة وعظمتها أمر موجود وقائم.

إذاً، فما يتعلق به قلب الإنسان لابد أن يكون موجودا. ولما كان الإنسان يصبو «فطريا وبشكل مطلق إلى نيل كل كمال.. (و) يميل إلى أن يكون قدرة مطلقة في العالم (وهو) لو أمسك هذا العالم في قبضته وبسط سلطته، أن قيل له أن هناك عالما آخر غير هذا فإنه مع ذلك يصبو فطريا ليتسلط على ذلك العالمأايضا وهكذا..

ثم إنه «مهما اكتسب الإنسان من العلوم فهو يتوق أيضا إلى كسب علوم أخرى أن أخبر بوجودها، ولهذا يجب أن تكون هنالك القدرة المطلقة والعلم المطلق يتعلق قلب الإنسان بهما. وهذان القدرة المطلقة والعلم المطلق هما الله تعالى الذي نتوجه كلنا لوجوده حتى ولو لم نعرف ذلك». ولو رد معترض على ذلك بالقول: إن قلب الإنسان يتعلق أيضا بالأوهام ناهيك عن المستحيلات، فإننا نوافق معه على ذلك لأن رده ينفي امكانية الإنسان الحصول على ما يسميه الأوهام وكذلك المستحيلات، لا أن ما يعتبرونه أمرا مستحيلا هو أمر غير موجود. فالوهم هو تصور حالات مركبة من معطيات موجودة وقائمة إلا أن تحقيقها ونيلها بالوسائل الإنسانية يبدو أو يكون فعلا من غير الممكن. وكذلك المستحيل، فهو إن كان لا يمكن تحقيقه بالوسائل المتاحة للإنسان، فهو ليس معدوما بل موجود على الأقل بأجزائه حتى ولو كان جمع هذه الأجزاء متناقضا. وهكذا فإن مسألة وجود الخالق القادر العالم والمتصف بكل كمال تحل بشكل بسيط ومقنع إذا ما أراد المخاطب أن يسمع ويعي ويفتح قلبه للخطاب. 

أسلوب الرسالة

ولابد أخيرا من قول كلمة في أسلوب الرسالة، وهنا لا نقصد الأسلوب الأدبي، بل طريقة المخاطبة، وذلك لأهميتها. لقد استخدم الإمام وسيلتين في خطابه:

1ـ الصراحة المتناهية: حيث كشف تكتيك غورباتشوف القائم على استخدام الخطاب الماركسي اللينيني، في حين يوجه الطعنة الأخيرة للماركسية وللشيوعية، كما صرح لغورباتشوف ولكافة الشيوعيين بأن الشيوعية لم تكن إلا وبالا على الإنسان والمجتمع وأنها ماتت ويجب أن تحنط. ثم إن الإمام قطع الطريق على غرور غورباتشوف كرئيس لدولة عظمى بتأكيده له أن الإسلام والمسلمين ليسوا بحاجة إليه. وأخيرا فقد أكد الإمام اهتمام الجمهورية الإسلامية بجميع مسلمي العالم ومشاركتها في مصيرهم في أية دولة كانوا، حتى ولو تناقض هذا الموقف مع مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى بما فيها الاتحاد السوفياتي.

2ـ الديبلوماسية: ولكنها هنا ليست ديبلوماسية التوريات والكلام العام الذي يعني كل شيء فيما لا يعني شيئا، بل ديبلوماسية خلق الطموحات المشروعة عند الطرف الآخر. فالإمام يصف غورباتشوف في مبادراته بالجرأة والشجاعة «في التعامل مع الأحداث العالمية التي كثيرا ما تكون سبب التطورات جديدة وسببا لاضطراب المعادلات الجارية التي تسود العالم» والتي هي «جديرة بالثناء»، كما يحث الإمام زعيم الاتحاد السوفياتي على اتخاذ الخطوة الكبيرة بتخليص العالم من الشيوعية البغيضة. إذ يقول له: «إني لأرجو أن يكون الفخر الحقيقي نصيبكم في أن تزيحوا من وجه التاريخ وبلادكم آخر القشور البالية لسبعين عاما من اعوجاج عالم الشيوعية». 

الخلاصة

لقد كانت رسالة الإمام إلى غورباتشوف مجموعة قيمة من الدروس في السياسة والفلسفة، وحملت من النبؤات ما جعلها فريدة في بابها.

لقد نصح الإمام غورباتشوف بعدم الانجرار وراء مؤسسات وقيم الغرب الرأسمالية لأنها لن تحل المعضلات التي كانت تعاني منها بلاده، ولكن المجتمع السوفياتي كان ينزلق بسرعة وقوة قياسيتين باتجاه قيم الغرب ومؤسساته، بحيث لم يكن من السهل الوقوف في وجهه، وها هو اليوم وبعد مدة غير مديدة قد انفرط عقده وغرق في أنواع من المشاكل لم تكن منتظرة، فما أن انهزمت قوى القمع الشيوعية حتى بانت عصابات المافيا والمنظمات الصهيونية الطفيلية التي تعشش عادة في المجتمعات المتفسخة وتدفع بها على طريق خدمة أهداف الصهيونية على حساب مصالحها.

وهكذا فقد أصبح ذلك البلد الكبير الذي كان عماد الاتحاد السوفياتي ـ وأقصد به روسيا ـ عالة على دول الغرب في نظامه تبتز كرامته كل يوم ثمنا لاستمرار النظام السياسي والاقتصادي. ولو أن غورباتشوف حاول التفكير جديا وعمليا في ما اقترحه عليه الإمام الخميني لكانت خريطة العالم مختلفة عما هي عليه اليوم.

ولسائل أن يسال: هل كان من الممكن أن يأخذ غورباتشوف بنصيحة الإمام؟ إن الأمر كان مستبعدا فعلا، ولا تظن أن الإمام كان يطمع بإسلام غورباتشوف أو بإقامته نظاما إسلاميا، ولكن كان عليه أن يبلغ ويمارس الأعذار ليلقى ربه وقد أدى ما عليه سواء استجاب المعنيون أم لم يستجيبوا. وبعد فإن الأجر الذي لابد أن يناله الإمام ليس أجر التبليغ فقط، بل وأجر التعليم فقد حملت الرسالة أفكارا في الفلسفة ثمينة، من ذلك الصنف الذي تخلت عنه الإنسانية، ولذلك هي انساقت في تيارات الثقافة الأميركية السطحية التي تخاطب الغرائز وتحارب كل ما هو أصيل لدى الإنسانية، وهذا ما كان غورباتشوف تنبه له، ولكنه ضل الطريق للخلاص منه. إن من يستطيع اليوم أن يقف بوجه الثقافة الرأسمالية الملحدة او المدعية للايمان، هو الإسلام والإسلام وحده. ولهذا فهو يحارب ويواجه بكل الأسلحة، لا سيما تلك النسخة التي كان يتمسك بها الإمام الخميني نفسه، وهو كان يتصدى مدركا أبعاد ما يواجه ومع ذلك كان يبلغ.