لا يسعنا في هذه العجالة الإحاطة بجذعها القويم وأغصانها المتهدّلة، فحاكميّة العلم والفقاهة أو ما يصطلح عليه بولاية الفقيه أو حاكميّة الشعب الدينيّة هي نموذج يتجاوز الاقتراب إليه من صيغة لنظام سياسيّ إلى الحديث عن المنتظم برمّته. نعم، منتظم يطال البنى المعرفيّة والقيم الحاكمة، في المجتمع المؤمن، والمنتَجة بتفاعلاته.

 

*تجربةٌ نموذجُها الجمهوريّة

يُصحر هذا النموذج بقدرته على تقديم خطاب للإنسانية عامّة، ويُثبّت بتوالي الأيام أهليّة استثنائية للجذْب كما للدفع، ولعّل في هذا سرَّ تميّزه، وقابليّة الإفادة منه وتعميمه...

وتدّعي هذه التجربة أنّ نموذجها الحسّيّ، القائم اليوم، بقاعدته- الجمهوريّة الإسلاميّة - والمنظومات المنجَذبة إليها لم يلقَ حقّه من المطارحة العلميّة والمدارسة الموضوعيّة لأسباب عديدة، ليس أقلّها حدّة التحيّزات الحاكمة... مضافاً إليها موقعها السياسيّ بمواجهة جبهة الاستكبار وأميركا، والذي بمقدار ما يعطيها قدرة استقطاب وجذب، بمقدار ما يعرّضها لتجنّيات وأذى للحؤول دونما تبيينها لنفسها وتمكينها من التعريف بهويّتها، لا بل يذهب أبعد إلى شيطنَتها والتخويف منها.

 

*غيضٌ من فيوضاتها

اليوم، ومن موقع المنتمي لهذه التجربة والمستفيء بفيئها... والمتلمّس والمعايش لبعض ما أحرزته في ساحتها الإسلاميّة المباشرة أو الساحة الإيمانيّة والإنسانيّة الأوسع... أمكنني أن أطلّ على جوانب من شذراتها وفيوضاتها.

 

1- العلم: القيمة الحاكمة

وجهة المجتمع غدت "العلم" مع هذه التجربة.. فبهذه النظريّة ونموذجها غدا تحكيم العلم في المجتمع والانصياع للعلم واتّباعه المسؤوليّةَ والأمانةَ على الجميع؛ إذ إنّ العلم لا يُلزمك باتّباعه، بل يناديك لاتّباعه، تلبيةً لنداء الكمال فيك ولنداء العقل والمسؤوليّة. نعم، نحن مسؤولون أن نُقدّم العلم على ما سواه ونضعه ضالّتنا ونطيعه. العلم يكشف عن نفسه لمشاهديه، لكنّ مسؤوليّتهم هم، إطاعته. لذلك، فالعلم هو أمّ القيم الحاكمة في هذا المجتمع وسّر الحياة فيه، والطاعة له هي السمة.

 

2- القيادة هي الدليل

إنّ "القيادة" نعمة لا يعرفها إلّا من يعيش في ظلّها، إنْ في بُعدها وانعكاسها الفرديّ حيث يتقدّم النموذج القياديّ كدليل سير في فلوات السلوكيّات الفرديّة المتشظّية لحظة أقصى مراحل العولَمة... أو الجماعيّ حيث لا نهضة ولا استنهاض دونما نموذج قيادة ينظّم الأُمّة، ويُحاكي تطلّعاتها، ويحفّز أجيالها ويُدخلهم بثقة لا نظير لها قلب الميدان ليصنعوا غدَها.

 

3- الشباب: رعاية خاصّة

جميع أفراد المجتمع ينتفعون لكن لا كالشباب، فهم محلّ الرعاية الخاصّة والمباشرة، يباشرهم القائد بالتوجيه، ويستمع إليهم، ويتفاعل معهم، ويقضي معهم أوقات مداد، يفكّر معهم، ينتقدون، يخالفون، يوافقون، ويشجّعهم على ذلك... ويتشاركون المسؤوليّات... وحين القرار: يعرفون أنّهم كالبنيان المرصوص ثباتاً، وكالخاتم في اليد طاعةً وانصياعاً، فإنّهم الحاضر الذي بنى التجربة وأطلقها، وموج الثورة المتدفّق الذي سيكمل صناعة التاريخ... ويُحقّق الأهداف.

 

4- طاعة القائد الربّانيّ

أمّا الطاعة فترانا نتحدّث عنها من باب الحبّ المتدفّق في شرايين المجتمع، فأن تجد قائداً يتقدّم الناس ليكون أمامهم كجسر عبور وترقٍّ إلى الله، والأعلى لأمرٌ فتّح أفهامنا على بعض من عبق ولاية الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم والكمّل عليهم السلام... كما في قوله: ﴿كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ (آل عمران: 79).

 

5- أُمَّة في عمق القيادة

ونكاد ندّعي أنّه لا توجد في هذا العالم تجربة كولاية الفقيه يتلاقى فيها عمق الأُمّة بعمق القيادة... فبين نظرة القيادة وما يحمله أتباعها مسافة تقترب مع كلّ حين، فأهدافها أهدافهم وأحلامهم أحلامها، وقلوبهم عامرة متأهّبة على مدى رؤاها وتطلّعاتها.

 

6- النظرة صارت جديدة

النظرة إلى الدين... وإلى حاكميّته... فقبلها كنّا ننظر إلى التشريع وكأنّه إسقاطات قهريّة من فوق، لنتحوّل مع هذا النموذج، فنراه لأجلنا ولأجل الإنسانيّة كلّها، فغدونا نستشعر الارتباط والعلاقة بإسلامنا وأبعاد المسؤوليّة الإنسانيّة والرساليّة بطريقة مختلفة.

 

7- تفاعل وتكامل

أمّا الحاكميّة الدينيّة، وربّما لتجارب تاريخيّة، إسلاميّة ومسيحيّة أساءت لهذا المفهوم وأبعدَته عن ساحتنا حين قدّمته كثيوقراطيّات مفروضة، من فوق، على الناس باسم الله... وإذ بنا معها نكتشف أنها تجسر هذه الهوّة وتنتقل بنا لموقع المشاركة في صناعة الحياة والنهضة بالأُمّة والمستقبل في إطار تفاعل وتكامل قلَّ نظيره بيننا وبين الأطروحة الدينيّة ودورنا المحوريّ في حركتها وإنفاذها.

 

8- نهوضنا بالوطن

النظرة إلى الآخر والأوطان... من موقع تجربتنا اللبنانيّة أنّا ما قبل ولاية الفقيه كنّا أقلّ تفاعلاً واستشعاراً بقوة الآصرة بلبنان ممّا بعد ولاية الفقيه، على الرغم من أنّنا أصبحنا أكثر قوّة وحضوراً. نعم وجدنا ومن موقع الأصالة والتأصيل الفكريّ والتجربة الواعية واستشارة الوليّ، زيادة في الفهم، وإضافة في نظرتنا إلى الآخر والتفاعل معه، والنهوض بأوطاننا والتصدّي للمسؤوليّات لأجله، والتزام العقود والعهود وفي مقدّمها عقود الشراكة بين المكوّنات الوطنيّة؛ فالولاية تضطلع بما يثبّت أركان المجتمعات ونهضة الإنسان وكرامته فيها، وتعزيز حضوره في خطّ الشهادة، وتعمير القيم الاجتماعيّة، لا ضرب أو نسف ما هو إيجابيّ فيها، وعلى رأسها وحدة المجتمعات واستقرارها، إنّها لا تعمّر بالهدم ولا تُصلح بالإفساد، بل تُحفظ وتُراكم على كلّ خير وإيجابيّة.

 

9- الكرامة والتوفيق

كرامة الإنسان هي جلّ السعي وأمّ القضايا. والكرامة لا تتأتّى بالاستعباد، والحريّة لا تمّر بالفوضى، والمقاومة يجب أن يزداد أوارها بوجه الظالم بشجاعة وحكمة، وكلّ من عايش هذا النموذج عرف إنجازاته والموفقيّة الخاصّة التي أحاطته بما تستحقّ التأمّل العميق... يقول حكماؤنا إنّه التوفيق المتأتّي من ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا..﴾ (العنكبوت: 69)، ﴿وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾ (النور: 40) "وما كان لله ينمو"، "ومن يتّقِ الله يجعل له فرقاناً"، "ويجعل له نوراً يمشي به" .

 

10- حملنا القضيّة والمسؤوليّة التاريخيّة

أعطتنا الحاكميّة الدينيّة المشتركة في ولاية الفقيه حافزاً لنشارك العالم همومه، والمظلومين تطلّعاتهم، ورسّخت فينا قول ذاك الإمام العظيم: "كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً"(1)، فغدونا معها، أقصد في المشي، وأبعد في استشعار الهّم... خرجنا من الهامش والرماديّة، فلسنا جماعة تعدّ أيام حياتها ولم نُخلق للّعب، بل جماعة نحمل عنوان قضيّة ومسؤوليّة تاريخيّة نريد أن نتشارك وكلّ المستضعفين تحقيقها؛ فلا احتكار لله ولا للحقيقة مع هذه الولاية. نعم، أخرجتنا تجربة الولاية من عصبيّاتنا، ووضعتنا في قلب العمل لأجل الإنسانيّة وكرامة الإنسان وحريّته وفق رؤية كاملة.

 

11- الوحدة العمليّة

أمّا الوحدة الإسلاميّة، فلم تكن يوماً إلّا هدفاً ومبدأ على رأس الأولويّات... فحتّى الفعل المقاوم بما يحوزه من قداسة، فإنّه لا يقع قبالة الوحدة وبعرضها، بل يفترض أن يكون عين الوحدة وهي عينه... ويكفينا، في هذا المقام، الإشارة للمدى المنصوب في رؤية الولاية للوحدة عمليّاً - إذ لا يتّسع الحديث عن الجانب النظريّ - أن تطالب بإعلان "التكفيريين من أهل السنّة ليسوا من الإسلام كما أصوات الفتنة من عملاء أميركا وبريطانيا الشيعة"، وهذه بحسب خطّ الولاية أرضيّة متينة وعمليّة للوحدة يمكن البناء عليها والانطلاق منها.

 

12- القوة المتبصّرة الراشدة

أعاد هذا الانتماء تعريفنا بمفهوم القوّة وإدارة الصراع، فالقوة لازمها التبصّر وإلّا استحالت طغياناً ووهماً، ومادتها الأولى ملازَمة الحقّ والعدالة وعدم التجنّي، ونجحت إلى حدّ بعيد بالإجابة عن فلسفة القوّة، لماذا؟ وبماذا؟ وبوجه من؟ فالدمعة قوّة، والدعاء أقوى سلاح، والعزّة وتقدير الذات شرط بناء القوّة. وقبل كلّ هذا وبعده، حُسْنُ تشخيص الظالم في كلّ زمان، فكان من أهمّ ما حدّده هذا النموذج تمكينه الجماعة المستضعَفة من الإمساك بمفاتح الوعي والنهوض؛ بدءاً بتقدير موقعنا في الصراع، وليس انتهاءً بالإدراك الواعي لأدوات العدوّ وخططه. آمنت هذه التجربة بأنّ القوة دونما رشد لن تتحوّل إلى قدرة. والتبصّر والرشد ليسا أمرين مستحيلين، بل توفّق إليهما أيّ جماعة ثبتت بصدق على خطّ الإيمان ووعت رسالة السماء وتعقّلتها فخرجت من العصبيّات بكثراتها إلى الفضاء الإنسانيّ الرحب.

1- نهج البلاغة، من وصيّته عليه السلام للحسن والحسين عليهما السلام لمّا ضربه ابن ملجم.

د. بلال اللّقيس

المصدر: مجلة بقية الله