رابع عامٍ على العروج

ندى بنجك

 

إنّها الحكايات جميعها تلتمّ الآن في هذه الغرفة، وتبوح أصواتهم بحشرجة الاشتياق، وتلمع عيونهم التي لم يدم فيها انحباس الدمع، حينما صار الكلام عن الحاج قاسم قائد الروحيّة والإنسانية وجنرال القلوب.

أفاضوا جميعهم بسرد الوقائع والأحداث التي تلت فتح الطريق إلى سامراء، وفكّ الحصار عن مقام العسكريّين الشريفين عليهما السلام، فوصل شريط الأحداث إلى صور لا تفارق وجدانهم.

 

 

* في الغرفة العزيزة

هي الآن محطّة استراحة في مقرّ الشيخ سامي المسعوديّ، يُدخلنا مباشرة إلى الغرفة العزيزة على عمره، كيف لا وقد اشتمّت كلّ مسك من هامة الحاج قاسم ويديه، وهي تذرّ في المكان عبق غبار آتٍ من ساعات لا راحة فيها وهو يجول في الميادين، وكذلك من ركبتيه وهما تنثنيان للصلاة، ومن تمتماته وهي تدبّ الحياة في الحياة. يأتيها حاملاً في رأسه ملفّات كثيرة، فيفردها هنا في هذه الغرفة، ولا داعي لطاولة مستديرة.

 

الشيخ المسعودي لا يكفّ عن تحريك الخاتم في إصبعه، تلك هي ذبذبات الأنس بهديّة لا يبادلها بأيّ شيء، هكذا همس، حينما ذكر أنّ الخاتم أرسله له الحاج قاسم مرفقاً برسالة مسكونة بالكثير من الحنين والسلام وطيب الكلام، من حينها غرسه في إصبعه بعد أن نقش عليه: “إنّه من سليمان، وإنّه بسم الله الرحمن الرحيم”.

 

* إلى دار النور والسرور

الآن نقترب من بوّابة الذكريات الغالية أكثر، نطأ العتبة بأطراف القلوب. يقول الشيخ: «اتّصل بي طالباً منّي مرافقته إلى بيروت، قلت له: لم أستعدّ لمثل أمر كهذا، فليس معي أي شيء من مستلزمات السفر. ردّ وقال: أنا أعطيك. ثمّ كان السفر، وما أدراني أنّ الوصول سوف يكون إلى دار النور والسرور، حيث تفاجأت به يخبرني، نحن الآن عند باب سماحة السيّد حسن نصر الله (حفظه الله)».

 

يصل الحاج قاسم، فيستقبله السيّد حسن بشخصه عند الباب، يمسك بيد السيّد يودّ تقبيلها، فيقابله السيّد بِالوَله نفسه، ممسكاً بيد الحاج قاسم، وتلتفّ أيديهما في عناق طويل، هل هذا عناق أم مخافة فراق؟ هل هذا لقاء، أم بداية اشتياق؟

 

يقول الشيخ المسعودي: «ذُهلت، وسألت نفسي كثيراً: إذا كان شخص مثل الحاج سليماني يسلّم على سماحة السيّد بهذه الطريقة، فماذا على شخص مثلي أن يفعل؟ أقلّ ردّة فعل أن نلتفّ على أرواحنا بتأمّل وصمت، هذا مشهدٌ من شدّة ظهور الله فيه، يكاد يُستجاب فيه الدعاء».

 

* نثر البسمة

لا يزال كرسيّ الحاج قاسم في مكانه، في موضعه نفسه وربّما على عبق غباره؛ لأنّ كلّ أثر منه هو أكبر من أيّ أثر، هو عمر بأكمله.

 

هنا في هذه الغرفة، ثمّة صورة للحاج قاسم تزهر في وجهه ضحكة. نوغل فيها ونسأل: ما الذي كان يسرّ خاطرك؟ من صاحب الحظّ الذي حدّثته وحادثك ثمّ توّجتِ الفكرة بينكما بهذه اللمحة؟

 

هدهدات من أجفان السيّد أبي إيمان هذه المرّة، فلكلّ واحد منهم حصّته مع الحاج سليماني. يهدل بجفنيه ويمضي إلى ذات نهار في الميدان؛ كانوا قد أمضوا لياليَ وساعات متواصلة في خوض مهمّة شائكة، ثمّ حان وقت الصلاة، افترشوا التراب واصطفّوا خلفه وصلّوا، ثمّ أنهوا وقاموا يعيدون ترتيب وضعهم وإقرار الخطى التالية لديهم. وفي غمرة الجِدّ تولد في عينيه النغمة، ولا شيء يُبعده عن أن يمدّ يده إلى قلبه ويقطف منه البسمة، فيبثّها من حوله بين المجاهدين مهما كان حال اللحظة.

 

ثمّة حنين جميل يستريح في عينيّ أبي إيمان وهو يتذكّر تلك المرّة حينما كان يحمل في يده عبوة ماء للشرب، ويقف بين مجموعة من القادة الميدانيّين على إحدى الجبهات في العراق، ثمّ يبدأ برشّ الماء عليهم، يلاطفهم كما لو أنّ الوقت قد فرغ من كلّ الأعباء.

 

* لماذا أوقف المعركة؟

الآن لحظة صامتة وتنهيدة شاردة، لا يتمكّن رفيق العمر من ردعها، لا شكّ في أنّ نسمة عاطفة قد هبّت عليه، فالذي في صوته ووجهه يقول: اتركوا الأبواب مفتوحة على روح الحاج قاسم المشمسة، ودعوها تنفتح على إنسانيّته ورفعة أخلاقه من كلّ الجهات.

 

هي حكاية من ميدان الأعداء، يوم احتدمت معركة في إحدى المناطق التابعة لبغداد واشتدّ الوضع قساوةً من حول مجموعات داعش، وكانت المعركة على وشك أن تنجلي عن انتصار مهيب للحشد، ثمّ في لحظة غير مقرّرة يوقف الحاج قاسم كلّ شيء، ينهي القتال في تلك اللحظة. “حينما اشتدّت المعركة والعدوّ كثر الضغط عليه وقد بدأ يقاوم وينكسر، شاهد الحاج قاسم في غرفة العمليّات على شاشات المراقبة، أنّ عوائل الدواعش قد بدأوا يخرجون من بيوتهم ويقطعون الشوارع، فقرّر مباشرة أن يوقف المعركة، لكي لا يلحق أيّ ضرر بهم لأنّهم مدنيّون، طاوياً لحظة انتصار كبرى كان بحاجة إليها، وهي كانت على وشك أن تتحقّق في ظلّ حالتيّ التشرذم والضعف اللذين راحا يظهران بين صفوف الأعداء”، يقول أبو إيمان.

 

إن كان الإنجاز أمراً مهمّاً، فإنّ الحفاظ عليه هو الأهمّ، ذلك هو خلفيّة قراره في حفظ مشهد الإنسانيّة. وفي الطريق إلى تحقيق الهدف، كأنّ الحاج قاسم يقول: “حاذر أن يسقط منك الهدف نفسه”، تلك هي معانٍ تحوّلت إلى خطىً، ولم تكن مطلقاً مآثر أقوال.

 

يا أيّها الأمميّ والقائد الإسلاميّ، حمّلتنا أكثر ممّا في مقدور أذهاننا ووجداننا أن يتلقّى ويحتمل من عظمتك وفرادتك. في عزّ البأس تهلّ باللين، ومن ضفة الأعداء تُخبر كيف حالك مع الأصدقاء.

 

* ليت الصاروخ أصابنا

كتم أبو إيمان دمعته كلّ الوقت، لكنّه أبقى على الغصّة، وفي صرّة الذكريات الكثير من الصور. وحينما سرد حادثة إنسانيّته مع عائلات الأعداء، مضى تلقائيّاً للحديث عن هذه الصفة ومداها في يوميّات الأصدقاء. يتذكّر أبو إيمان حينما رفع وجهه وقد أنهى صلاته، فلاحظ أنّ الحاج قاسماً كان في ذلك الوقت يتأمّله، ثمّ يقترب منه ماسكاً جبينه مصرّاً على تقبيله تارة، والحنوّ عليه واحتضانه بحرارة تارة أخرى. يضجّ في الغرفة صوت أبي إيمان: “أقول لأمريكا: والله، لو أنّ الصاروخ كان مخيّراً في من يصيب، لطلبت بل تمنّيت لو أنّه أصابني وترك الحاجَّ قاسماً. لقد كان هذا الرجل صادقاً ومخلصاً، ونحن أحببناه ملء قلوبنا”.

 

* هل تشعر بالبرد؟

عن صلة القلب بالقلب، وورْد التعلّق به، يا أيّها الصديق لا تُكمل ولا تحكِ. ردّدتْ ذلك رنّة الضحكة المشحونة بالحزن على الفقد، من وجه الحاج جواد، وهو أحد القادة الميدانيّين اللبنانيّين الذين ترافقوا معه في مختلف الساحات والجبهات. “يا عزيزنا ويا حبيبنا”، كانت هذه جملته الدائمة التي تمرّ من قلبه إلى كلّ قلب فيهم، ومنها يبدأ الأنين في عمر الحنين، والعتاب في عمر الغياب. ليس من السهل أن يكون لمن اعتاد مرافقة الحاج قاسم سليماني وخَبر أنسه وعاين سِحر جوارحه وتأثيرها، أن يبدأ يوميّات من دونه. كان الأمر أصعب من أيّ صعب، لولا أنّ روحه تظلّل عليهم في كلّ الأوقات، وإلّا لكان الحال مأساويّاً كما كلّ الخطرات في البال. يتّكئ الحاج جواد على نظرة صوب الصورة في تلك الغرفة، ويسحب تدريجيّاً من جعبة الحكايات ما لا يفارقه.

 

كان عابراً مع بعض الإخوة طريقاً إلى إحدى العمليّات، ثمّ فجأة يركن السيّارة ويترجّل منها. لفته وجود شابّ في مهمّة حراسة، كان على مرمى عينه وهو يعبر الطريق. تحسّس من خلال وضعيّة جلوسه أنّه يشعر بالبرد، فتقدّم منه على الفور بعد أن خلع المعطف الذي كان يرتديه، ولفّ به جسد الشابّ ثمّ احتضنه وقبّل جبينه، هامساً بودّ: “هل تشعر بالبرد؟”، أجابه الشابّ: “نعم”. في الظاهر، الحاج كان لا يملك حينها إلّا هذا المعطف لكي يهديه بعض الدفء، ولكنّه كان يختزن في باطنه الكثير من الودّ وشدّة التأثّر، وهو ما لا يمكن وصفه أو التعبير عنه بكلمات. وعلى شاكلة هذا المشهد مرّ العمر على الجبهات وهو يُهدي كلّ شيء. ليس من أخ عرفه إلّا وكان يحمل منه أثراً، ربّما خاتماً أو سبّحة أو كوفيّة، والكثير الكثير من بسمة القلب في القلب، والقبلات على الأكتاف.

 

* سرّ الدمعة

صمتٌ حلّ في المكان، ثمّ تدافعوا من جديد لفكّ رزمة جديدة من أطيب الذكريات. في هذه الغرفة وميض حبّ عجيب، وغيض من فيض روحه التي لا يمكن أن تغيب. فبعض الأمكنة يصبح صوتاً ووجهاً ومستقرّ أرواح. طالت الأحاديث، تعدّدت وتنوّعت، ووصل الوقت في الليل إلى منتهاه، لكنّ الحكاية الأخيرة، كانت أشهى ما حُكي، وخلاصة كلّ شيء.

 

ما سرّ اللمعة في هذه الدمعة يا شيخ سامي؟ نقطف من الإجابة سرّها، فالخبريّة تعود إلى الأسابيع الأخيرة من عمر الحاج قاسم، وفي التفاصيل إلحاح لسماع العزاء، ودمع متواصل على الإمام الحسين عليه السلام.

 

كان الوقت مثقلاً بالتعب، بعد نهار من العمل. يحضر الحاج قاسم في مقرّ أبي مهدي المهندس ومجموعة من القادة الميدانيّين، ثمّ في لحظة استراحة، يطلب الحاج قاسم من الشيخ المسعودي أن يقرأ له بعض أبيات العزاء. استغرب الشيخ مطلبه في هذا الوقت، ولكنّه استجاب وفعل. كان الذي ينزل من عينيّ الحاج قاسم في الظاهر دموع، ولكنّ الله العارف بسرّه هو من يقدّر ما الذي اختلط في الدمع، أيّ رجوى وأيّ تضرّع وأيّ تسبيح. بكاء ظلّ يتكرّر في كلّ لقاء، يدلف من روحه إلى عينيه.

 

وقبل المغادرة، يقترب الحاج قاسم ويطلب منه راجياً مرّة أخرى، أن يذهبا في الصباح إلى حضرة المقام الشريف للإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ويقرأ له العزاء. يسأله الشيخ: “ما الحكاية يا حاج قاسم؟ أراك تبكي مهموماً! ما الذي يحزنك؟”. أجابه: “لقد سئمت من الحياة، وأشعر بشيء من الخوف والقلق”. سأله: “ما الذي يخيفك يا حاج؟”. قال: “أشعر أنّ سُفرة الشهادة قد طويت”.

 

بعد هذا الكلام من المتواضع جدّاً، أطلب من القلب أن يفتح باب الغرفة ويغادر، فإنّ الدمع ما عاد يُسكته إلّا لقاء به، إلّا حنين مثل حنينه في الأسابيع الأخيرة، وهو يذرف آخر الدّمعات، قبل أن يبشّره محبوبه الحسين عليه السلام بأن: لا تقلق، قليل من الوقت، سلّم فيه على الرفاق والجبهات، ثمّ اكتب وصيّتك الأخيرة، فإنّك مهاجر.

 

المصدر: مجلة بقية الله