قراءة في الخطاب والتجربة

2009-02-07

«إن الإسلام العظيم هو دين التوحيد ومحطم الشرك والكفر وعبادة الأصنام وعبادة النفس (الشهوات)، وهو دين الفطرة والخلاص من قيود الطبيعة ودسائس الشيطان من الجن والإنس، في العلن والخفاء ودين السياسة السلمية والهادي إلى الصراط المستقيم... انه لا شرقية ولا غربية دين عبادته سياسة وسياسته عبادة».

هكذا يقول الإمام روح الله الخميني مفجر الثورة الإسلامية ومؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران في بيان له في التاسع والعشرين من شهر أيلول ـ سبتمبر من عام 1979.

وبقدر ما ينطوي هذا القول على نزعة ثورية كما يبدو للبعض سيما وان عمر الانتصار التاريخي لم يتجاوز حينذاك عشرة شهور، فانه يؤشر لحقيقة انطلقت منها الثورة منذ بواكيرها.

الأولى: حينما واجه الإمام الراحل النظام الشاهنشاهي المتسلط في عام 1963 عبر خطابه الشهير في باحة المدرسة الفيضية بمدينة قم المقدسة، وكانت تلك الحقيقة هي المحفز الأول.

والأخير: صناعة الحدث التاريخي في الثاني عشر من شباط 1979. وكانت المرتكز الذي ضمن استمرار مسيرة الثورة وإحباط كل المؤامرات الاستكبارية التي سعت إلى احتوائها وتهميشها واستيعابها في زوايا ضيقة بعدما تبين استحالة القضاء عليها بالكامل.

البعد الديني والإنساني المشترك

وطبيعي إن لأي ثورة أبعاد ومعطيات أو مرتكزات لابد أن تكون نابعة من الواقع المجتمعي ومتطلبات ذلك الواقع استحقاقاته وضروراته حتى تستطيع ترجمة شعاراتها إلى ممارسات عملية على الأرض أولاً؛ والتعبير عن طموحات وتطلعات كافة الشرائح والتيارات الاجتماعية ثانياً، ومن ثم وهذا ثالثاً لكي تكون صادقة مع نفسها ومع أبنائها ولا تتحول إلى مشروع استبدادي يفضي إلى تسلط الأقلية على الأكثرية.

فالثورة الفرنسية باعتبارها مثلث نقطة تحول من مرحلة إلى مرحلة أخرى رفعت شعارات الحرية والإخاء والمساواة واعتبر زعماء الثورة أنها أي تلك الشعارات ـ تعكس المحتوي الحقيقي لمشروع التغيير الشامل، وتعبر عن أماني ورغبات الكثيرين ممن رزحوا تحت نير الاستبداد والتسلط عقوداً من الزمن.

وكذا الحال مع الثورة البلشفية التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية والقضاء على التمايز الطبقي بين الفئات المختلفة فهي جاءت لتضع حداً لمظاهر سلبية طبعت واقع المجتمع طيلة الحقبة القيصرية في روسيا واستخدمت في ذلك خطاباً ثورياً نجحت من خلاله في استقطاب وتجنيد الملايين في داخل روسيا وخارجها لمواجهة الرأسمالية المتوحشة التي شطرت العالم إلى جزءين الأول غني ومترف ومرفه، ويمسك بكل أدوات القوة والنفوذ والهيمنة، والآخر فقير ومعدم ومسلوب الإرادة لا يملك من أمره شيئاً.

ولكن كلا الثورتين الفرنسية والبلشفية أسقطتا الدين من اعتباراتهما، بل إنهما كانت في حقيقة الأمر بمثابة رده فعل قوية على الديانة المسيحية التي مثلتها في فترة من الزمن الكنيسة ووظفت من قبل السلطات السياسية الحاكمة لأحكام قبضتها على المجتمع والحفاظ على مصالحها وامتيازاتها.

هذا الإسقاط للدين افرز نتائج خطيرة للغاية لأنه احدث شرخاً واسعاً في مناهج التفكير وتجاوزاً على الثوابت وبالتالي أفضى إلى أزمات ـ تجاذبات ـ حادة في داخل الكيانات الاجتماعية فضلاً عن كون تلك الثورتين لم تلتزما بالشعارات التي جاءتا بها بحيث حصل انحراف في المسار التطبيقي للانتقال من مرحلة النظرية إلى التطبيق.

المساحة الأوسع للمعنوي والأخروي

وهنا يبرز وجه الاختلاف بينهما وبين الثورة الإسلامية الإيرانية التي فجرها الإمام الخميني رضوان الله تعالى عليه التي حملت شعار نصرة المستضعفين ومقارعة الاستكبار وتحقيق العدالة والمساواة بين الجميع وتحكيم دين الله ، الإسلام، في كافة مناحي الحياة؛ فالإمام يؤكد على أن الإسلام دين السياسة بشؤونها. ويظهر ذلك لمن له ادني تدبر في أحكامه الحكومية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية.. ومن توهم أن الدين منفك عن السياسة فهو جاهل لم يعرف الإسلام ولا السياسة.

وإذا كانت الفلسفات السياسية المختلفة الرأسمالية والاشتراكية والقومية وغيرها ركزت على الاعتبارات المادية الصرفة استناداً إلى منطق الربح والخسارة مع إهمالها لمعظم الجوانب المعنوية ـ الإنسانية، فإن المجال السياسي الذي تحرك الإمام الخميني في أجوائه لم يكن ينطلق فيه بلا استناد إلى رؤية واضحة لمتطلبات التغيير الاجتماعي، بل على العكس من ذلك فإن الممارسة السياسية التي تمثلها الإمام الراحل تفصح بما لا يقبل الشك عن أسس متينة ومبادئ إنسانية وإسلامية شاملة ومستوعبة كانت تنطلق منها هذه الممارسة بمختلف صورها ومراحلها.

بعبارة أخرى يمكننا القول أن خطاب الثورة الإسلامية الذي امتاز بالعمق والموضوعية والشمولية على الصعيد الفكري والعملي أدى إلى تعرية الخطاب ـ أو الفهم ـ التقليدي للسياسة سواء باعتبارها واحدة من العلوم الإنسانية أو منظوراً إليها كجملة ممارسات لإدارة وتنظيم شؤون المجتمع الإنساني وتأمين مصالحه.

فلم يعد الدنيوي ـ المادي يحتل كل المساحات والزوايا مثلما هو حاصل في شتى بقاع العالم حيث تحكم الأنظمة العلمانية قبضتها على مقدرات الشعوب، بل أن الأخروي ـ المعنوي بات يوازي الدنيوي ـ المادي في الواقع وحجم التأثير ونطاق الاهتمام، وفي هذا السياق يقول الشهيد مرتضى المطهري أن منطق الإسلام هو تطبيق المعنوية والعدالة معا في المجتمع، ففي المجتمع الذي يخلو من العدالة، نرى آلاف الألوف من المرضى النفسيين.

ويضيف أن ثورتنا ـ في المستقبل ـ تحتاج بجانب العدالة الاجتماعية بمقياسها الاجتماعي، إلى معنوية واسعة شاملة كتلك المعنوية التي رأينا نظائر منها في النبي والأئمة الأطهار عليهم السلام.

ولعل ما منح الثورة الإسلامية الإيرانية بعداً شمولياً عالمياً هو تمسكها بأصول الإسلام المحمدي الأصيل من جانب، واهتمامها بالإنسان الفرد باعتباره محور التفاعلات الاجتماعية؛ حيث أن الإنسان في الرؤية الفلسفية للإمام الخميني مجلل بتصوير عرفاني متسام لهذه الحقيقة الوجودية التي يعتبرها الإمام خلاصة كل موجودات العالم، والإنسان أيضاً في التصور الذي يقدمه عنه الإمام الخميني مشروع لتنازع الخير والشر وهو دائماً مخير في الاستجابة لكلمة الله أو نداء الشيطان.

وينطلق الإمام رضوان الله تعالى عليه في تأكيده على ضرورة صبغ المجتمع الإنساني بصبغة قائمة على الإيمان بالله عز وجل والتسليم إليه من خلال اعتقاده الجازم بارتباط كل مشاكل وأزمات الإنسانية الدينية والدنيوية بافتقاد الإنسان البعد الأخلاقي في حياته وممارساته.

الثقة العالية بالأمة

ويرى بعض المفكرين أنه «إذا ما أردنا أن نفحص الخطاب الخميني تجاه الأمة فإننا سنجد أن أهم ما يميز هذا الخطاب هو ثقته الكبيرة بالأمة في شتي الظروف والمواقف، حتى انك تشعر بالمديونية العظمى التي لا يتردد صاحب هذا الخطاب في الاعتراف بها للأمة، فهي التي ينبغي أن يعترف لها بالفضل في كل ما تحقق من نجاحات وانجازات بقوله كل ما لدينا هو من هذه الأمة، غاية الأمر أنه من تلك الأمة التي بنداء الله أكبر فعلت ذلك».

وإزاء ذلك فانه ليس غريباً أن نجد أن كل القراءات الموضوعية ـ العلمية للثورة الإسلامية قد وصلت إلى نتيجة مفادها أن تلك الثورة تجاوزت في سعتها وشموليتها واهتمامها بالإنسان انطلاقاً من الدين كل ما سواها من الثورات في التاريخ الحديث والمعاصر، ونجحت أيما نجاح في بلورة خطابها الإيديولوجي على ارض الواقع، واعتبرت بحق تجربة رائدة قل نظيرها. ومما يعزز هذا القول ويثبته هو ذلك التأثير الكبير الذي تركته على الكثير من الشعوب خلال فترة زمنية قصيرة حيث أقر به الأعداء قبل الأصدقاء رغم أن الثورة واجهت ومازالت مؤامرات ومخططات كبري تستهدف تحجيمها واحتوائها.

ليس هذا فحسب، بل إن حركة الصحوة الإسلامية التي اجتاحت العالم الإسلامي خلال عقدي الثمانينات والتسعينات وغدت ظاهرة مهمة للغاية وجديرة بالدراسة والتأمل لم يكن لها أن تتنامى وتتسع بهذه الصورة لولا خطاب الثورة الإسلامية العميق بمضامينه الإنسانية والدينية الثرة وبتلك التجربة التاريخية الرائدة التي قادها الإمام الخميني الراحل في فترة بدا للكثيرين فيها أن من الصعب إحياء دور الإسلام مرة أخرى في ظل سيطرة النزعات والاتجاهات المادية المختلفة والصراعات المستمرة فيما بينها.

فالواقع القائم حالياً يشير إلى أن حركة الصحوة الإسلامية لم تعد مجرد مفهوم نظري، وإنما خيار لابد منه لنصرة الإسلام وإقامة حكم الله في الأرض والعودة إلى الأصول والمنطلقات السليمة للرسالة السماوية التي جاء بها الرسول الأكرم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا الواقع ذاته أكد بما لا يقبل الشك أن الثورة الإسلامية اختزلت المسافة بين النظرية والتطبيق إلى حد كبير وأزالت الحواجز بين الحكام والمحكومين كما كانت عليه الحال في عهد الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وجاءت بمفهوم وفهم جديد ـ قديم للسياسة وعلاقتها بالدين حطم الأطر التقليدية للنظريات والأفكار التقليدية القائلة بفصل الدين عن السياسة أو الاحتكام إلى مقولة «ما لله لله وما لقيصر لقيصر»، ومن ثم فإن الثورة الإسلامية أسست لبداية مرحلة تاريخية جديدة غدا الدين ـ الإسلام يحتل فيها مساحات واسعة من التأثير والفاعلية والقدرة على الإصلاح والتغيير ودعم جهاد المستضعفين في التحرر والخلاص من التسلط والاستبعاد والاستبداد.