ركّز الإمام الخميني (رحمه الله) على القدس المدينة كرمز ومحور وأساس في القضية الفلسطينية, وأنّ رمزية القدس ناشئة من جهتين:

الأولى: القداسة الخاصة لهذه المدينة لدى المسلمين كافة, فهي أولى القبلتين

والثانية: هي المظلومية والشكوى والأسر, حيث الإدعاء الكاذب من اليهود بوجود هياكل سليمان تحت مسجدها ومحاولاتهم المستمرة لهدم المسجد تبعاً لهذا الادعاء، والإمام الخميني (رحمه الله) لم يكن ليعترف بأي حق لـ«إسرائيل» في الوجود، ولا يقرّ أيضاً بأي حق لها في أي أرض أو في أي مساحة من الأرض الإسلامية، كما أنه كان يرى ضرورة طرد اليهود من جميع فلسطين كل فلسطين من الجليل إلى غزة ومن نهر الأردن إلى البحر المتوسط، ولم يكن الإمام ليفرّق بين أراضٍ احتلت عام 1948م واخرى احتلت عام 1967م.

فكلها محتلّة، و«إسرائيل» كلها غاصبة، ويجب أن تزول بتمامها, ومع ذلك كله فقد أعطى الإمام (رحمه الله) اهتماماً ورعاية خاصة لقضية القدس؛ لأنها تشكّل المدخل إلى كل فلسطين, وتعبّر عن المظلومية التي تنتاب أحد الأماكن المقدسة لدى المسلمين والعرب والمسيحيين والأحرار في العالم، فالقدس مهبط الأنبياء ومحل الوحي وموطن الأولياء والصالحين منذ آدم إلى نبينا الأعظم محمد(صلى الله عليه وآله وسلم)، فقداستها متعددة الأوجه ومظلوميتها الكبرى شاهدة على كل المظلوميات، كما أنّ ضميرها المستبطن للتاريخ الغابر يعتمر في نفوس المؤمنين حكايات عشق ووَلَه إلى الأسلاف من الأولياء والأطهار, الذين تشرّفت بهم تلك الأرض التي تحدّث الله عنها في عدّة محال من كتابه العزيز: بأنها الأرض المباركة هي وما حولها، مما يجعل العُلقة مع هذا الرمز قوية ومتينة متانة الارتباط بالرموز الذين مرّوا على هذا المَعْلَم.

هذا الأمر الذي يخلق حالة تفاعلية وجدانية تؤسس لحركة تأثّر بما يجري في القدس, ولِمْا يحصل لها, وحركة فاعلة باتجاه التعبير عن هذه الحالة بالسخط والغضب تارة، وبالقيام والثورة تارة أخرى، من هنا فإنّ تأكيد الإمام الخميني (رحمه الله) على هذا الرمز " القدس " باعتباره محور قضية فلسطين، بل محور قضية الأمة، بل أيضاً محور قضية الصراع بين الحق والباطل وبين الأخيار والأشرار وبين الحرية والعبودية وبين الاستكبار والاستضعاف، فقد أعطى الإمام للقدس أبعاداً ودلالات تستحقها كونها موطن آمال الملايين من أتباع الديانات من الذين يتوجّهون شطرها شطر الحق الشاخص فيها والشاخصة فيه، فهي محل هبوط الشرائع الإلهية التي نزلت إلى عالم الإنسان والشهادة من عالم الغيب، فهي محل إسقاط الغيب في الشهادة، وهي محل عروج الإنسان إلى عالم الكمال، ولعلّه لأجل ذلك كانت محطّة معراج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى السماء مخترقاً الأرض التي قطعها بين الحجاز وفلسطين في رحلة اسرائه في عالم الملك مقدمة للصعود والترقي في عوالم الملكوت..

وقد عمل الإمام الخميني (رحمه الله) على إعادة القدس إلى موقعها الطبيعي, من خلال الإضاءة على مجموعة الأبعاد التي ترمز اليها, فهي ليست رمزاً شخصياً ولا وطنياً ولا قومياً، كما أنها ليست قضية دين أو ملّة بعينها، إنها قضية الإنسان والأمم والتاريخ والحرية، والحق والأديان والأوطان والأزمان، وإنها رمز المظلومية والاستضعاف على امتداد هذا العالم الذي يتدافع فيه الناس بين موقعي الحق والباطل، وهي المكان الشاهد على تحدّي الاستكبار لسنن التاريخ، ومخالفته للقوانين وانتهاكه للحقوق، وسيطرته بالقوة والهيمنة على بقاع الأرض، وإنّ خير البقاع القدس, وقد نالت نصيبها الوافر من الأسر والتسلّط والاستبداد والظلم، حتى وصلت حدود ذلك إلى مساجدها وكنائسها والى دور العبادة فيها, التي يفترض بها أن تكون وادعة آمنة مطمئنة يحيط بها السكون والرهبة في ظلال الرب العطوف الرؤوف الذي اختار هذه البقعة من العالم؛ لتكون محل إشعاع للرحمة وللرحمانيين, ومحل سلام وأمن للعابرين والقاصدين والحاجين, فإذا بها تُحَوّل بفعل الأيدي الآثمة والنفوس الشريرة لأسوأ خلق الله إلى محل مغتصب سجين، تحيط به الأسوار من كل جانب، ويعتصره الألم في كل زاوية، وتُذرف عيناه الدموع في كل اتجاه، ويستصرخ الضمائر الإنسانية التي صاغها الرب الذي اصطفاه من بين الأمكنة؛ لكي تحج إليه الملايين من المحبين والمؤمنين ليلبّوا حاجة الأنس إلى جوار النبيين والصالحين‏.

وقد تحدّث الإمام الخميني (رحمه الله) عن هذه الزاوية بقوله: «إنّ مسألة القدس ليست مسألة شخصية، وليست خاصة ببلد ما، وليست خاصة بمسلمي العالم في العصر الحاضر».

كما أكّد الإمام الخميني (رحمه الله) على أنّ قضية القدس ليست مرتبطة بالزمن الحاضر، بل هي على الدوام قضية المؤمنين من أتباع الديانات؛ لذا فهي آخذة بالتفاعل التدريجي من الماضي إلى الحاضر وصولاً إلى المستقبل حيث الوعد بتخليص هذا الرمز من الاحتلال.

وفي نفس المعنى يقول الإمام الخميني (رحمه الله): «إنها ـ أي قضية القدس ـ مسألة تخصّ الموحّدين في العالم، والمؤمنين في الأعصار الماضية والحاضرة والقادمة ومنذ اليوم الذي وضع فيه الحجر الأساس للمسجد الأقصى وحتى الآن وما دام هذا الكوكب السيّار يدور في عالم الوجود».

ثم يتحدّث الإمام (رحمه الله) عن الجرأة والجسارة على الله ورسله, والتحدّي لوعده من خلال بثّ الظلم والاعتداء على أماكن وحي الله, ومَحال عبادته, واغتصاب أروقة التقرب إليه من قِبَل شرذمة اليهود.

يقول الإمام (رحمه الله): «إنّ من المؤلم أن تتجرأ حفنة من الأوباش المجرمين في عصرنا هذا على التجاسر على الله تعالى ورسله الكرماء بمرأى من المسلمين ورغم كل الإمكانات المادية والمعنوية, وإنه لمن العار على الحكومات الإسلامية أن تتخذ موقف المتفرّج على قيام عنصر فاسد معدوم القيم بالتطاول واغتصاب معبد المسلمين المقدس وقبلتهم الأولى، إنه من المخجل السكوت في مقابل هذه المأساة التاريخية الكبرى».

ثم يستعرض الإمام الخميني (رحمه الله) تلك الوقفة الشامخة لشباب فلسطين الغيارى والشجعان الذين قاموا ولبّوا نداء القدس وتلوّنت جدران مسجدها بدمائهم الزاكية, والذين تلقّوا بصدورهم رصاصات الحقد من أسلحة الصهاينة؛ وها هم قد أعلنوا انتفاضتهم المباركة على العدو الجاثم على أرضهم المحتل لمقدساتهم.

يقول الإمام الخميني (رحمه الله): «أليس عاراً على المسلمين أن لا يعلنوا عن مواساتهم ولا يلبّوا نداء المظلومية للشبان الفلسطينيين الأعزاء, الذين لوّنت دماؤهم جدران المسجد الأقصى, والذين تلقّوا رصاص الرشاشات من حفنة من المحتلين جواباً لمطالبهم الحقة المشروعة».

وبعد ذلك يوجّه الإمام الخميني (رحمه الله) تحيته المباركة من اليد المباركة إلى المنتفضين والى الأقصى المبارك والى الشعوب الثائرة في مواجهة الاحتلال والى مستضعفي العالم الذين يعتبر الإمام أنّ العصر الذي قام هو فيه وأسس له هو عصر قيامه المستضعفين وانتصارهم على المستكبرين.

يقول (رحمه الله): «وتحية للقدس والمسجد الأقصى، وتحية للشعوب الناهضة في مواجهة «إسرائيل» المجرمة، وتحية لمسلمي ومستضعفي العالم»...