مواضع القدوة الصالحة في شخصية الإمام الخميني(قدس سره)
الشهيد آية الله السيد محمد باقر الحكيم(ره)
المقدمة
عندما يتحدث الإنسان عن القدوة الصالحة وأثرها الروحي والاجتماعي ويكون أمامه نموذج صالح لهذه القدوة وهو الإمام الخميني (ره) يشعر بالحرج والرهبة حيث لا يكون الإنسان أمام تجربة طرح المفاهيم والأفكار فحسب، وإنما يكون الإنسان أمام معالجة تأثير هذه الأفكار والمفاهيم في النفس الإنسانية من خلال مدى تجسيدها في الواقع المعاش لهذا الإنسان وأهمية هذا التجسيد في حياته والذي يعتبر من اشد القضايا تعقيداً وأكثرها عناءً في حياة الإنسان؛ لأن هذا التجسيد هو الذي يمثل الجهاد الأكبر في الحياة الإنسانية (جهاد النفس)[1].
﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[2].
﴿وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾[3].
ويمثل بالتالي القيمة الحقيقية للإنسان عند الله سبحانه التي كرمه بها على سائر مخلوقاته.
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾[4].
﴿ِإنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾[5].
ولذا سوف اكتفي بطرح بعض الملاحظات حول القدوة ودورها في عملية البناء الاجتماعي. ثم بعض مواضع القدوة في سلوك إمام الأمة قدس سره، ولفتات سريعة حول بعض ما لاحظته عن قرب في شخصية هذا الإمام باعتبار أن الإمام قدس سره أفضل قدوة نعيشها في هذه الأيام.
القدوة ودورها في عملية البناء
منهج القرآن في التغيير الاجتماعي
لقد اتبع القرآن الكريم والإسلام العظيم في عملية التغيير التي مارسها تجاه المجتمع الإنساني منهجين أساسيين:
احدهما: منهج مخاطبة العقل والإلفات إلى مختلف الظواهر القائمة في عالم التكوين سواء فيما يتعلق بالظواهر السماوية والأرضية، أو التي تختص بالنفس الإنسانية، أو السنن التي تتحكم في تاريخ الإنسان ومسيرته التكاملية التي يمكن للعقل الإنساني أن يدركها ويفهمها، وذلك من أجل أن يرسم للإنسان الطريق الصحيح المستقيم نحو الكمال والسمو.
فقد اعتبر القرآن العقل الإنساني الدليل الذي ينبع من الذات والمرشد الأول للإنسان في مسيرته في هذه الحياة واعتبره أساس الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة.
عن أبي جعفر[6] (ع) قال: (لما خلق الله العقل استنطقه وجعله أساس الثواب والعقاب ثم قال له: أقبِل، فأقبَل، ثم قال له: أدبر، فأدبر. ثم قال: ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب أما أني إياك آمر وإياك انهي وإياك أعاقب وإياك أثيب) [7].
وأكد القرآن على دور ذوي العقول والألباب وعلى منهج التدبر والتفكير في الوصول إلى الحقيقة.
الثاني: مخاطبة الوجدان الذي أودعه في فطرته وهو تلك الإحساسات الفطرية التي يتجه إليها الإنسان ويرى فيها موازين الكمال والنقصان والسمو والسقوط... والتي يشعر الإنسان دائماً تجاهها بجاذب الحب والبغض أو المدح والذم أو الحسن والقبح فالإنسان يميل إلى العدل والإحسان والإيثار والشجاعة... ويحب هذه الصفات ويبغض الظلم والكفر والاستئثار والجبن... وينفر منها.
ومن أجل أن يوجه القرآن الكريم والإسلام العظيم الإنسان نحو مراتب الكمال، ويبعده عن التردي والنقصان يؤكد على هذه المعاني الفطرية السامية، ويبين له مصاديقها ومعالمها وحدودها، لئلا تختلط عليه الأفراد والصور، ويبعده عن مواضع السقوط والتردي، ويشخص له مواردها وأفرادها.
وهذا يمثل العنصر الثاني في الهداية الذاتية للإنسان، والذي رسم معالمه القرآن الكريم اعتماداً على وجود هذا الميل والاتجاه في المعرفة الإنسانية في داخل الإنسان.
عوامل مؤثرة على إرادة الإنسان
وإلى جانب ذلك كله جُبِل الله الإنسان على غرائز ورغبات وزين له الشهوات:
﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾[8].
بحيث أصبحت هذه الأشياء وغيرها عوامل مؤثرة على إرادة الإنسان ومسيرته؛ لأنها تمثل في هذا الإنسان حاجاته المادية والمعنوية، والطاقة المحركة في داخل الإنسان التي تدفعه نحو التكامل الدنيوي والأخروي إذا كانت ضمن الحدود التي رسمتها الشريعة، ولكنها في نفس الوقت تمثل خطراً على مسيرة الإنسان عندما تتجاوز الحدود التي وضعها الله لهذه الحاجات، حيث تجذبه أو تدفعه نحو السقوط في الهاوية، وتشده نحو الأرض وتكبله بالقيود والأغلال عندما يتحول إلى أسير لها، شأنها في ذلك شأن المحروقات التي يحتاجها المحرك ولكنها قد تتحول إلى عامل مدمر للمحرك نفسه عندما تتجاوز الحدود المقررة للاستفادة منها.
هذه العوامل التي يسميها القرآن الكريم بالهوى إذا تحولت إلى إله يتبعه الإنسان ويسلّم له قياده تصبح شيئاً مدمراً لحياته.
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتـَّــبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث﴾[9].
﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ﴾[10].
﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ﴾[11].
وبذلك ازدادت مسيرة الإنسان تعقيداً ومعاناة، حيث وجد إلى جانب ذلك الميل الفطري نحو الكمال هذا العامل الغريزي المؤثر في الإنسان من خلال الإحساس بالحاجات من جانب والطغيان في الانسياق مع هذا الميل والهوى، الدافع له نحو الهاوية من جانب آخر.
وأصبح أمام الإنسان أن يوفق بين هذين العاملين: الميل الفطري والحاجة الغريزية، ويتبين موضع أقدامه في مسيرته الطويلة حتى يحقق الكمال.
وقد اهتم القرآن الكريم والإسلام العظيم برسم معالم المسيرة أمام الإنسان وهدايته نحو أهدافها، وبعث الله الأنبياء والرسل لتحقيق هذه الهداية.
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾[12].
﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ﴾[13].
وهذه الهداية الإلهية تمثل الهداية الثالثة التي جاءت للإنسان من خارج ذاته والتي يتفضل بها الله على عباده بالإضافة إلى العقل والفطرة.
فلسفة القدوة في منهج التغيير الاجتماعي
ولكن بالرغم من ذلك تبقى أمام الإنسان مجموعة من المشاكل الدقيقة كانت بحاجة إلى التوضيح والإبانة، حتى يكمل مسيرته. وإزاء هذه المشاكل تبرز (القدوة) و(الأسوة) كأحد العوامل المهمة في تحقيق هذا الهدف وحل هذه المشكلات.
فالمشكلة الأولى، والتي هي مشكلة (عقلية): أن المفهوم الذي يريد أن يقدمه الإسلام قد يكون واضحاً، ولكن الموقف العملي الذي ينسجم مع المفهوم قد يعتريه شيء من الغموض بحيث يكون بحاجة إلى التشخيص والوضوح من خلال ممارسة عملية خارجية تشخصه وتبينه، وهنا يأتي دور القدوة الصالحة التي تجسد الموقف الصحيح الذي يتناسب مع الظروف والشروط الموضوعية والمنسجم مع المفهوم الإسلامي.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾[14].
فالمسلمون الذين واجهوا فكرة اقتران النصر بالمحنة والابتلاء بالبأساء والضراء والصبر عليهما كانوا بحاجة إلى القدوة والأسوة العملية في التاريخ، فجاء هذا الإلفات القرآني لذلك من خلال هذه الآية وأمثالها، وبيان مصاديقه في قصص الأنبياء لتجسيد هذا الموقف.
وقد ورد عن عبد الملك بن عمرو قال: قال لي أبو عبد الله (ع)، يعني (الصادق) يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟ قال قلت: وأين؟. قال: جدّة وعبادان والمصيصة وقزوين، فقلت: انتظاراً لأمركم والاقتداء بكم. فقال: أي والله لو كان خيراً ما سبقونا إليه. قال قلت له: فإن الزيدية يقولون بيننا وبين جعفر خلاف إلا أنه لا يرى الجهاد. فقال: أنا لا أراه؟! بلى والله إني لأراه، ولكني اكره أن ادع علمي إلى جهلهم.
الثانية: مشكلة روحية ونفسية: فالإنسان قد يكون له الوضوح الكامل في الطريق ومعالمه ولكنه يشعر بالضعف والعجز في كثير من الأحوال، ويتلكأ ويسقط في الطريق نتيجة لذلك لو لا العناية الإلهية. ومن هنا فهو يحتاج إلى من يشق الطريق أمامه، ليكتسب الشجاعة اللازمة والمعنويات العالية في اقتحامه لهذا الطريق الشائك. ويأتي هنا دور القدوة الصالحة التي تشق الطريق وتفتح السبيل أمام كل أولئك الضعفاء على اختلاف مراتبهم.
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[15].
الثالثة: إن الحقيقة قد تشتبه بالادعاء، والواقع بالرغبة، والفعل بالقول، فيصبح الادعاء مورداً للشك باعتبار قلة التجربة أو عدم الاطلاع على كل الظروف المحيطة بالادعاء وأبعادها، بحيث يتخوف الإنسان من الخديعة أو التضليل والتغرير، ويأتي دور القدوة التي تقرن القول بالعمل وتجسد الادعاء وتصدق الحقيقة.. وبذلك يصبح القول المقرون بالعمل أكثر تأثيراً في النفس؛ لما فيه من دلالة على قناعة وإيمان حقيقي من قبل الآخرين؛ لأن القناعة والإيمان بالشيء يكون لهما تأثير في نفوس الآخرين؛ لما فيهما من الدلالة على صدق التجربة وصحة الادعاء والاستعداد للمواساة وتحمل الأعباء والمشاكل.
﴿يَا أَيهَا الذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ، إِن اللهَ يُحِب الذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنهُم بُنيَانٌ مرْصُوصٌ﴾[16].
﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾[17].
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[18].
الرابعة: إن المفهوم المطروح للمثال قد يتهم بأنه مفهوم مثالي لا يمكن تحقيقه خارجاً، وإنما هو مجرد طموح نحو الكمال وتخيل لدرجات السمو باعتبار اتجاه الإنسان إلى الخيال والطموح، ويأتي دور القدوة من أجل أن يؤكد واقعية المفهوم والقدرة على تطبيقه وتجسيده خارجاً.
﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾[19].
ولعل أروع النصوص التي تشير إلى هذه الأبعاد في دور القدوة ما جاء عن علي (ع) في نهج البلاغة، الخطبة: (160).
وبالإضافة إلى كل ذلك يمكن أن يكون للقدوة دور مهم في إيجاد القناعة واليقين بقضايا كثيرة لا يمكن الإقناع بها إلا من خلال القدوة الصالحة، حيث إن القناعة وحسن الظن بهذه القدوة من خلال السلوك المتكامل تفرض قياساً طبيعياً وروحياً للمساواة بين تلك الممارسات الحسنة والسلوك الجيد الذي يلتزم به هذا الإنسان (القدوة) وبين بقية الممارسات الأخرى التي يقوم بها ذلك الإنسان، حتى لو لم تكن بتلك الدرجة من الوضوح، بحيث ينتهي الأمر إلى سريان الالتزام والإيمان إلى تلك الممارسات الأخرى.
وقد استخدم الرسول (ص) هذا الجانب كأسلوب للهداية، ومن النماذج بهذا الصدد ما روي عنه (ص) أنه قال يوماً لقريش: (ما تقولون لو أخبرتكم بوجود قافلة وراء هذا الجبل، فكان جوابهم: أننا نصدق ونتصرف على أساس هذا التصديق. فقال لهم: إذا أني أخبركم بأن لا إله إلا الله وأن هذه الأصنام لا تضر ولا تنفع.. ) وقد كان هذا الجانب مؤثراً في إقناع الكثير من الناس بالرسالة الإسلامية أكثر من قناعتهم ببقية الأدلة والبراهين على صحة الرسالة.
وفي هذا المجال وردت الروايات التي تؤكد على الدعوة إلى الله من خلال الالتزام والعمل، فقد نصح الأئمة (عليهم السلام) شيعتهم أن يكونوا دعاة لهم بأعمالهم.
قال الإمام الصادق (ع):
«كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير، فإن ذلك داعية»[20].
«عليكم بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث وأداء الأمانة وحسن الخلق و... وكونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً»[21].
كما أن اشتراط العدالة في إمام الجمعة والجماعة قد يكون انطلاقاً من مبدأ القدوة، حيث لا يبرز في إمام الجماعة إلا هذا الجانب، بخلاف العدالة في الشاهد الذي يكون الهدف منها هو الوصول إلى الحقيقة وتحقيق العدل.
وبذلك تصبح القدوة الصالحة دليلاً على الحقيقة قائماً بنفسه، ومنهجا للهداية يؤثر في الوقت نفسه على العقل والوجدان، ويجمع إلى جانب ذلك الوضوح والشجاعة والثبات.
وبهذا الاستعراض القصير لبعض آثار القدوة على مسيرة الحياة التغييرية يمكن أن نعرف بأن القدوة تعبير عن أحد أفضل الأساليب التي يمكن أن يتم التخاطب بها مع العقل والوجدان معاً.
ولعل هذا الدور هو أحد أهم ما يفسر به اشتراط العصمة أو العدالة بدرجة عالية في القيادة الإسلامية، حيث يمكن أن يكون لهذه القيادة المتصفة بهذه الصفة دور القدوة والهداية إلى جانب دور المفاهيم والأفكار التي تطرحها الشريعة في تحقيق التغيير.
ولأهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه القدوة في تحقيق الهداية والتغلب على المشكلات التي يواجهها الإنسان في مسيرته التكاملية نجد القدوة تدخل كعنصر أساسي في النظرية الإسلامية في التحرك السياسي، فبالإضافة إلى ما ذكرناه من اشتراط العصمة أو العدالة العالية في القيادة الإسلامية ـ لضمان تحقيق الاستقامة والعدل في المسيرة الإسلامية ـ تبرز هذه القضية في جانب آخر وهو جانب الارتباط السياسي بالقيادة، حيث يجب أن تكون القيادة (علنية) ويعلم بها الأتباع ولو بدرجة محدودة، حيث جاء النص المتواتر بين المسلمين أن: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» ومن هنا يمكن أن نفهم تأكيد أمير المؤمنين علي عليه السلام على القدوة وأهميتها عندما يقول: «واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضل الهدى واستنّوا سنته فإنها أهدى السنن»[22].
وكذلك كان يقول عن رسول الله: «وكنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به»[23].
وجاءت الكلمة القيمة لإمام المتقين:
«ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد»[24]
وبذلك تصبح القدوة أحد المعالم الرئيسية التي تفرق بها نظرية الإمامة في العمل السياسي عن النظريات الحربية الحديثة.
بل يمكن أن نقول: إنه يوجد في القرآن الكريم ما يمكن أن يفهم منه أن الإنسان بسبب تركيبته النفسية أو الاجتماعية يقع تحت تأثير القدوة بشكل طبيعي، بحيث يمثل ذلك اتجاهاً فطرياً في الإنسان، ولذا يحسن بالإنسان أن يستخدم عقله في اختيار القدوة؛ حتى لا يتعرض للانحراف، ويحصل على طريق صحيح للهداية والتكامل الإنساني، ولعل الكلمة المعروفة للإمام علي (ع): «ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنور علمه..» تشير إلى هذا الاتجاه الفطري في الإنسان من ناحية، وأهمية القدوة وضرورتها من ناحية أخرى، وسوف يأتي مزيد توضيح لهذه الفكرة قريباً.
تأكيد القرآن على دور القدوة
ولذلك نجد القرآن الكريم يؤكد على دور القدوة والتأسي في منهجه الذي التزمه في التغيير، وقد نهج القرآن لذلك خطين رئيسين:
الأول: الخط الذي يؤكد على دور الاقتداء والتأسي ويأمر بهما بشكل مباشر، حيث ورد في مجموعة من الآيات التأكيد أو الإشارة إلى ذلك مثل قوله تعالى:
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾[25].
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ...﴾[26].
﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾[27].
﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ...﴾[28].
الثاني: القصص والأمثال التي ضربها القرآن الكريم سواء في تاريخ الأنبياء أو الأمم الماضية، أو في تاريخ الأمة الإسلامية وسيرة النبي (ص) والصادقين من أصحابه، حيث كان الهدف منها الاعتبار والاقتداء والتأسي من خلال استنباط القوانين والسنن التاريخية كما هو واضح من خلال بيان أهداف هذه القصص:
﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ﴾[29].
﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾[30].
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾[31].
﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القَانِتِينَ﴾[32].
﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ﴾[33].
﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَاۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[34].
﴿وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً﴾[35].
وفي الحديث عن أبي عبد الله الصادق (ع): «خير ما يخلفه الرجل بعده ثلاثة: ولد بار يستغفر له، وسنة خير يقتدي به فيها، وصدقة تجري من بعده»[36].
وعن الصادق (ع) أيضاً: «ولا طريق للأكياس من المؤمنين أسلم من الاقتداء؛ لأنه المنهج الأوضح والمقصد الأصح، قال الله تعالى لأعز خلقه محمد (ص): (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) فلو كان لدين الله مسلك أقوم من الاقتداء لندب إليه أولياءه وأنبياءه»[37].
القدوة الصالحة والقدوة الفاسدة
وكما أن القدوة الصالحة تمثل عنصراً أساسياً في عملية البناء للمجتمع الصالح، كذلك نجد القدوة قد تتخذ بعداً تخريبياً للمجتمع عندما تكون العناصر التي يقتدي بها الأفراد في المجتمع عناصر فاسدة، وبالتالي تؤثر في أفراد المجتمع تأثيراً عكسياً، بحيث يتحول هؤلاء الأفراد إلى مجرد اتباع مسلوبي الإرادة والعقل والضمير، تؤثر فيهم القوة والهيمنة المادية لهؤلاء الأفراد.. وهذا التأثير قد يعكس اتجاهاً فطرياً وحالة طبيعية يحس بها الإنسان وهو الاتجاه للاقتداء واتباع الأشخاص المتميزين في المجتمع، ويجسد الدور الخاص للقدوة في التأثير الاجتماعي... ولذلك نجد القرآن الكريم يشير إلى بعض هذه النماذج الفاسدة والمؤثرة، ويحذر منها، ويذكر النهاية السوداء التي تنتظر أولئك الاتباع في المستقبل.
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّؤُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ﴾[38].
﴿وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ﴾[39].
ولذلك يصنف القرآن الكريم الأئمة الذين يقودون المجتمع ويمثلون العناصر المؤثرة فيه إلى قسمين:
ـ أئمة يهدون إلى الجنة والحق وأمر الله.
ـ أئمة يهدون إلى النار والضلال والفساد.
﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[40].
﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القِيَامَةِ لاَ يُنصَرُونَ*وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُم مِّنَ المَقْبُوحِينَ﴾[41].
وقد ورد عن أمير المؤمنين علي (ع): «إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكّله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل، شغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته» وورد عنه أيضاً: «ومالي لا أعجب من خطأ هذا الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي».
وأمر الله سبحانه اتباع الهداة إليه، لأنهم يدعون إلى الحق والصلاح، وكذلك استخدام العقل في القدوة والاتباع، كما يستخدم العقل في كل القضايا التي ترتبط بالحاجات والرغبات والغرائز الإنسانية.
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾[42].
وبهذه الطريقة يضع القرآن الكريم الموازين التي يجب أن يؤخذ بها مقياساً في القدوة الصالحة التي لابد للإنسان أن يربط مصيره بها.
وأهم هذه الموازين هو الدعوة إلى الحق والعقيدة الصالحة والتقوى والصبر والثبات على الطريق المستقيم.. والسير في طريق الكمال الإنساني والابتعاد عن مزالق الهوى والعجب والظلم والاستكبار..
بحيث يكون هذا الامتياز قائماً على أساس الجانب المعنوي والتكاملي في الإنسان، حيث نجد هذه المواصفات مبثوثة في القرآن الكريم.
كما أننا نلاحظ أن قوى الكفر والضلال تحاول أن تطرح في المجتمع العناصر الفاسدة كقدوة للناس وتحيطهم بهالة من الإعجاب والثناء والشهرة، الأمر الذي يؤدي إلى الاقتداء بهم والتأسي بسلوكهم الفاسد وأعمالهم القبيحة. ونجد أن الأسس والموازين في القدوة الفاسدة هو الامتياز في المال والجاه والقوة والجمال المادي، وتجسيد اللذة والمتعة الشخصية والجسمية والسعي للإكثار منها.
تأثير الحب والموقع الاجتماعي في القدوة الصالحة
وتزداد القدوة أهمية خاصة في التأثير والفاعلية عندما يكون الشخص القدوة يتصف بميزتين رئيستين:
الأولى: رابطة الحب والود مع الناس، حيث ينتقل العمل الصالح الذي يمارسه القدوة إلى هؤلاء الناس ليس من خلال عقولهم فحسب وإنما يأخذ طريقه إلى قلوبهم ووجدانهم من خلال هذه العاطفة المؤثرة والمحركة لإرادة الإنسان، وينتقل هذا الحب من شخص القدوة وصفاته إلى كل تصرفاته وأعماله، وبذلك تزداد مسؤولية الإنسان القدوة تجاه أعماله وأقواله عندما يكون محاطاً بهذا اللون من الحب والود بين الناس، وتصبح مسؤولية الالتزام السلوكي على درجة عالية كلما كان للقدوة موقع خاص في نفوس الناس.
الثانية: الموقع الاجتماعي: مثل أن يكون الإنسان القدوة زعيماً في المجتمع أو ولياً لأمر المسلمين أو مرجعا دينيا عاما. حيث يكون هذا الموقع الاجتماعي عاملاً طبيعياً في التأثير والاتباع حسب القاعدة المعروفة (الناس على دين ملوكهم)؛ لأن موقع القدوة والقوة والاحترام يكون له تأثير في نفوس الكثير من العامة الذين يشعرون بالضعف تجاه المواقع الاجتماعية الكبيرة، ومن هنا جاء التأكيد بالالتزام السلوكي الخاص لنساء النبي (ص) مثلاً على مسؤولية الالتزام العالي.
﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء...﴾[43].
كما نجد أن الفقهاء يشترطون في القائد والمرجع درجة عالية من العدالة تختلف عن العدالة التي يشترطونها في إمام الجماعة أو الشاهد لطبيعة الموقع الاجتماعي الذي يحتله هذا القائد أو المرجع ولطبيعة المسؤوليات العظام التي يتحملها.
ولعل هذا هو السبب الرئيس في احتلال الكثير من الملوك والمترفين والطغاة لموقع القدوة في المجتمع، بالرغم من تفاهة شخصياتهم أحياناً وفسادهم وظلمهم وارتكابهم الكثير من الأعمال المشينة المنفرة لأفراد المجتمع أحياناً أخرى، كما أشير إلى ذلك في بعض الآيات السابقة.
ولذلك عندما يصبح هذا الزعيم إنساناً صالحاً سوف يكون له تأثير بالغ في الأمة وتزداد أهمية القدوة فيه.
بالإضافة إلى بعد آخر في هذا الموقع الاجتماعي عندما يكون قدوة صالحة هو ما يعبر عنه من الكمال الإنساني... حيث إن الموقع الاجتماعي يمثل أسلوباً من أساليب الاختبار والامتحان، فإن الزعامة والولاية تتحول إلى معاناة قاسية على مستوى النفس والإرادة واختباراً للإرادة العالية، والصبر على تحمل المشاكل، والضبط للهوى، والحذر والاحتياط من الانزلاق في مزالق الهوى أو التردي في هاوية الشهوات، الأمر الذي يعني ضرب أروع الأمثلة في جهاد النفس والقدوة الصالحة.
وتزداد هذه الأهمية عندما يكون القدوة يعيش ويتواجد بين هؤلاء الناس فعلاً، حيث يمكنهم أن يدركوا كل الظروف التي أحاطت بالسلوك والمسيرة، ويصبح التجسيد حقيقة قائمة دون أن نتحول إلى مجرد موقف تاريخي لا نتحسس ظروفه.
ولهذه الأهمية التي يتمتع بها القدوة الصالحة في عملية التغيير الاجتماعي والبناء الذاتي لأفراد المجتمع، نجد أعداء الإسلام والحق يحاولون دائماً، عندما يعجزون عن محاربة الأفكار والمفاهيم والعقائد في الرسالات الإلهية والأعمال الإصلاحية التي يقوم بها الأنبياء والأوصياء والعلماء والصالحون، أن يعملوا على محاربة القدوة الصالحة في المجتمع وهو النبي أو الوصي أو الإنسان الصالح، الذين يتحملون هذه المسؤوليات، ومحاولة تشويه صورتهم؛ لأنهم يدركون أن هَدْم القدوة والبناء بعد أن تفقد المسيرة ربانها المجسد ـ ولو بدرجة معقولة ـ لمفاهيمها ومعالمها واقعياً وخارجياً.
وقد أشرنا إلى مجموعة من هذه الأساليب التي يتبعها أعداء الإسلام لإسقاط القدوة في بعض محاضراتنا، ولكن قد نذكر بعضها عندما نتحدث عن مواضع القدوة في شخصية الإمام. ومن هنا يصبح تدوين مسيرة الصالحين ـ وخصوصا البارزين منهم، ونشر تفاصيل حياتهم وسلوكهم ـ عملاً تبليغياً رائعاً وخدمة إسلامية صادقة؛ لأن ذلك يوسع من دائرة تأثير القدوة باتساع دائرة الاطلاع على مواطن الاقتداء فيها.
مواضع القدوة في شخصية الإمام(ره)
في البداية أود أن أشير إلى خصوصيتين مهمتين في شخصية الإمام، لهما أهمية خاصة في قضية التأسي بالقدوة، بالإضافة إلى خصوصياته الكمالية والسلوكية التي ترتبط بالعلم والتقوى والشجاعة، وحسن التدبير، والاهتمام بإبلاغ الحجة إلى كل الأوساط. ثم بعد ذلك أشير إلى بعض النقاط السلوكية في مسيرته الجهادية بالمقدار الذي يسمح به هذا البحث.
علماً بأن بيان مواضع القدوة في شخصية الإمام يحتاج إلى بحث كبير وواسع؛ لما لهذه الشخصية من أبعاد اجتماعية وسياسية وعلمية وسلوكية حافلة بالأحداث والمواقف والمتغيرات، كما أنها عاصرت فترات زمنية حرجة وصعبة.
روح الله بين رعية الله
الخصوصية الأولى: إن إمام الأمة رضوان الله عليه يجمع بين صفتين متضادتين عادة في مجال التنفيذ والعمل:
أ ـ صفة الاحتفاظ بالسلوك العالي المتميز والطهارة والنظافة العملية والاحتياط والابتعاد عن مواطن الشبهات، وكما يفرضه موقعه الديني كمرجع للمسلمين يرتبطون به؛ لأنه يمثل رابطة الوصل بينهم وبين الله في بيان الأحكام والمواقف العملية لهم.
هذا السلوك الذي يؤدي عادة بالكثير من الناس إلى العزلة والابتعاد عن المجتمع ومشاكله المعقدة، ومواضع الانزلاق ومواطن الشبهة والابتلاء.
ب ـ صفة الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والسياسية التي تعيشها الأمة، وتفاصيل المشاكل التي تواجهها، وطرح الحلول لهذه المشاكل في ضوء الإسلام، واتخاذ المواقف السياسية والاجتماعية من أجل مواجهة كل هذه الأحداث، والاستفادة منها في عملية التغيير الاجتماعي وتربية الأمة على المواجهة والسير بها نحو الكمال الإلهي.
وهذه الخصيصة هي الأمر الذي يتميز به كل القادة الرساليين كالأنبياء والسائرين على منهجهم. فهم في الوقت الذي يجسدون الارتباط بالسماء ومعانيها السامية لا ينفصلون عن الأرض وقضاياها.
فهم يعيشون بين أهل الأرض بكل معاناتهم؛ ليرسموا لهم خط السماء من خلال أقوالهم وأفعالهم.
وحين حاول واحد من هؤلاء الأنبياء في لحظة انفعال أن ينصرف عن أهل الأرض لانحرافهم وضلالهم امتحنه الله سبحانه بقوة، وعرّضه للبلاء:
﴿وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ﴾[44].
﴿فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ * لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ * فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾[45].
فالعزلة عن المجتمع وقضاياه المصيرية في بعض الأحيان خوفاً على الدين والأخلاق أو خوفاً من الشبهات والتهم ـ كما يصنع البعض ـ يشبه الفرار من الزحف في ميادين القتال. وشأنها شأن الإنسان الذي لا يدخل المدرسة ولا يطلب العلم خوفاً من نتائج الامتحان والاختبار .. لأن المسؤولية والوظيفة الشرعية تفرض الدخول في ميدان الصراع الاجتماعي مع قوى الضلال والكفر وأحزاب الشيطان وأوليائه؛ من أجل ترسيخ دعائم الحق وترسيم طريق الهداية حتى لو كان الإنسان في معرض الخطأ والاشتباه.
ولكن في الوقت نفسه لابد للإنسان أن يتمسك بالأخلاق الفاضلة والموازين الشرعية والقوانين الإسلامية والمعاني السامية التي تجسد التقوى والعلاقة بالله سبحانه، وبذلك يتعرض الإنسان إلى الاختبار والامتحان ويستحق الثواب والأجر، وبذلك يتكامل الإنسان ويسمو، ويلتحق بركب الأنبياء والصديقين والشهداء.
وهذا هو الذي يفسر لنا قانون الامتحان والفتنة والابتلاء الذي كتبه الله سبحانه على البشرية جمعاء.
ولذلك أيضاً شجب الإسلام الرهبانية المسيحية ووصفها بالبدعة. حيث إن الرهبانية في الإسلام هي جهاد النفس والزهد بالدنيا لا العزلة عنها وتجميد الوظائف الطبيعية للإنسان.
﴿وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا﴾[46].
الزعيم الديني في منهج الفرد العادي
الثانية: إن الإمام تمكن إلى حد بعيد أن يحتفظ بالسلوك الاجتماعي نفسه الذي كان يمارسه قبل أن يصبح زعيماً مطلقاً ومؤسساً للجمهورية الإسلامية والفقيه المبسوط اليد في الأمة، سواء في المستوى الروحي، أو في مستوى العلاقات مع الجماهير، أو في أساليب الحياة المعيشية والإدارية، ولم يتجاوز ذلك إلا بالقدر الذي تفرضه الأوضاع الصحية الخاصة به أو الظروف الأمنية القاسية، هو بعض المصالح العامة.
ويمكن أن يلاحظ ذلك بوضوح من خلال أحاديثه أو علاقاته بالآخرين أو منحه الفرصة بأن يلتقي ـ باستمرار ـ بالمجاهدين أو عوائل الشهداء أو الناس العاديين بشكل عام أو ممارساته الشخصية في المأكل والملبس والمسكن. وذلك بالرغم من ضخامة المسؤوليات التي يتحملها، والموقع السياسي الرسمي الذي يتبوأه، ونمو العواطف والأحاسيس الجماهيرية تجاهه سواء على المستوى الكيفي أو الدائرة الكمية الواسعة التي شملت قطاعات من المسلمين في كل مكان من العالم ومن مختلف المذاهب والأقوام.
ملامح للقدوة الصالحة في المسيرة السلوكية
هناك ملامح كثيرة للقدوة في مسيرة الإمام السلوكية يمكن أن يتبينها الإنسان من خلال ملاحظته وقراءته لمسيرة السلوك الخاص التي تحدث عنها كتاب (الإمام قدوة) بجزأيه الأول والثاني، كما يمكن أن نتبين ذلك من خلال المواقف المعروفة للإمام في مسيرته الجهادية، ولكن أود أن أشير هنا إلى بعض هذه الملامح:
1ـ الالتزامات المبدئية
المبدئية في الالتزامات السياسية والمواقف الجهادية، حيث يبدو ذلك واضحاً من خلال مواقف الإمام تجاه نظام الشاه وقوى الاستكبار العالمي وقضية الحرب العدوانية، والقوى السياسية المنحرفة، ونصرة الشعوب المستضعفة، والأبعاد السياسية للعبادات الإسلامية كالحج وصلاة الجمعة، والإيمان بالنصر الإلهي، وبقوة المسلمين، وبالموقع الخاص لعلماء الدين والمفكرين، وللمؤسسات الإسلامية كالمساجد والحسينيات، ولطريقة العمل الجماهيري، وخط التضحية، والفداء ولدور الأمة في العمل السياسي .. الخ.
ويبدو الإمام في كل ذلك غير متأثر بالضغوط التي تمارسها قوى الطغيان ضده، أو الأساليب الإعلامية الخبيثة التي كرست للتأثير على قراره المبدئي، وكذلك مختلف الأحداث المؤلمة أو الظروف الصعبة التي مرت بها التجربة الإسلامية أو اختلاف أحوال النصر أو الألم.
ولعل من أروع الأمثلة على ذلك موقف الإمام من حكومة الشاه، وإقامة الجمهورية الإسلامية، والحرب العدوانية ضد إيران الإسلام، والبراءة من المشركين في الحج، والصراع مع أمريكا، وقضية سلمان رشدي، ووصيته السياسية، ورسالته إلى غورباتشوف..
2ـ الاهتمام بمشاكل الأمة
الاهتمام بالأمة ومشاكلها سواء في نطاق أبناء الشعب الإيراني المسلم أو في نطاق الشعوب والأمة الإسلامية والاعتماد عليها والثقة بها ومخاطبتها بشكل مستمر.
ومن خلال الإصرار على ذلك تمكن الإمام أن يعبئ الشعب الإيراني المسلم، ويحدث التغيير الاجتماعي بواسطة هذا الشعب وبقدراته الذاتية و(بالقبضات وشعار الله اكبر)، كما استطاع أن يعبئ الشعوب الإسلامية في حركة واسعة قوية لا زالت تعطي ثمارها في مختلف أنحاء العالم الإسلامي، بالرغم من ممارسات القمع والأعمال الوحشية التي نفذتها قوى الاستكبار وعناصر الشر المرتبطة بها ضد إيران الإسلام وضد حركة هذه الشعوب.
3ـ الاستقامة والصبر والإخلاص
الصمود والصبر والإخلاص لله والمواظبة على العمل الجاد بحيث لا يتسرب الكلل أو الملل لإرادته مع الدقة في التنفيذ والتعامل بروح الأمل والثقة بالله وبالمستقبل مهما اشتدت الأزمات أو ادلهمت الخطوب. وفي تجربة الصبر والصمود في مواصلة النضال ضد الشاه طيلة ما يزيد على الخمس عشرة سنة، بالرغم من السنين الشداد التي كان يبدو فيها الطرق وكأنه على الحديد البارد. وكذلك تجربة الصمود في وجه الحرب العدوانية التي شنتها قوى الاستكبار العالمي ضد الجمهورية الإسلامية وغير ذلك من الموارد أفضل شاهد على هذه الحقيقة.
وأتذكر بهذا الصدد أن النداءات التي كان يطلقها الإمام في النجف الاشرف ضد حكومة الشاه ـ قبل انتصار الثورة بأكثر من عشر سنين ـ بين الحين والآخر كانت تبدو للكثيرين وكأنها شيء من العبث، بعد أن كان التصور السائد هو عدم إمكانية زحزحة حكومة الشاه المستقرة والمدعومة من قوى الاستكبار، ولكنه بقي مصراً على موقفه حتى حقق الله أمنياته بسقوط حكومة الشاه وقيام الحكم الإسلامي.
4ـ الحسم والوضوح
الحسم والحزم والوضوح في اتخاذ القرارات في الأمور الهامة، كما نشاهد ذلك بوضوح في بعض المواقف الحرجة، فعلى سبيل المثال:
يواجه الثائرون المسلمون قضية الهتاف بسقوط «الشاه» في مسيرة التاسع والعاشر من محرم المليونية سنة 1399هـ[47] ويهدد الشاه بضرب هذه الملايين بالرصاص إذا رفع هذا الشعار، ولكنه يسمح بكل الشعارات دونه، ويتردد العلماء في الموقف عندما يبلغهم تهديد الشاه بطريق خاص وهم يواجهون مذبحة كبرى، ويحسم الموقف الإمام وهو في باريس ويطلب رفع هذا الشعار. وتهتف الملايين بسقوط الشاه ويسقط بعد نحو شهرين تقريباً. والشيء نفسه نجده عندما طلبت حكومة بختيار من الناس عدم الخروج إلى الشوارع في 21 بهمن 57 هـ ش وهددت بمذبحة كبرى ويتردد كل القادة في الموقف ويحسم الأمر إمام الأمة، بأن يأمر الناس بالخروج ويشاء الله أن تنتصر الثورة بذلك، وهناك عشرات المواقف الحرجة التي واجهت الإمام وحسم الأمر بها بعد أن يتحير الخبراء فيها مثل: ـ الموقف تجاه عزل بني صدر، والمواجهة المسلحة مع المنافقين، والموقف تجاه انتخاب مجلس الخبراء حيث كان يواجه معارضة من قبل محبي الإمام الذين لم يكونوا يسمحون لأنفسهم أن يتصوروا اليوم الذي يموت فيه الإمام ويأتي دور هذا المجلس، والموقف تجاه محاولات الاتحاد السوفيتي في التدخل في إيران والموقف تجاه تدخل أمريكا في الخليج.
5ـ عدم الانفعال والتورط بالقضايا الجانبية
عدم الانفعالات بالأحداث والأزمات الجانبية أو التورط في الخلافات الجانبية، فإن الإمام يحاول دائماً أن يجعل المعركة والجهد متجهاً نحو الأهداف الأساسية دون أن يقع تحت تأثير التطورات المفاجئة.
فقد واجهت الثورة محاولة لجرها إلى صراع جانبي عندما قامت زوجة الشاه بزيارة احد المراجع الكبار في النجف الاشرف، في الوقت الذي كانت الدماء تجري غزيرة في إيران، وفي قمة أحداث الأشهر الأخيرة للثورة، ولكن الإمام امتنع أن يقع تحت تأثير هذا الحدث، وأمر بالسيطرة على كل الانفعالات الجماهيرية وردود الفعل التي كان يمكن أن تحدث تجاه هذا الحادث، والتي كانت تؤدي حتماً إلى إرباك صفوف الثوار وانشغالهم بمعركة جانبية، وجنب الثورة أعظم المخاطر.
ونفس الموقف كان تجاه أحداث تبريز التي كان وراءها «حزب جمهورية الشعب المسلم» وامتداداتها السيئة في مدينة قم والتي كان يقف وراءها السيد (شريعتمداري) وقراره بتجنب المعركة الهامشية، حيث كانت البلاد تعيش أزمة الحصار الأمريكي.
وكذلك الموقف تجاه العدوان الواسع على الجمهورية الإسلامية من قبل نظام صدام الذي واجهه بالصمود والتقدير الواقعي له.
والموقف من الغزو الإسرائيلي للبنان بعد فتح خرمشهر، بالرغم من أن فورة الانتصار كانت تدعو الكثير من القادة الإسلاميين إلى الاندفاع وراء قضية التواجد في لبنان بشكل واسع، ونقل العركة إلى إسرائيل وصرفها عن العراق. ولكن الإمام وقف في وجه ذلك.
6ـ منهج الاختبار
إعطاء الفرصة للامتحان والاختبار سواء على المستوى الفردي أو الشعبي. هذا الخلق الذي يستمد جذوره من الثقة بالله والاعتماد على النفس والأهداف الصالحة.
وفي تجربة لوزارة الأولى الموقتة للجمهورية الإسلامية، وتجربة انتخابات رئاسة الجمهورية الأولى التي جرّت إلى الصراع مع بني صدر عندما بدأ بالانحراف، وتجربة الحريات السياسية للأحزاب العلمانية وشبه العلمانية. وغير ذلك من التجارب العامة والخاصة أفضل شاهد على هذه الحقيقة.
وكان الإمام في هذا المجال يحاول دائماً أن يجعل الأمة مدركة للوقائع والأحداث بنفسها وواعية لدورها، مبتعداً عن قضية التدخل في الجزئيات والتفاصيل إلا في المواقع الحساسة التي يشعر أن الأمة تكون فيها بحاجة إلى التوجيه والهداية، كما حصل ذلك في قضايا الانتخابات الأولى.
فالإمام يتدخل في توجيه الأمة؛ من أجل أن يثبت قضية مجلس الخبراء الأول، ويتدخل في توجيه الأمة لإرشادها إلى النظام الصحيح الذي تختاره وهو نظام (الجمهورية الإسلامية) لا تزيد كلمة ولا تنقص، بعد أن حاول بعض الناس أن يزيد كلمة ديمقراطية أو شعبية.
ولكن يترك الخيار للأمة أن تنتخب رئيسهاً دون أن يتدخل في تزكية أحد من المرشحين، بعد أن كان هذا الأمر من صلاحياته؛ وذلك من أجل أن تصبح دائرة المنافسة واسعة لتكشف بشكل واضح عن قوة الخط الإسلامي.
7 ـ البساطة والزهد
البساطة والزهد في الحياة المعيشية، فلا زال الإمام ـ مثلاً ـ يصرّ إلى آخر أيامه أن يكون المنزل الذي يسكنه منزلاً بسيطاً، قدّمه له العالم[48] المحلي في قرية جماران على شكل عارية، وهو منزل ذاك العالم نفسه الذي كان يسكنه قبل الثورة.
ويستقبل الناس في الحسينية المتواضعة التي صممت وبنيت في جوار منزل هذا العالم لأهل القرية، ولم يوافق الإمام ـ كما حدثني هذا العالم نفسه ـ أن تصقل الحسينية ـ التي يستقبل بها كل الطبقات من الناس بالإضافة إلى المسؤولين ـ تصقل بالجص الأبيض ـ كما هي العادة في الحسينيات المتواضعة ... كما أنه يستخدم في حياته المنزلية الأجهزة البسيطة، وكذلك الحال في الفراش والأدوات والمأكل...
وقد كان هناك منزل للإمام مملوك له في قم أخرجه من ملكه بالوقف العام وأرض في خمين موروثة من أبيه أوكل التصرف بها في شؤون الفقراء إلى ممثله في خمين، وقد رأيت ما كتبه الإمام لممثله بهذا الشأن.
وقد تكون الملامح السابقة التي ذكرتها تزداد أهميتها في شأن مواصفات (القادة) والزعماء وضرورة اقتدائهم بها. ولكن هناك الكثير من الملامح والصفات يمكن أن يجدها الإنسان في حياة الإمام لا تختص بالقيادة ومواصفاتها بل يجد فيها الفرد العادي أيضاً القدوة الصالحة والسلوك الهادي؛ ولذلك نجد ضرورة الاهتمام بقراءة سلوك هؤلاء الصالحين ليتبين الإنسان مواضع العبرة والقدوة والأسوة في حياتهم وسلوكهم.
محاولات التسقيط تجاه الإمام
ومع كل ذلك السلوك المتميز، والذي يتسم بالإخلاص والتقوى والواقعية والشجاعة، نجد أن الإمام لا ينجو من محاولات التسقيط والهدم والاتهام، شأنه في ذلك شأن القادة والهداة إلى الله في تاريخ البشرية، الأمر الذي يجب أن ننتبه إليه في جميع محاولات التسقيط التي يتعرض لها المتصدون للعمل الإسلامي عادة، والتي لا يمكن تجنبها بأي حال؛ لأنها تعبّر عن أسلوب يستخدمه الأعداء ضد الصالحين مهما كانت ظروفهم ومواصفاتهم.
1 ـ فقد اتهم الإمام بالمثالية والخيالية في تصوراته ومشاريعه، ولا يزال يتهم بذلك بشأن بعض المواقف، كما اتهم الأنبياء بالشعر والجنون.
ففي صراعه مع الشاه كانت هذه التهمة رائجة، وأنه يتخيل إمكان إسقاط هذا النظام، ومواجهة الأجهزة والإمكانات التي يملكها والقدرات التي تقف وراءه وتدعم وجوده وقد أثبتت التجربة الواقعية إمكانية ذاك وأنه أمر واقعي.
2 ـ كما اتهم الإمام أيضاً بالافتراء والتزوير، حيث نجد هذه التهمة يطلقها أعداء الإسلام ضده بشأن تفسيره للدين وارتباطه بالمواقف السياسية، أو تفسيره للعبادات كالحج وصلاة الجمعة بأبعادها السياسية. كما اتهم الأنبياء قبله بالافتراء أيضاً.
3 ـ الطعن بالأوضاع الشخصية كالتأثر بالحاشية أو الغلو والتطرف في المواقف والحكم، وما أشبه ذلك، مما تبثه إذاعات المستكبرين والشياطين وأذنابهم، ويروجه المروجون والمنافقون كما كان يصنع ذلك برسول الله، الذي كان يلمز في الصدقات ويتهم بالسذاجة، أو يتهم في أزواجه ونسائه.
وهكذا يتعرض القدوة الصالحة لمثل هذه المحاولات بعد أن يصيب أعداء الإسلام اليأس من إسقاط النظرية نفسها، أو يخافوا من مواجهتها بشكل واضح، فيتوجهوا لإسقاط أشخاصها ورجالها؛ لأنهم يدركون أن النظرية لا يمكن لها التأثير في المجتمع بدون الرجال الذين يحملونها.
ولذلك يصبح الأسلوب الصحيح في مواجهة محاولات التسقيط والتشهير هو الاعتماد على المقاييس الموضوعية التي وضعها الإسلام أمامنا لتقييم القدوة الصالحة مثل التاريخ الجهادي، والمعاناة الطويلة في سبيل الإسلام والقضية، والتجربة الاجتماعية القائمة على أساس النظرة العلمية للأشياء لا على أساس الظنون والآثام، والتقوى والارتباط بالله تعالى إلى غير ذلك من المقاييس التي وضعها القرآن الكريم والإسلام العظيم أمامنا.
تجربتي الخاصة مع الإمام
وقد يكون من المفيد في هذا البحث أن أشير إلى جانب محدود من تجربتي الخاصة مع الإمام باعتبارها تمثل جانباً من سيرة الإمام الذي يتّسم بالقدوة، وأتمثّلُ فيها صفة الشاهد لهذه السيرة لا المحلل لها، وبطبيعة الحال سوف اقتصر على بيان بعض الملامح بالمقدار الذي تسمح به الظروف الفعلية والمصلحة الإسلامية والمجال المحدود لهذا البحث.
التجربة في النجف الأشرف
لقد كان منهج الإمام قدس سره عندما كان في النجف الأشرف هو عدم التدخل في القضايا السياسية التي تطرأ على الساحة العراقية، وكنت أفهم ذلك على أساس تفرغه للقضية الإسلامية في إيران، وعدم الانجرار إلى توزيع الجهد على ساحات متعددة، خصوصاً وأن المرجعية العامة المتصدية حينذاك (مرجعية الإمام السيد الحكيم) (رض) كانت تتولى بشكل خاص القضايا في الساحة العراقية ... وقد تكشفت للإمام من خلال مراقبته للأوضاع العامة ولصراع المرجعية مع السلطة في العراق الكثير من الحقائق عن طبيعة الأنظمة والنظام العفلقي بالخصوص، وعن طبيعة الأوضاع والعلاقات مع الشعب العراقي.
ولكن بعد وفاة آية الله العظمى السيد الحكيم[49] واجهت الحوزة العلمية أوضاعاً استثنائية حرجة كانت بداياتها في الأيام الأخيرة من حياته رضوان الله عليه.
وقد حاول الإمام قدس سره أن يلتزم بموقفه السابق تجاه هذه الأحداث أيضاً، حتى أنه على مستوى التصدي للتقليد في العراق لم يبد الإمام ولا صحبه أي نشاط ملحوظ بالنسبة إلى دعوة الناس في العراق إلى تقليده، بالرغم من أنه كان يرعى طلاب العلوم الدينية من كل الأوساط ومنها العراقية بالرعاية العلمية والمالية التي تقوم بها المرجعية المتعارفة.
ولكن عندما واجهت الحوزة ظرفاً استثنائياً وهو قرار تسفير كل غير العراقيين من الإيرانيين وغيرهم في الحوزة العلمية، وكان آية الله السيد الخوئي مريضاً قد نقل إلى المستشفى في بغداد، وكانت الحوزة تعيش حالة الحيرة والتردد، نجد الإمام يبادر ولأول مرة باتخاذ قرار تعطيل الحوزة العلمية؛ احتجاجاً على موقف الحكومة البعثية، ويطلب من كل الأوساط الحوزوية الاستجابة إلى ذلك واتخاذ موقف موحد إلى حين تراجع الحكومة عن موقفها.
ولا زلت أتذكر موقف شهيدنا آية الله الصدر في هذا المجال وذهابه إلى بغداد للحديث مع آية الله السيد الخوئي وتحمله لمسؤولية الرسالة التي يطلب فيها السيد الخوئي من علماء الحوزة البقاء والصمود، ومحاولات بعض أطراف السيد الخوئي تكذيب هذه الرسالة، بحيث أحدثت بلبلة في النجف بسبب ذلك، كما أنه (قدس سره) قام بعدة زيارات للإمام من أجل التضامن وترتيب الموقف الموحد. الأمر الذي انتهى بعد ذلك بتراجع البعثيين عن موقفهم ومجيء (علي رضا) مسؤول المخابرات البعثية حينذاك إلى النجف وزيارته للمراجع وإعلانه قرار وقف التسفير.
التقليل من الروتين والمجاملات
كما أنه كان من الملاحظ في شخصية الإمام التقليل من حالة المجاملات الروتينية المعروفة في بعض أوساط الحوزات العلمية والاهتمام ببعض القضايا الشكلية الموروثة.
ومن ذلك مثلاً عدم تصدي الإمام لإقامة الفاتحة على أرواح العلماء الذين يتوفون في الخارج، حيث كان من المتعارف أن يقيم المرجع مجلس الفاتحة لمدة ثلاثة أيام، وقلصت بعد ذلك بقرار من آية الله العظمى الإمام الحكيم لمدة يوم واحد على أرواح هؤلاء العلماء، بحيث كانت تتكرر هذه المجالس أحياناً عدة مرات في الأسبوع ومن قبل مجموعة من المراجع أو المرشحين للمرجعية.
كما قلص مدة مراسيم الجلوس يومياً ـ المعتادة للمراجع ـ لعدة ساعات في النهار والليل للقاء العام من الناس إلى ساعة واحدة مساء وبشكل مضبوط، بحيث لا تزيد دقائق على هذا الوقت.
الأسلوب الجديد في التصدي السياسي
وقد حاول الإمام قدس سره أن يدخل أسلوباً جديداً في منهج المراجع العظام وهو التصدي للقضايا السياسية من خلال الخطب وشرح المفاهيم بشكل مباشر ... بعد أن كان المراجع يتصدون لذلك ـ في بعض الأحيان ـ عن طريق اتخاذ المواقف أو الرسائل والبرقيات أو الفتاوى أو الممثلين.
وكانت خطاباته وأحاديثه فيما يتعلق بالحكومة الإسلامية، أو في بعض المناسبات السياسية والأحداث المستجدة في الساحة الإسلامية الإيرانية لها تأثير خاص بين طلاب العلوم الدينية. وأتذكر بهذا الصدد أن آية الله السيد محمد جواد الطباطبائي التبريزي عقد له اجتماع مهم في مسجد الهندي من قبل علماء وطلاب الحوزة العلمية بعد هذا التحرك وصعد المنبر وتناول القضايا السياسية الآنية، وكان لهذا الاجتماع دوي في النجف الأشرف.
الاهتمام بالعمل الإسلامي في العراق
وعندما أقدم نظام العفالقة المجرمين على الحكم بالإعدام على خمسة من خيرة أبناء العراق، فيهم بعض العلماء وبعض المثقفين الرساليين، بتهمة التعاون مع حكم أجنبي ـ كان يقصد به حكم الشاه ـ والانتماء إلى حزب سياسي غير مجاز (حزب الدعوة الإسلامية)، وتأكد لإمام الأمة أن هذه التهم باطلة، وأن النظام سوف يقدم على تنفيذ هذه الجريمة الشنيعة، حاول الإمام من خلال جهازه الخاص أن يتدخل في هذا الأمر ـ عندما طلب منه ذلك ـ ويمنع من ارتكاب هذه الجريمة، ولكن الأوان كان قد فات حيث نفذت الجريمة في نفس الساعات التي أبلغ الإمام فيها بهذا النبأ، ولا شك أن تدخل الإمام في هذا الأمر كان له أثر كبير من الناحية المعنوية على الأقل؛ لأنه سوف يبعد عن هذه المجموعة الكثير من الشبهات التي تحاول السلطة ترويجها ضدهم؛ وذلك لوضوح موقف الإمام من حكم الشاه.
وأتذكر بهذا الصدد لوناً من الرعاية الخاصة من قبل الإمام حينما حكم عليّ بالسجن المؤبد في العراق في قضية انتفاضة صفر المعروفة، ونقلت إلى السجن، فقد تعاطف إمام الأمة مع هذا الحادث.. بالرغم من أني لم أكن محسوباً حينذاك في عرف الحوزة العلمية من حاشيته الخاصة، حيث كان يتفقد بشكل مستمر أحوالي الخاصة في السجن، فقد حدثني أحد العلماء من أسرتنا أن الإمام كان يسأله عني كلما التقى به في الحرم الحيدري الشريف ـ وكان من عادة الإمام أن يزور الحرم ليلاً بعد المغرب بثلاث ساعات وكان من عادة هذا العالم أن يصنع ذلك في نفس الوقت ـ كما أنه قام بتكرار هذا السؤال في مناسبات مختلفة حتى في يوم تشييع ولده آية الله السيد مصطفى (ره).
علماً أن إمام الأمة معروف بين الناس أنه قليل الكلام في الشؤون الخاصة، وقليل العلاقات أيضاً في هذا المجال.
كما أنه أرسل خبراً بتوسط أحد العلماء في جهازه الحوزوي وأحد إخواني الشهداء يعرض فيه راتباً شهرياً ويظهر استعداده لكل مساعدة.
ثم شملني برعاية خاصة بعد خروجي من السجن سواء في تفقده الشخصي أو إرسال نجله حجة الإسلام السيد أحمد الخميني وبعض خاصته للزيارة.
وقد لمست من خلال ذلك العطف الخاص الذي يوليه الإمام للطلبة الذين يقدر أن لهم مواقف جهادية وسياسية، وكذلك للتحرك الإسلامي في العراق.
التجربة مع الإمام
فيما يرتبط بالقضية الإسلامية في العراق
وقد أولى الإمام القضية الإسلامية في العراق رعاية وأهمية خاصة؛ لأنه كان يعرف الكثير من ظروفها عن قرب بسبب وجوده في العراق، ورؤيته لمجمل الأحداث السياسية فيه عن كثب.
وقد سمعته في إحدى المرات كان يقول: إني كنت أتوقع قيام الحكم الإسلامي في العراق قبل قيامه في إيران؛ بسبب وجود قوى العشائر العراقية التي ترتبط بالعلماء، كما أن تكوينة الشعب العراقي العامة عشائرية توالي الإسلام.
كما أنه ذكر لآية الله الشهيد الصدر: أنه كنت أنتظر من المغفور له آية الله العظمى السيد الحكيم أن ينهض بالشعب العراقي في وجه الحكم الطاغي، ولكن عندما رأيت موقف الناس من تحركه في الأيام الأخيرة من حياته أدركت حقيقة الأوضاع المتردية التي يعيشها العراق وطبيعة الظروف التي تحيط بالمغفور له المرجع السيد الحكيم.
ومن أجل ذلك كان الإمام يهتم بالتحدث إلى الشعب العراقي واستنهاضه، وشرح الظروف التي يعيشها والمأساة التي يعانيها، كما تحدث في مناسبات كثيرة من خلال البيانات واللقاءات العامة عن مظلومية هذا الشعب والأمة وتكالب قوى العدوان والطغيان عليه ... وما يعانيه الصالحون من أبنائه وعلمائه على أيدي العفالقة المجرمين.
توجيهات الإمام
في الساحة الإسلامية العراقية
وأود بهذه المناسبة أن أشير إلى مجموعة من النقاط التي تشكل بحسب فهمي جانباً من المنظور العام لتوجهات الإمام في القضية الإسلامية العراقية، لمستها عن قرب ومن خلال اللقاءات الكثيرة معه والأحداث المتعددة.
أ ـ الاعتماد على القاعدة الشعبية
* الاهتمام بأن يكون التحرك الإسلامي والمقاومة الإسلامية نابعة من الأوساط الشعبية، بحيث تصبح هذه الأوساط بنفسها مدركة لطبيعة مسؤولياتها ... من ناحية، وقادرة على المواجهة الحقيقية مع قوى الشر والطغيان من ناحية أخرى، بما تملك من طاقات وإمكانات هائلة.
وقد لاحظت ذلك أيضاً من خلال قبوله لاستقبال جماهير أبناء الشعب العراقي المتواجدين في إيران. فعندما طلبت منه ذلك في الذكرى الأولى لاستشهاد آية الله الصدر تحدث إليهم بشكل خاص، وكذلك من خلال قبوله لاستقبال المجاهدين العراقيين في مناسبات متعددة.
ب ـ القيادة العلمائية
وإلى جانب ذلك إعطاء الأهمية الخاصة بأن تكون قيادة المسيرة بيد العلماء وخط المرجعية والحوزة العلمية.
ويبدو ذلك واضحاً من خلال حديثه في اللقاء الأول مع جماعة العلماء التي تم تأسيسها بعد أن قدمت له تقريراً عن تأسيسها وأشخاصها وتفاصيل ظروفها، ووافق لأول مرة أن يكون له ممثل فيها بعد أن طلبت منه ذلك في اللقاء الأول لجماعة العلماء مع الإمام، وذلك قبل ما يزيد على تسع سنوات، حيث عيّن سماحته آية الله السيد الخامنئي الذي كانت له مساع حميدة في إنجاح مشروع هذه الجماعة والاهتمام بالقضية الإسلامية العراقية.
وفي حديثه مع جماعة العلماء أكد على دور العلماء الروحانيين ومحاولات الاستعمار لعزلهم عن الأمة وتشويه صورتهم وإضعاف دورهم فيها، وذكر بعض المعاناة في إيران تجاه هذا الموضوع أيام (رضا شاه) الأب، وكيف كان العلماء والروحانيون يواجهون السخرية من قبل بعض الأوساط؟ بسبب ضغط النظام، وأن العلماء هم الذين يمكنهم أن يجمعوا كلمة الأمة، وأن اتفاقهم سوف يؤدي إلى نجاح التحرك في العراق ... كما أنه في حديثه مع المجلس الأعلى ركز على ضرورة الاهتمام بالأمة وتوجيهها والإخلاص في العمل ووحدة الكلمة.
وكان أكثر أعضاء المجلس الأعلى الذين استقبلهم الإمام من العلماء.
ج ـ عدم التدخل المباشر في القضية سياسياً
* التزام الإمام بسياسة عدم التدخل المباشر في هذه المرحلة بالقضية الإسلامية العراقية والاكتفاء بإعطاء التوجيه العام فيها فحسب، وقد لاحظت ذلك من خلال الموقف العام تجاه مشروع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، حيث وافق بعد فترة من تأسيس المجلس الأعلى على استقبال أعضاء المجلس، ولكن لم يوافق على تعيين ممثل خاص له في المجلس بعد الطلب المستمر منه بهذا الشأن، وإن كان قد أوكل لسماحة آية الله السيد الخامنئي الاهتمام بالقضية العراقية، ومع ذلك عندما شرح له سماحة آية الله السيد الخامنئي الظروف الموضوعية التي تجعل استقبال المجلس الأعلى من قبل الإمام ذا مصلحة إسلامية وافق الإمام على ذلك. وقام مكتب الإمام بالاتصال بي ـ وكنت حينذاك مسافراً إلى الجبهة (منطقة حاج عمران)، في عمليات والفجر الثانية[50] ـ من أجل ترتيب هذا اللقاء وموعده.
د ـ دفع العراقيين باتجاه الاعتماد على النفس
* السعي لأن يتحمل العراقيون أنفسهم مسؤولية القضية السياسية الإسلامية وإيصالهم إلى درجة الرشد والاكتفاء الذاتي. وذلك باشعارهم بالاعتماد والثقة، وتوجيههم لحل مشاكلهم بأنفسهم، كما أشرت إلى ذلك في موقفه من قضية التصدي، وكذلك الموقف من استشهاد الستة من آل آية الله العظمى السيد الحكيم.
وأذكر بهذه المناسبة أنه حدثت خلافات بين بعض الأطراف الإسلامية رفعت إلى بيت الإمام، وعندما تدخل حجة الإسلام السيد أحمد الخميني بالأمر اكتفى بالسعي لإصلاح الموقف باهتمام وإعطاء التوجيهات العامة للإمام، دون أن يمارس أي لون من الضغط أو الحسم في المسائل المطروحة، وكان من الواضح أنه يسعى لحل الخلافات بدفع الأطراف إلى الحل بأنفسهم، بالرغم من وضوح حقيقة الحال لدى الإمام، وبيت الإمام والذي عبّر عنه في مناسبات عديدة.
كما أنه من شدة اهتمامه بالقضية الإسلامية والسعي لدعمها مادياً وبشكل ذاتي أجازني بصرف الحقوق الشرعية في القضايا المرتبطة بها، مع أنه يتحرج كثيراً في صرف الحقوق في غير المجالات المعروفة لصرفها، وهي الحوزات العلمية ومؤسساتها كالمساجد والمدارس ... لأن تلك المجالات تعتمد على هذا النوع من الأموال، حيث أُفسّر هذه الإجازة بسبب الاهتمام بالقضية الإسلامية في العراق ومحاولة ربط العراقيين بها دينياً، بالإضافة إلى إدراكه للظروف الصعبة التي تعيشها القضية من جميع جوانبها وبالخصوص الجانب المالي.
وكان اهتمامه بجماعة العلماء والمجلس الأعلى وغير ذلك من الاهتمامات يعبر عن ذلك أيضا؛ لأنه يرى ضرورة تكامل هذه القضية ووصولها إلى الرشد المعنوي والمادي والسياسي.
هـ ـ السعي لحل مشكلات القضية العراقية
* السعي لحل المشاكل الرئيسية التي تواجه القضية الإسلامية في العراق من خلال تعقيدات بعض الأجهزة في الجمهورية الإسلامية بسبب ظروف الثورة ومواقف بعض العناصر، فقد تدخل الإمام قدس سره وأعطى توجيهاته بضرورة حل هذه المشاكل على مستوى حرس الثورة الإسلامية، وأتذكر بهذه المناسبة أن نجله حجة الإسلام السيد أحمد أبلغ ممثل الإمام في حرس الثورة أن الإمام أمر بحل جميع المشاكل التي يواجهها السيد الحكيم فيما يتعلق بالقضية الإسلامية، وكان ذلك بعد أن كنت عرضت على سماحة الإمام وجود هذه المشاكل بشكل إجمالي. كما أنه قدس سره أصدر أمره بحل جميع مشاكل الأخوة العراقيين في إيران بعد قرار وقف إطلاق النار، وعلى أثر ذلك عقدت عدة اجتماعات واتخذت قرارات عديدة من رئيس الجمهورية حينذاك آية الله السيد الخامنئي.
و ـ الوحدة في الأمة
لقد كانت قضية الوحدة بين أطراف المعارضة الإسلامية في العراق قضية مركزية في نظر الإمام قدس سره، أكد عليها في حديثه في اللقاء الأول مع جماعة العلماء، وأيضاً في اللقاء الأول مع المجلس الأعلى كما كان يؤكد على ذلك خلال لقاءاتي الخاصة به.
وكان يبدو عليه الارتياح عندما كنت أعرض عليه موقفاً موحداً وكان يستجيب لمتطلبات هذا الموقف الموحد فوراً. ولذلك رحب بسرعة بفكرة جماعة العلماء؛ لما كانت تجسده من منطلق عقائدي ووحدة في الساحة.
وبالرغم من أنه كان يدرك أن بعض القضايا لا يمكن تجاوزها في العمل وقد تؤدي إلى الخلاف، خصوصاً تلك القضايا التي ترتبط بالحالة الثورية أو التخلف السياسي أو الشجاعة الكافية في تبني المواقف الساخنة، إلا أنه قدس سره كان يتخوف من هوى النفس وحب الجاه؛ ولهذا كان يؤكد على هذا الجانب في أحاديثه العامة والخاصة؛ لأن هذا السبب هو الذي ينتهي بالقضية إلى الهاوية.
وبسبب توجيهات الإمام ـ على ما أعتقد ـ وحرصه وحرص ممثليه تمكنت الأطراف الإسلامية أن تتجاوز الكثير من قضايا الخلاف، وتحقق هذا المستوى من الوحدة في وجهات النظر والمواقف السياسية والعمل المشترك، الذي تجسد في أطروحة المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، كما تمكنت الأطراف الإسلامية أن تتجاوز باستمرار وتتعاون في كثير من المجالات، وتمكنت أن تحقق الانجازات الكبيرة في الساحة، وأهمها القوة العسكرية المنظمة، وإقامة مجموعة من المؤتمرات والنشاطات السياسية.
وفي الختام أسأله تعالى أن يتغمده برحمته الواسعة، وأن يوفقنا والمسلمين جميعاً للاقتداء به وبالصالحين من عباد الله، وأسأله أن يجعلنا قدوة صالحة للسالكين، وأدعو جميع المسلمين للتأمّل في سيرة إمام الأمة وسيرة النبي والأئمة الهداة من أهل بيته والتأسي بهم والله سبحانه الموفق للصواب، والحمد لله رب العالمين.
ملاحظة: تمت كتابة هذا البحث في محرم الحرام سنة 1406 وأدخلت عليه بعض التعديلات البسيطة ليناسب رحلة الإمام (قدس سره).
هذه المحاضرة ألقاها السيد الشهيد الحكيم قدس سره في المؤتمر الثامن للفكر الإسلامي الذي انعقد في طهران في شهر رجب 1410هـ.ق حول الشخصية القيادية للإمام الخميني رحمه الله. وقد تم حذف بعض الفقرات من الكلمة وهي التي تخص شخصية سماحة الشهيد رحمه الله ولا ترتبط بالإمام ومن أراد المحاضرة كاملة عليه مراجعة الكتيب الصادر عن المؤتمر.
ــــــــــــــــ
[1] عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: إن رسول الله (ص) بعث سريّة فلمّا رجعوا قال: مرحباً بقوم قضوا الجهاد الأصغر، وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل: يا رسول الله (ص) وما الجهاد الأكبر؟ فقال: جهاد النفس.
[2] سورة الشمس، الآية: 9 و10.
[3] سورة العصر.
[4] سورة الإسراء، الآية: 70.
[5] سورة الحجرات، الآية: 13.
[6] هو الإمام محمد بن علي بن الحسين المعروف بالباقر خامس أئمة أهل البيت.
[7] أصول الكافي 1/10 ، راجع بهذا الصدد الحديث 14 من كتاب العقل والجهل ج1/20 فإنه يفي بالمقصود.
[8] سورة آل عمران، الآية: 14.
[9] سورة الأعراف، الآية: 175 و 176.
[10] سورة محمد، الآية: 14.
[11] سورة الجاثية، الآية: 23.
[12] سورة الجمعة، الآية: 2.
[13] سورة البقرة، الآية: 213.
[14] سورة البقرة، الآية: 214.
[15] سورة الممتحنة، الآية: 4.
[16] سورة الصف، الآيات: 2 ـ 4.
[17] سورة الأحزاب، الآية: 22 و 23.
[18] سورة آل عمران، الآية: 173.
[19] سورة القصص، الآيات: 4 ـ 6.
[20] وسائل الشيعة، ج: 1 ، ص: 56 ، الحديث: 2.
[21] وسائل الشيعة، ج: 8 ، ص: 401 ، الحديث: 10.
[22] نهج البلاغة، الخطبة: 110.
[23] نهج البلاغة، الخطبة: 192.
[24] نهج البلاغة، الكتاب: 45.
[25] سورة الأحزاب، الآية: 21.
[26] سورة الأنعام، الآية: 90.
[27] سورة الممتحنة، الآية: 4.
[28] سورة الأحقاف، الآية: 35.
[29] سورة يوسف، الآية: 111.
[30] سورة هود، الآية: 120.
[31] سورة البقرة، الآية: 214.
[32] سورة التحريم، الآية: 11 ـ 12.
[33] سورة آل عمران، الآية: 173.
[34] سورة النور، الآية: 51.
[35] سورة الأحزاب، الآية: 22.
[36] وسائل الشيعة، ج: 13 ص: 294.
[37] نور الثقلين، ج: 1 ص: 744.
[38] سورة البقرة، الآية: 165 و 167.
[39] سورة إبراهيم، الآية: 21.
[40] سورة السجدة، الآية: 21.
[41] سورة القصص، الآية: 41 و 42.
[42] سورة يونس، الآية: 35.
[43] سورة الأحزاب، الآية: 32.
[44] سورة الأنبياء، الآية: 87.
[45] سورة القلم، الآيات: 48 ـ 50.
[46] سورة الحديد، الآية: 27.
[47] سنة سقوط حكومة الشاه، 1357ش.
[48] حدثني هذا العالم الجليل وهو حجة السلام السيد مهدي جماراني أن الإمام بعد أن نزل في جماران أراد أن يطمئن قلبه أنه لم يثقل على أحد في نزوله في البيت، فسأل زوجتي عندما زارته، عن قبولها بالسكنى في داري حيث أعلنت له هذه الزوجة الفاضلة بترحيبها وقبولها.
[49] توفي الإمام الحكيم في أواسط سنة: 1970م، وكانت هذه الأحداث في أواخر سنة: 1971م.
[50] هكذا ورد في الكلمة إلا أن الظاهر هي عمليات كربلاء الثانية.
تعليقات الزوار