في الفكر الإسلامي الحديث مجموعة مصطلحات تنامى استعمالها بوتيرة متصاعدة في الأدبيات الإسلامية، من قبيل: الإحياء، الإصلاح، التجديد، النهضة، اليقظة، التنوير، التقدم...الخ. واستأثر مصطلحا الإصلاح والنهضة باستعمال أوسع من سواهما، لاسيما في الكتابات المبكرة لروّاد الإصلاح.

 وأمست "النهضة" عنواناً لمقطع مميز من تاريخنا القريب, واحتدم سجال واسع حول: بواعث النهضة، وأزمنتها، واتجاهاتها الفكرية والسياسية، والتصنيف الأيدلوجي لأعلامها... وغير ذلك.

 وعزا معظم الباحثين بواعث النهضة إلى انفتاح العالم الإسلامي على أوروبا في القرن التاسع عشر، وتغلغل مفاهيم النهضة الأوروبية ومقولاتها في أرجاء عالمنا. لكن بعض الباحثين يذهب إلى تفسير مختلف، يقلل فيه من أثر العامل الخارجي. ويحيل النهضة إلى عوامل محلية داخلية، ساهم في اكتشاف التقدم الغربي في تحفيزها وإطلاقها من مكامنها.

 ولا نريد أن نخوض في هذا النقاش، لنتعرف على الحجم الحقيقي للعناصر المحلية والخارجية في النهضة. وإنما نحاول الحديث بإيجاز عن معالم المنهج الإحيائي في خطاب الإمام الخميني(قدس) ومن ثم يتجلى أثر علماء الدين والحوزة العلمية في النهضة.

 

ـ إعادة تأسيس دور الدين في الاجتماع الإسلامي

 يستوعب خطاب الإمام الخميني مفردات عديدة تتمحور حول إعادة تأسيس دور الدين في نهوض الأمة وتحررها من الجهل والتبعية وسائر عناصر التخلف. وتشكل هذه المفردات صورة ناصعة لمفهوم إحياء الدين واستدعائه لحضور العصر ومواكبته لتحولات الحياة المتجددة ولا تريد هذه اللمحة الخاطفة استقراء تلك المفردات، وتحديد مداليلها، والتعرف على موقعها، وبيان وظيفتها في عملية الإحياء، وإنما تبغي الإشارة إلى شيء منها.

 يتسم خطاب الإمام الخميني(قدس) بالتشديد على التمييز بين أسلوبين في الإحياء. صاغ الأول جماعة من الباحثين الغربيين والمسلمين، بعيداً عن حواضر العلوم الإسلامية، على خلفية مرجعيات فكرية لا صلة لها بالقرآن والسنة والتراث الإسلامي، فيما تبلور الأسلوب الثاني في الحوزات العلمية، ونهض بصياغة أسسه وتشخيص معالمه، وتحديد إطاره، علماء الدين الذين توفروا على معرفة شاملة معمقة بالتراث وما يختزنه من خبرات ومعارف متنوعة، مضافاً إلى تميزهم بوعي دقيق للعصر ورهاناته وتحدياته. وهذا ما أتاح لهم إنجاز فهم معاصر للعقدية والشريعة، يمنح الدين القدرة على الامتداد إلى كافة مناشط الفرد والسلوك البشري، ويعمم الإسلام في مرافق المجتمع بمختلف أشكالها، سعياً لأسلمة المعارف والأفكار التخديرية والمؤسسات الحياتية.

 هذا هو الإحياء المشروع الذي كان يصر عليه خطاب الإمام الخميني(قدس)، لأنه ينبثق من تراث الأمة، وعقيدتها، ونسقها الحضاري المتميز، وتاريخها، وبيئتها ويكيّف عناصر وأدوات محلية ذاتية لحركته، تستلهم الماضي، ولا تعدم الإفادة من تقنيات الحاضر ومعطياته في تطويرها.

 أما الإحياء الذي ينادي به غير الخبراء بتراث الأمة وعقيدتها، ويستوحي رؤاه من مرجعية غربية، فإنه يمثل محاولة لطمس الدين وتشويه وظيفته، وإن كان يتقنع برداء التجديد.

 من هنا تكرر في خطاب الإمام الخميني(قدس) التركيز على دور الحوزة العلمية وعلماء الدين، باعتبارهم المرجعية الأصيلة لفهم الدين والحفاظ عليه، ومن دونهم تغيب الصورة الناصعة للدين، ويغدو"الإسلام بلا علماء كالطب بلا أطباء" حسب تعبير الإمام الخميني(قدس)، لأن "الإصلاح غير ممكن بدون العلماء".

 

ـ الزمان والمكان

 من أخطر الإشكالات التي واجهها الدين منذ عدة قرون في أوروبا أي من بداية النهضة، هي عدم قدرة مسيحية الكنيسة على مواكبة مستجدات الزمان. وأفضى السجال العنيف الذي ساد الحياة الفكرية إبان عصر النهضة بين المفكرين ورجال الكنيسة إلى إقصاء الدين عن الحياة، وبالتالي حبسه في أروقة الأديرة والكنائس، وتحرير العقل والسلوك من قيوده.

 ومنذ أكثر من مائة عام انتقلت عدوى هذا التفكير إلى العالم الإسلامي، فتداول رهط من المثقفين مسألة قدرة الدين على مواكبة الزمان، ووفائه بمتطلبات الحياة المتجددة. وأثاروا ذات الإشكالات المعروفة في أوروبا إبان عصر النهضة، وذهبوا مذاهب شتى في تصوير عجز الإسلام، وعدم قدرة الفكر الديني على استلهام روح العصر، واستدعاء مضمون الدين في العصر الحديث.

 وبفعل المناخ الفكري الذي ساد الحياة الثقافية لدى النخب في العالم الإسلامي، والجدل المحتدم حول مسألة تجديد الدين، ظهرت معالجات غريبة لهذه المسألة، من أبرزها مشروع السير سيد أحمد خان في الهند، الذي مهد لانبثاق تيارات هجينة فيما بعد.

 وبموازاة ذلك سعى موقظ الشرق السيد جمال الدين الحسيني المعروف بالأفغاني لوضع تصورات أولية لمعالجة هذه المسألة، مستلهما عناصر الدين الأصيلة، ومن بعده سعى تلميذه الشيخ محمد عبده أن يمتد بمحاولة أستاذه إلى آفاق أوسع لكن المنجز الأهم في هذا المضمار تجسد في أطروحة ناضجة دبجتها براعة المفكر المسلم محمد إقبال تحت عنوان: "تجديد الفكر الديني في الإسلام". وباتت هذه الأطروحة مصدراً لإلهام الفكر الإسلامي الحديث في غير واحدة من مقولات تجديد الدين، بما تشتمل عليه من رؤى ثاقبة في قضايا: ختم النبوة، وكون الاجتهاد هو الطاقة المحركة للإسلام، والثابت والمتغير...الخ.

 وبعد ذلك بما يزيد على نصف قرن توغل بحث التجديد في مجال آخر على يد الإمام الخميني(قدس)، عندما تحدث الإمام بصراحة عن دور الزمان والمكان في الاجتهاد، موضحاً أثرهما بقوله: "الزمان والمكان عنصران أساسيان مصيريان في الاجتهاد، فظاهر القضية التي لها حكم معين في السابق، قد ينطبق على قضية أخرى، ولكن هذه القضية الثانية ذات نفس الظاهر، قد تستلزم حكماً جديداً بوقوعها في ظل المعادلات الحاكمة على سياسات نظام ما، واقتصاده ونظمه الاجتماعية، أي أن المعرفة الدقيقة للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، تجعل نفس موضوع القضية الأولى الذي ينطبق في الظاهر على موضوع القضية الثانية، يستلزم حتماً حكماً جديداً". وفي مناسبة أخرى شدد على قضية الزمان والمكان حين وجه نصيحة إلى مجلس صيانة الدستور قائلاً: "نصيحة أبوية أذكّر بها الأعزة الأعضاء في مجلس حماية الدستور، هي أن يضعوا هم أنفسهم مصلحة النظام الإسلامي، فإن واحدة من القضايا المهمة للغاية التي تقتضيها طبيعة العالم المعاصر المتخم بالاضطراب، هي ملاحظة دور الخصائص الزمانية والمكانية في الاجتهاد، ونوعية القرارات المتخذة".

 كما أعاد الإمام تأسيس فهم معاصر للاجتهاد، وحدد مواصفات أخرى للمجتهد لا تقتصر على ما هو متعارف من مواصفات إنما تتخطاها إلى الوعي بالعصر، واتخذ ذلك شرطاً أساسياً في الاجتهاد، بل ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك عندما نفى الاجتهاد في قضايا المجتمع والدولة عمن اشتهر بكونه الأعلم في العلوم الإسلامية المتعارفة، إذ يقول بصراحة: "فحتى الفرد الذي يكون أعلم في العلوم المعهودة في الحوزات العلمية، ولا يستطيع تشخيص مصلحة المجتمع أو لا يستطيع تشخيص مصلحة الأفراد الصالحين والمفيدين من الأفراد غير الصالحين، وبشكل أعم يكون فاقداً للرؤية الصحيحة واتخاذ القرار في القضايا الاجتماعية والسياسية، فمثل هذا الفرد لا يعتبر مجتهداً في قضايا المجتمع والدولة، ولا يستطيع الإمساك بزمام المجتمع". واعتبر الإمام الخميني الإحاطة بالاتجاهات الفكرية والسياسية الحاضرة إحدى الخصائص اللازمة للمجتهد المعاصر، لأن "من خصائص المجتهد الجامع هي المعرفة بأساليب التعامل مع مكائد الثقافة المسيطرة على العالم وتضليلاتها، وامتلاك الوعي والبصيرة بالشؤون الاقتصادية، والإحاطة بكيفية التعامل مع النظام الاقتصادي الذي سيطر على العالم، ومعرفة أنماط السياسية والسياسة... فالمجتهد ينبغي أن يتحلى بالفطنة والذكاء والفراسة اللازمة لقيادة المجتمع الإسلامي الكبير، بل وحتى المجتمعات غير الإسلامية".

 

ـ الفقه والحياة

 كان الإمام الخميني(قدس) رائداً في إقحام الفقه إلى هموم المواطن السياسية والاجتماعية والارتقاء بوظيفته إلى دوائر لم يحرثها من قبل، والاستناد إليه كسلاح في معارك الأمة المصيرية وفي مقاومتها للاستعمار. فلعلها المرة الأولى التي تنطلق من أعلى منبر للدرس الشرعي في الحوزة العلمية ـ وهو منبر البحث الخارج ـ هتافات مقاومة الاستعمار، وتشريح ماهيته وتشخيص مساربه، والكشف عن نزعاته العدوانية وسلوكه الوحشي حيال المجتمعات المستضعفة.

 ومن على هذا المنبر قدّم الإمام الخميني(قدس) الصياغة النظرية لأطروحته في الحكومة الإسلامية، ببيان ميسر واضح يقترب من وعي الجماهير، ولا ينوء بحمولة المصطلحات العلمية التي لا يفهمها سوى الخبراء بالدراسات الشرعية: وعبرت هذه الأطروحة عن بديل علمي وعملي لبعض الأفكار التخديرية، وكل ما يدعو للاستسلام، ويجرد أية محاولة لإقامة حكومة إسلامية في عصر الغيبة من المشروعية.

 فانخرط الفقه في آلام الأمة وآمالها، وأضحى وقوداً ثورياً في مقارعتها للاستعمار، ومناهضتها للتحجر، واستلهم منه الثوار روح التضحية والفداء، بعد أن استحالت أحكامه السياسية إلى شعارات ومحددات للمسيرة في معارك الأمة المصيرية.وبذلك تحرر الفقه من مداراته التقليدية التي ظل يرزح فيها عدة قرون، بعيداً عن معاناة الأمة وصراعها مع خصومها التاريخيين.

 كذلك استطاع الإمام الخميني(قدس) عبر استخدامه لغة الجماهير وحكاياتها أن يُحرر الخطاب الإسلامي من أسر النخبة، وأن يتصل مباشرة بوجدان الناس، وينفذ إلى أحاسيسهم ومشاعرهم، مما أتاح له أن يحوّل الإسلام إلى حالة جماهيرية، تعبر عن أمل عام مشترك للمواطنين بأسرهم، وتتفاعل مع أهدافه وتعاليمه الطبقات الشعبية، ويغدو أملاً تتطلع لتطبيقه الأمة.

 ولم يقتصر الإمام الخميني(قدس) على تدشين حقول جديدة تتحرك التجربة الفقهية من خلالها في مسالك متروكة من قبل، بل عمل على دمج الفقه بالأخلاق والقيم الإسلامية، لأنه حدث انفصال تاريخي بين مسار الفقه من جهة ومسار الأخلاق من جهة أخرى، فجرى البحث الفقهي في قناة ابتعد فيها بالتدريج عن البواعث الأخلاقية والمعايير القيمة للأحكام الشرعية، وتحولت عملية الاستنباط الفقهي إلى عملية قياسية منطقية، تتحرك في قوالب المنطق الأرسطي، وأشكال قياساته المعروفة، دون أن تتوكأ بالمعايير والمثل الأخلاقية، فاستنبطت بعض الأحكام المفرغة من أهداف الشريعة ومقاصدها الكلية، وأمست أشبه بالقوانين الوضعية المجردة من المضمون الأخلاقي منها بالأحكام الشرعية الإلهية المؤطرة بالقسط والعدل والقيم الإسلامية. بينما عمل الإمام الخميني على ردم الهوة بين الفقه والأخلاق ووصل ما افترق منهما، واستنباط الأحكام في إطار المعايير والقيم الأخلاقية.

 

ـ القرآن والحياة

 القرآن الكريم هو المنهل الذي استقى منه خطاب الإمام الخميني(قدس) مفهوماته. فقد استند الإمام للقرآن كمرجعية أساسية، واستوحى منه مصطلحاته السياسية التي جعلها بديلاً للمصطلحات السائدة في الفكر السياسي الحديث، وأشبع لغته وأحاديثه مع الجماهير بمفردات القرآن وآياته وعبره وأمثاله. مما رسخ حضور الثقافة القرآنية في وعي الجماهير، وأعاد القرآن إلى وجدان الأمة، لتستند إليه كسلاح في معركتها المصيرية مع الاستكبار والصهيونية، بعد أن لبث كتاب الله ردحاً من الزمن يتلى في المآتم والمقابر فقط، وأقصي عن قيمومته على الحياة.

 لقد شكل القرآن الكريم المادة الأم لبيانات الإمام الخميني(قدس)، ذلك أنه طالما استهل خطاباته بالآيات الكريمة، وأضاء عباراته بمصطلحات القرآن ومفاهيمه. ويمكن اعتبار آثاره بمثابة تفسير بصياغة جديدة للقرآن. صحيح أن الإمام لم يؤلف تفسيراً مستقلاً للقرآن، غير أن التفسير طبع أقواله، وانبث في أعماله كلها، ففي مؤلفاته العرفانية مثلما في كتاباته الفقهية والأخلاقية، نلتقي بتأملات باهرة في أن النص القرآني، واستلهام الرؤية الصائبة منه. أما أحاديثه السياسية الغزيرة فإنها بمجموعها تعكس تجربة رائدة في التفسير، يمكن الركون إليها لاستكشاف مرتكزات منهجية للتفسير السياسي والاجتماعي، واستبصار الموقف السياسي في هدى القرآن.

 ومما اتسم به التفسير الخميني هو تجاوز الأسلوب التقليدي في التفسير الذي يستعين باللغة وأدواتها البيانية والبلاغية فحسب، فيما يهمل استجلاء مقاصد الكتاب الكريم وأهدافه، لأن مفهوم التفسير لدى الإمام، هو بيان "مقاصد الكتاب المفسر، واكتشاف المعاني والدلالات التي يريدها صاحب الكتاب". أما التفسير الذي يبتعد عن غايات القرآن ومقاصده وأهدافه، فيصفه بأنه تفسير ميت، بل لا يصنفه في التفاسير ولا يطلق عليه اسم تفسير.

 ويؤكد الإمام الخميني(قدس) أن السبيل الأقوم لبلوغ المنحى المقاصدي في التفسير هو القرآن نفسه، إذ يقول: "لابد لنا أن نأخذ الأهداف والمقاصد من الكتاب ذاته"، مبرراً ذلك بأن "مصنف الكتاب أعرف بمقاصده وغاياته". أما التوقف عند الأبعاد اللغوية والبيانية والبديعية للقرآن فلا تكشف عن مقاصده وأهدافه، بل إن الإمام يعتبر هذا اللون من التعاطي مع الكتاب الكريم ضرباً من هجر القرآن، كما أفصح عن ذلك متسائلاً: "أترى أننا إذا صرفنا جل أعمارنا في تجويده والاهتمام بجوانبه اللغوية والبيانية والبديعية، قد أخرجنا هذا الكتاب الشريف عن حالة المهجورية؟! هل أننا إذا تعلمنا وجوه إعجاز القرآن وفنون محسناته، قد أنقذنا أنفسنا من شكوى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!". ويختتم هذه الإستفهامات الإنكارية بإجابة قاطعة: "هيهات... هيهات... فإنه ليس شيء من هذه الأمور يمثل مراد ومقصد القرآن الكريم ومنزله العظيم".

 وتشير آيات القرآن الكريم إلى مجموعة أهداف، تلخص بإقامة النظام العادل في المجتمع وتنفيذ الأحكام الإلهية، وجعل القرآن مهيمناً على الفكر والسلوك والعلاقات الاجتماعية، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ويستنتج الإمام الخميني معنى للظلمات يتسع ليشمل جميع مظاهر الانحطاط والتخلف الاجتماعي، والتي من أشدها "التبعية للغرب، والانبهار به"، ويحلل الإمام عقدة الحقارة إزاء الغرب، والانبهار به وتقليده في كل شيء، بأنها تيه في بحر لجي من الظلمات، فإن "جميع التشبهات بالغرب ظلمات، وهؤلاء المنبهرون بالغرب تاهوا في الظلمات، وأن أولياءهم الطاغوت".

 ويشدد الإمام في مناسبة أخرى على أن سبيل الإنعتاق من التبعية يكمن في الاعتصام بالقرآن، وحضوره في جميع شؤون حياتنا، لأن "القرآن هو الذي يهدينا إلى الأهداف السامية التي تطلبها ذواتنا الفطرية ونحن بجهل ذلك" وأن "القرآن هو ملاذنا جميعاً"، فهو كتاب "صناعة الإنسان"، وهو كتاب دعوة وإصلاح مجتمع... وكتاب صراع وحرب مع الطواغيت والقوى المستكبرة... وكتاب إقامة الحكم الإلهي"، فلماذا نقصيه ونهجره؟ فإنه سيجثم التخلف على أكتافنا، مادام "هذا الكتاب المصيري لم يعد له دور سوى في المقابر والمآتم، على يد المتآمرين الأعداء والجهلة والأصدقاء" حسب تعبير الإمام الخميني(قدس).

 

ـ مناهضة الاستبداد

 تشكّل السياسة العامل الأهم الذي تحكم في نشأة وتطور الحياة الفكرية في التاريخ الإسلامي، ولا يحتاج الباحث إلى جهد كبير ليكتشف أن علم الكلام مثلاً ولد وتغذى وترعرع في فضاء الجدل السياسي الذي ظهر باكراً في المجتمع الإسلامي، وهكذا الحال في غير واحد من العلوم الإسلامية، التي تلونت في نشأتها وتطورها بالمواقف السياسية للجماعات والفرق، واكتست برؤاها العقائدية والمذهبية، وتغلغلت في بنية هذه العلوم عناصر من أزمان السياسة واشكالياتها، وظلّت تغذّيها وتحدّد وجهتها..

 ويتجلى ذلك في الفكر السياسي الإسلامي، فإن هذا الفكر تبلور في إطار التجربة السياسية للحكومات السلطانية المستبدة، واصطبغ بنمط العلاقات بين السلطان والرعية، وما سادها من ظواهر، تحوّلت بمرور الأيام إلى أمراض مزمنة أعاقت نمو الفكر السياسي وتكامله.

 ما نريد الإشارة إليه من خلال الملاحظة المارة الذكر، هو أن تراثنا السياسي يقرأ بنحوين من القراءة، كلتاهما متحيزة وغير موضوعية، لأنه تجري في الأولى قراءته من منظور الوعي السياسي الغربي، ويعاد تأويله عبر إسقاط أحكام جاهزة مستعارة من المفاهيم السياسية الأوروبية عليه، بينما يحاط في القراءة الثانية بالكثير من المبالغات والأحكام المثالية، حين يعمد البعض إلى تجاهل أزماته ومشكلات تكوينه، وصيرورته الأولى، وما نجم عنها من تشوه وانحراف، فيقرأه قراءة تنزيهية، تبجيلية، أو إعتذارية، تنزّه السلطان من الطغيان، وتتكتم على استبداده، ونعتذر لفتاوى فقيه السلطان القاضية بتسويغ جوره وظلمه.

 إن القراءة الثانية تخفي السلوك السياسي لخلفاء الجور وولاتهم، وتحاول عزل الفكر السياسي عن نسقه الحضاري والبيئة التي أفرزته، بالرغم من أن أي فكر لا يمكن أن ينفصل عن البيئة التي تخلق فيها، فكيف بالفكر السياسي الذي تحكمت في نشأته، ووجّهت مساره، ورسمت أبعاده، وأوحت بمفهوماته، نزعة الاستبداد والعنف السياسي للحكام، منذ معاوية إلى السلطان عبد الحميد.

 إن شيوع الاستبداد وترسخه في مؤسسة الحكم، هو الذي قاد الكثير من المؤلفين لتبرير جور الحاكم، وشرعنة طاعة الطاغوت، والاعتذار عن جرائمه وتعسفه وموبقاته مهما كانت، إلى أن بلغ الحال بالبعض للقول بعدم جواز الخروج على الطاغية يزيد بن معاوية، مع اعترافه بأنه كان "إماماً فاسقاً"، لأن الإمام إذا فسق لا يعزل بمجرد فسقه، على أصح قولي العلماء، بل لا يجوز الخروج عليه، لما في ذلك من إثارة للفتنة، ووقوع الهرج وسفك الدماء الحرام ونهب الأموال، ... حسب زعمه.

 ويمكن القول أن الاستبداد ظل على الدوام أشد العوامل تأثيراً في تفكير المسلمين السياسي، فما أنجزه هذا التفكير من أحكام وأفكار، كانت تصاغ في آفاق رؤية المستبد، وتتخذ من آراء المستبد وقناعاته مرجعية لها.

 على هذا الضوء نستطيع أن نكتشف جذور الانقطاع، والتوقف، والانشطار، والتشوه، الذي اكتنف مسار الفكر السياسي الإسلامي.

 فإن هذا الفكر لم يطرق أبواب عدة موضوعات، أو أنه تجمد عند الخطوة الأولى، ولم يواصل تنمية البحث في موضوعات أخرى، مثلما نلاحظ في الفلسفة السياسية، فمنذ آثار الفارابي المتوفى سنة 339هـ لا نعثر على مساهمات جادة في حقل الفلسفة السياسية، فإنه بالرغم من وفرة إنتاج الفلاسفة الإسلاميين، ممن جاؤوا بعد الفارابي، غير أنهم لم يستأنفوا ما بدأه الفارابي، ولم يعملوا على إغناء وتطوير هذا الحقل الهام في الفكر السياسي، ذلك أن الفيلسوف طالما تقاطع مع إرادة السلطان، واصطدم به، فكان لابد من أن يتقيه، وأن لا يتعرض مباشرة لبيان طبيعة الدولة باعتبارها تنظيماً لجماعته، والتعرف على نموذج بديل للاستبداد، يصلح كمعيار في تنظيم علاقة الحاكم بالمحكومين، وإضفاء الطابع الجماهيري على السلطة، وعدم احتكارها بيد فرد واحد، لأن الفيلسوف يقوده منهجه في البحث بطبيعة الحال للجري وراء الحقيقة، بحسب أداء أدواته وأفكاره التي يستعين بها في البحث، ولذلك فقد يتعذر عليه ممالأة الطاغوت إذا ولج الفلسفة السياسية في بحثه، مما يدعو إلى ترك الخوض في هذا المضمار، كيما لا يسخط السلطان.

 ولم يقتصر أثر الاستبداد على انقطاع الفلسفة السياسية وتوقفها منذ الفارابي، وإنما أدى شيوع الاستبداد في الحياة السياسية إلى ضمور أو اندثار بعض الحقول الأساسية في الفكر السياسي الإسلامي، فمثلاً حين نواجه بواكير التراث الإسلامي، نجد حركة التصنيف فيه تتجه نحو مسألة "الإمامة" وما في سياقها، ومحاججات الفرق ومساجلاتها الواسعة بشأنها، مضافاً إلى التصنيف في الخراج وتنظيم المنابع المالية للدولة، وما يرتبط بتدبير شؤون الملك السياسية. وحضر تدخل الجيش في الأمور السلطانية وهكذا التصنيف في رسوم ومراسم وبروتوكولات دار السلطنة، وإدارة البيت السلطاني.

 أما الفقه السياسي الذي يتناول شؤون المواطنة وحقوق الرعية، والأمن السياسي والاجتماعي، ونصيحة الحكام ومحاسبتهم، وأحكام المعارضة السياسية، والتداول السلبي للسلطنة، فلا نعثر عليه إلاّ متخفياً في مساحة هامشية ضيقة داخل تراثنا السياسي.

 ويبدو تأثير الاستبداد بوضوح في صياغة وتوجيه الفكر السياسي الإسلامي، عند مراجعة وتقويم مشاغل هذا الفكر واهتماماته، وما تجاهله وتناساه، فقد لبثت قضية العدالة منسية في المصنفات السياسية عدة قرون، ولم يصنف فيها بنحو مستقل حتى مطلع القرن الخامس الهجري، عندما كتب الخطيب الاسكافي المتوفى سنة 220هـ رسالة صغيرة في "ماهية العدالة". وفي الحقبة اللاحقة لم تأخذ قضية العدالة مكانتها المناسبة في التأليف، ولم يجر تعميقها وتطوير البحث فيها، مع مالها من أهميّة فائقة، كمعيار قيمي في إرساء بنية الحكم الإسلامي على أساس متين.

 لقد أعاق الاستبداد تكامل الفكر السياسي، وتسبب في إحجام المؤلفين عن الخوض في قضاياه الأساسية فابتعدوا عن الدفاع عن حقوق الناس، وانبرى فقهاء السلطان لتدوين "فقه الطاعة" والتأكيد على حق السلطان في السمع والطاعة، وإن فسق وتعدى حدود الله، فيما أهملوا "فقه حقوق الرعية". وتجاوز ذلك الفقهاء إلى الشعراء والأدباء، فابتلى الكثير منهم بالرياء والتزلف للطاغية، وطبع الفكر والأدب رغباتُ الحاكم وأهوائه ونزواته، سواء كانت حقاً أم باطلاً. يكتب أحد مؤرخي الأدب: "إن الأدب اتّجه معظمه في العصر العباسي إلى مشايعة رغبات القصر، يذمّ الشعراء من ذمّهم الخلفاء، ويمدحون من رضوا عنه، فإذا خرج محمد بن عبد الله على المنصور، هجاه ابن هرمة، وإذا رضي المعتصم عن الأفشين، فقصائد أبي تمام تترى في مدحه، وإذا غضب عليه وصلبه، فقصائد أبي تمام أيضاً تقال في ذمه وكفره. ويرضى الرشيد عن البرامكة فهم معدن الفضل، ويقتلهم فهم أهل الزندقة والشرك". وهكذا وقف الأدب أو أكثر يخدم الشهوات والأغراض.

 لكن هذا لا يعني عدم وجود نقاط مضيئة في التراث السياسي الإسلامي، إلاّ أن تجذّره واستمراره حجب تلك النقاط المضيئة من أن تشعّ وتتسع، فتغمر مساحات شاسعة، وتطبع الفكر السياسي برمته بخصائصها.

 ولعل من أجلى المصاديق في تطور الفكر السياسي الإسلامي وتحرره مما ارتهنه قروناً طويلة هو الفكر السياسي للإمام الخميني(قدس)، وما جسّده من تجربة متميزة في المشاركة الجماهيرية والتداول السلمي للسلطة، طبقاً للمعايير الدستورية.

 لقد تجلت مجموعة سمات في الخطاب السياسي للإمام الخميني(قدس)، وأضحت علامة فارقة تميز هذا الخطاب عما سواه، وتأتي في طليعتها:

 1- مناهضة الاستبداد؛

 2- التأكيد على الحريات؛

 3- التأكيد على حقوق المواطنين؛

 4- المشاركة الجماهيرية في السلطة عبر مجالس الشورى والخبراء والمجالس المحلية.

 وفي مراجعة عاجلة لأفكار الإمام الخميني(قدس) نجده يولي الحرية اهتماماً بالغاً ويجعلها بوابة انخراط المجتمع في صناعة التاريخ، وأن الشعب لا يمكن أن يتحضر من دون أن يتمتع بهامش واسع من الحرية، فان تحرر الشعب أول مرتبة من مراتب التمدن" حسب تعبيره. وإن "الناس أحرار، ولا ولن يقف أحد بوجه حرياتهم". ولا يتردد الإمام الخميني(قدس) من تداول مصطلح الديمقراطية، إذ يقول "الإسلام دين سام، وديمقراطي بمعنى الكلمة"، وإن "القانون الإسلامي هو الذي يعطي الحريات والديمقراطية الحقيقة".

 وبوضوح أشد يشير إلى أن"الديمقراطية مندرجة في الإسلام، والناس أحرار في الإسلام، في بيان عقائدهم أو في أعمالهم، ما لم تكن ثمة مؤامرة في الموضوع".

الأستاذ عبد الجبار الرفاعي