قاد الإمام الخميني الدفاع المقدس للشعب الإيراني في ظروف كانت إيران تعاني رسمياً من الحصار التسليحي الذي فرضته أميركا وأوروبا، وكانت مضطرة احياناً للعمل لعدة أشهر من اجل الحصول على قطعة غيار واحدة لإحدى طائراتها.

إن الفشل الذريع الذي مني به المشروع الأميركي الذي استهدف النظام الجمهوري الإسلامي من خلال الحصار الاقتصادي والسياسي، وكذلك فشلها في عملياتها العسكرية لإطلاق سراح الجواسيس الأمريكان ـ بالهبوط في صحراء طبس بعد احتلال وكر التجسس الأميركي ـ وإحباط مساعيها في فصل كردستان عن الوطن الام، كل ذلك دفع الحكومة الأميركية عام 1980 الي تجربة الهجوم العسكري المباشر. بيد أنَّ الموازنات الدولية بين الشرق والغرب الحاكمة آنذاك حالت دون قيام أميركا بالهجوم المباشر بقواتها. فالرأي العام العالمي قد تأثر نسبياً بأفكار الإمام الخميني ونشاطاته السياسية التي اطلع على جزء منها في فرنسا وعبر الحوادث التي تلت انتصار الثورة الإسلاميّة، مما ساهم في كشف النقاب عن مظلومية إيران وحقانية مطالب الشعب الإيراني، ثم دفع الرأي العام العالمي للتعاطف معه. كذلك لم تكن ظروف الأنظمة المتزلزلة في الخليج الفارسي تسمح باستيعاب ردود الفعل الناجمة عن الهجوم الأميركي المباشر.

لكل ذلك تمَّ اختيار العراق للقيام بدور إشعال هذه الحرب، وهو اختيار محسوب من كافة النواحي. فالعراق بلد يسير في ركاب الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية. ودخوله في حرب مع إيران سيؤدي إلى وقوف الاتحاد السوفيتي والشيوعيين إلى جانب صدام، وبالنتيجة  إلى جانب أميركا وأوروبا مما سيمنع ظهور ايّة ردود فعل سلبية. كذلك فإن العراق يعدُّ ثاني بلد في المنطقة من حيث الإمكانات التسليحية، وهو بلد نفطي يمكنه الصمود في حربٍ طويلة الأمد اعتماداً على ثرواته وعلى مساعدات دول الرجعية العربية في المنطقة دون الاحتياج إلى دعم أميركا أو أوروبا مالياً أو عسكرياً، رغم أن التوقعات الأولية لكل من أميركا وصدام كانت تأمل بحرب قصيرة الأمد، تقود إلى القضاء على الثورة الإسلاميّة الإيرانية بسرعة خاطفة.

ن جانب آخر، ساعدت النزعة التسلطية لصدام والنزاعات الحدودية السابقة بين العراق وإيران، إلى حد كبير في دفع صدام إلى الاعتداء واحتلال قسم من الأراضي الإيرانية.

ومع أن العالم امتنع عن قبول الأدلة والوثائق التي قدمتها إيران خلال الحرب لإثبات مدعاها في ضلوع أميركا وأوربا والاتحاد السوفيتي في إشعال شرارة الحرب، فإن الأسرار التي انكشفت بعد حرب النفط بين أميركا وصدام (حرب احتلال الكويت) والوثائق التي نشرت فيما بعد، أكدت هذه الحقيقة بما لا يدع مجالاً للشك.

على أيّة حال، بدأ الهجوم العسكري العراقي (في 22أيلول 1980م) على طول الحدود المشتركة البالغة 1280 كم، ومن اقصى نقطة في الشمال الايراني الى ادنى نقطة ـ ميناء خرمشهرـ في جنوبها.

وتزامن الهجوم البري مع هجوم جوي طال مطار طهران ـ الساعة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم ـ ومطارات المدن الايرانية المهمة الاخرى.

وتمكنت الماكنة العسكرية الصداميةـ التي تمَّ اعداها بمساعدة فرنسا وشركات الاسلحة الأميركية والانجليزية والمعدات العسكرية الروسية للقيام بهذا الهجوم ـ من النفوذ بسرعة لعدة كيلومترات داخل المحافظات الحدودية  الخمس. وتعرضت المقاومة الشعبية المحدودة الى ضربة قوية من قبل الجيش العراقي نتيجة عنصر المباغتة الذي كان لصالح القوات الغازية، ونظراً لغياب التسليح والخبرة الكافيتين. وبسرعة مدهشة تم تخريب المدن والقرى المحتلة، وتحولت الى انقاض، وشرد مئات الآلاف من بيوتهم وقراهم ومدنهم.

اما الجيش الايراني، ونتيجة لحوادث الثورة فقد كان مصاباً بالارباك والتفكك، وكان يمضي مراحله الاولى في اعادة البناء والتنظيم.

فقد غادر الآلاف من الخبراء العسكريين الاجانب ـ والأميركان بالتحديد ـ إيران بعد انتصار الثورة، كما ان العديد من التجهيزات العسكرية المتطورة والطائرات الحديثة والصواريخ ـ التي كان الشعب الايراني قد دفع اثمانها من كدّه ـ تمَّ نقلها في الايام الاخيرة من حكومة النظام الملكي البائدـ بمساعي الجنرال هايزر التي استمرت علي مدى شهرين الى أميركا.

كذلك فإن الحرس الثوري الحديث العهد والذي تمَّ تشكيله بناءً على بيانٍ اصدره سماحة الإمام ـ لم يكن يمتلك التجهيزات والخبرة الكافية في الايام الاولى من الحرب، مضافاً الى أنَّ صدام حسين كان يعلم بكل هذه التفاصيل بناء علي المعلومات التي زودته بها أميركا وفرنسا وعملاء الطابور الخامس، لذا كان قد اعدّ حتى خرائط «العراق الكبير» مضيفاً فيها الى اراضي العراق الحالية مناطق شاسعة من محافظة خوزستان ومن المحافظات الغربية الايرانية. لقد كان واثقاً ان النظام الاسلامي عاجز عن مواجهة هذا الجيش الجرار وسيهزم سريعاً، كما ان الاستكبار العالمي كان يدعمه ويقف وراءه.

لقد قوبل خبر اندلاع الحرب العراقية الايرانية ـ رغم اهميته ـ بالصمت المطبق من قبل كافة المنظمات الدولية والقوى الكبرى. ان هذا السكوت المغرض والعداء المتأصل في نفوس الدول الكبرى للجمهورية الإسلاميّة الايرانية، والظروف التي كانت تمر بها البلاد، والقدرة العسكرية البعثية؛ كانت كلها عوامل عقّدت عملية اتخاذ القرار. ووقفت إيران أمام مفترق طريقين، اما الاصرار على المقاومة في حربٍ غير متكافئة يلفها ـ حسب الظاهر ـ الغموض والابهام، او القبول بشروط أميركا واللجوء اليها للضغط على صدام واجباره علي الانسحاب، وكان الخيار الثاني يعني التخلي عن الثورة وعن الاسلام.

غير انَّ هذه الظروف رغم كل تعقيدها، لم تستطع أن تترك تأثيرها علي الإمام الخميني في تشخيص مسؤوليته واتخاذ قراراته المصيرته.

لقد كان الإمام يؤمن بقوله تعالى: «كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ» ايماناً شهودياً، كما أنه كان قد طوى ـ وقبل ان يتسنم مقام قيادة الامة بسنوات ـ مراتب «الفناء في الله» ، ودرّس «الاسفار الاربعة»   ـ التي تمثل هجرة الانسان الكامل ـ لعدة سنوات، ناهيك عن انه قد طوى تلك الاسفار بمنتهى الكمال عملياً. هذا فضلاً عن ان سماحته قد ضمن رسااته العمليّة احكام الجهاد والدفاع كونها احكام الهيّة لا يمكن تخطيها. وان بمقدور اي شخص لوكان محيطاً بابعاد شخصية الإمام الخميني وسيره التكاملي، ان يحدس نوع المسار الذي اتخذه الإمام عند المفترق الذي ذكرناه.

ان أول ردّ فعل صدر عن الإمام، واول بيان اصدره واول حديث ألقاه بعد الحرب واعتداء الجيش العراقي، يثير الدهشة ويستحق التأمل من حيث التعرف علي شخصية الإمام ومنهجه في القيادة؛ وهو امر لا يتسع المجال هنا للخوض في تفاصيله. لقد اصدر الإمام امره علي الفور بالمقاومة، واشار في أول تحليل له عن الهجوم الى تحميل أميركا المسؤولية الكاملة عن اشعال شرارة هذه الحرب، وطمأن الجماهير بصراحة الى انهم منتصرون لا محالة، وان العدومهزوم قطعاً اذا كان نهوضهم لرد العدوان من اجل الله وعدِّه تكليفاً شرعياً، رغم ان كل الظروف كانت تبدوخلاف ذلك .

وفي اليوم التالي من عدوان النظام العراقي على الاراضي الايرانية، وجّه الإمام الخميني بياناً الي الشعب الايراني المسلم اوضح فيه الخطوط العامة لكيفية ادارة الحرب وشؤون البلاد، ولخص ذلك في سبعة بنود قصيره غاية في الايجاز والدقة. ثم اصدر بعد ذلك عدّة بيانات  وجهها الى الجيش البعثي والشعب العراقي لاتمام الحجة عليهما . ثم شرع بادارة وتوجيه الحرب لمدة ثمانية اعوام باسلوبٍ قلَّ نظيره.

في الايام الاولي' من الحرب، توجه عشرات الآلاف من ابناء الشعب الى جبهات الحرب متطوعين ـ استجابة لبيان الإمام ـ لمساعدة القوات المسلحة. وتمَّ في المرحلة الاولى ايقاف تقدم العدو بفضل مقاومة المقاتلين المسلمين وتضحياتهم. كان القتال غير متكافئ الى حد كبير. بيد ان الإمام الخميني اتكل كعادته على الله والمؤمنين به، فراح ـ وعبر البيانات والخطابات المتوالية ـ يهيئ الامة لحرب طويلة وعصيبة، إذ ان سماحته كان يعتقد ـ مستنداً في ذلك الى الآيات القرآنية الواضحة ـ بوجوب الدفاع حتى ازالة العدوان ومعاقبة المعتدي.

بعد عدّة ايام من بداية الحرب خاطب الإمام الخميني سفراء الدول الإسلاميّة المقيمين في طهران بالقول: «إننا ندافع عن الاسلام، والمدافعون عن الاسلام يضحون بارواحهم واموالهم واعزائهم من اجله ولن يتراجعوا عن ذلك أبداً» .

في هذا اللقاء ـ وفي مناسبات اخرى ومن خلال رسائل خطية وبيانات رسمية ـ طالب الإمام الخميني قادة الدول الإسلاميّة ان يعملوا ـ ان كانوا يرون في صدام الملحد رجلاً مسلماً بحكم الآية القرانية التي تنص: «وإن طائفَتَانِ مِنَ المُؤمنين اقَتَتَلُوا فأصلِحُوا بينهُما فإن بَغَت إحدَاهُمَا على الاُخرى فَقاتلُوا الَّتي تَبغي حَتَّى تفيءَ الى أمر الله» .

 

* لماذا استمرت الحرب؟

كان صدام قد وعد قواته بانتصار خاطف لا يستغرق سوى ثلاثة ايام. لذا لم ير الجيش العراقي ضرورة للاستعداد لحرب طويلة مدمرة. لكنَّ القوات العراقية فوجئت ـ وقبل ان تتمكن من تحقيق اهدافها المرسومة ـ بصلابة مقاومة الشعب الايراني وقوة صموده. وانتهت مساعي القوات العراقية لاختراق الخطوط الدفاعية بالفشل في كل مرة بعد تحملها لخسائر فادحة. ورويداً رويداً اتضح لامريكا خطأ حساباتها ومرارة هزيمتها. فبدأت مرحلة جديدة من الضغط السياسي ضد إيران عن طريق المنظمات الدولية والبلدان العربية. فهؤلاء وبدلاً من إدانة المعتدي، بادروا الى الضغط على إيران الإسلاميّة لقبول وقف اطلاق النار. والحال ان القبول بوقف اطلاق النار في تلك الظروف كان يعني مكافأة صدام المعتدي على عدوانه وتحقيق هدفه وهدف اعداء الثورة الذي عجزوا عن تحقيقه خلال جبهات الحرب.

إن إيران لم تشن الحرب لكي تبادر الى ايقافها، وقد وقفت بوجه المعتدي في احلك الظروف لمنع المزيد من تقدمه. كما ان العدواحتل عشرات المدن ومئات القرى ومساحات شاسعة من المناطق النفطية في غرب البلاد وجنوبها، كما ان الحرب ليست دائرة على طرفي الحدود بين البلدين حتى يصار الى مطالبة من وقع عليه الهجوم بالقبول بوقف اطلاق النار. وعلى فرض ان صدام لا يريد من وقف اطلاق النار التقاط انفاسه واستعادة قواه لمعاودة المحاولة لتحقيق اهدافه، فإن قبول وقف اطلاق النار من قبل إيران كان يعني ان القوات العراقية المعتدية، ستبقى في عمق الاراضي الايرانية، مما ستضطر الجمهورية الإسلاميّة الى تقديم تنازلات كبيرة ولسنوات عديدة حتى تتمكن من استرداد كل مترٍ مربع من اراضيها المحتلة، وستجبر على استجداء المنظمات الدولية والسماسرة السياسيين واخيراً العامل الاصلي لاشعال الحرب (أميركا) لمساعدتها في استرداد اراضيها.

وهذا منطق لا يرضاه أيُّ حرٍّ غيور، ناهيك عن الإمام وجماهيره الذين خرجوا منتصرين للتومن معركة الثورة ضد اشدَّ الملوك استبداداً في المنطقة.

هذا فضلاً عن ان صدام لم يقدم ايّة ضمانات في كل تلك المقترحات المطروحة بشأن سرعة انسحابه من الاراضي الايرانية، بل انه ادعى رسمياً بأنّ المناطق المحتلة ـ وحتى التي لم تقع تحت الاحتلال بعد ـ يجب ان تلحق بالاراضي العراقية! وهذا الادعاء مشابه لما ادعاه عند احتلاله الكويت حينما اطلق عليها اسم المحافظة العراقية التاسعة عشرة!!

والحقيقة ان أيّاً من الدول التي بادرت ـ بعد اتضاح حقيقة عجز صدام عن اسقاط نظام الجمهورية الإسلاميّة ـ الى الحديث عن وقف اطلاق النار والضغط على إيران لقبول الصلح، لم يكونوا يرغبون في السلام حقيقة، وهم يعلمون مسبقاً بأنَّ أيّ شعب واي بلدٍ لا يمكنه في ظروف كهذه، القبول بالاستسلام. والسلام كان بالنسبة لهم عصا يسلطونها على إيران لعزلها وإزوائها. والاهم من كل ذلك أنَّ الدول الرجعية العربية كانت تهدف من ادعاء السعي للسلام وايقاف اطلاق النار، التخفيف من حدِّة الضغط الذي كانت تتعرض له من شعوبها الإسلاميّة لممارستها الدعم والدفاع بكل امكاناتها عن معتدٍ معروف كصدام، والوقوف بوجه بلدٍ سخر كل وجوده وامكاناته للدفاع عن الاسلام.

إن أميركا، والدول الاوروبية والعربية لم تكن صادقة في دعوتها للسلام. وان اسطع دليل علي ذلك الذي يغنينا عن عرض اية وثيقة او مستند، هو انَّ صدام وبعد أول سلسلة من العمليات العسكرية الناجحة التي قامت بها إيران في العام الثاني من الحرب، لم يتمكن من الصمود حتى لفترة شهر واحد دون الاعتماد على المساعدات المالية الهائلة التي قدمها له الشيوخ العرب، ودون الاستفادة من التجهيزات العسكرية المتطورة التي قدمتها له الدول الغربية. فلوكانوا صادقين في ادعاءاتهم لكفاهم قطع الامدادات عن صدام بدلاً عن المشاركة في المقاطعة التسليحية والاقتصادية والنفطية ضد الجمهورية الإسلاميّة الايرانية.

ان جرم إيران انها قاومت العدوالذي غزا ارضها وعرّض آلاف الابرياء للمذابح البشعة خلال الايام الاولى من عدوانه، وشرد مئات الآلاف عن ديارهم. ورغم أنَّ الدول العربية التي وقفت مع صدام، قدمت اعتذاراتها الرسمية الى إيران ـ بعد احتلال صدام للكويت ـ واقرت باخطائها، الا ان ذلك لا يقلل من جسامة مسؤوليتها وجريمتها مع الدول الغربية وصدام في استمرار الحرب وإطالة أمدها.

وفي ضوء الاستدلالات التي تقدمت، كان الإمام الخميني يواجه الهيئات والوفود التي كانت تفد الى إيران للتوسط من اجل وقف اطلاق النار، ويعلن صراحة بأنه وشعبه سيواصلان الدفاع حتى اخراج المعتدي واجباره على دفع خسائر هذه الحرب. غير ان الصخب الاعلامي الغربي كان شديداً بدرجةٍ حالت دون وصول صوت مظلومية الشعب الايراني الى اسماع العالم.

لقد قُلبت الحقائق شيئاً فشيئاً، واُظهرت إيران على انها عدوانية الطبع، وان صدام راغب في السلام. بيد أن هذه الضغوط وهذا التزوير عجز عن التأثير في موقف الإمام والشعب الايراني الصلب والثابت. وبعد عزل بني صدر ورسوخ نهج الإمام في اركان الجهاز التنفيذي، اخذت سلسلة عملية تحرير الاراضي المحتلة وتيرة اسرع بجهود الحرس الثوري.

قبل ذلك كان أمر الإمام الخميني، باعلان التعبئة العامة  وتشكيل جيش العشرين مليون قد لقي ترحيباً من الشبان

الثوريين، وعمت انحاء ايران حركة دؤوبة تميزت باقامة الدورات التدريبية وإيفاد الافراد الى جبهات القتال، وقادت الانتصارات المتوالية لمقاتلي الحرس الثوري الي ظهور آثار الاندحار والهزمية في صفوف العدو البعثي بشكل جلي. وبالتدريج اخذ يظهر الوجه الحقيقي لامريكا وحلفائها، فانهالت الاسلحة المتطورة ـ التي كان يتم بيعها ضمن شروط صعبة ومفاوضات قد تستغرق عدة سنوات حتى في حالات السلم ويمثل تزويد البلدان بها نوعاً من الامتياز ـ بسرعة على صدام، بما في ذلك صواريخ (كروز) وطائرات (السوبر اتندار) الفرنسية. كذلك توافدت شحنات صواريخ (سكود) المتوسطة المدى وطائرات (الميغ 29) وسائر التجهيزات العسكرية الروسية على صدام بلا انقطاع لتقوية ما كنته العسكرية الحربية. حتى ان تقنية زيادة مدى الصواريخ وموادها الاولية، وتقنية صناعة المواد الكيميائية اهديت هي الاخرى من قبل الشركات الأميركية والاوروبية الى صدام لكي يتمكن من التفوق على الجمهورية الإسلاميّة.

وفي هذه الأثناء اجبرت اميركا العربية السعودية والكويت والامارات العربية المتحدة ودول الخليج الفارسي الاخرى علي تأمين ميزانية الحرب الصدامية، وقد اعترفت هذه البلدان بذلك صراحة اثناء الغزوالعراقي للكويت. والعراق اليوم مدين باكثر من 80 مليارد دولار لتلك الدول عن المساعدات التي قدمتها له طوال سنوات الحرب الثماني. اما مصر ففضلاً عن تقديمها الطيارين والطائرات، فقد ارسلت عدة آلاف من الجنود المصريين للمشاركة في الحرب، وكان للاردن دور داعم مشابه.

القصف المكثف للمدن والقرى والمراكز الاقتصادية، واطلاق الصواريخ المخربة على الاحياء السكنية، كانت حلقة اخرى في سلسلة جرائم صدام التي اغمض المجتمع الدولي والدول المتشدقة بالدفاع عن حقوق الانسان عيونها عنها، وهيآت بدلاً من الشجب والاستنكار، وسائل تنفيذ تلك الجرائم لصدام. وكان ضحية تلك الاعتداءات مئات القتلى من الاطفال والنساء العزل.

وقد قاد الإمام الخميني الدفاع المقدس للشعب الايراني في ظروف كانت إيران تعاني رسمياً من الحصار التسليحي  الذي فرضته أميركا واوروبا، وكانت مضطرة احياناً للعمل لعدة اشهر من اجل الحصول على قطعة غيار واحدة لاحدى طائراتها. ان الكثير من دول العالم اما انها اختارت السكوت في مقابل تلك الاعتداءات ومارست الضغط ضد إيران، او أنّها وقفت رسمياً الى جانب صدام ودافعت عنه. كما ان اكثر الدول المصنّعة للسلاح في العالم ـ سواء الشرقية والغربية ـ دعمت صدام ووقفت الى جانبه.

وقفت إيران وحيدة فريدة تدافع عن نفسها، ولم يكن للشعب من دعامة يستند اليها غير الإيمان بالله والامدادات الغيبية وتوجيهات هذا العالم الرباني. والمدهش ان هذه الجبهة المظلومة الوحيدة تمكنت في النهاية من تحقيق النصر وملاحقة العدو خطوة بخطوة حتى عقر داره.

ثماني سنوات من حياة الإمام الخميني مضت في قيادة هذا الدفاع المقدس، ومما يذكر أنه في العام الثالث للحرب، وبعد نجاح عمليات بيت المقدس الكبرى ـ حزيران عام 1982ـ التي انتهت بتحرير ميناء خرمشهر الاستراتيجي من ايدي القوات العراقية‌، ابدى الإمام رغبته في ضرورة‌ انهاء الحرب وحصر نشاط القوات الايرانية في الدفاع، الا ان مسؤولي النظام الاسلامي الملتزمين، بما في ذلك القادة العسكريون والمسؤولون السياسيون في البلاد، اعربوا للامام ـ بعد دراسة الظروف السياسية والعسكرية التي تمر بها البلاد واوضاع الجبهات ـ عن اعتقادهم بضرورة مواصلة القتال حتى تحقيق الظروف المناسبة لاقامة سلام دائم. وقد دافعوا عن رأيهم هذا بان قسماً من الاراضي الايرانية ما زال تحت سيطرة القوات العراقية المعتدية، كذلك فإن صدام ورغم الهزيمة الساحقة التي مني بها بعد تحرير خرمشهر، لم يكن مستعداً بعد لقبول الامر الواقع والتراجع عن اهدافه التوسعية، فهولم يكن يفكر بالسلام وانما كان يفكر ـ نتيجةً لاعتماده على الدعم اللامتناهي الذي وفرته له الدول الكبرىـ بجبران هزيمته، وذلك عبر إعادة تسليح قواته ومعاودة الهجوم العسكري على ايران. لذا فإن السلام في ظروف كهذه لا يمكن الاطمئنان اليه، وان صدام لا يزال مصراً علي ادعاءاته السابقة. ومن هنا فإن ايقاف الحرب من جانب ايران، سيجعل المدن المحررة والمناطق الحدودية، عرضة للهجمات العراقية المحتملة في المستقبل فتكون غير قادرة على الدفاع عن نفسها.

استناداً الي الادلة المتقدمة، ونظراً لما كانت تمارسه المنظمات الدولية من الكيل بمكيالين، وعدم قبولها  بالشروط الايرانية المنصفة لانهاء الحرب، ومواصلة القوي الكبرى دعم الماكنة العسكرية العراقية وتقويتها؛ كل ذلك كان سبباً في دفع القائد والشعب الايراني الى القبول بمواصلة الدفاع المقدس

لم تؤد المساعدات المختلفة التي كانت تقدم لصدام من تغيير ظروف الحرب التي كانت تتبدل بسرعة لصالح جيش

الاسلام. وتزامناً مع تصعيد القصف الصاروخي للمناطق السكنية، اضطرت اميركا للتدخل في الحرب بصورة مباشرة، فتوجهت حاملات الطائرات والسفن الحربية الفرنسية والبريطانية والأميركية والروسية صوب مياه الخليج الفارسي. ولم يبق امام أميركا من خيار سوى تدويل الحرب وتوريط دول اخرى فيها، فبدأت حرب ناقلات النفط. وقد تركزت مهمة القوات الوافدة الي المنطقه على منع تصدير النفط الايراني وايقاف وتفتيش السفن التجارية للحيلولة دون وصول المواد الاولية والبضائع الاساسية الى الجمهورية الاسلامية. وفي هذا الاطار تعرضت العديد من السفن النفطية الايرانية الى هجمات صاروخية وجوية، كما اضرمت النار في الآبار النفطية الايرانية في مياه الخليج الفارسي، وبلغ الأمر بأميركا ان اقدمت على ارتكاب جريمة مروّعة، وذلك باطلاقها صاروخين من حاملة الطائرات  (وينسنس) نحو طائرة (ايرباس) مدنية تابعة لخطوط الجمهورية الاسلامية (الرحلة رقم 655) في شهر تموز 1988 فاسقطتها، مما ادى الى استشهاد جميع ركابها، وراح ضحية الحادث 290 شخصاً من الاطفال والنساء والرجال. وقد لاذ العالم ـ الظالم والبعيد عن الحق ـ بالصمت ازاء هذه الجريمة البشعة لمجرد أنها وقعت بحق اناس كانوا ينادون بالاسلام، وهو في نظر الغرب جريمة لا تغتفر! وهي جريمة البوسنيين المظلومين اليوم نفسها، فهم يتعرضون للإبادة بسبب ذنبهم هذا

اما صدام فقد ختم صحيفة جرائمه الوحشية في الحرب المفروضة بجريمة قلَّ نظيرها في التاريخ، إذقام بقصف مدينة (حلبجة) العراقية بالاسلحة الكيماوية، الامر الذي ادى الى مقتل اكثر من خمسة الآف مواطن اعزل كان اكثرهم من الاطفال والشيوخ. وامام هذه الجريمة البشعة التزمت الامم المتحدة ومجلس الامن الصمت ولم تنبسا ببنت شفة.

إنَّ تجحفل قوات الغرب في الخليج الفارسي، وما حصل خلال الاشهر الثمانية الاخيرة من الحرب، لم يكن الا لأن جيش الاسلام كان في موقع متفوق تماماً على جيش العدو الصدامي الذي فرّ من اغلب المناطق المحتلة الى مأو راء الحدود.

ان خشية سقوط صدام المحتمل على ايدي أبطال الاسلام او هزيمته على الاقل، هي التي دفعت القوى الكبرى الى المبادرة لدعمه ومساعدته. وفي هذا المجال انصبت جهود أميركا وهيئة الامم المتحدة، وخلافاً لنهجهم السابق، على السعي لسدِّ الطريق امام تقدم المقاتلين الايرانيين والحيلولة دون سقوط صدام.

ان مصادقة مجلس الامن على القرار (598)، الذي  تضمن بعض آراء ومطالب إيران لايقاف القتال، التي كانت قد اصرت عليها منذ بدء الحرب، لكنَّ المنظمات الدولية لم تقبل بها في السابق أملاً بانتصار صدام. ان المصادقة على هذا القرار من جهة، والجرائم البشعة التي ارتكبها مشعلو الحرب في الاشهر الاخيرة من الحرب من جهةٍ أخرى، دفعت الإمام الى اصدار أوامره الى لجنة من الخبراء العسكريين والسياسيين والاقتصاديين الايرانيين الملتزمين بدراسة المستجدات على ساحة المواجهة. وبعد دراسة مستفيضة قدمت اللجنة تقريرها الذي تضمن الاشارة الى ان الوقت مناسب لايران لاثبات حقها في هذا الدفاع المقدس الذي دام ثمانية اعوام، وان عليها ان تقبل بايقاف الحرب على اساس القرار (598).

وفي 20/7/1988 اصدر الإمام بيانه المعروف باسم  (بيان الموافقة على القرار)، الذي يعدُّ من ابرز الادلة على كفاءة قيادته وادارته، ففي هذا البيان استعرض سماحته خلفيات الحرب المفروضة وابعادها بشكل جلي، ورسم الخطوط المستقبلية للنظام والثورة الإسلاميّة في مختلف المجالات، بما في ذلك المواجهة مع القوى الكبرى والاصرار على الاهداف والقيم التي جاءت بها الثورة. وان نعت الإمام الخميني قبوله بالقرار بمثابة «تجرع السم الزعاف» بحد ذاته يحمل بين طياته حقائق خفية ويتضمن دقائق كثيرة لا يسع المجال هنا لذكرها، لذا نكتفي بذكر مقطع من بيان الإمام الخميني هذا، الذّي يقول فية: «واما فيما يتعلق بقبول القرار الدولي، الذي يعدُّ في الحقيقة موضوعاً شديد المرارة صعب الاستمراء للجميع، خصوصاً بالنسبة لي. هو اني ولفترة قريبة كنت اؤمن بنهج الدفاع والمواقف المعلنة سابقاً، وكنت ارى بأنَّ مصلحة النظام والبلاد والثورة في تنفيذ تلك المواقف. غير ان الحوادث والعوامل التي لا ارغب الخوض في تفاصيلها الآن وآمل ان تتضح مستقبلاً؛ والاراء التي اتفق عليها الخبراء السياسيون والعسكريون من ذوي المقامات الرفيعة في البلاد ممن اثق بتدينهم واخلاصهم وصدقهم، دفعتني الى القبول بالقرار الدولي، والموافقة على وقف اطلاق النار. واني اعتبر ذلك الآن في مصلحة الثورة والنظام. والله يعلم بأنه لولم يكن الدافع بأن نضحي جميعاً بعزتنا وكرامتنا على طريق مصلحة الاسلام والمسلمين، فانني لم اكن لأقبل بهذا الأمر مطلقاً، ولكان الموت والشهادة احلى مذاقاً بالنسبة لي. ولكن ما العمل ونحن جميعاً مطالبون بالإذعان لما يرضي الله تعالى. ومن المؤكد ان الشعب الايراني الشجاع كان ـ وسيبقى ـ علي نهجه هذا.

وتماماً كما حذر الإمام مراراً من أن ادعاءات صدام للسلام لا تعدو كونها محاولة لتضليل الرأي العام، فقد اثبت الواقع ذلك. فبعد قبول إيران بالقرار الدولي، بادر صدام حسين الى الهجوم مجدداً وارتكاب حماقة جديدة باندفاعه في الجبهات الجنوبية لاحتلال الاراضي الايرانية.

غير ان انتشار بيان الإمام الحماسي والعاطفي ادى مرة اخرى الى ايجاد موجة من التطوع في صفوف قوات التعبئة وتجمع الطاقات الثورية المقاتلة من اقصى نقاط البلاد للتوجه الي المناطق الجنوبية، وقد ادت سرعة تحركهم  وتنظيم قواتهم الى تكبيد العدو خسائر فادحة ومسارعته للفرار، ولم يبق امام صدام من طريق سوى القبول بالهزيمة.

وبذا ـ وبمشيئة الله وكما وعد الإمام الخميني ـ فان الشعب الذي فرضت عليه الحرب، استطاع فرض السلام على عدوه ـ المغرور سابقاً والخائب حالياًـ بفضل تضحياته وبطولاته وملاحمه التي لم نر مثيلاً لها الا في الحروب التي خاضها المسلمون الاوائل في عصر صدر الاسلام.

لقد شن صدام الحرب ـ بايعاز من أميركا ـ لتقسيم إيران والقضاء على الثورة الإسلاميّة، الا انه اليوم مضطر ـ ومن اجل حفظ حياته ونظامه المفروض على الشعب العراقي المظلوم ـ الى القبول بشروط الشعب الايراني الثائر.

ومن عجائب فترة الدفاع المقدس الطويلة التي خاضها الشعب الايراني، هو ان الشعب الايراني لم يتخل طوال هذه الفترة عن نشاطه لبناء ايران واعمار الدمار الذي ورثه من النظام السابق. وخلال الفترة ذاتها وفضلاً عن ادارته شؤون الحرب علي احسن نحو، واصل تنفيذ مشاريعه الكبرى في اعادة البناء وتحديث ايران، بدءاً من مشاريع بناء السدود وشق الطرق العظيمة، وانتهاء بمشاريع توسيع الاكتشافات والاستثمارات النفطية وتوسعة محطات الطاقة وتحسين الشؤون الزراعية وزيادة عدد الجامعات ومراكز البحوث في البلاد وبقية الشؤون الاخرى المرتبطة بالتنمية الوطنية.

وبهذا النحوانتهت حرب الثماني سنوات، دون ان ينجح مشعلوفتيلها من تحقيق اي هدف من اهدافهم. ولم يبق النظام الجمهوري الاسلامي قائماً وحسب، وانما تمكن ومن خلال الوحدة الوطنية لجماهيره المسلمة، من القضاء علي الطابور الخامس داخل البلاد، وحكّم قدرته وسيادته علي مختلف انحاء البلاد. اما على الصعيد الخارجي فقد ظهرت الجمهورية الإسلاميّة كقوة لاتُهزم، تمكنت من ترسيخ حضورها الفاعل على الصعيد الدولي واثبات حقانيتها رغم ثمانية اعوام من الاعلام المعادي المكثف، واستطاعت ابلاغ رسالتها للعالم. وطبيعي انها دفعت من اجل نهجها هذا ثمناً باهضاً: «اِن تَنصُرُوا الله َ يَنصُركُم ويُثَبِّت أَقدَامكُم» .

إنَّ من اعظم ذنوب وخيانات صدام وجميع الحكومات العربية ـ الإسلاميّة الظاهر ـ التي شجعته على الاعتداء ودعمته طوال فترة الحرب، فضلاً عن خيانته في هدر الطاقات الانسانية والاقتصادية العظيمة لكلا البلدين (إِيران والعراق)، هي انه بفرضه هذه الحرب المشؤومة ارجاً تحقيق الوحدة الإسلاميّة والثورة الإسلاميّة الكبرى لسنوات طويلة بعد أن كانت قاب قوسين او أدنى من التحقق بعد سقوط النظام الملكي في ايران، وعرّض صفوف المسلمين الى الفرقة والتشتت. وبدلاً من الضغط بقوة على يد الاخوة التي مدها الإمام الخميني بعد11 شباط (يوم انتصار الثورة) من خلال بياناته واحاديثه، الى الحكومات الإسلاميّة، وقبول دعوته للاتحاد وحل مشكلات العالم الإسلامي وتحرير القدس، تراها وقفت الى جانب اساطين الكفر. وطبيعي ان

هذا الطريق لا يقود إلا الى التسليم المذل امام اسرائيل، والاعتراف رسمياً بوجود هذه الغدّة السرطانية واستقبال عساكر الكفر في بلدانهم، وتسخير ثرواتهم القومية واراضيهم وكراً لاميركا ليمكنها من الاستقرار في قلب العالم الاسلامي وفي مهبط  الوحي.

ان الهجوم الصدامي المجنون على الكويت وتدميره لكيان هذه الدولة، والنتائج المرّة التي اسفرت عن الاحتلال من تخريب البنية الاقتصادية والاجتماعية للشعب العراقي والحضور الدائم لاعداء الاسلام في المنطقة، ليس إلاّ جزاء لهذا الذنب الذي لا يغتفر «فَاعتَبِرُوا يا أُولِي الأبصار».

بعد الاستقرار النسبي للسلام، حدد الإمام الخميني للمسؤولين في الجمهورية الإسلاميّة، عبر بيان اصدره في   3/10/1988يتألف من تسعة بنود، النهج والبرامج اللازمة لاعادة اعمار البلاد. ويكفي لاستشراف عمق تفكير الإمام، والمكانة التي يؤمن بها للقيم الاصيلة، مطالعة هذا البيان بدقة.

 

 

المصدر:كتاب حديث الانطلاق