يقول الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم. إنا أعطيناك الكوثر. فصل لربك وانحر. إن شانئك هو الابتر). هذه السورة المباركة هي من جملة السور التي تحدى الله بها الإنسانية على أن يأتوا بمثلها، وهي في الوقت عينه، من أعظم السور دلالة ومعرفة رغم أنها أقصر سورة قرآنية، بل إن لطائفها ونكاتها وبلاغتها بيّنة لمن خبر الفصاحة من قول العرب.
* ما معنى الكوثر؟
يقول السيد المرتضى(1): فأما (الكوثر) فقد قيل: إنه نهر في الجنة. وقيل: إن (الكوثر) النهر بلغة أهل (السماوة)(2). وقيل: إن الكوثر إنما أراد به الكثير، فكأنه تعالى قال: إنا أعطيناك الخير الكثير. وهو أعجب التأويلين إليّ، وأَدْخَلُ في أن يكون الكلام في غاية الفصاحة، فإن العبارة عن الكثير بالكوثر من قويّ الفصاحة. وقوله (فصلّ لربك وانحر) أن استقبل القبلة في نحرك، وهو أجود التأويلات في هذه اللفظة ومن أفصح الكلام وأبلغه وأشدّه اختصاراً. وقال: فأمّا قوله (إن شانئك هو الأبتر) فمن أعجب الكلام بلاغة واختصاراً وفصاحة، وكم بين الشانئ والعدو في الفصاحة وحسن العبارة. وقيل: إن الأبتر هو الذي لا نسل له ولا ذَكَرَ له من الولد. وقيل: إن الأبتر ها هنا هو المنقطع الحجة والأمل والخير، وهو أحب إليّ وأشبه بالفصاحة. فهذه السورة على قصرها كما تراها في غاية البلاغة. هذا القول منه وأشباهه يدفعنا إلى محاولة سبر غور معاني ما جاء الله به من معارف ومفاهيم، بغض النظر عن فصاحة القرآن المتفق عليها عند المسلمين أجمعين. * إنّا أعطيناك الكوثر: تابع معي بدقة. - إن جلّ ما في السورة من مضامين عالية نجدها في الآية الأولى وهي: (إنا أعطيناك الكوثر)، والتي تتألف من ثلاث كلمات فقط لا غير. وهي عمدة السورة وركيزتها من حيث المضامين. - إن الآية تتحدث عن اثنين لا شراكة لغيرهما فيها، وهما الله تعالى والنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله). - افتتاحية الله تعالى بدأها بكلمة (إنّا): أ ـ التي تفيد التحقيق والتأكيد لما تحقق وسيتحقق. ب ـ جاءت للتعظيم والتفخيم والتشريف، فكما أن المعبود معظّم، فكذلك العابد معظم كما سيتبين. - أعطيناك، وهي تفيد الإعطاء بمعنى الهبة الخالصة من تمليك أو غير تمليك كالأموال والأولاد، وهي غير قابلة للاسترجاع، وهي منحةٌ ابتداءاً من الله تعالى إلى نبيّه. وإن هذا العطاء سابق لعباداته كما هو سابق لطاعاته، وفي هذا قال الرازي: كأنه تعالى يقول: نحن ما اخترناك وما فضلناك لأجل طاعتك، وإلا، كان يجب أن لا نعطيك إلا بعد إقدامك على الطاعة، بل إنما اخترناك بمجرد الفضل والإحسان منا إليك من غير موجب، وإن تلك العطيّة غير معلّلة بعلّة أصلاً بل هي محض الاختيار والمشيئة(3). - إنّ هذه العطية جاءت بصيغة الماضي، بمعنى أن العطاء الخالص كان في القدم والأزل وحتى قبل أن يولد النّبي في عالم الدنيا. وهذه مرتبة لم يسبقه إليها أحد من العالمين. وإلى هذا ذهب أيضاً السيد أحمد الفهري بالقول: الإتيان بصيغة الماضي لا المضارع والحال، يعطي معنيين: الأول، لإعلام النبي (صلى الله عليه وآله) بأن وسائل سعادتك وعزّتك مهيّأة من قبل، حتى قبل ولادتك، وليس هذا جزاء عملك وعبادتك حتى يكون محدوداً. والثاني، يعطي الاطمئنان للنبي بأنه محقق الوقوع(4). - إن ورود العطاء بصيغة الجمع، يدل على العظمة في ثلاثة اتجاهات، أولها الله تعالى العاطي الواهب، إلى الموهوب له المعظّم، وهو ها هنا رسول الله (صلى الله عليه وآله)، بالإضافة إلى أن ما منح له عظيم وجليل أيضاً. - إن كاف المخاطب في أعطيناك جاءت بصورة المفرد، وهذا يفيد رفع التكلف في الخطاب، وتكريم خاص به لمزيد من الطمأنينة والأنس بالمخاطب، بل إن ذلك يشير إلى مقام القرب النبوي من ربه المعبود والذي أجمع عليه المسلمون بأن مقامه مقام الحبيب. - إن نوع الخطاب يدل على أنه مباشر بينهما لا وساطة لجبريل فيه، وإن كان هو منزل الآيات.
* الهبة الخالصة: - الكوثر: هو لغة الخير الكثير، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد أو كثير في المقدار الخطر: كوثراً(5). وعند الراغب الأصفهاني أن (تَكَوْثَر الشيء): كثُر كثرة متناهية(6). أي أن ما أُعطي رسول الله (صلى الله عليه وآله) كل الخير، وهذا يعني بدلالة عميقة أن من أُعطيَ مثل هذه العطية، لا بد من أن تكون صفاته كلها خيرية لا تشوبها شائبة نجس ولا رجس، وأنه في كل جهاته طاهر مطهّر مستوعب لمثل هذا النوع من الهبات، وهذا ما يفرض بالضرورة أعلى نوع من أنواع العصمة المباركة التي لم يجارِهِ فيها أحد من أولي العزم، فكيف بباقي الأنبياء؟! لأجل ذلك، انفرد النبي بها لأنه الوحيد في عالم الإمكان الذي حاز مقام تمام الاستقامة لقول الله تعالى: ﴿فاستقم كما أُمرت﴾ (هود: 112)، وهذه ـ بحسب الرواية ـ هي التي شيبّته، فقال (صلى الله عليه وآله): شيبتني سورة هود إذ فيها: فاستقم كما أمرت(7). - إن هذه الهبة الخالصة فوق تصور أهل العوالم بجمعهم، لأنها هبة بين الله تعالى ونبيه كما تقدم. إذاً، فاستيعاب الهبة محال علينا. - إن الهبة الممنوحة، تشمل عالم الإمكان كله بما يعرف وما لا يعرف، فما لا يعرف هنا يشبه ما قاله الله تعالى عن نبيه في المعراج: ﴿فأوحى إلى عبده ما أوحى﴾ (النجم: 10). فما الذي أوحاه إليه؟! إنه الشيء الذي لا يعقل بعقل، ولا يتوهم بخيال متخيل، ولا يدرك بقوة نفس ولا روح، فكُتم الوحي بينهما عنا ليرحمنا أن لا تطيق أنفسنا ذلك فنفنى كما قال جبرائيل (عليه السلام): «لو دنوت قيد أنملة لاحترقت»(8) أي فنيت. أما بما يعرف، فإن الهبة الإلهية تشمل بمصاديقها عالم الدنيا وعالم الآخرة، وهذا ما يفسر ما ادعاه بعض المفسرين عن ورود الكثير من التناقض في معنى أعطيناك، حيث ذهبوا إلى عدة اتجاهات، منها أن الكوثر هو نهر في الجنة عطيّة لرسول الله وحده، وأنّها فسرت بالرسالة، والنّبوة، والعلم، والحكمة، والنّصر الدائم على أعدائه، وانتشار الإسلام، والحوض، والشّفاعة وغير ذلك كثير. والواقع أن جميع ذلك هو مصاديق ما منح للنّبي (صلى الله عليه وآله). فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: فإن الناس يزعمون أنه نهر في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه(9).
- وفي الانتماء الخير الكثير: - بلحاظ أن واحدة من مناسبات وأسباب التنزيل، هو انقطاع نسله(صلى الله عليه وآله) على ما عيّره به بعض ادعياء قريش، فإن مصداق الخير الكثير جرى عكس ما اشتهته أنفس أهل الكفر، فجعل نسله في ابنته فاطمة الزهراء (عليها السلام)، في أشرف خلق الله تعالى بعد النبي، وهم الأئمة الأطهار (عليهم السلام)، حتى صارت عائلته من نسبه أعظم وأضخم عائلة بشرية على الإطلاق رغم كل ذاك القتل والتشريد والتعقّب عبر التاريخ. ومع هذا، فإن إحصاءات اليوم فيما يتعلق بتعداد السادة في العالم تُظهر أن عددهم يناهز خمسين مليوناً، ولو أضفنا إلى هذا عائلته الإسلامية، لوجدنا أنها تناهز المليار ونصفاً. وبلحاظ ما وعدنا النبي به، من أسلمة العالم في عصر ظهور بقية الله في أرضه، لعرفنا حجم الخير الكثير في جهة واحدة وهي جهة الانتماء، فضلاً عن جهة النسب اللصيق. وعلق الشيخ ناصر مكارم على هذا بالقول: كثير من علماء الشيعة ذهبوا إلى أن فاطمة الزهراء (عليها السلام) من أوضح مصاديق الكوثر، لأن رواية سبب النزول تقول: إن المشركين وصموا النبي بالأبتر، أي بالشخص المعدوم العقب، وجاءت الآية لتقول: (إنا أعطيناك الكوثر). ومن هنا نستنتج أن الخير الكثير أو الكوثر هو فاطمة الزهراء (عليها السلام)، لأن نسل الرسول (صلى الله عليه وآله) انتشر في العالم بواسطة هذه البنت الكريمة . . . وذرية الرسول من فاطمة لم يكونوا امتداداً جسمياً للرسول (صلى الله عليه وآله) فحسب، بل كانوا امتداداً رسالياً، صانوا الإسلام وضحّوا من أجل المحافظة عليه وكان منهم أئمة الدين الاثنا عشر، أو الخلفاء الاثنا عشر بعد النبي كما أخبر عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الأحاديث المتواترة عند السنة والشيعة، وكان منهم أيضاً الآلاف المؤلفة من كبار العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسرين وقادة الأمة(10). فسبحان من خلد فأخلد، وعلا فأعلى.
ـــــــــــــــــ
(1) رسائل المرتضى، الشريف المرتضى، ج 1، ص 438 – 439.
(2) مدينة في العراق.
(3) تفسير الرازي، ج 32، ص 122.
(4) دروس في التفسير، السيد أحمد الفهري، ص 192.
(5) تفسير الثعلبي، ج 10، ص 308.
(6) مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 426.
(7) زبدة البيان، المحقق الأردبيلي، ص 167.
(8) فهارس رياض السالكين، الشيخ محمد حسين المظفر، ج1، ص159.
(9) صحيح البخاري، ج 6، ص 93.
(10) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي، ج 20، ص 502 – 503.
**************
تعليقات الزوار