الجمهوريّة الإسلاميّة: بناءٌ واقتدار(*)
سماحة السيّد هاشم صفيّ الدين
ما واجهه شعب الجمهوريّة الإسلاميّة، لم يواجهه شعب في عصرنا الحاضر الذي عشناه كلّه، وفي القرنين الماضيَين، في الحدّ الأدنى، من حصار وضغط، وتشويه، واستهداف، وعلى الرغم من ذلك بقيت هذه الجمهوريّة الإسلاميّة صامدة على مبادئها وأصالتها.
السؤال الذي يُطرح دائماً: كيف تمكّنت هذه الجمهوريّة من الصمود؟ وهذا يجب أن يعيدنا إلى الأصول، والمبادئ، والثقافة التي اعتمدت عليها.
•جمهوريّة عالميّة
نشأت هذه الجمهوريّة الإسلاميّة من رَحِم ثورة، وعقيدة، وحركة شعبيّة عارمة، وفي ظلّ قيادة مميَّزة جدّاً... اكتملت جوانبها في مختلف الأبعاد: الفكريّة، والنظريّة، والعمليّة، وحملت أهدافاً إنسانيّة خارقةً للجغرافيا، والحدود، والهويّات الخاصّة، وترفّعت عن المصالح الضيّقة الذاتيّة، ما جعلها بحقّ ثورةً عالميّة، وجعل جمهوريّتها جمهوريّةً عالميّة.
•ثقافة متجذّرة
فثقافة الثورة، وإن وُجدت بشكلٍ متراكم، ونَمَت في ظلّ الشعب الإيرانيّ، إلّا أنّها أصبحت ثقافةً مستحكمةً، ومقتدرةً، ومتجذّرةً، وعكست نفسها في الدستور الإيرانيّ، دستور الجمهوريّة الإسلاميّة؛ في الانتخابات، وتداول السلطة، والتعاطي مع الشؤون الاجتماعيّة والحياتيّة كلّها، وفي النموّ، وصولاً إلى مرحلة الاقتدار الكبير الذي تعيشه اليوم الجمهوريّة الإسلاميّة.
•مفجّر الثورة وباعثها
إذا أردنا أن نعرف الأسباب في استقامة هذه الجمهوريّة، يجب أن نعرف الركائز التي قامت عليها، وهي ركائز بلا شكّ كبيرة وكثيرة، لكن في البداية، يجب أن نتحدّث عن مفجّر هذه الثورة وباعثها الإمام الخمينيّ قدس سره ؛ لأنّ الإمام هو الذي صنع هذا التغيّر بعلمه، ومعرفته، وعرفانه، وإخلاصه، وشجاعته، ووضوح رؤيته، معتمداً على مبادئ زرع من خلالها ثقافةً أصيلة في الشعب الإيرانيّ، مستعيناً -طبعاً- بعددٍ كبير من تلامذته، والعلماء، والمخلصين، والمجاهدين، والمضحّين، وبشكلٍ أساس على الشعب الإيرانيّ الذي استجاب بكلّ إخلاص لكلمته، ومبادئه، ونهجه.
الإمام الخمينيّ قدس سره، بفهمه، ومبادئه، وثقافته، نفذ إلى القلوب، كما صبغ الفكرُ النيِّر الذي حمله بصبغته، ونفذ به إلى العقل، فجمع بين قوّة العقل وقوّة القلب، مستفيداً من الإسلام المحمّدي الأصيل، ليبني هذه الجمهوريّة القويّة والمتينة، والتي نراها اليوم جبلاً راسخاً عصيّاً على التحدّيات كلّها.
ولذا، إذا أردنا أن نفهم هذه الأسباب، لا بدّ من العودة إلى هذا الفكر، الذي اعتمده الإمام، والذي يستند إلى قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).
إذاً، نحن أمام تجربة فيها الجهاد في سبيل الله، جهاد النفس فيها البناء، فيها العزم، فيها الاقتدار، فيها هذه المعاني والقيم كلّها.
فما هي الركائز التي قامت عليها هذه الجمهوريّة؟
•ركائز الجمهوريّة الإسلاميّة
1- ثقافة البناء
الركيزة الأولى هي ثقافة البناء في نهج وفكر الإمام، وهي ثقافة متأصّلة؛ بدءاً من بناء الذات ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾، وصولاً إلى بناء المجتمع، والقيم، والمنظومات الحاكمة، فبناء الثورة وقيمها، إلى بناء الدولة، واستقرارها، وعدالتها، وإلى ما أنجزته وتنجزه إلى يومنا هذا من علمٍ، وتقدّم، ومعرفة. فالبناء يحتاج إلى العقل والعلم، والإمام من موقع العلم، والعقل، والمعرفة هو المرجع، والفقيه، والعارف. والبناء يحتاج إلى أن يفتح الإنسان قلبه على العلوم والمعارف كلّها ليستفيد منها، فيتطوّر وتنمو شخصيته. وفي الإطار نفسه، بإمكاننا أن نتحدّث عن قيم بناء المجتمع، والحياة، وبناء الدولة واستمرارها إلى يومنا هذا.
وعناصر هذا البناء:
أوّلاً: الإيمان واليقين بأنّك تسعى نحو تحقيق هدف محدّد؛ إذ أيّ إنسان يريد أن يبني ذاته، إن لم يُحدّد هدفه ويكن متيقّناً من الوصول إلى هذا الهدف، لا يمكنه أن يُقدِم على تغيير وبناء ذاته بالشكل الذي يوصله إلى الهدف.
ثانياً: العزم، والصدق، والعمل؛ ينقل الإمام قدس سره كثيراً عن أستاذه الشاه آبادي (رضوان الله تعالى عليه) أنّه كان يقول: العزم هو جوهر الإنسانيّة.
ثالثاً: الرؤية الواضحة: فإذا امتلكت إيماناً، ثمّ عزماً، ثمّ رؤيةً واضحةً، تحدّدت لك الأهداف والمسار
رابعاً: الإبداع، والابتكار، والخلّاقيّة.
هذه عناصر أربعة مهمّة جدّاً في عمليّة أيّ بناء؛ بناء الذات، والمجتمع، والأسرة، والدولة؛ أي جوانب الحياة كلّها. ولطالما كان الإمام يدعو الشباب في خطاباته المتكرّرة ليأخذوا بعناصر البناء؛ لأنّهم قادرون على ذلك. فالمؤمن، والعازم، والصادق، وصاحب الفكر، والمبدع، والمبتكر كلّهم قادرون.
في كلّ عنصرٍ من هذه العناصر نجد تأثيراً مهمّاً جدّاً على مستوى بعدين:
الأوّل: يُحقّق الذات المستقلة والواثقة.
الثاني: يحقّق البُعد الذاتي والاجتماعي.
2- الاقتدار
الركيزة الثانية هي الاقتدار. فحينما يعتقد الإنسان أنّه قادر، فسيتحرّك، وأمّا من يعتقد أنّه عاجز، فلن يفعل شيئاً. فالذي يسعى إلى امتلاك القدرة، سيكون فاعلاً ومؤثّراً، ومن لا يسعى إلى امتلاكها، فلن يكون مؤثّراً، سواء كان شاباً، أو كهلاً، أو خبيراً في هذه الحياة الدنيا.
وهذه الركيزة تصلح لأيّ عمر، ومكان، ومرحلة، دعا إليها إسلامنا العزيز حينما قال: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾ (سبأ: 46). فالقيام يعطيك القدرة، أمّا السكون والكسل، لا يقدّمان شيئاً إلّا المزيد من الضعف والوهن.
فالجمهوريّة الإسلاميّة آمنت بمبدأ الاقتدار، والشباب والشابّات، والرجال والنساء كلّهم أخذوا هذه الثقافة من الإمام، لكي يحصلوا على القدرة؛ قدرة الإيمان، والوعي، والمعرفة، والعلم، والطموح نحو الوصول إلى مقامات عالية.
تمكّن الإمام باقتداره وفهمه أن يضخّ في المجتمع الإيرانيّ هذه الثقافة، لكي يكون الإنسان الإيرانيّ المسلم إنساناً مقتدراً وقويّاً، وهذا يبني له شخصيّة قويّة، ويبني مجتمعاً قويّاً، يعتمد على نفسه وعلى ثقافته، لا أن يكون ضعيفاً أمام ثقافة الآخرين.
3- الانتماء الوطني
الركيزة الثالثة هي الانتماء الوطنيّ القويّ، انتماء إنسانٍ يغار على وطنه، وسيادته، وتاريخه، وثقافته، ولغته، وهذا ليس عيباً، وهذا الانتماء الوطنيّ خاصّة هو الذي كان يُشعرهم دائماً بالفخر والاعتزاز، فكيف وأنّ هذا الاقتدار الوطني فتح لهم أبواباً شاسعة للعلم والمعرفة؟! حتّى في أيام الحصار والحرب، سعت إيران إلى تطوير جامعاتها والعلوم فيها، وأصبح معلوماً اليوم، في العالم كلّه، مستوى التطوّر العلميّ والمعرفيّ الذي وصلت إليه، والقدرة في الأبعاد كلّها؛ الذاتيّة، والاجتماعيّة، والفكريّة. فإيران اليوم مستقلّة فكريّاً، ولا تحتاج إلى أفكار الآخرين، وإن كانت تستفيد منها، وهي مقتدرة أيضاً عسكريّاً، تبني أسلحتها بعقول شبابها..
•تجربة المقاومة الإسلاميّة
ونحن في لبنان، بحمد الله عزّ وجلّ، تعرّفنا إلى ثقافة الإمام الخمينيّ، وآمنّا بالإمام وبثقافته، وبولاية الفقيه، وبالوليّ الفقيه، وآمنّا بالاقتداء بالإمام الخامنئيّ دام ظله، وبمبادئ الثورة الإسلاميّة، وأهمّها عنصرا البناء والاقتدار؛ فمن خلالهما، بنَت المقاومة الإسلامية هويّتها، وذاتها، وشخصيّتها، ودافعت عن وطنها، وقيمها، وسعت إلى الاقتدار بالبناء والقوّة، وبهزمها للعدوّ الإسرائيلي، فنحن اليوم نشكّل قلقاً وأرقاً حقيقيّين للعدوّ الإسرائيليّ، وهذا بالنسبة إلينا فخر، نحن نفخر أنّنا ننتمي إلى ثقافة وفكر الإمام الخميني (رضوان الله تعالى عليه).
•سُبل الاستفادة من الثورة
ولذا، ما يهمّنا على مستوى حاضرنا ومستقبلنا، لشبابنا، ولإخواننا، ولأخواتنا، ولكلّ إنسان مسلم، ولكلّ إنسان في هذا العالم، إذا أراد أن يستفيد من هذه الثورة، ومن فكر الإمام، وتجربة بناء الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة المستقلّة، لا بدّ من أن يعود إلى هذين العنصرَين: البناء والاقتدار؛ فدون بناء لا نتيجة، ودون اقتدار لا يمكن أن تواجه التحدّيات الصعبة، التي تواجهها في حياتك بمختلف الأبعاد.
(*) في ذكرى انتصار الثورة (أربعون ربيعاً) 2019م.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار