علي حيدر
تتعدد أبعاد علاقة إيران بنتائج حرب عام 2006، (وغيرها من انتصارات محور المقاومة) من أكثر من جهة. فهي شريكة أساسية، مع سوريا، في صناعة هذا النصر الاستراتيجي، الذي يشكل أيضاً ترجمة ناجحة لاستراتيجيتها في مواجهة التهديدات المحدقة بها. وهي، كبقية أطراف محور المقاومة، استفادت من معادلة الردع التي أرستها نتائج هذه الحرب في مواجهة إسرائيل، كما أن المقاومة في لبنان وفلسطين تتعزز قوتها وحضورها بصمود الجمهورية الإسلامية وتمسكها بخياراتها الاستراتيجية.
وليس خافياً الدور التأسيسي لإيران منذ مطلع الثمانينيات في إنتاج كل انتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين، في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى الانتصار التاريخي على الإرهاب التكفيري في سوريا. فهي التي موّلت ودربت وأمدت بالسلاح... وشكلت عمقاً استراتيجياً للمقاومة. وكانت شريكة أيضاً من خلال دفع ضريبة هذا الدور من اقتصادها وأمنها الاجتماعي، عبر العقوبات الدولية التي تهدف بالدرجة الأولى إلى إخضاعها للتخلي عن خياراتها الاستراتيجية في الموقف من فلسطين ودعم قوى المقاومة في لبنان والمنطقة.
شكلت انطلاقة الثورة الإسلامية في إيران، وانتصارها، في بعدها الإقليمي، جزءاً من حركة المواجهة مع الكيان الإسرائيلي عبر إسقاطها أهم حليف له في المنطقة، وهو نظام شاه إيران. وما أضفى بعداً استثنائياً إضافياً على مفاعيل هذا الانتصار، تزامنه مع خروج مصر (اتفاقية كامب ديفيد) من جبهة الصراع مع إسرائيل، وهو ما ساهم في حينه باحتواء مفاعيل هذا الانقلاب في معادلة التوازن الاستراتيجي مع العدو، ودفع باتجاه إعادة إنتاج خريطة جديدة للتوازنات الإقليمية... وصولاً إلى الدعم المادي والعسكري والسياسي للمقاومة الإسلامية في لبنان، ما أدى إلى تغيير معادلات الصراع... وتحويل لبنان إلى مستنقع لقوات جيش العدو منذ اجتياح لبنان عام 1982، وصولاً إلى إنجاز التحرير عام 2000، فانتصار عام 2006. بهذا المعنى، شكلت هذه الانتصارات (ومنها انتقال المعركة إلى داخل فلسطين المحتلة)، انتصاراً لخيارات إيران الاستراتيجية.
ولعل العامل الرئيسي والأهم في الدفع نحو إنتاج معادلات جديدة في الصراع، مرده أن إيران لم تتبنَّ خطاباً "معتدلاً" في معادلة الصراع مع العدو الإسرائيلي، مع أنه كان يوجد من المعطيات الموضوعية ما قد يبرر لها مثل هذا الخيار، في ذلك الحين، تحت شعار المرحلية إلى حين "التمكين".
إيران ونموذج حرب 2006
شكل انتصار عام 2006 انتصاراً للاستراتيجية التي تنتهجها إيران في مواجهة أعدائها، على رأسهم الولايات المتحدة، وهي استراتيجية شبيهة إلى حد كبير باستراتيجية حزب الله في مواجهة التهديد الإسرائيلي، مع الأخذ بالحسبان الفارق الهائل بين إيران ولبنان على مستوى الجغرافيا والديموغرافيا والإمكانات. وسبق أن حدَّد مرشد الجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي أحد مكامن القوة التي مكنت الجمهورية الإسلامية من ردع الولايات المتحدة، بالرغم من تفوقها العسكري والتكنولوجي الهائل، بالقول "نحن نخوض مع الاستكبار العالمي حرباً غير متكافئة... قد تكون للاستكبار قدرات لا نمتلكها، لكننا نحن أيضاً نتمتع بقدرات لا يمتلكها هو... الحرب غير المتكافئة هي حرب إرادات، الإرادة التي تصمد، هي المنتصرة". (خلال مراسم تخريج ضباط للحرس الثوري 23/05/2016).
من أبرز تجليات صمود إيران، كان دعمها المباشر للمقاومة ضد الاحتلال الأميركي للعراق، في الوقت الذي كانت فيه القوات الأميركية تطوق إيران من ثلاث جهات: الجنوب والشرق والغرب، وفي ظل إدارة أميركية عدوانية (جورج بوش ومن بعده باراك أوباما). المفهوم نفسه ينسحب على المحطات التالية في المواجهة، وصولاً إلى سوريا ودعم المقاومة في لبنان وفلسطين... وإلا فإن السؤال الذي يفرض نفسه دوماً، أنه في ظل التفاوت الهائل في القدرات العسكرية والتكنولوجية لمصلحة المعسكر الغربي، على رأسه الولايات المتحدة، لماذا لم تبادر الأخيرة طوال مراحل الصراع السابقة إلى الضغط عسكرياً على إيران مقابل تخليها عن خياراتها الإقليمية والاستراتيجية... وبذلك تنهي مشكلتها ومشكلة إسرائيل في المنطقة؟ الجواب بكل بساطة ووضوح يعود إلى إدراك القيادة الأميركية امتلاك إيران الإرادة والقدرة على الرد الرادع، الذي لا يستند إلى توازن استراتيجي وعسكري، فالمقارنة بالأصل لا تصح، وإنما يستند إلى مجموعة عوامل موضوعية وذاتية... بينها تبنّي استراتيجية "المعركة اللاتماثلية" بالمفهوم الذي شرحه السيد الخامنئي... والتي شكل انتصار حرب عام 2006 تجسيداً ناجحاً ومدوياً لها بمواجهة إسرائيل.
شراكة في الثمار
استفادت إيران مثل باقي محور المقاومة من معادلات الردع الإقليمي في مواجهة إسرائيل. وتجلى ذلك خلال السجالات الحادة التي سادت الساحة الإسرائيلية قبل الاتفاق النووي (تموز 2015)، بين جزء من المستوى السياسي، على رأسه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ووزير الأمن إيهود باراك الداعي في حينه إلى استهداف المنشآت النووية الإيرانية، وبين المؤسسة العسكرية والإستخبارية التي كانت ترفض بشدة هذا الخيار إستنادا إلى أمور عدة، من ضمنها الرد الصاروخي لحزب الله الذي سيمطر العمق الاستراتيجي لإسرائيل، إضافة إلى الرد الإيراني الذي سيشمل المصالح الأميركية في المنطقة.
تتميز العلاقة بين أطراف محور المقاومة بالترابط الوثيق، كل من موقعه، وبحسب ظروفه. ويستند هذا الترابط إلى وحدة الخيارات الاستراتيجية في الصراع مع إسرائيل، والى التهديدات المشتركة، فضلاً عن عوامل جغرافية وسياسية أخرى. من هنا، تُترجم قوة أو انتصار أي طرف من أطراف هذا المحور تعزيزاً لموقع وقوة بقية الأطراف بالضرورة، والأمر نفسه ينطبق ـ إلى حد ما ـ على ضعف وتراجع أي منهم، من خلال تأثيره على بقية الأطراف.
وبما يتعلق باللحظة السياسية، تنطوي العقوبات التي انتهجتها إدارة ترامب ضد الجمهورية الإسلامية على إقرار بأن أي خيار عسكري ضدها ستترتب عليه مخاطر كبرى سوف تطاول الوجود الأميركي ومصالحه في المنطقة، وهو ما شكل منطلقاً للبحث عن خيارات بديلة، تلتفّ على الخيار العسكري تجنباً لنتائجه وتداعياته، وبهدف تدفيع إيران أثمان خياراتها الاستراتيجية والإقليمية في ما يتعلق بالموقف من فلسطين ودعم المقاومة في لبنان ودعم سوريا، ومن أجل تحريض الشعب الإيراني على نظامه. وما الرسائل التي وجهتها الجمهورية الإسلامية في مواجهة أي محاولة لمنعها من تصدير نفطها، إلا لثقتها بقدراتها الرادعة، ومعرفتها بحضورها القوي في وعي وحسابات البنتاغون الأكثر خبرة بعناصر القوة الإيرانية وتنوعها، ولكونها تملك القدرة والإرادة على فرض معادلات خليجية وإقليمية، في مواجهة أي خيارات عسكرية ضدها.
تعليقات الزوار