بعد ثبوت سعة منصب الولاية على الأمة والبلاد الإسلامية من الله تعالى لكل واحد من النبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام) يقع الكلام في تعداد ما بيدهم اختياره من الأمور المرتبطة بالمسلمين أنفسهم أو ببلادهم ومملكتهم وفي ذكر المنابع المالية التي بها تحصل عندهم الأموال المحتاج إليها في تمشية أمور الولاية.

ولا يظن أحد أن هذه المباحث غير محتاج إليها في أمثال زماننا الذي ليس المعصوم (عليه السلام) حاضراً فيه بل يختص بالأزمان الماضية وبما إذا حصل فرج آل محمد وظهر قائمهم (عليهم السلام).

وذلك أن هذه الأبحاث تشريح للولاية الإسلامية وأن ولي الأمر في الإسلام له هذه الاختيارات والمنابع المالية، فإذا أثبت ولاية الأمر في الشرع زمن الغيبة للفقيه العادل مثلاً فله أيضاً هذه الاختيارات والمنابع، فلا تغفل.

 

وبعد ذلك كله نقول:

إن كلامنا الآن يقع في مقامين: المقام الأول في الاختيارات الثابتة لولي الأمر والأمور التي بيده. والمقام الثاني في تعداد المنابع المالية التي جعل الله تعالى له ليتم به أمر إعمال ولايته.

 

المقام الأول

في الاختيارات الثابتة لولي الأمر والأمور التي بيده

والكلام عنه بوجهين: فتارة يبحث عن مقتضى القواعد الكلية في تعداد ما بيده اختياره، وأخرى في عد كل من هذه الأمور أو ذكر عمدتها تفصيلاً.

أما مقتضى القاعدة والبحث الإجمالي عما بيده اختياره:

فالتحقيق أن مقتضى القاعدة أن بيده كل ما يرتبط بالجامعة الإسلامية كلهم أو أهل قرية أو بلدة أو بلاد خاصة وكل ما يرتبط بقراهم وبلادهم ومملكتهم.

ويمكن الاستدلال له بالكتاب الكريم وبالسنة المعتبرة:

أما الكتاب فإن قوله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾ إلى آخره وفي سورة المائدة: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ بل وقوله تعالى: ﴿مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ في آية الغدير بعد ملاحظة الأخبار القطعية الشارحة له يدل بوضوح على ثبوت منصب الولاية الإلهية على المسلمين للنبي والأئمة المعصومين (عليهم السلام)، وولاية أمورهم لا تتحقق إلا إذا كان إلى الولي اختيار أخذ التصميم المناسب في كل ما يرتبط بهم سواء كان مما يرجع إلى أنفسهم كتأسيس إدارة القضاء ونصب القاضي وتأسيس سائر الإدارات اللازمة أو الراجحة ونصب مسؤوليها وتعيين وظيفة كل منها أم كان راجعاً إلى بلادهم وأمكنتهم كتوسعة الطرق فيها وفيما بينها وإلى الممالك الخارجة عن سيطرة أمرهم.

وأما السنة فيدل عليه بهذا التقريب كل ما دل منها على ثبوت عنوان الولاية لهم أو ما إلهيا ككون الإمام أو النبي قيماً من الله تعالى على الأمة المسلمة أو راعياً لهم، وهي كما تعلم مما مر روايات عديدة متواترة نذكر هنا أنموذجاً منها:

1ـ فمنها ما رواه الكافي بسنده الصحيح عن الفضلاء زرارة والفضيل بن يسار وبكير بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية وأبي الجارود جميعاً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: أمر الله عز وجل رسوله بولاية علي وأنزل عليه ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ وفرض ولاية أولي الأمر فلم يدروا ما هي، فأمر الله محمداً (صلى الله عليه وآله) أن يفسر لهم الولاية كما فسر لهم الصلاة والزكاة والصوم والحج، فلما أتاه ذلك من الله ضاق بذلك صدر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وتخوّف أن يرتدوا عن دينهم وأن يكذبوه، فضاق صدره وراجع ربه عز وجل، فأوحى الله عز وجل إليه: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ فصدع بأمر الله تعالى ذكره فقام بولاية علي (عليه السلام) يوم غدير خم، فنادى الصلاة جامعة وأمر الناس أن يبلغ الشاهد الغائب...)[1]. ودلالتها واضحة.

والأخبار الواردة بهذا العنوان في قصة الغدير كثيرة متواترة قد مر ذكرها ومنها صحيحة الخصال التي نقلنا عين عبارتها.

2ـ ومنها ما رواه الكليني أيضاً في الصحيح عن إسحاق بن غالب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في خطبة له يذكر فيها حال الأئمة (عليهم السلام) وصفاتهم قال: إن الله عز ونجل أوضح بأئمة الهدى من أهل بيت نبينا عن دنيه... فلم يزل الله تبارك وتعالى يختارهم لخلقه من ولد الحسين (عليه السلام) من عقب كل إمام، يصطفيهم لذلك ويجتبيهم ويرضى بهم لخلقه ويرتضيهم، كلما مضى منهم إمام نصب لخلقه من عقبه إماماً عَلَماً بيّنا وهادياً نيّراً وإماماً قيماً وحجة عالماً، أئمة من الله يهدون بالحق وبه يعدلون، حجج الله ودعاته ورعاته على خلقه، يدين بهديهم العباد... فإذا انقضت مدة والده... وبلغ منتهى مدة والده فمضى وصار أمر الله إليه من بعده وقلده دينه وجعله الحجة على عباده وقيمه في بلاده وأيده بروحه... وجعله حجة على أهل عالمه وضياءاً لأهل دينه والقيّم على عباده رضي الله به إماماً لهم... الحديث[2].

فهذه الصحيحة كما ترى قد نصّت مرات ثلاث بأن الإمام قيّم من الله تعالى على عباده ومرة واحدة بأن الأئمة رعاة الله على خلقه ولا محالة كل إمام فهو راع على خلق الله تعالى. وكون أحد قيماً على جمع يقتضي أن يكون إليه إدارة أمورهم وبيده وعليه أخذ التصميم المناسب الموافق لمصلحتهم لهم وأن يكون إليه إدارة أمر بلادهم ومملكتهم. وبعبارة أخرى مقتضاه أن يكون إليه كل ما يرتبط بهم وببلادهم ومملكتهم. وكما أن كون الإمام راعياً على الخلق يقتضي أن يكون إليه وعليه كل ما يرتبط بحياتهم في داخل مملكتهم وبلادهم أو يرتبط بالتقاء أهل سائر الممالك والبلاد غير الإسلامية كما في راعي قطيع غنم بعينه.

وبالجملة: فالولاية وكونه قيماً أو راعياً على العباد يقتضي أن يكون إليه وعليه كل ما يرتبط بهم داخل بلادهم وخارجها.

والروايات المثبتة لولاية الأئمة (عليهم السلام) ـ كما أشرنا إليها ـ كثيرة متواترة. كما أن هنا بعض آيات أخر وطوائف أخرى من الروايات دالة على المطلوب اكتفينا بما ذكرنا اختصاراً، والطالب يرجع إلى ما مر من أدلة إثبات ولايتهم (عليهم السلام).

هذا بالنسبة إلى بيان مقتضى الدليل الواحد الإجمالي.

وأما التعرض لخصوص الموارد من هذه الأمور:

 

فنذكر عمدتها في ضمن فصول:

 

الفصل الأول

في أن لولي الأمر جعل قوانين حكومية وأنه يجب إتباعها

توضيح المقال في هذا الفصل أنه لا ريب في أن الله تعالى قد أنشأ على الناس أحكاماً تكليفية مختلفة من الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة ووجودها، ووجوب امتثال الواجب والحرام منها واضح، فهنا نقول: إنه كثيراً ما يحدث في نظر ولي الأمر مصالح أو مفاسد يؤدي نظره في مقام إدارة أمور الجامعة إلى أن يجعل قوانين وأحكاماً إلزامية ليس منها عينٌ ولا أثر في الأحكام الدينية الإلهية.

فيرى مثلاً أن على كل أحد من الرعايا إذا أراد السفر إلى بلد غير إسلامي أن يأخذ سجلاً رسمياً يُذكر فيه سفره بل والإذن في سفره وأن عليهم أن يسجل في هذا السجل وروده وخروجه. أو يرى مثلاً أن سائق السيارات عليهم أن يسيروا من يمين الشوارع وأن لا يسيروا في بعض ملتقيات الطرق إلا إذا أذنت لهم المصابيح المصفرّة. أو يرى أن يوسّع الشوارع الداخلة في البلاد وإن كانت التوسعة لأجل ترفيه السكنة وربما يلزمها التصرف في مال من لا يرضى به. أو يرى أن يمنع استيراد أمتعة البلد الفلاني أو شركة خاصة، إلى غير ذلك مما يحدث عصراً بعد عصر وأياماً بعد أيام.

فنبحث في هذا الفصل عن جواز إقدامه بوضع هذه القوانين أولاً، ثم عن وجوب امتثال الناس لها شرعاً ثانياً، فنقول:

أما أصل جواز إقدامه بوضعه فالظاهر أنه لا ريب فيه، وذلك أن المفروض ـ كما مر ـ أن الله تعالى جعله من عند نفسه ولياً على الأمة وقيّماً لهم وراعياً، ودلالة الآيات المتعددة والروايات القطعية المتواترة على ثبوت الولاية والقيمية والراعية له واضحة، ومن المعلوم أن أعمال هذه الولاية قد يؤدي على جعل هذه القوانين والإلزامات فيما يراه الولي لازماً ولم تتعرض لشيء منها الأدلة الإلهية نفياً وإثباتاً، فحيث إن الولاية على الأمة قد جعلها الله تعالى وأخذ هذه التصميمات من مقتضيات أعمال الولاية فلا محالة يقتضي مشروعية ولايته أن يشرع له جعل هذه القوانين، وكيف لا؟! وهذه القوانين إجراء عملي لتلك الولاية ومن اللوازم غير المنفكة عنها، فمادة الولاية ومفهومها وإن لم يدخل فيه جعل هذه القوانين إلا أن لازم أعمالها وإجرائها الخارجي جعل هذه القوانين فلا ينفك جواز جعلها عن فرض مشروعية أصل الولاية.

فإن قلت: إن ما ذكرت إنما هو مقتضى إطلاق أدلة الولاية والرعي والقيمية إلا أن هنا أدلة توجب على الولي الاستشارة فهذه الأدلة تمنع جواز إقدام الولي بجعلها بل يوجب عليه اللجأ إلى المشاورة.

قلت: (أولاً) إن حديث المشاورة في الأمور الجمعي إنما ذكر في القرآن الشريف مرتين:

فتارة في سورة الشورى في مقام عد أوصاف المؤمنين الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ فعد منها: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾[3] وهو كما ترى لأمور المؤمنين أنفسهم الجارية بينهم ولا نظر له إلى أمر ولي الأمر مع أنه لا يدل في مورده على أزيد من استحسان هذه الصفة لا وجوبها، ولم يقل أحد أيضاً ـ حسب الظاهر ـ بوجوبها.

وأخرى ذكرت المشاورة والأمر بها في سورة آل عمران، قال الله تعالى خطاباً للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾[4] فهذه الآية المباركة قد تضمنت أمر الله تعالى له (صلى الله عليه وآله) بأن يشاور المؤمنين، ولا محالة تكون مشاورته في الأمور التي بيده بمقتضى ولايته، فلذلك يمكن أن يستدل به لوجوب مشورة الوالي للأمة، لكن الإنصاف أن دلالته على الوجوب غير تامة، وذلك أن هذه الآية ـ بحسب ما يستفاد من التفاسير ـ قد وردت ضمن الآيات الواردة في غزوة أحد وبعد تمامها، وهذه الغزوة قد ابتليت ابتداءً بعدم موافقة عبد الله بن أبي بالخروج لها خارج المدينة ولذلك لم يخرج هو وقومه فيها، كما أنها قد انتهت بشهادة سبعين من المؤمنين ومنهم حمزة سيد الشهداء وبهزيمة جند الإسلام ووقوع ضربات عديدة شديدة على أمير المؤمنين (عليه السلام) بل بوقوع جراحات على رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإشاعة أنه قد قُتل، وقد نشر المنافقون أكذوبات كثيرة ولاموا المؤمنين وخلف الشهداء بها، ففي هذه الأرضية والوضعية نزلت الآية المباركة.

فصدرها كما ترى تكريم وتحسين للين رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعدم كونه غليظ القلب مع ذكر أن هذه الصفة الكريمة من مواهب الله عليه وأنها الموجبة لاجتماع المسلمين حوله وعدم انفضاضهم.

وبعد ذكر هذه الصفة الكريمة وفائدتها عطف عليها وفرّع بفاء التفريع أمره بالعفو عنهم في ما فعلوه من السيئات وبالاستغفار من الله لهم وبالمشاورة لهم، فهذه المشاورة مع هؤلاء الأشخاص هي كمال إكرام لهم من الله ومن سيد الأولياء ولعلها كانت بهدف حصول الوفاق والاتصال بعد تلك الحوادث، ولا عموم للآية يدل على وجوبها في جميع الموارد، بل لا يبعد أن ينكر ظهور الأمر في الوجوب في نفس المورد وذلك لما مر من أنه تفريع على أعمال لينه، فيقول الله تعالى: إنك حيث كنت ليناً غير غليظ القلب فمقتضى هذه الكرامة واللين أن تعفو عن سيئاتهم وأن تشاورهم في الأمور. وهذا التعبير لا يقتضي من الحسن المجتمع مع الندب.

(وثانياً) لو سلمنا وجوب مشورة الولي للعقلاء من المؤمنين قبل العزم والتصميم فغاية الأمر اشتراط تصميماته المأخوذة بأن تكون بعد المشاورة، وأما صحة تصميماته وعمومها لجميع الموارد والأمور التي يراها ولو عقيب المشاورة مصلحة للأمة فالآية لا تنافيها، بل كما عرفت فمقتضى كونها من لوازم الولاية أن هذه التصميمات كغيرها مما فيه مصلحة الأمة أمرها بيده.

ثم إنه كما أن من اختيارات بل ومن وظائف ولي الأمر أن يجعل التكاليف المذكورة فهكذا له أن يؤسس دوائر ومؤسسات كلية وجزئية رئيسية وتابعة كوزارة الصناعة أو الزراعة أو التجارة أو الدفاع أو الطرق والمواصلات وكمركز التقنين والقضاء وكالإدارات والشُعب الجزئية التابعة لها فإن تأسيسها مصداق أعمال الولاية الثابتة له وبعد ما أسسها ربما يُنشئ أحكاماً خاصة لهذه الإدارات والمؤسسات رئيسها وأتباعها مما يحتاج إليه ولم ينص عليه من الشارع الأقدس لا كتاباً ولا سنة فلا ينبغي الريب في أن أعمال الولاية بنحو صحيح مطلوب لا يكون إلا به وجعلها مقتضى الولاية ولازمها، ولا محالة يكون جعلها من اختياراته أو من وظائفه.

فلولي الأمر إنشاء وظائف لعامة المسلمين أو جمع خاص منهم كسائقي السيارات، وله أيضاً إنشاء وظائف خاصة لمتولي الأمور في هذه المراكز الكلية أو الجزئية حسب ما يقتضيه شغله المحوّل إليه.

أما وجوب امتثال الناس لهذه الأحكام شرعاً فبعد ما أنشأ ولي الأمر حُكماً من هذه الأحكام فعلى الأمة أن يطيعوه وتكون إطاعة هذه الأحكام أيضاً عليهم واجبة كإطاعة الأحكام الإلهية التي بيّنها الكتاب أو قامت بها السنة.

ويدل على وجوب إطاعتها أمران:

أحدهما: أنه مقتضى كونه ولي أمرهم أو القيّم عليهم أو الراعي لهم من الله الذي قد عرفت قيام أدلة معتبرة قطعية على ولايته وقيام دليل معتبر صحيح السند على أنه من الله قيّم عليهم وراع لهم، وذلك أن الولاية والقيمية إنما هي بأن تكون إدارة أمور المولّى عليه أو من هو قيّم عليه تحت نظر الولي والقيّم ولا يتحقق هذا المعنى خارجاً إلا بأن يكون ما يراه الولي فيه لازم التحقق وإلا فلا تكون إدارة ولا قيمومة، وهكذا معنى الرعي فإنه لا يتحقق إلا بأن يأخذ الراعي تصميمه المناسب ويتحقق خارجاً تصميمه المأخوذ.

وبالجملة: فمقتضى كل من هذه المعاني أن يكون جميع ما يصمم عليه لازم الرعاية، فأحكامه المجعولة أيضاً لا بد وأن تكون واجبة الإطاعة.

وثانيهما: أنه يدل عليه جميع ما مر من الأدلة المتعددة المعتبرة الدالة على وجوب إطاعة ولي الأمر من الكتاب والسنة.

فمثلاً قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾[5] يدل على وجوب إطاعة الرسول ومن كان ولي الأمر، وقد مرت دلالة روايات عديدة معتبرة بأن المراد من أولي الأمر هو الأئمة المهديون الذين هم أيضاً كرسول الله أولي أمر المسلمين وإطاعة كلٍّ منهم وإن كانت ربما يتصوّر لها فردان إطاعة فيما يبين من أحكام الله الإلزامية من الواجبات والمحرمات وإطاعتهم فيما يأمر به أو ينهى عنه نفسه ولو سلم انعقاد هذا الإطلاق للآية المباركة فدلالتها على وجوب الإطاعة في القسم الثاني هي المتيقّنة فإنها إطاعة نفسه، وإلا فإطاعة الإلزامات الشرعية ربما يمكن دعوى أنها إطاعة الله لا إطاعة ولي الأمر، ولعل سر تغير التعبير وتكرار لفظة (أطيعوا) في الآية الشريفة هو إرادة خصوص إطاعة طلبات أنفسهم، وكيف كان فدلالتها على وجوب إطاعة أولياء الأمر في أوامر أنفسهم هي المتيقنة كما لا يخفى.

وقد قامت روايات متعددة واضحة الدلالة أيضاً على وجوب إطاعة أولي الأمر إما في بيان أن المعصومين هم المراد بأولي الأمر المذكور في الآية وإما في بيان وجوب طاعتهم ابتداءً.

1ـ ففي صحيحة أبي بصير المروية في أصول الكافي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ فقال (عليه السلام): نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين (عليهم السلام)... فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان علي أولى الناس بالناس لكثرة ما بلّغ فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإقامته للناس وأخذه بيده، فلما مضى علي لم يكن يستطيع علي (عليه السلام) ولم يكن ليفعل أن يدخل محمد بن علي ولا العباس بن علي ولا واحداً من ولده إذاً لقال الحسن والحسين (عليهما السلام): إن الله تبارك وتعالى أنزل فينا كما أنزل فيك فأمر بطاعتنا كما أمر بطاعتك وبلّغ فينا رسول الله كما بلّغ فيك وأذهب عنا الرجس كما أذهب عنك، فلما مضى علي (عليه السلام) كان الحسن (عليه السلام) أولى بها لكبره، فلما توفي لم يستطع أن يدخل ولده ولم يكن ليفعل ذلك والله عز وجل يقول: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ﴾ فيجعلها في ولده إذاً لقال الحسين (عليه السلام): أمر الله بطاعتي كما أمر بطاعتك وطاعة أبيك وبلغ فيَّ رسول الله كما بلغ فيك وفي أبيك وأذهب الله عني الرجس كما أذهب عنك وعن أبيك، فلما صارت إلى الحسين (عليه السلام) لم يكن أحد من أهل بيته يستطيع أن يدّعي عليه كما كان هو يدعي على أخيه وعلى أبيه (عليهم السلام) لو أراد أن يصرفا الأمر عنه ولم يكونا ليفعلا. ثم صارت حين أفضت إلى الحسين (عليه السلام) فجرى تأويل هذه الآية: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ﴾ ثم صارت من بعد الحسين لعلي بن الحسين ثم صارت من بعد علي بن الحسين إلى محمد بن علي (عليهم السلام)، وقال: الرجس هو الشك، والله لا نشك في ربنا أبداً[6].

فالصحيحة كما ترى تدل على نزول الآية المباركة في أمير المؤمنين والحسنين (عليهم السلام) وأنهم المصاديق الموجودة من المراد بأولي الأمر المذكور فيها، وعلى أن هذا المنصب المستتبع لوجوب الطاعة يكون بعد الحسين (عليه السلام) لولده وأنهم تأويل قوله تعالى: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ﴾ وذكر منهم علي بن الحسين زين العابدين ثم ابنه محمد بن علي الباقر (عليه السلام) ولم يذكر نفسه الشريفة ولعله تواضعاً وتأدّباً، وإلا فلا ريب في أنه (عليه السلام) وأولاده المعصومين إلى الإمام القائم الثاني عشر مرادون بالآية المباركة التي قد عرفت تمامية دلالتها على وجوب طاعتهم (عليهم السلام) حتى في أوامرهم الشخصية الصادرة في أعمال الولاية.

فليست في الصحيحة دلالة أزيد عما في الآية الشريفة إلا أنها صريحة في تفسير أولي الأمر بالأئمة الاثني عشر المعصومين (عليهم السلام).

2ـ وفي معتبرة الحسين بن أبي العلاء المروية فيه أيضاً قال: ذكرت لأبي عبد الله (عليه السلام) قولنا في الأوصياء أن طاعتهم مفترضة، قال: فقال (عليه السلام): نعم، هم الذين قال الله تعالى: ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾ وهم الذين قال الله عز وجل: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾[7].

وهي كما ترى دلت أوّلاً بقوله (نعم) على أن طاعة الأوصياء الذين لا ريب في أنهم الأئمة المعصومين (عليهم السلام) مفترضة، وثانياً بذكر الآية الأولى وتطبيقها عليهم تفسير أولي الأمر في الآية بهم، وكلا الجملتين كما مر بيانه تدل على وجوب إطاعة أوامرهم التي تصدر عن أشخاصهم (عليهم السلام) في مقام أعمال الولاية.

3ـ وفي معتبرة أبي الصباح الكناني المروية فيه أيضاً قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): نحن قوم فرض الله عز وجل طاعتنا، لنا الأنفال ولنا صفو المال... الحديث[8].

ودلالتها على كون طاعتهم فريضة واضحة.

4ـ وفي صحيحة زرارة المروية فيه أيضاً عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته ثم قال: إن الله تبارك وتعالى يقول: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾[9].

ودلالتها على كون طاعتهم فريضة واضحة لاسيما بعد الاستشهاد بالآية.

فهذه الأخبار أنموذج من الروايات العديدة التي مرت، ودلالتها على المطلوب واضحة كما مر بيانها ذيل الآية.

 ــــــــــــــــــــــــــ

[1] الكافي: في ما نص الله ورسوله على الأئمة ج1 ص289 الحديث4.

[2] الكافي: في فضل الإلمام وصفاته ج1 ص203 ـ 204 الحديث2.

[3] الشورى: 38.

[4] آل عمران: 159.

[5] النساء: 59.

[6] الكافي: باب ما نص الله ورسوله على الأئمة ج1 ص286 ـ 288 الحديث1.

[7] الكافي: باب فرض طاعة الأئمة ج1 ص185 الحديث7.

[8] الكافي: باب فرض طاعة الأئمة ج1 ص 186 الحديث 6.

[9] الكافي: باب فرض طاعة الأئمة ج1 ص185 ـ 186 الحديث1.