السيد د. صادق الموسويّ(*)

في لحظةٍ مهمّةٍ حاسمةٍ من تاريخ الإنسان، نزلَ الوحي على قلب عبد الله ورسوله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؛ ليفتح له آفاق السماوات بالكتاب الفصل الذي ألقى على الإنسان مسؤوليّة خلافة الأرض، وعرّفه القوانين التي تحكم الحياة، والسُّنن التي تحكم المجتمعات، وأعلمه بالقصص والعبر سبُل النهوض والتكامل، وطُرق الانهيار والسقوط، وحدّد له سُنناً، وأعطاه أمثلةً ونماذج ليتّعظ بها، ويستفيد منها، وضمّن كتابه آياتٍ علميّةً لتكون شاهد صدقٍ على إثبات البعد الإلهيّ لرسالته، ومحفِّزةً إلى المعرفة وجاعلاً منه كتاباً لكلّ زمانٍ ومكان.

البعد العلميّ في القرآن الكريم وأهمّيّته ودوره وبعض نماذجه، أمورٌ سنتناولها في مقالنا هذا.

 

* قيمومة القرآن وتفوُّقه

يُثبت القرآن الكريم نفسه بين الكتب السماوية، ويفرض وجوده على الوجود الإنسانيّ انطلاقاً من التحوّل الحضاريّ الذي أحدثه في حركة المسلمين، واعتماداً على القيَم والمبادئ والأصول التي سبق إليها كلّ النظريّات والأفكار، وتأسيساً على الحركة المتكاملة والمتوازنة التي وضعها ورسمها للكون والوجود، وعلى طبيعة حركة الإنسان واختياره واتصاله وعلاقته بربّه وخالقه. هذه الأوجه وغيرها من الإعجازات يتعرّف المسلم من خلالها إلى قيمومة القرآن وتفوّقه، وتقوده إلى استشراف السمات المختلفة لهذه المعجزة. فمضافاً إلى الإعجاز اللغويّ والبلاغيّ والنغميّ والقصصيّ والمنطقيّ والغيبيّ والسننيّ والتشريعيّ، توجد أوجُه إعجازيّة أخرى، كالإعجاز العلميّ، الذي يسبق غيره بأنّه لا يدلّ المسلم على حقيقة البعد الإلهيّ للقرآن فقط، بل يحرّكه ليفهمَ أنّ اكتشافات الإنسان ستزيد في التأكيد على كونه لكلّ مكانٍ وزمان.

 

* القرآن كتابُ تفكُّر

أوردَ القرآن الكريم قوانين ثابتة وصارمة ومطّردة، تتحكّم بهذا العالم وما فيه من نبات وجماد وحيوان وإنسان وأرض وسماء، ولا يخرج عن أحكامها شيء؛ منها الآيات التي تتحدّث عن القوانين الطبيعيّة الحاكمة على حركة الشمس والقمر ونشأة الإنسان وإحياء المطر للنبات، ومنها الآيات التي تتحدّث عن حركة الإنسان في التاريخ وحركة الأقوام والجماعات: تصرّفاتهم وأحوالهم وسعادتهم ورقيّهم وشقائهم وذلّتهم.. كان أحد مقاصد القرآن من كلّ هذه العروض لكونها آياتٍ هندسيّةً مدهشةً وفائقةَ الصنع، تسير بهذا الإنسان إلى التفكّر في علم وإبداع المهندس الحكيم عزّ وجلّ.

 

* القرآن والدعوة إلى المعرفة

إنّها قوانين علميّة، لا يدّعي كتاب الله تعالى أنّه سيكون بديلاً عن التجربة الإنسانيّة التي ستقود لاكتشافها، ولا يُقدَّم على أنّه كتاب يحتوي علوم الفلك والفيزياء والرياضيّات والكيمياء وغيرها، بل يؤكّد على وجود إشاراتٍ عليها، يتحدّى أيّ عالمٍ أن ينقضها، ستشكّل مدخلاً ومعبراً للتأكيد على ألوهيّة مَن ذكَرها.

إنّ عظمة ﴿الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ﴾ (ياسين: 2) تتجلّى في أنّه لم يضع نفسه في موضع الإجابة عن سؤال: كيف؟ ذلك السؤال الذي تحاول العلوم الطبيعيّة اكتشافه والإجابة عنه، إنّما طرح نفسه كموجّهٍ ومرشدٍ وهادٍ وضابطٍ لهذه العلوم، ومجيبٍ عن السؤال اللاهوتي الأهمّ: لماذا؟ فكانت الآيات الكريمات: ﴿لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97)، و﴿إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات: 56)، و﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ (البقرة: 219)، و﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ (هود: 7).

 

* القرآن والفصل بين: كيف؟ ولماذا؟

هذا الفصل بين كيف؟ ولماذا؟ ورسْم الحدود بينهما هو ما يقي القرآن والإسلام من الوقوع في أقسى أزمات الحضارة الإنسانيّة، حين تصدّت الكنيسة لإجابات العلوم الطبيعيّة، وفرضَت افتراضاتها الكيفيّة، ومنعت كوبرنيكوس وغاليليو وغيرهما من إظهار اكتشافاتهم المذهلة، فاتّهمت أنّها تقف عائقاً أمام تطوير مسيرة العلوم، وأوقعت نفسها في تصادم مع النظريّات العلميّة؛ الأمر الذي فرض عليها التنحّي عن دورها القياديّ للحياة والرياديّ في المجتمع بعد الإنجازات العلميّة المذهلة. على العكس من ذلك، كان للقرآن الكريم دوره الكبير في تفجير طاقات الإنسان وتحفيزه المعرفيّ ودفعه إلى اكتشاف النظم والقوانين، ومحرّك له في المسار الصحيح، فهو يطلب من الإنسان أن يستعمل أدوات العلم المسخّرة له: ﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ (العلق: 3-4)، ويعتبر العلم أحد معايير التفاضل: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾ (النور: 9)، ويتحدّاه أن يضبط خللاً في آفاق السماوات والأرض، محفّزاً له على الاكتشاف: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ﴾ (المُلك: 3)، ومن موقع القوّة والتوجيه يخاطبه بلغة العلم والعقل: ﴿أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ (البقرة: 44)، و﴿أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ﴾ (الأنعام: 55)، ويعطي مثلاً على عظيم خلقه وبديع صنعه مرّةً بالجبال والجمال، ومرّةً بالبعوضة والنطفة، ليصبح الاكتشاف العلميّ "الماكرو والميكرو" آيةً تدلّ على المنظِّم الخبير.

 

* القرآن وأسرار الطبيعة

عندما تصدّى القرآن الكريم أحياناً لسؤال: كيف؟ وأشار إلى قوانين طبيعيّة علميّة، إنّما كان ذلك في سياق إثبات قيمومته وإعجازه؛ ليكون الزمان عاملاً في تأكيد ألوهيّته، وليفتح باباً لليقين أمام الباحثين عن الحقيقة، فلا نترقّب من القرآن الكريم أن يتحدّث لنا عن مبادئ الفيزياء والكيمياء أو النبات أو الحيوان، مع العلم أنّ ما في القرآن الكريم من إشاراتٍ علميّةٍ لا يعدو كونه في سياق التأكيد على البعد الإلهيّ للقرآن، وبقدر ما يُثبت العمق الربّانيّ لهذا الكتاب الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل، والذي استطاع أن يسبق التجربة البشريّة مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق علميّة(1). وهذا ما حدث فعلاً بعد سيطرة المدارس الوضعيّة الكونتيّة والمنطق المادي الديكارتي على الحضارة العالميّة؛ الأمر الذي جعل العصر يكتشف أنّ كتاب الله تعالى ليس نموذجاً "للرجعيّة"، إنّما مثالٌ يزيد في الدهشة العلميّة. فهذا الجرّاح الفرنسي الشهير "موريس بوكاي" يكتب كتاباً يقارن فيه بين الكتب السماويّة: التوراة، والإنجيل، والقرآن الكريم؛ ليقرّر أنّ "القرآن الكريم -خلافاً لغيره- لا يحتوي على أيّ مقولة قابلة للنقد من وجهة نظر العلم...، بل أكثر من ذلك، إنّ فيه آياتٍ عديدة تشير إلى حقائق لم يتوصّل إليها العلم إلّا في العصر الحديث"، حيث ُيلفتنا "ثراء الموضوعات العلميّة عن الأرض، سواء في شكلها ودورانها، وعن الشمس والغلاف الجوي والنبات والحيوان..."(2).

 

* هل الإشارات العلميّة إعجاز؟

إنّ الإعجاز يتجلّى في كون المَأْتيّ به خارقاً للعادة، مقروناً بالتحدّي، يأتي به مدّعي النبوّة تثبيتاً لقوله، وهو ينطبق على التحدّي الغيبيّ في الإخبار عن أحداثٍ ستقع مستقبلاً، كانتصار الروم، وينطبق على التحدّي الأدبيّ والبلاغيّ واللغويّ المستمرّ، وعلى التحّدّي العلميّ المتمثّل في:

1. أنّ القرآن الكريم سطع به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في عصر تخلّف مدنيّ وعلميّ وحضاريّ، وفي بيئة لم تقدّر العلم، ولم تسهم في ألف باء التطوّر، ولكن رغم ذلك فقد تحدّث في مئات الآيات عن معارف وإشارات علميّة، وتحدّى أن يُثبتوا خطأها.

2. إنّ الحضارة الماديّة الحديثة قد تطوّر فيها العلم خلال 200 سنة ما لم يُفلح فيه منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، فاكتشفتْ أسراراً من الطبيعة مهّدت لتطويعها في سبيل تذليل وتسهيل حياة الإنسان.

3. إنّ القرآن الكريم قد أخبرَ عن حقائق مذهلة من هذه العلوم، بقيت غائمة أو غائبة أو مستبعدة طوال كلّ هذه القرون. ولم تكن تعبيراته اتفاقاً أو صدفة؛ لأنّها ليست محصورة بعدد قليل من الإشارات، والاستقراء يُثبت أنّ احتمال الصدفة يقلّ كلّما تكاثرت الاحتمالات.

 

* نماذج من الإشارات العلميّة القرآنيّة

إنّ الحديث القرآني عن تلقيح النبات بالرياح ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ﴾ (الحجر: 22)، وطبيعة الجبال ودورانها ﴿وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ﴾ (النمل: 88)، وظلمات البحار ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ﴾ (النور: 40)، وانخفاض نسبة الأوكسجين في المرتفعات ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾ (الأنعام: 125)، وتفاصيل تطوّر الكائن البيولوجيّ وعلم الأجنّة ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آَخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ (المؤمنون: 12- 14)، ودور المياه في الحياة ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ (الأنبياء: 30)، ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ (فصّلت: 39)، وتوسُّع الكون ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا﴾ (الأنبياء: 30)، وجاذبيّته ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ (لقمان: 10)، ومنازل القمر ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ (يونس: 5)، ومواقع النجوم ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ (الواقعة: 75)، وغيرها ما هي إلّا موارد توقظ الإنسان لحقيقة وإعجاز القرآن، ونوعٌ من التحدّي الذي لن تدانيه القدرة الإنسانيّة.

 

أخيراً، يجدر الالتفات إلى ضرورة التيقّظ من الإفراط في مقولات الإعجاز العلميّ، بحيث يتمّ تصوير أيّ اكتشافٍ علميّ على أنّه من الإعجازات العلميّة؛ ما يستدعي زلزلة اعتقاد بعض الناس في حال تبيّنَ فساد الاكتشاف، فالاكتشافات العلميّة درجات، منها الفرضيّة والنظريّة والحقيقة العلميّة. وحتّى نثبّت أوتدة الإعجاز على قواعد ثابتة، يجدر أن نكتفي منه بما يوافق الحقائق العلميّة القطعيّة.

 

1- السنن التاريخيّة في القرآن الكريم، السيد محمد باقر الصدر، بيروت، دار التعارف، 205، ص47

2- مويس بوكاي، التوراة والإنجيل والقرآن والعلم الحديث، ترجمة: حسن خالد، بيروت، المكتب الإسلامي، 1990.