الإمامة وعاشوراء، محاضرة للإمام موسى الصدرـ ۴؛
قدم الإمام موسى الصدر محاضرة تحت عنوان الإمامة وعاشوراء خلال ندوة أدبية انعقدت في مدرسة الآداب العليا ببيروت، مبينا في الحلقة الرابعة كيف تمكن الإمام الحسين (ع) أن يحيي الشريعة الإسلامية بعد أن استغلها الطغاة وأصحاب أطماع الدنيا.
إن آلهة الأرض (الطغاة) في المصطلح الديني هم آلهة المال، وآلهة القوة، وآلهة الإغراء، وآلهة الجاه والطغيان والظلم. إن هذه الآلهة وزبانيتهم باستعباد الإنسان أو على حدّ تعبير القرآن استضعاف الإنسان (طبعًا كلمة الاستضعاف في القرآن كلمة شاملة، تعني عدّ إنسان أخاه الإنسان ضعيفًا لكي يأخذ منه ماله، (وهذا استثمار في مصطلحنا المعاصر) أو حريته (وهذا نسميه الاستعمار)، أو يأخذ منه عقله، الاستضعاف في الاستثمار والاستعمار والتسلط والإغراء والإرهاب والتضليل، وجميع العناصر التي تسلب الإنسان سلوكه الصحيح وحريته المسؤولة. ومن الطبيعي أن هذه الآلهة لا تترك الساحة دون جهاد فتصطدم مع رسالة الدين المتجسدة في دعوة الأنبياء والأئمة ويحصل الصراع وتُراق الدماء وتمتلئ السجون ويُضطهد المستضعفون في الأرض.
ثم تبدأ المرحلة الثانية التي تُسمى بمرحلة التأويل، ذلك لأنه عندما انتصر نبي في المعركة سرعان ما يغيّر الطغاة أدوارهم فيلبسون ملابس الدين ويقوون سلطانهم بأحكام الدين وطقوس الدين، فيأخذون صدور المجالس ومراكز المعابد ويعود الخطر ويبقى المعذبون في الأرض تحت الأعباء الجديدة التي اكتسبت لون القداسة من خلال المؤسسات الدينية ورجال الدين أيضًا الذين يساعدون هؤلاء الطغاة، آلهة المال والجاه والطغيان. المستضعفون يتألمون وتستمر المأساة ويعود الصراع بقيام نبيّ أو وصيّ وتُراق الدماء وتمتلئ السجون وتسقط الضحايا وهكذا...
والحسين الذي عاش الرسالة الإسلامية وشاهد جهود محمد وعليّ وأصحاب محمد، شاهد جهودهم في سبيل تحرير الإنسان من قيوده ودفعه الرائد نحو الكمال. الحسين عاصر تحطيم الأصنام في الكعبة، وعاصر تحطيم الأصنام في المجتمع وسقوط الشاهنشاهية الفارسية والقيصرية الرومانية والتمييزات الطبقية القريشية وتحرير الإنسان اليمنيّ والحبشيّ، وعاصر ولادة المجتمع الجديد، مجتمع الأخوة الذي أسسه محمد على أسس العدل والكرامة والإنسانية والقيم، الحسين الذي عاصر تلك المعارك فشاهد النتائج وميَّز الصفوف فوجد أنصار الحق مقابل أنصار الباطل، يرجع البصر كرة أخرى فيرى أن كل شيء قد تغيَّر، ويرى أن الذين كانوا يحاربون الحقّ في الأمس القريب ويستضعفون الناس بأساليب طاغية أصبحوا حماة الدين الجديد وأدعياء حماية هذا الدين، فيحكمون من خلال المنابر والمساجد فيقول متألمًا: "أصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، ألا ترون أن الحقّ لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهي عنه؟ لَيَرغب المؤمن في لقاء الله محقًا".
الحسين يشاهد أن على منبر الرسول، ومن خلال مركز القيادة الجديدة مركز تحسين الإنسان وإنقاذ الإنسان، يتحكم ساسة الإرهاب والتجويع في العالم الإسلامي عدا جيوش الحاكم المرتزقة (راجعوا "شرح نهج البلاغة"-المجلد الثاني، والطبري-المجلد السادس، و"الاستيعاب" وابن الأثير والمسعودي لكي تشاهدوا العصابات التي كانت تكلف من قبل الخليفة لكي تغير على أطراف العالم الإسلامي، عصابات السلب والقتل وإبادة أرزاق الناس ومنع الناس عطاياهم وأجورهم ونهب بيت المال). وإلى جانب ذلك سيف المستضعفين أي سيف محمد وصل إلى يد الطاغين من جديد فيستضعفون بسيف محمد من جديد، وهذا هو الخطر الدامي الأمرّ.
ثم يشاهد الحسين أن سياسة التفرقة بين القبائل وتشتيت الأمة والتفرقة بين الشعوب وبين العناصر تتحكم في المجتمع (لاحظوا كتاب "صفين" لنصر بن مزاحم، والطبري، وتاريخ الإسلام السياسي لكي تشاهدوا كيفية خلق الفتن بين اليمنيّ والقيسيّ وبين فئات من اليمنيين وبين العراق والشام والحجاز والشام واليمامة واليمن وداخل القبائل كيف كانت تمارس سياسة التفرقة).
ثم يشاهد الحسين أيضًا تزوير الأحاديث فهناك أناس ممتهنون يأخذون رواتب لكي يُزوِّروا الأحاديث ونقل الروايات في فضل القبائل (راجعوا شرح النهج أيضًا وقد جمع ذلك أحمد أمين في كتاب "نهج الإسلام" حتى أصبح في الأحاديث مدرسة باسم مدرسة معاوية في الأحاديث).
ثم يشاهد الحسين أن المحنة، محنة المستضعفين أصحبت أكثر خطورة لأنه تكونت إيديولوجيات خطِرة لاستمرار المعذبين في تحمل الأعباء والصبر، فتكوَّنت فرقة المرجئة (والمرجئة كما يقرُّها ابن حزم في "الفصل" تعتمد على هذه القاعدة: لا تَضرُّ مع الإيمان معصية كما لا تنفع مع الكفر طاعةً، فإذا كان الإنسان مؤمنًا بقلبه كفى ذلك مهما ارتكب من الظلم فلا يضرّه شيئًا)، هذه الفلسفة تكوَّنت لخدمة الطغاة الذين كانوا يتحكمون باسم الإسلام، كما أن الجبرية انتشرت في هذا الوقت بالذات وتركت الأمور للتقادير وسلب الإنسان إرادته: إرهاب في الحياة الفكرية، تهويل والأغلال تعمّمت.
وبالتالي يشاهد الحسين نتيجة هذه الأمور في قتل الأبرياء وترحيل القبائل (وإن حصة لبنان من قضية ترحيل القبائل حصة وافرة، لأن كثيرًا من القبائل الذين انتقلوا ورحلوا إلى لبنان كانوا من القبائل الشيعية في العراق)، ونفي الصحابة التابعين وتسفيرهم نتيجة ذلك، يشاهد تحولًا عميقًا في مفاهيم الجيش. فالجيش كان جيشًا رساليًا فصار جيشًا مرتزقًا، وفي مفهوم بيت المال كان للأمة فصار لمصلحة الطاغين، وشاهد الفرق في الحكم في مفهوم الحكم الذي هو إعطاء حكم الله لا تنفيذ رغبة الناس. والتغيير في الشعائر الدينية: المساجد المتواضعة... والصلاة البسيطة أصبحت ضخمة في الشكل، يهتمون بشكلها وأبنيتها كما يقول الرسول: "مساجدهم عامرة بالبناء خراب من الهدى"؛ وتغيُّر في البيعة: فالبيعة التي كانت تعبِّر عن رضى الناس، واختيار الناس وتصويت الناس أصبحت مفروضة تؤخذ مسبقًا وبالإغراء والتهديد.
يشاهد الحسين هذه القواعد وتلك النتائج في جانب الحاكم، ثم يشاهد من جهة أخرى أن الأمة تنظر كالنعاج إلى هذه الأوضاع دون اعتراض، وأن اليأس واللامسؤولية والخوف والطمع هذه العوامل مسيطرة على الناس، وهو الحسين مسؤول عن سلامة تحرّك الناس، هو المسؤول لأنه الإمام؛ ولكنه لا يملك جيشًا ولا قوة فاختار أن يحوِّل نفسه إلى سلاح في الميزان. فخرج مع أولاده وأهل بيته وأصحابه وعائلته ويقف لكي تتحقق المأساة بأفظع صورها، فتكشف خصومه وتعزلهم عن ادعائهم تمثيل المفاهيم الدينية، وتؤكد للناس أن هؤلاء الحكام ليسوا هم القديسين ولكي تهزّ ضمائر الأمة من جهة أخرى، وهكذا كان.
وكانت نتائج الأمر كما قدَّرها الحسين: اعتراض بعد اعتراض، وتمرد وثورة. فحركة التوابين جاءت بعد فترة وجيزة من مشهد الحسين وقتله كما يقول الطبري، ثم جاءت ثورة المدينة، ثم ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي في سنة 66 يعني بعد خمس سنوات، فاشتعل العالم الإسلامي في كثير من أجزائه في حركات دموية قاسية وجاء المطرف بن مغيرة بن شعبة فثار على الحجاج في سنة 77، وعبد الرحمن بن محمد الأشعث فثار على الحكم في سنة 81، وزيد بن علي بن الحسين في سنة 121، حتى انتهت إلى ثورة بني العباس التي قلعت جذور بني أمية.
وهنا نشاهد أن جميع هذه الثورات كان شعارها "يا لثارات الحسين". وملخص الكلام أن الشهادة مسؤولية أصيلة في القادة وفي الإمام الذي هو سيد القادة في المصطلح الأصلي الشرعي. فالمعركة يجب أن تُدرس كما هي مدروسة في الحلقات الإحدى عشرة القادمة.
المعركة معركة رسالية جزء من الكل مرتبطة بالماضي واصلة المستقبل إلى الماضي طبيعية وناجحة. وهكذا نجد الترابط الواضح بين كلمة الإمام في مفهومه الأصيل وبين كلمة الشهادة التي يعبِّر عنها عنوان محاضرتنا بعاشوراء ونصل إلى أن الذين يريدون أن يسلكوا هذا السبيل عليهم الاستعداد لمثل هذه المسؤوليات وتحملها، وأن في ذلك أضواء على الأبعاد التفصيلية الموضوعية التي سنشاهدها. واستمرار عاشوراء في التاريخ كما قلنا لكي يبعد الموضوع عن كونه حدثًا تاريخيًا ننظر إليه كقصة في التاريخ بل إنه المتجدد مع كل سنة.
واختيار صورها أمر وطني، بشرى فني. فقد عبَّر عن عاشوراء بتعابير مختلفة فمن معبِّر بالشعر أو بالنثر أو بالكلمة وبالاحتفالات أو بالمسرحيات أو بصور أخرى متكاملة. فالغاية إبقاء اللوحة في وجه الإنسان لمساعدته في صراعه مع الشرّ، ولكي يتجسّد ويفهم ما يقوله النبي عن الحسين في كلمتين: الكلمة الأولى أنه يعبِّر عنه بأنه مصباح الهدى، المصباح الذي ينير الطريق للهداية، ويقول ثانيًا: "حسين مني، وأنا من حسين"، فالحسين منه أمر واضح لأنه ابنه أما هو من الحسين فهنا يأتي دور عاشوراء الأصيل في التاريخ لأن الإسلام الذي جاء لتحرير الإنسان أصبح من جديد أغلالًا في أيدي الناس المستغلين فوُلِدَ الإسلام في شكله الحقيقي المتحرر والمحرر للمستضعفين في إطار القيادة على يد الحسين مرة أخرى. ولذلك، يقول النبي أنا من حسين.
تعليقات الزوار