د. محمد علي آذرشب
العزة أهم مقصد من مقاصد الشريعة الإسلامية، ولا بد لكل حكم من الأحكام الإسلامية من أن ينسجم مع هذا المقصد، وإلا فلا يجوز العمل به. بعبارة أخرى، عزة الإنسان وكرامته أصل من أصول الدين، وكل فرع يتعارض مع هذه العزة ويؤدي إلى إذلال الإنسان يسقط وينتفي العمل به.
كل ما جاءت به الأديان السماوية ونادى به المصلحون الإلهيون على مر التاريخ على صعيد العقيدة والعبادة والسلوك والعلاقات إنما يستهدف تحقيق عزة الإنسان وتكريمه على هذه الأرض.
الإمام الخميني في سلوكه الشخصي ومسيرته العلمية والتربوية والجهادية، وفي كل أقواله ومواقفه، أراد أن يحيي العزة والكرامة في نفوس مخاطبيه، وان يزيل كل العوامل التي من شأنها أن تذل الإنسان وتصادر كرامته.
هذه مقدمات يحتاج كل منها إلى دراسة مستقلة، اكتفي بالإشارة إليها فقط لأدخل في صلب الموضوع.
العزة وأهل البيت (ع)
في مقدمة الوصية نرى تأكيدا على أهل البيت (ع) وعلى الالتزام بنهجهم وعلى ما نـزل بهم من ظلم في التاريخ، ولهذا التأكيد مدلوله الخاص. انه يعني الانتماء إلى مدرسة العزة في التاريخ. أهل بيت رسول الله كانوا دون شك على مر التاريخ في طليعة مقارعة الظلم والظالمين، والدفاع عن عزة المسلمين. وكانت الدماء التي قدموها على هذا الطريق مبعث حركة تاريخية مستمرة صانت الإسلام من الانحراف والمسلمين من الإذلال.
الإمام الراحل (قده) بتأكيده على هذه الدراسة إنما يريد أن يوثق الارتباط بمصدر هام للعزة، وهو المصدر التاريخي، ويريد في الوقت نفسه أن يدين كل من أذل المسلمين وسامهم سوء العذاب باسم الدين والإسلام.
الارتباط التاريخي بالثورات والثوار وبحركة الدفاع عن العزة والكرامة يشكل، دون شك، مصدرا هاما من مصادر إلهام الأجيال وتحديدا الوجهة الحركية في مسيرتها.
بعد أن يؤكد الإمام الراحل على حديث الثقلين باعتباره حديثا متواترا بين المسلمين، وباعتباره الضمان التشريعي لصيانة المسيرة من الانحراف، يذكر بعد ذلك ما حل بالمسلمين نتيجة اقصاء أهل البيت، ويرفع صوته بالفخر بسبب انتمائه هو والشعب الإيراني إلى مدرسة العزة والكرامة والتحرر والانعتاق، كأنه يريد بذلك أن يلقن مخاطبه الاعتزاز بهذا الانتماء التاريخي والرسالي، يقول: نحن والشعب العزيز الملتزم التزاما لا حد له بالقرآن والإسلام، نفخر بأننا أتباع مذهب يستهدف أن يخلص حقائق القرآن الداعية بأجمعها إلى الوحدة بين المسلمين بل البشرية، من المقابر ليقدمه باعتباره أعظم وصفة للبشرية من جميع ما يكبل يدها ورجلها وقلبها وعقلها من قيود، ويدفعها نحو الفناء والابادة والرقية والخضوع للطواغيت.
نحن نفخر بأننا أتباع مذهب مؤسسه رسول الله بأمر من الله تعالى، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب هذا العبد المتحرر من جميع القيود والمأمور بتحرير البشرية من الاستعباد وجميع الأغلال.
نحن نفخر بأن كتاب نهج البلاغة الذي هو بعد القرآن أعظم نهج للحياة المادية والمعنوية وأسمى كتاب تحرري للبشرية، وتعاليمه المعنوية والادارية، أسمى طريق للنجاة، هو من إمامنا المعصوم" (الوصية، ص10).
ويواصل الإمام عرض مفاخر هذه المدرسة في التربية والتعليم مركزا على ما قدمته من تضحيات في سبيل العدل ومقارعة الظالمين، ويربط هذه التضحيات بشكل رائع بما قدمه الشعب الإيراني في سبيل دينه، مؤكدا بذلك أن حركة هذا الشعب هي استمرار لمسيرة الجهاد الطويل الذي خاضته مدرسة أهل البيت، يقول: نحن نفخر بأن يكون الأئمة المعصومون صلوات الله وسلامه عليهم قد عانوا لسجن والتشريد على طريق تعالي الدين الإسلامي وعلى طريق تطبيق القرآن الكريم، وإقامة حكومة العدل الإلهي باعتبارها واحدا من أبعاد (هذا التطبيق)، واستشهدوا في النهاية على طريق الاطاحة بالحكومات الجائرة والطاغوتية في زمانهم، ونحن نفخر اليوم بأننا نريد تطبيق أهداف القرآن والسنة، وان فئات الشعب المختلفة تبذل بولع شديد على هذا الطريق المصيري الكبير، طريق الله، النفس والمال والأعزة" (الوصية، ص11).
ويعود الإمام في نهاية مقدمة وصيته ليطلب من كل المسلمين أن يقتدوا بهذه المدرسة بما فيها من فكر عميق وروح تضحية وفداء، يقول: "أطلب من الشعوب المسلمة بكل جد وبكل تواضع أن يقتدوا بالأئمة الأطهار وبما قدمه هداة البشرية العظام هؤلاء من فكر سياسي واجتماعي واقتصادي وعسكري، وبصورة لائقة وعن رغبة عميقة وببذل النفس وتقديم الأعزة" (الوصية، ص13).
ويعود مرة أخرى للتأكيد على احياء الذكريات التاريخية التي توثق صلة الأمة بالجهاد والحركة على طريق العزة والكرامة، ومن ذلك احياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي (ع)، وملحمته الخالدة، مذكرا: "إن تعاليم أئمة أهل البيت عليهم السلام لاحياء هذه الملحمة التاريخية الإسلامية، إنما هي صرخة بطولية شعبية بوجه الحكام الظلمة على مر التاريخ والى الأبد". (الوصية، ص13 ـ 14).
العزة والمرأة
لا يمكن أن تتحقق العزة في أمة تكون المرأة فيها حقيرة ذليلة مهانة، ومن أكبر عوامل الاذلال في مجتمعاتنا الإسلامية على مر التاريخ كان الوضع المزري الذي عاشته المرأة المسلمة. فالمرأة الأم والأخت والزوجة هي التي تبعث في نفوس الجيل روح العزة والكرامة، وهي نفسها ـ إن كانت ذليلة مهانة ـ تغرس روح الذل والهوان في نفوس الأجيال.
والظاهرة الغريبة في الثورة الإسلامية حركة المرأة على طريق العزة، وعلى طريق دفع المسيرة نحو التضحية والفداء بحيث تقدمت كما يقول الإمام أحيانا على الرجل في هذا المضمار. والمهم في الأمر أن الفئة المتحركة من النساء على طريق الثورة لم تكن تلك الفئة التي ادعت العصرنة والتحرر، بل هي تلك الفئة التي فرض عليها الحرمان من المشاركة الاجتماعية نتيجة دساس الأعداء وجهل الأصدقاء كما يقول الإمام.
يؤكد الإمام في مقدمة وصيته على هذا الدور الذي نهضت به المرأة، ويشير بوضوح إلى أن انـزواء المرأة المسلمة كان نتيجة عقلية خرافية بثها الأعداء وأشاعها الجهلة وبعض رجال الدين المتحجرين، يقول الإمام: "نحن نفخر بأن النساء بمختلف الأعمار موجودات زرافات ووحدانا في الساحات الثقافية والاقتصادية والعسكرية، ويبذلن الجهد جنبا إلى جنب مع الرجال، أو متقدمات عليهم، على طريق إعلاء الإسلام وأهداف القرآن الكريم. ومن منهن قادرات على الحرب يشاركن في تلقي التدريب العسكري الذي هو من الواجبات الهامة للدفاع عن الإسلام والبلد الإسلامي، وأنهن حررن أنفسهن بشجاعة والتزام من الحرمان الذي فرض عليهن بل على الإسلام والمسلمين دسائس الأعداء وجهل الأصدقاء بأحكام الإسلام والقرآن، وتخلصن من قيود الخرافات التي خلقها الأعداء لمصالحهم على يد الجهلة وبعض رجال الدين غير الواعين لمصالح المسلمين. ومن منهن غير قادرة على الحرب فهي منهمكة في الخدمة خلف الجبهة بشكل رائع يهز قلوب الجماهير شوقا واعجابا ويثير الغضب في قلوب الأعداء والجهلة الأسوأ من الأعداء. ونحن رأينا مرارا أن نساء عظيمات يرفعن أصواتهن كزينب عليها سلام الله (ويقلن) إنهن قدمن أبناءهن وكل عزيز لديهن على طريق الله تعالى والإسلام العزيز، ويفخرن بذلك، ويعلمن أن ما كسبنه أسمى من جنات النعيم، فما بالك بمتاع دنيوي حقير (الوصية، ص11).
العزة والشريعة
الاستقلال التشريعي لكل أمة يصون شخصية هذه الأمة ويبعدها عن الانحلال والذوبان. وكانت الشريعة الإسلامية سمة مميزة للأمة على مر التاريخ، توحد أقطارها، وتبلور شخصيتها، وتصون عزتها، وتخلق الانسجام بين عقيدتها وممارساتها العملية.
ومع ظهور أول بوادر ضعف شخصية الأمة ظهرت أيضا بوادر التشكيك في الشريعة وجدواها والدعوة إلى الاقتباس من التشريعات المستوردة، وهكذا أقصيت الشريعة الإسلامية من مجالات الحياة المختلفة بعد أن انهارت شخصية الأمة في عصر الاستعمار.
الشريعة الإسلامية في نظر الإمام ليست فقط المنهج الأفضل للحياة، بل هي أيضا الرمز لصيانة عزة المسلمين وكرامتهم وشخصيتهم، يشير الإمام إلى أن أبعاد الإسلام عن ساحة الحياة يستهدف خلق مجتمع يائس مهزوم، وعملية الأبعاد هذه تتخذ سبيلين:
الأول: باسم العولمة أو على حد تعبير الإمام بالادعاء انه "لا يمكن في العصر الراهن عزل بلد من البلدان عن الحضارة العالمية ومظاهرها" (الوصية، ص18).
والثاني: سبيل التقدس، وهو القول "بأن الإسلام والأديان الإلهية الأخرى تهتم بالمعنويات، وتهذيب النفوس، والتحذير من المناصب الدنيوية، والدعوة إلى ترك الدنيا، والاشتغال بالعبادات والأذكار والأدعية التي تقرب الإنسان من الله تعالى وتبعده عن الدنيا، وان الحكومة والسياسة والتصدي لادارة الأمور تتعارض مع ذلك المقصد والهدف المعنوي الكبير "(الوصية، ص18).
ويرد على المجموعة الأولى بأن الشريعة الإلهية تستهدف القضاء على الظلم وانتهاك حرمة الإنسان، وهي لذلك خالدة ما دامت البشرية بحاجة إلى أن تصون نفسها من ظلم الظالمين وطغيان المستكبرين: "لو أن اجراء العدالة الاجتماعية ومنع الظلم والنهب والقتل ضروري في صدر الخليقة، فهل أصبح ذلك أسلوبا باليا في قرن الذرة؟" (الوصية، ص19)، وبهذه العبارة يبين الإمام مقاصد الشريعة :العدالة، ومنع الاعتداء على الإنسان في شخصيته وماله ونفسه، وهي مقاصد ترتبط بعزة الإنسان وكرامته.
ويرد على أصحاب السبيل الثاني بنفس أسلوب بيان المقاصد فيقول: "حكومة الحق المقامة لمصلحة المستضعفين ولمنع الظلم والجور ولاحلال العدالة الاجتماعية هي… من أعظم الواجبات وإقامتها من أسمى العبادات" (الوصية، ص 20).
وبهذين الردين على المشككين في إمكان تطبيق الشريعة واقامة الدولة، يربط الإمام بين قيام الدولة الإسلامية وتحقيق عزة الإنسان المسلم وكرامته. وهذا الربط نشاهده أيضا في النصوص المأثورة التي تقول: "اللهم إنا نرغب إليك في دولة كريمة (تعز) بها الإسلام وأهله .. وترزقنا فيها (كرامة) الدنيا والآخرة".
وفي موضع آخر من الوصية يرى الإمام أن الحكومة الإسلامية بتطبيقها الشريعة الإسلامية تستطيع أن تحقق قوة الأمة وعزتها وتقف بوجه من يريد أن يذلها ويصادر مقدراتها، وترفعها إلى مدارج التكامل المادي والمعنوي.
لذلك، فإن اقامة الحكومة الإسلامية أسمى هدف سعى إليه الأنبياء والأولياء، وصيانتها يشكل قمة الواجبات الإسلامية، يقول الإمام: "الإسلام والحكومة الإسلامية ظاهرة إلهية يضمن تطبيقها سعادة الأفراد في الدنيا والآخرة على أعلى المستويات. و(الإسلام) له قدرة الوقوف بوجه كل محاولات الظلم والنهب والفساد والعدوان، وقدرة ايصال الأفراد إلى كمالهم المطلوب.
انه مدرسة تختلف عن المدرسة غير التوحيدية في تقنيته ومراقبته لجميع الشؤون الفردية والاجتماعية، المادية والمعنوية، والثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية. ولا تغرب عنه أدنى مسألة ترتبط بتربية الإنسان والمجتمع وبالتقدم المادي والمعنوي. لقد بين ما يقف في طريق تكامل المجتمع من موانع ومشكلات، وسعى إلى إزالتها.
العزة والقيادة
عز الشعب يبدأ غالبا من ممارسات قيادته، وكذا ذلها. فإذا كانت القيادة تقيم للإنسان وزنا وتؤمن بعزته وكرامته فإن التوجه العامة للامه ينحو باتجاه العزة. وان كانت القيادة تتخذ من الشعب خولا ومن ثرواته مغنما، فذلك أساس ذل المجتمع.
الإمام الراحل في سلوكه مع الجماهير وفي لغة خطابه كان يعبر عن ثقة غير متناهية بالجماهير، يرى أن كل ما تحقق من نعم فبفضل الله وبواسطة هذه الجماهير. يتحدث عن الناس وكأنهم يعشقهم واحدا واحدا، ويتواضع أمام الناس تواضعا لا حد له دون تملق أو تزلف.
يخاطب المسؤولين في وصيته يقول: "وأوصي المجلس والحكومة والمسؤولين أن يقروا هذا الشعب حق قدره، وان لا يألوا جهدا في خدمته وخاصة المستضعفين والمحرومين والمظلومين منهم، فهؤلاء ضياء أعيننا وأولياء نعمتنا جميعا، والجمهورية الإسلامية عطيتهم، وتحققها كان بفضل تضحياتهم وبقاؤها رهين خدماتهم. اعتبروا أنفسكم من الجماهير والجماهير منكم". (الوصية، ص 25).
ثم يرتفع في مقطع آخر من الوصية لينظر إلى الشعب نظرة تاريخية، فيقارنه بالجيل الإسلامي الأول الذي تشرف بعصر النبوة أو بعصر الخلافة الراشدة، فيقول بجرأة: "أنا أزعم بجرأة أن الشعب الإيراني بجماهيره المليونية في العصر الراهن أفضل من أهل الحجاز في عصر رسول الله (ص)، وأفضل من أهل) الكوفة في العراق على عهد أمير المؤمنين والحسين في الحجاز على عهد رسول الله (ص) منهم من أبوا أن يطيعوا الرسول ورفضوا ـ بذرائع مختلفة ـ التوجه إلى جبهات القتال حتى انـزل الله آيات من سورة التوبة توبخهم وتعدهم بالعذاب، ثم إنهم كذبوا على (النبي) حتى روي انه دعا عليهم على المنبر، وأهل العراق والكوفة أساؤوا التعامل مع أمير المؤمنين وعصوه، وشكاوى الإمام منهم معروفة في المأثور وكتب التاريخ.
العزة والإعلام
للإعلام دور كبير في بناء شخصية أفراد الأمة، وخاصة في عصرنا حيث التطور التقني الهائل في وسائل الإعلام والاتصال. التلقين المستمر الذي توحيه للأفراد يمكن أن يصنع الشخصية المتحلية بالعزة والكرامة، ويمكن أن يذيب هذه الشخصية ويحللها، ويخلق روح الهزيمة والذل في أعماقها.
معظم وسائل الإعلام في عالمنا الإسلامي لا تتخذ اتجاها رساليا هادفا، بل تتجه نحو تعميق روح الضعف والتبعية والهزيمة في المستمع والمشاهد والقارئ.
الإمام في وصيته يعرض لما كانت عليه وسائل الإعلام في عهد الشاه، وما جرته من ضياع الذات والشخصية، ويحذر من انـزلاق الإعلام في العهد الإسلامي إلى تلك الحالة باسم "الحرية"، يقول: "الإذاعة والتلفزيون والصحافة والسينما والمسرح من الأدوات الفعالة في افساد الشعوب وتخديرها خاصة جيل الشباب. ما أكثر المخططات الكبرى التي نفذت عن طريق هذه الأدوات خلال هذا القرن الأخير خاصة النصف الثاني منه، سواء ما استهدف منها معاداة الإسلام أو معاداة علماء الدين المخلصين أو ما اتجه للدعاية إلى المستعمرين الغربيين والشرقيين!!
من هذه الأدوات استفادوا لرواج الأسواق الاستهلاكية للبضائع وخاصة الكمالية وأدوات الزينة بكل أنواعها (دافعين الناس) إلى التقليد في الأبنية والديكور والمظاهر، والتقليد في نوع المشروبات والملابس على طريقتهم (الأوربية)، حتى عاد التفاخر في تقليد الغرب سائدا في جميع شؤون الحياة، في السلوك والكلام وشكل الملبس، خاصة بين النساء المرفهات ونصف المرفهات. و(هكذا التقليد) في آداب المعاشرة وطريقة الكلام واستعمال الألفاظ الغربية في الحديث والكتابة حتى عاد فهم كلام هؤلاء صعبا على كثير من الناس بل على نظرائهم أيضا.
الأفلام التلفزيونية كانت من منتجات الغرب أو الشرق، وكانت تبعد الشباب، ذكورا وأناثا، عن المسير الصحيح للحياة، وعن العلم والصناعة والانتاج، وتدفعهم إلى الجهل بذاتهم وبشخصيتهم، أو إلى التشاؤم وسوء الظن بكل شيء أصيل لديهم ولدى بلدهم، بما في ذلك الثقافة والآداب والمآثر القيمة التي انتقل الكثير منها بيد الخائنين إلى المكتبات والمتاحف الغربية والشرقية.
المجلات، بمقالات وصورها الفاضحة والمؤسفة، والصحف بتسابقها في كتابة مقالات معادية للأصالة الثقافية والإسلامية، كانت تفخر بأن تدفع الجماهير وخاصة فئة الشباب نحو الغرب أو الشرق، أضف إلى ذلك الدعايات الواسعة في نشر مراكز الفساد والفحشاء، ومراكز القمار والميسر، وحانات الخمور، ومعارض البضائع الكمالية ووسائل التجميل واللعب والمشروبات الكحولية، وخاصة ما يستورد منها من الغرب. ومقابل تصدير النفط والغاز والثروات الأخرى كانت تستورد الدمى واللعب والتحف الكمالية ومئات الأشياء الأخرى مما ليس لمثلي اطلاع عليها. ولو قدر ـ لا سمح الله ـ أن يمتد عمر النظام البهلوي المأجور المخرب لأوشك شبابنا الأكفاء من أبناء الإسلام والوطن وممن تعقد الأمة عليهم الآمال، بما يحيطهم من دسائس وخطط شيطانية يديرها النظام الفاسد ووسائل الإعلام والمثقفون المتغربون والمتشرقون، أن يعرضوا تماما عن الأمة والإسلام، فيتلفوا شبابهم في مراكز الفساد أو ينخرطوا في خدمة القوى الطامعة، ويبيدوا بذلك البلاد.
لقد من الله علينا وعليهم ونجانا من شر المفسدين الناهبين.
والآن وصيتي إلى مجلس الشورى الإسلامي في الحال والمستقبل ورئيس الجمهورية ورؤساء الجمهورية التالين والى مجلس مراقبة الدستور ومجلس القضاء الأعلى والحكومة في كل زمان، هي أن لا يدعوا هذه الأجهزة الإعلامية والصحافة والمجلات تنحرف عن مصالح البلاد. وعلينا أن نعلم جميعا أن الحرية بشكلها الغربي المؤدي إلى افساد الشباب بذكورهم واناثهم، هي مدانة من وجهة نظر الإسلام والعقل، وكل دعاية ومقال وخطبة وكتاب ومجلة تتعارض مع الإسلام والعفة العامة ومصالح البلاد، حرام، ويتوجب علينا جميعا وعلى كل المسلمين أن يحولوا دونها، وأن يحولوا دون الحريات الهدامة. وإذا لم يتخذ موقف حاسم تجاه ما هو حرام شرعا، وما يتعارض مع مسير الشعب والبلد الإسلامي وكرامة الجمهورية الإسلامية فكلنا مسؤولون والجماهير وشبابا حزب الله، إن واجهوا احد الأمور المذكورة، عليهم أن يراجعوا الأجهزة المعنية، فإن قصّرت فهم أنفسهم مكلفون بصد (هذا الانحراف). كان الله في عون الجميع" ( الوصية، ص45 ــ 46).
ويوصي الإمام وزارة الثقافة والارشاد الإسلامي بأن تحمل كلمة الإسلام إلى العالم وتصد الدعايات المضللة، بل يحمل وزارة الخارجية وكل أصحاب الكلمة والقلم هذه المسؤولية في الكشف عن حقائق الإسلام الناصعة، يقول: " ووصيتي إلى وزارة الارشاد في جميع العصور، وخاصة العصر الراهن، بما له من خصوصيات، هي السعي من اجل تبليغ الحق أمام الباطل وعرض الوجه الحقيق للجمهورية الإسلامية. ونحن في هذا العصر، إذ قطعنا يد القوى الكبرى عن بلادنا، نتعرض لهجوم إعلامي من جميع وسائل الإعلام المرتبطة بالقوى الكبرى. ما أكثر الأكاذيب والتهم التي نسبها وينسبها المرتبطون بالقوى الكبرى، وبالكلمة المسموعة والمقروءة، إلى الجمهورية الإسلامية الوليدة!! أكثر حكومات المنطقة الإسلامية التي يجب أن تمد لنا يد الأخوة بحكم الإسلام قد ناصبتنا وناصبت الإسلام العداء مع الأسف، وشنت هجوما علينا خدمة للطامعين الدوليين. وقدرتنا الإعلامية ضعيفة جدا وهزيلة. وتعلمون أن العالم اليوم يدور حول محور الإعلام، ومن المؤسف أن من يسمّون بالكتاب المثقفين الذين تتجه ميولهم إلى احد القطبين، بدل أن يفكروا في استقلال وحرية بلدهم وشعبهم، لا تسمح لهم الروح الاستعلائية والانتهازية والاحتكارية بأن يفكروا لحظة وأن يأخذوا بنظر الاعتبار مصالح بلدهم وشعبه، وأن يقارنوا بين الحرية والاستقلال في هذه الجمهورية وبين (ما كان عليه الوضع في) النظام الظالم السابق، و(أن يقيسوا) الحياة المشرفة القيمة المقرونة بفقدان بعض وسائل الرفاه وبطر العيش (في ظل الجمهورية الإسلامية) بما كان عليه نظام الظلم الشاهي الذي كان يعطي (تلك الوسائل) مقرونة بالتبعية والرق وبكيل المدح والثناء لجراثيم الفساد ومنابع الظلم والفحشاء، وأن يكفوا عن الصاق التهم والأكاذيب بهذه الجمهورية الإسلامية الوليدة وأن يقفوا بأقلامهم وألسنتهم مع الشعب والحكومة صفا واحدا ضد الطاغوتيين والظلمة.
ومسألة التبليغ لا تنهض بها وزارة الارشاد وحدها، بل هي مسؤولية كل العلماء والخطباء والكتاب والفنانين. يجب أن تسعى وزارة الخارجية لأن توفر نشرات تبليغ في السفارات تبيّن الوجه النير للإسلام، إذ لو سطع هذا الوجه بجماله الباهر الذي رسمه القرآن والسنة في كل الابعاد من تحت النقاب الذي ضرب عليه من قبل محاولات الأعداء وبلادة الأصدقاء، فإن الإسلام سيشع نوره على العالمين، وسترتفع رايته العزيزة خفاقة في كل مكان. أية مصيبة أعظم وأمرّ من أن يملك المسلمون متاعا لا نظير له من بدء العالم حتى منتهاه، ثم هم لا يستطيعون أن يعرضوا هذه الجوهرة الثمينة التي ينشدها كل إنسان بفطرته السليمة، بل إنهم هم أيضا عنها غافلون وبها جاهلون وعنها أحيانا معرضون" (الوصية، ص39ـ40).
العزة والقضاء
الجهاز القضائي سند كل ذي حق ليأخذ حقه، وإذا أحس الإنسان بأن حقوقه محفوظة وأن روحه وماله وعرضه في مأمن من تطاول يد المعتدي، شعر بالعزة والكرامة والاستقرار، فالجهاز القضائي يصون عزة الناس وكرامتهم، والكارثة أن يتولى منصب القضاء من يتلاعب بمقدرات الناس، عندئذ يشعر الناس بأنه يجب أن ينحنوا أمام الأقوياء، ويستسلموا لابتزازهم، ويتملقوا لهم، كي يأمنوا شرهم، إذ لا مدافع لهم في المجتمع. وهكذا يسود الذل.
الإمام الراحل في وصيته يركز على التزام القاضي... وتجربته القضائي.. وعلمه في"الأمور الشرعية والإسلامية والسياسية". أي انه يجب أن يكون ذا علم بالشريعة وذا بصيرة في المشروع الإسلامي برمته كي يفهم مقاصد الشريعة، ولا يعتمد في قضائه على نظرة تجزيئية للدين، كما ينبغي أن يكون على علم السياسة لأنه سيواجه قضايا ترتبط بالأمن الداخلي وبالتدخل الخارجي وبالمسائل الاجتماعية العامة، لذلك فالوعي السياسي يشكل محورا من محاور علم القاضي، يقول الإمام: "من مهمات الأمور، مسألة القضاء التي ترتبط بأرواح الناس وأموالهم وأعراضهم. ووصيتي إلى القائد ومجلس القيادة أن يبذلوا الجهد في ما عليهم من مسؤولية تتمثل بتعيين أعلى مسؤول قضائي بأن يكون من الأشخاص الملتزمين وأصحاب التجربة والنظر في الأمور الشرعية والإسلامية والسياسية. وأطلب من أعضاء مجلس القضاء الأعلى أن يجدّوا في اصلاح أمر القضاء الذي تدنى في عهد النظام البائد إلى وضع مؤسف مؤلم، وأن يبعدوا عن كرسي القضاء الهام من يتلاعب بأرواح الناس وأموالهم ومن لا يعير أهمية للعدالة الإسلامية، وأن يحدثوا التغييرات في (وزارة) العدل بهمة وجد وتدريج، وأن يتم بجد إن شاء الله تدريب وتعليم قضاة تتوفر فيهم الشروط اللازمة في الحوزات العلمية، وخاصة حوزة قم العلمية المباركة، وتقديمهم ليتعينوا بدلا من القضاء الذين لا تتوفر فيهم الشروط المقررة الإسلامية. وسوف يسود القضاء الإسلام إن شاء الله عاجلا في جميع أرجاء البلاد.
وأوصي القضاة المحترمين في العصر الراهن وفي العصور القادمة بأنه مع الأخذ بنظر الاعتبار ما ورد من أحاديث عن المعصومين صلوات الله عليهم بشأن القضاء وما يتضمنه من خطر عظيم، وما ورد بشأن القضاء بغير الحق، عليهم أن يتصدوا لهذا الأمر الخطير وأن لا يدعوا المنصب يقع بيد غير أهله، وأن لا يرفض هذا الأمر من هو أهل له، وأن لا يفسحوا المجال لمن هو غير أهل له، وكما أن خطر هذا المنصب كبير، فإن الأجر والفضل والثواب فيه كبير أيضا وتعلمون أنتصدي القضاء لأهله واجب كفائي." (الوصية، ص35 ـ 36)
تعليقات الزوار