هيهات منا الذلة

استعادة العزة في فكر الإمام الحسين وحفيده السيد الخميني

العز والذل

العز في اللغة هو القوة والشدة والغلبة، والعز والعزة: الرفعة والامتناع.

والعزيز من صفات الله عز وجل وأسمائه الحسنى. قال الزجاج: هو الممتنع فلا يغلبه شيء. ومن أسمائه عز وجل: المعز، وهو الذي يهب العز لمن يشاء من عباده، والعز خلاف الذل(1).

والإنسان بفطرته يتجه إلى الله سبحانه(2)؛ أي يتجه إلى اكتساب صفات الكمال الإلهية، ومنها العزة، ولكنه قد تصده عوامل عديدة عن هذه الحركة فيقع في حالة الذل: {ضُربت عليهم الذلةُ والمَسكَنَةُ وباؤا بغَضَبٍ من الله}(3)، {ضُرِبَتْ عَلَيهم الذلةُ أينَما ثُقِفُوا إلا بحبلٍ من اللهِ وحبل من الناس}(4).

وقد يتحرك تحركاً منحرفاً فيتجه نحو عزة {كسرابٍ بقيعةٍ يَحْسَبهُ الظمآن ماءً}(5). يرى هذه العزة مجسدة ـ مثلاً ـ في طواغيت الأرض: {وقالوا بعزة فرعَونَ إنا لَنحنُ الغالبون}(6). ويبتغيها أحياناً عند أعداء الدين كما يفعل المنافقون: {بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً. الذين يتَّخذُون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهمُ العِزة فإن العِزةَ لله جميعاً}(7).

والدعوة الإلهية تتجه أول ما تتجه إلى محاربة كل العوامل التي تصد الإنسان عن التحرك نحو كماله، وتنتشله من حالة الذل، ثم توجهه إلى المصدر الحقيقي لعزته كي لا يلجأ إلى مصادر سرابية كاذبة {مَن كان يُريدُ العِزةَ فللّه العِزةُ جميعاً}(8) {ولله العِزةُ ولرسولِه وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون}(9).

وشددت السنة على ضرورة صيانة عزة الإنسان المسلم وحرمة إذلاله؛ يقول الإمام الصادق (ع): "إن الله فوض إلى المؤمن أمره كله، ولم يفوض إليه أن يكون ذليلاً، أما تسمع الله عز وجل يقول: {ولله العِزةُ ولرسوله وللمؤمنين}؛ فالمؤمن يكون عزيزاً ولا يكون ذليلاً. ثم قال: إن المؤمن أعز من الجبل، إن الجبل يُستقل منه بالمعاول، والمؤمن لا يستقل من دينه شيء"(10).

وسنرى أن المحور الأساسي في جميع أبعاد التشريع الإسلامي، الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية، تدور حول محور صيانة عزة الإنسان وإبعاده عن حالة الذل. ونقف ولو قليلاً عند معنى العزة لنبين موقعها من الفرد والمجتمع، ومدى إسهامها في البناء والحركة، ثم نلقي الضوء في مقابل ذلك على أخطار الذل في المجتمع.

إذا تأملنا في المعنى اللغوي والاصطلاحي ـ كما ورد في القرآن وسائر النصوص ـ لكلمة العزة، وجدنا انها حالة نفسية تجعل الإنسان يحس بالقوة والمنعة والكرامة والشخصية. وهذه الحالة تتوافر حين يجد الإنسان نفسه مسنوداً ومدعوماً من قوة كبيرة خارج ذاته؛ والإنسان المؤمن يجد في ارتباطه بالله عزاً يوفر له الثقة بنفسه، وينمي فيه الاحساس بالكرامة وعلو الشخصية، فيترفع عن التوافه، ويصون نفسه من الانزلاق في الشهوات(11) ويبتعد عن كل ما يمس منزلته. وتأتي كل تشريعات الإسلام لتوفر للفرد المسلم تعميق هذا الإحساس بنفسه، وصيانته من كل مسّ وحطّ. وكان هذا الإحساس بالعزة ـ في الواقع ـ وراء كل ما شهده المجتمع الإسلامي من حركة جهادية وعلمية، ووراء كل تطور أصيل في عصور التاريخ الإسلامي في حقل الهدم والبناء والمعرفة.

ولا أكون مبالغاً إذا قلت: إن أكثر ما شهده المجتمع الإسلامي من نكسات وانحرافات واضطرابات وفتن، يعود إلى غياب العزة الإسلامية وظهور حالة الذل في المجتمع؛ وذلك لما يلي:

1 ـ الذليل صغير في كل ما يصدر عنه من موقف وسلوك ونظرة، وهو لذلك ينظر إلى الأشياء الصغيرة على أنها كبيرة، ويبتلى بالأمور التافهة التي تشغله عن الأمور الكبيرة(12).

2 ـ الذليل لا يستقيم على موقف صادر عن شخصيته الفكرية وقناعاته الذاتية، لأنه يفتقد الشخصية، ولذلك يكون آلة طيعة بيد من يفتعل الأجواء، ويلوح بأنه يمتلك مصير الناس(13).

3 ـ عقدة الذل تدفع بالذليل لأن يبحث عن شخصيته في أمور موهومة غالباً، ويتصور الذليل أنه يستعيد شخصيته بها، وهذه الأمور لها طابع انحرافي غالباً، وتبعث على الشرور الاجتماعية المختلفة؛ ولذلك تستطيع عصابات الأشرار أن تستغل هؤلاء الأفراد أكثر من غيرهم لتنفيذ مآربها الشريرة(14).

4 ـ الذليل يفتقد توازن الشخصية في نفسه، ويفتقد الارادة وقدرة الضبط والسيطرة، ولذلك تثور عنده الشهوات المادية وتستفحل، ويصبح هذا الشخص عرضة للانغماس في الشهوات ويؤدي ذلك إلى أخطار بينة.

مظاهر اهتمام الإسلام بكرامة الإنسان وعزته(15):

1 ـ ما نجده في السُّنة من تأكيد على حرمة النطفة والجنين، وعلى الاهتمام بالمرأة الحامل، وعلى سلامة طعامها وسلوكها، بل على سلامة محيطها الاجتماعي، وكل ما من شأنه أن يؤثر على سلامة تكوين الجنين، إنما يشكل دلالات مهمة على اهتمام الإسلام بكرامة الإنسان، منذ انعقاد نطفته وفي كل مراحل نموه الجنينية.

2 ـ نرى في السُّنة اهتماماً بالغاً بكرامة الطفل واحترامه ومعاملته بالحسنى، وتركيزاً على تنفيذ طلباته ورغباته وملاعبته، مما يدل بوضوح على أن الإسلام يهتم بأن ينشأ الطفل عزيزاً كريماً.

3 ـ في السُّنة أيضاً تركيز على ضرورة الاهتمام بشخصية الشاب، واحترام رأيه، واستشارته في الأمور، لكي ينشأ هذا الشاب معتمداً على نفسه، محترماً لشخصيته، مهتماً بالجانب العقلي والارادي من كيانه.

4 ـ اهتمام السنة بحرمة الميت وكرامته، وتقرير التعاليم الخاصة بتجهيزه ودفنه وذكره بخير وزيارة قبره، كل ذلك أيضاً تأكيد لحرمة الإنسان وكرامته حتى بعد وفاته.

5 ـ تؤكد النصوص الإسلامية حرمة الخضوع للظالمين من أصحاب السلطة، وعدم الانخراط في سلك خدمتهم، والترفع عن الشعور بالضعف أمام بطشهم.

6 ـ المنهج الإسلامي للسلوك يأبى على الإنسان المسلم أن يحس بالضعف أمام أصحاب المال، ويدعوه لأن يترفع عن الانقياد لهم، بل عن معاشرتهم لكي لا يشعر بالضعة بينهم.

7 ـ في النصوص الصحيحة الموثقة تأكيد على منع الإنسان المسلم أن يذل نفسه لأي سبب من الأسباب، بل تسقط الواجبات إذا استدعى أداؤها أن يذل الإنسان نفسه.

8 ـ اهتمام الإسلام بضبط شهوات البطن والفرج لا تخفى شدته على أحد، وهذا الاهتمام يستهدف تنمية إرادة الإنسان وشخصيته كي لا تسيطر عليه هذه الشهوات وتستذله.

9 ـ "التصور الإسلامي" يركز ـ أول ما يركز ـ على ربط الإنسان برب العالمين، ويدخله في تعامل مباشر مع خالق هذا الوجود؛ وهذا الارتباط ـ إن استشعره الإنسان بكل وجوده ـ يبعث فيه إحساساً بالعزة والكرامة، ويجعله يشعر بأنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بمن يملك كل مقادير أموره وأمور كل الناس.

10 ـ القرآن الكريم يربط تاريخ الفرد المسلم والجماعة المسلمة بتاريخ الأنبياء والصالحين، ومن هنا فإن الإنسان المسلم يرى أن تحركه استمرار لمسيرة طويلة سار عليها من قبل كل عباد الله الصالحين؛ وهو إحساس ينمي مسيرته الحيوية ويباركها ويضفي عليها عراقة وبُعداً واسعاً ضارباً في أعماق التاريخ، ويشعر بذلك بكرامته وأهميته على هذه الساحة التاريخية ذات الآماد البعيدة.

11 ـ يصور الإسلام للانسان أنه خُلق ليكون سيد الكون، وخليفة الله على أرضه، وأن كل شيء في هذا الوجود الرحب قد خُلق من أجله، ومن أجل تمهيد الطريق لمسيرته التكاملية في حياته؛ وهو ما يبعد الإنسان عن أي شعور بالضعف أمام هذا الكون الفسيح، ويشعره بالكرامة أمام جميع المخلوقات.

12 ـ الإنسان المسلم في التصور الإسلامي مسؤول عن هداية البشرية، وعن تبديد ظلامها، وإزالة العقبات عن طريق كمالها، وهو تصور يجعل الإنسان المسلم في مكانة القيادة والريادة على ظهر الأرض، ولا يخفى ما لهذا التصور من أثر في الشعور بالعزة والكرامة في نفس الفرد المسلم والجماعة المسلمة.

13 ـ وضع الإسلام منهجاً متكاملاً لسلوك الحكم والحاكم في المجتمع الإسلامي، يحس فيه بأنه هو صاحب الرأي في قبول الحاكم أو ردّه، كما أن هذا المنهج يمنع استخدام الحكم آلة للظلم والسيطرة على مقدرات الناس، وهو جو سياسي يوفر كرامة المسلم، ويصون شخصيته، ويحافظ على إحساسه بالعزة في تعامله مع النظام الحاكم.

14 ـ منهج المساواة والعدالة في التعامل، ووضع مقياس التقوى للتكريم في الإسلام، يصونان المجتمع من أي لون من ألوان التمييز بسبب الجنس أو اللون أو اللغة، ويشعر الفرد المسلم بكرامته وعزته لا بِنَسبه وحَسَبه وانتمائه القَبَلي أو القومي، بل بمقدار سموه في سلّمه التكاملي؛ أي بتقواه على حد التعبير القرآني. وهذا المعيار يزيل كل إحساس بالضعة والذل بسبب وضاعة النسب أو الانتماء القبلي.

15 ـ حرص الإسلام على العدالة الاقتصادية في توزيع الثروة، ونفي أية سلطة لقوة المال في المجتمع، من أجل القضاء على التمييز الطبقي والاستضعاف الاقتصادي، صيانةً لكل فرد من أفراد المجتمع من أن يُستذل أو يستشعر الذل بسبب واقع اقتصادي غير متوازن في المجتمع، كما أن تأكيد الإسلام على تأمين احتياجات الفرد الضرورية، حتى لو استدعى الأمر أعطاءه من بيت المال، إنما هو حفظ لكرامة الفرد وعزته وإبعاده عن إراقة ماء الوجه بالسؤال. والرائع في الأمر أن هذه الرعاية تشمل حتى غير المسلمين في المجتمع الإسلامي.

16 ـ حرمة النفس وحرمة العرض وحرمة المال أهم الحرمات التي أكد عليها الإسلام، وشدد على القضاء الإسلامي لصيانتها وحفظها والدفاع عنها، كما ألزم كل أفراد المجتمع برعايتها بدقة متناهية، والاحتياط الشديد في مراعاتها؛ كل ذلك لكي يعيش الإنسان المسلم في مأمن من أي تهديد لمقومات كرامته وعزته وشخصيته.

17 ـ أكد الإسلام على العبادات الجماعية، وركز على ضرورة إظهار قوة المسلمين وتراص صفوفهم ووحدة عزمهم وإرادتهم، وانسجام تحركهم لإبراز عزتهم وإظهار كرامتهم أمام أنفسهم وأمام أعدائهم.

18 ـ نفي سبيل المشركين على المسلمين أصلٌ من الأصول الإسلامية، وهو يفرض على كل المسلمين العملَ لسد أية ثغرة سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عملية، ينفذ منها أعداء الإسلام لكي يجدوا لهم موضع قدم في المجتمع الإسلامي؛ وهذا الأصل وحده، لو التزم به المسلمون، لحققت كرامتهم وعزتهم على الساحة الدولية. ونفي السبيل طبعاً يعني نفي السيطرة لا نفي التعامل والاستفادة من الآخرين.

19 ـ مبدأ الجهاد يخلق في نفس الأمة المسلمة روحاً ترفض الإخلاد إلى الأرض والرضا بالظلم والعدوان، والتهاون في الدفاع عن الكرامة والمقدسات، وتأبى الذل والخنوع والاستكانة، وتدفع الإنسان المسلم لأن يطلب عزته وعزة أُمته ودينه وعزة المستضعفين في الأرض ببذْل الغالي والنفيس.

20 ـ حثُّ الإسلام على الانتماء إلى الجماعة وعدم الخروج عنها وعدم الشذوذ عن مسيرتها، يخلق في نفس الإنسان المسلم عزة الانتماء إلى الجماعة المؤمنة، ويجعله يحس بالقوة والفخر بهذا الانتماء.

21 ـ الحث على طلب العلم والتدبر في الكون وفي المخلوقات وفي الأمم والشعوب، يخلق من الإنسان المسلم كائناً ناضجاً يحترم شخصيته وفكره؛ ويقوّم الأفراد على أساس ما عندهم من علم إضافة إلى التقوى. والاعتزاز بالعلم والعلماء يجعل المسلم يبحث عن عزته وكرامته في تنمية شخصيته العلمية والفكرية؛ وبذلك تظهر الأمة العالمة المفكرة، ولا يخفى ما لمثل هذه الأمة من عزة وكرامة بين الأمم.

22 ـ حرمة اغتيال شخصية الإنسان المسلم عن طريق اغتيابه واتهامه وإهانته أمر أكده الإسلام كثيراً جداً؛ كل هذا لكي يأمن المسلم من عدوان يستهدف عزته وكرامته وماء وجهه في المجتمع.

23 ـ النصوص الإسلامية الكثيرة التي تحذر الإنسان المسلم والجماعة المسلمة من التفرقة والشقاق والنفاق، إنما تتجه كلها لصيانة عزة المسلمين وكرامتهم من أن تتصدع، وشوكتهم من أن تلين.

24 ـ حرمة التشبه بالكفار أصل يحافظ على الهوية الثقافية للأمة، ويخلق روح الاعتزاز بهذه الهوية والشعور بالاستعلاء النفسي أمام الثقافات الأخرى.

25 ـ التحذير الشديد من الحرص والطمع في المال والمتاع والشهرة والسلطة، يصون المسلم من أن يستذله الطمع، ويتنازل عن عزته لتحقيق رغبة جامحة في النفس نحو الاستزادة.

26 ـ مبدأ نيل إحدى الحسنيين يصون المجتمع المسلم من أي ضعف وخور وهوان، حينما تضطره الظروف لأن يتراجع وينهزم أمام الأعداء، فهو مجتمع منتصر إن غَلب أو غُلب، والفرد منتصر أن قَتل أو قُتل؛ فالمسلمون هم الأعلَون على كل حال.

27 ـ مبدأ إعداد القوة مبدأ اسلامي مهم يجعل المسلمين مرهوبي الجانب، أعزةً على ظهر الأرض، ويقتلع من رؤوس الأعداء كل فكر يساورهم للمس من عزة المسلمين وكرامتهم.

28 ـ مبدأ الرسالة الخاتمة يخلق في المسلمين إحساساً بأنهم مسؤولون عن خلافة الله في الأرض، وعن اعتلاء دورهم الشاهد والوسط على ظهر البسيطة حتى يرثَ الله الارضَ ومن عليها، وهي مسؤولية مقرونة بالعزة والكرامة.

29 ـ مبدأ قيام الدولة الإسلامية العالمية بقيادة المهدي المنتظر (عج) يجعل المسلمين ينتظرون تحقق هدف دينهم على أوسع نطاق في مستقبل أيام البشرية، حين تذعن كل الشعوب لأحقية الإسلام وتنصاع لأوامره، وتنضوي تحت لوائه؛ وهي نظرة تبعث العزة في نفس الإنسان المسلم، والثقة بمستقبل ما يحمله من فكر وعقيدة، وتبعث فيه أيضاً روح الاستهانة بما تتخبط به البشرية من انحرافات عن دينه الحق.

30 ـ عالج الإسلام كل الحالات التي تُخرج الإنسان من حالة التعادل النفسي، وتوقعه في انفعال يحط من كرامته وشخصيته وعزته مثل الغضب والحسد والحقد.

انحدار منحني العزة الإسلامية خلال نصف قرن

خلال نصف قرن عقب وفاة رسول الله (ص)، حدثت أمور أدت إلى هبوط روح العزة الإسلامية في النفوس، وازدادت مظاهر الخضوع والخنوع والاستسلام والاهتمام بالصغائر في المجتمع الإسلامي، لعوامل عديدة أهمها:

1 ـ التمييز الطبقي، حيث ظهرت في المجتمع الإسلامي طبقتان، إحداهما تتمتع بثروات طائلة والأخرى مدقعة معدومة، والتمييز الطبقي يؤدي طبعاً إلى انهيارات في عزة قطاع من افراد المجتمع بسبب الإحساس بالضعف والغبن والظلم(16).

2 ـ التمييز العنصري؛ فقد اصبح غير العرب مواطنين من الدرجة الثانية، ومحتقرين، وأخذت منهم الجزية، وعوملوا معاملة سيئة أضعفت روح العزة الإسلامية في أنفسهم(17).

3 ـ الصراع القَبَلي، ظهر في نصف القرن هذا، بعد أن ضعف روح الانتماء الرسالي، وعادت الروح الجاهلية والصراعات القبلية بأوضح صورها في المجتمع، ومن الطبيعي أن تضيع روح العزة الإسلامية في حمأة الاعتزاز القَبلي الضيق(18).

4 ـ التخويف والتجويع، ظهر بأفظع صوره في العصر الأموي، بحيث إن الفرد المسلم كان يخشى على بيته أن يُهدم، وعلى لقمة عيشه أن تُسلب، وعلى دمه أن يُراق، وعلى عرضه أن يُنتهك بالظنة ولأتفه الأسباب، مما خلق حالة من الذل والضعة والهوان في المجتمع الإسلامي (19).

5 ـ الاستخفاف بالدين وأهله، والتجاهر بارتكاب المنكرات (20).

6 ـ إشاعة أحاديث مكذوبة، ومذاهب مزعومة تدعو إلى الرضوخ للظالمين والركون إلى المتسلطين وعدم الثورة عليهم، وقبول الأمر الواقع باعتباره قضاءً من الله وقدراً(21)!

مواقف أهل البيت العملية من مظاهر الإذلال

انتهج أئمة أهل البيت (ع) جميعاً مواقف عملية لصد عملية الإذلال، وإبقاء روح العز في المسلمين. ونستعرض فيما يلي أهم محاور هذه المواقف كي لا يخال القارئ الكريم أن استعادة العزة إلى المجتمع الإسلامي تختص بالحسين (ع) وثورته:

1 ـ محاربة ظاهرة التمييز الطبقي وإشاعة العدل والمساواة في العطاء بين أفراد المجتمع الإسلامي(22).

2 ـ كسر العصبيات العنصرية(23).

3 ـ التأكيد على الولاة بالمحافظة على كرامة المسلمين وعزتهم، والاهتمام بعزل من يذل الناس ويستخفهم(24).

4 ـ غرس روح الشهادة والثورة ضد الظلم في المجتمع الإسلامي(25).

5 ـ الاهتمام بالأمور التي ترتبط بعزة المسلمين وكرامتهم، وعدم فسح المجال للاختلافات الداخلية أن تمس من هذه العزة والكرامة(26).

6 ـ السعي الحثيث لربط المجتمع الإسلامي بالله سبحانه؛ كي يستشعر العزة، في هذا الارتباط، لا في المسائل الموهومة(27).

موقف الحسين (ع) وأهل بيته من ظاهرة الذل ونتائجها(28).

1 ـ رفضه بيعة يزيد، معلناً أسباب عدم البيعة ومركزاً على ظلم يزيد وانتهاكه حُرمات المسلمين.

2 ـ التأكيد على مفاهيم العزة في كل أقواله.

3 ـ التحذير من الذل، وأنه سنة طبيعية تصيب المجتمع المتخاذل.

4 ـ الابتعاد عن أي مظهر من مظاهر الذل حتى في الساعات الحرجة.

5 ـ التركيز على الاخلاص في العبودية في أقواله؛ ليستشعر الافراد أن العزة لله جميعاً دون سواه.

6 ـ الصمود والمقاومة حتى آخر لحظة.

7 ـ مواقف زينب من محاولات الإذلال.

8 ـ مواقف علي بن الحسين (ع) من محاولات الإذلال.

أما النتائج فهي:

1 ـ الانتفاض على حالة الذل واسترخاص الدنيا.

2 ـ ارتفاع صوت طلب العزة لدى الثائرين.

3 ـ ارتفاع صوت التنديد بالظلم على المستوى الجماهيري.

4 ـ أُفول دولة الظالمين.

حالة الذل في المجتمعات الإسلامية المعاصرة

بعد هذا العرض لموقف الحسين (ع) من حالة الذل في مجتمعه، نعود إلى العالم الإسلامي في القرون الأخيرة.

 

لقد نزل بالأمة الإسلامية ما أفقدها هويتها وأركعها أمام أعدائها، وأفرغ محتواها الفكري والرسالي وأصابها بهزيمة منكرة. وهذه أهم مظاهر الذل التي سادت في المجتمعات الإسلامية المعاصرة:

1 ـ الهزيمة السياسية والعسكرية التي مُني بها العالم الإسلامي أمام الغزو البريطاني والفرنسي والإيطالي والروسي.

2 ـ الهزيمة النفسية التي أصابت العالم الإسلامي عقب هزائمه السياسية والعسكرية.

3 ـ السيطرة الاقتصادية التامة على مصادر خيرات المسلمين.

4 ـ السيطرة الثقافية على مراكز التعليم.

5 ـ إلغاء التشريع الإسلامي من الحكم.

6 ـ إشاعة الفساد والمنكرات في المجتمع الإسلامي.

7 ـ فصل علماء الدين عن المجتمع، والاستهانة بالدراسات الدينية.

8 ـ السيطرة الصهيونية على العالم الإسلامي.

9 ـ النزاعات المستمرة القومية والطائفية والإقليمية بين المسلمين.

موقف الإمام الخميني من حالة الذل في المجتمع

سلك الإمام الخميني ثلاثة أساليب لمواجهة حالة الذل في مجتمعه:

الأول: خلق روح العزة في المجتمع، وذلك عبر المحاور التالية:

1 ـ التأكيد على قدرة الله سبحانه وتعالى، وأن كل شيء بيده، وأنه القادر على ما يريد، وأنه سبحانه ينصر حتماً من ينصره، وأن كل انتصار إنما هو بفضله ومنّه. هذه التأكيدات موجودة في القرآن الكريم أيضاً، لكن الإمام كان يركز عليها تركيزاً مقروناً بما يحدث في ساحة المواجهة والصراع والصمود والهدم والبناء، فيغرس هذه المفاهيم في النفوس، ليشعر الأفراد بعزة وكرامة ورفعة وهم يتعاملون مع الله سبحانه في تحركهم الاجتماعي.

2 ـ التركيز على قدرة الإسلام في دحر الطواغيت، وبناء الدولة العصرية، وإنقاذ البشرية من مستنقعها، وعلى أنه البديل الوحيد لما تعاني منه البشرية من ضياع وتيه وتخبط في المادية؛ فلقد كان (قدس سره) ينصح المفكرين والزعماء في العالم الإسلامي وغير الإسلامي بالعودة إلى الإسلام ليجدوا فيه عزتهم وسعادتهم وسؤددهم؛ وبذلك يغرس في نفوس كل المسلمين روح الاعتزاز بعقيدتهم والشعور بالكرامة في ظل دينهم.

3 ـ الحديث المستمر عن إيمان حقيقي، حول قدرة الشعب في خلق المعجزات، لأن الأمة المتحركة على طريق الله تتجلى في حركتها قدرة الله وعظمته وانتقامه من الجبارين، فهو قادر على أن يواجه أعتى الطواغيت وإن افتقد العدة والعتاد، وقادر على أن يواجه كل جبهات الكفر على سعتها، وقادر على أن يبني ويعمر رغم كل الضغوط والمحاصرات.

4 ـ منحه الشعب ثقة تامة، ولقد كانت الثقة المتبادلة بين الإمام الراحل وأمته، من أهم بواعث شعور الشعب الإيراني بالاعتزاز والكرامة في حركته بقيادة الإمام؛ فهو (قدس الله روحه) يرى في الشعب وفاءً وصدقاً وإخلاصاً لم يبلغه صحابة رسول الله (ص) ولا صحابة علي (ع)، ويكبر هذا الشعب ويتواضع أمامه وأمام تضحياته وصموده تواضعاً غريباً.

5 ـ تأكيده المستمر على الدور الذي يجب أن يضطلع به الشعب الإيراني على الساحة العالمية، بحمله مشعل الإسلام إلى الضالين، ودفاعه عن المستضعفين، وإعطاء القدوة والمثل الأعلى للآخرين؛ وهذا الدور الذي يريده الإمام للأمة في إيران يجعلها تستشعر دورها الرائد القائد على ظهر الأرض.

6 ـ تخطيط الإمام لإعادة الحياة والروح إلى العبادات الإسلامية، فقد رسم للحج ولصلاة الجمعة وللمساجد تصويراً جديداً يعيد إليها الحياة لتكون كما كانت في عصر الرسالة الأول، مبعث عز للمسلمين، ومظهر قوة وصمود وتكاتف لهم أمام الأعداء المتربصين.

7 ـ حديث الإمام المستمر عن منجزات الثورة الإسلامية في الحقول السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية، وتذكير الناس بما كانت عليه الأوضاع قبل الثورة لتعميق روح الاعتزاز بالثورة الإسلامية وبالإنجاز العظيم الذي حدث على يد الشعب.

8 ـ غرس مفهوم الشهادة في النفوس، وخلق روح طلب الشهادة في الأفراد، بتبيين منزلة الشهيد وعظمة الجهاد في سبيل الله، وما يستتبع تصاعد روح الجهاد من عزة وكرامة للمجتمع.

9 ـ تركيز الإمام الراحل على دور المرأة في المجتمع ودورها في الثورة، وعظمة المسؤوليات التي تنهض بها في البيت والمجتمع، كل ذلك لخلق روح العزة في نفس المرأة، لتغرسها بدورها في نفوس أبنائها وأفراد أسرتها.

10 ـ تأكيده المستمر على قدرة الايرانيين والعرب والشرقيين والأمة المسلمة عامة على الاختراع والابتكار، ومواكبة ركب المدنية المعاصرة على شرط الإيمان بقدراتهم وكفاءاتهم.

11 ـ ربط الأمة بتاريخها الثوري القديم والمعاصر، وخاصة ربطها بثورة سيد الشهداء الحسين بن علي (ع)، والتركيز على روح العزة والإباء في هذه الثورة، ودعوة الأمة للتفاعل مع كل مواقف الإباء والصمود فيها.

12 ـ التأكيد على الطبقة الفقيرة المستضعفة، وعلى ضرورة تجنيد كل الطاقات للأخذ بيدها، وأنها أشرف من أصحاب القصور، وأنها هي التي حملت العبء الجسيم في الثورة والدفاع عنها، كل ذلك لبعث روح العزة في هذه الفئة التي طالما استذلها نظام الطاغوت.

الثاني: اقتلاع روح الهزيمة والذل من النفوس بالأساليب التالية:

1 ـ الاستهانة بالحضارة المادية المعاصرة، وبيان زيفها وخوائها، وتخبطها، وقرب سقوطها، والطريق المسدود الذي وصلت إليه، ونصيحة المهزومين من المسلمين بفتح أعينهم على واقع الحضارة، وعدم الانبهار بظاهرها.

2 ـ الاستخفاف بطواغيت الأرض، والسخرية منهم، وتهديدهم، وتحديهم، والتعامل معهم نموراً من ورق، وأطفالاً جامحين يستحقون النصح والتحذير والتأديب.

3 ـ حث الشعوب على كسر حاجز الخوف الذي اصطنعته الحكومات الظالمة، والتعامل مع هذه الحكومات كما تعامل الشعب الايراني مع الطاغوت المسيطر عليه، والتأكيد أن هذا العصر هو عصر الشعوب وتحقيق إرادتها وكسر قيودها.

4 ـ تركيز روح العزة في كل اللحظات العصيبة التي يخشى فيها تزلزل النفوس، مثل الهزيمة العسكرية أو الضغوط الاقتصادية أو اغتيال كبار الشخصيات القيادية، واستثمار هذه الحوادث لرفع المعنويات وتصعيد روح المقاومة والصمود.

الثالث: إعطاء القدوة من نفسه:

وهذه القدوة قدمها الإمام في مواقفه التالية:

1 ـ المواصلة المستمرة دون هوادة في المقاومة والصمود دون أن يتراجع قيد أنملة عن مواقفه المبدئية، ودون أن يداهن أو يهادن لحظة واحدة؛ وهذه المواصلة صعدت روح الثورة في النفوس، واقتلعت روح طلب العافية والاسترخاء وما يستتبعها من ذل في النفوس.

2 ـ تحمل السجن والتعذيب والإرهاب والنفي بطيب خاطر وبرحابة صدر، متغلباً بذلك على كل سبل الهزيمة النفسية وإذلال الشخصية.

3 ـ تحمل المصائب الشخصية كفقدان الولد بروح مطمئنة صابرة مستسلمة لقضاء الله؛ ولا يخفى ما لهذا الموقف من تأثير في تثبيت النفوس المتزلزلة والأرواح الضعيفة.

4 ـ ضرب المثل الأعلى في الزهد والابتعاد عن مظاهر الحياة وبهارجها وزينتها، بما يرسخ روح الثقة والترفع والسمو النفسي في القاعدة التي يقودها.

تلخيص واستنتاج

من كل ما سبق نفهم أن أكبر مرض نفسي يصيب المجتمعات البشرية هو مرض الذل، وهذا المرض النفسي يحتاج إلى علاج نفسي يشبه الصعقة الكهربائية التي يعالج بها ذوو الأمراض النفسية في عصرنا الراهن.

أن مرض الذل لا يمكن شفاؤه بالموعظة ونشر الفكر والتربية الروحية فحسب، بل يحتاج إلى صعقة، وإلى هزة تعيد له الوعي والحياة، وتجعله يستشعر العزة، ويرى أن هدف الحياة أسمى من خسيس العيش؛ وهذه الصعقة أنزلها بجسم الأمة الإسلامية الحسين بن علي (ع)، فدب فيه دم جديد وروح جديدة؛ وهكذا فعل الإمام الخميني (قدس سره)، وكانت هذه النتائج التي يشاهدها العالم بعينه متمثلة في عودة حثيثة دائبة إلى الأصالة والكرامة والعزة، وهي بأجمعها من نتائج إرهاصات الصبح المرتقب، بإذن الله تعالى. {أليس الصبحُ بقريب}؟!

 

-------------------------------------------

 

(1) لسان العرب، مادة عزز.

(2) انظر محاضرات السيد الشهيد الصدر حول "السنن التاريخية في القرآن الكريم" ففيها عرض دقيق لنظرية المثل الأعلى في حركة التاريخ.

(3) البقرة: 61.

(4) آل عمران: 112.

(5) النور: 39.

(6) الشعراء: 44.

(7) النساء: 138 ـ 139.

(8) فاطر: 10.

(9) المنافقون: 8.

(10) مشكاة الأنوار: 50.

(11) "من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته" نهج البلاغة، الحكمة 449.

(12) هذه الحقيقة وردت على لسان الحكماء والأدباء كثيراً، ويعبر عنها المتنبي في قوله:

وتكبر في عين الصغير صغارها    وتصغر في عين العظيم العظائم

(13) ولذلك يحرص الطغاة على إذلال الناس كي يكونوا آلة طيّعة بأيديهم، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم في حديثه عن تعامل فرعون مع قومه إذ يقول: {فاستخف قومه فأطاعوه} (الزخرف: 54).

(14) أكثر موجات الشر التي اجتاحت العالم الإسلامي من داخله كانت تستغل هذه الحالة المتفشية، كما في حركة الزنج والقرامطة، وحركة البابكية وأمثالها.

(15) الأبعاد المذكورة لم ندرج مصادرها لسعتها، وهي لا تخفى على القارئ المتتبع، فالقرآن مفعم بآيات تكريم الإنسان، ومكانته في الكون، واستخلافه على الأرض، ومهمته الرسالية على ظهرها، وقرب الله سبحانه منه، وحرمة ماله ودمه وغيرها. وهكذا السنة فيها نهي مؤكد عن كل ما يذل الإنسان، وتركيز على حفظ عزته وحرمته من انعقاد نطفته إلى ما بعد مواراته الثرى. وكل ذلك انعكس في الفقه الإسلامي، في أبواب أحكام الجنين والولد والاقتصاد، والحياة الزوجية، وأحكام الميت، حتى إن الواجبات تسقط إذا اقتضت "احتمال ذلة" الإنسان، كسقوط وجوب الوضوء للصلاة والطواف إذا اقتضى طلب الماء ذلة للفرد المسلم.

(16) انظر التمييز في توزيع بيت المال والعطاء، ثم ظهور التمييز الطبقي في المجتمع، ابن ابي الحديد: شرح نهج البلاغة 8: 111، 2: 131 ـ 132، والمسعودي: مروج الذهب 2: 341 ـ 343، وحسن ابراهيم حسن، تاريخ الإسلام 1: 358.

(17) للتوسع في الموضوع انظر: أنساب الأشراف 1: 18 ـ 34، وفيليب حتي: تاريخ العرب 2: 350 ـ 352، وفلها وزن: الدولة العربية وسقوطها: 165 ـ 173و 403و 414و 418 ـ 419.

(18) انظر في سياسة الأمويين تجاه القبائل، وإثارة نار الخصومة بينها. فلها وزن: مصدر سابق: 58، 105 ـ 106، 207.

(19) انظر محمد مهدي شمس الدين: ثورة الحسين: 66 و ما بعدها، فقد نقل عن شرح النهج 2: 6 ـ 7، 3 ـ 18، 85 ـ 86 و11/ 44، 4/73 ما يحير العقول عن هذا البطش والتنكيل.

(20) انظر: البلاذري: أنساب الأشراف، القسم الثاني: 4، وفيليب حتي: تاريخ العرب 2: 258، والدولة العربية: 137 ـ 138، وبروكلمان: تاريخ الشعوب العربية 1: 156.

(21) انظر: ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة 4: 91، 11: 44 ـ 46، ابن قتيبة: عيون الأخبار 1: 7، وانظر أيضاً عن تظاهر معاوية بالجبر والإرجاء: ابن أبي الحديد 1: 340.

(22) هذه أهم سمات فترة الحكم العلوي، وعلي (ع) أعلن منذ توليه الحكم مشروعه في تقسيم المال حين قال: "أيها الناس، إني رجل منكم، لي ما لكم وعَليَّ ما عليكم، وإني حاملكم على منهج نبيكم، ومنفذ فيكم ما أمر به. ألا وإن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فإن الحق لا يبطله شيء، ولو وجدته قد تُزوج به النساء ومُلك به الإماء وفُرّق بين البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق" ابن أبي الحديد 1: 269 ـ 270.

(23) موقف الخراسانيين من دعوة أهل البيت، وموقف أهل البيت أنفسهم ممن سموا بالموالي، أفضل دليل على اهتمام أئمة أهل البيت بكسر العصبيات العنصرية.

(24) انظر عهد الإمام أمير المؤمنين إلى مالك الاشتر لمّا ولاّه مصر، وانظر أيضاً موقفه من الولاة المنصوبين قبله إذ يقول: "ولكني آسى أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولاً وعباده خولاً". تأمّل بدقة: "وعباده خولاً".

(25) هذه أبرز ملامح مدرسة آل البيت (ع)، حتى إن الفقهاء في ثورة "ابن الاشعث" كانوا يفتون بوجوب الخروج على الحجاج استناداً إلى أقوال علي (ع). انظر هذه الثورة في تاريخ الطبري في أحداث سنة 81 للهجرة.

(26) هذا واضح في سيرة علي والحسن والحسين وكل الأئمة من أولاد الحسين (ع) في تعاملهم مع الحاكمين ومع أفراد المجتمع.

(27) أئمة آل البيت تركوا لنا في مجال الدعاء والتضرع ومنهج السلوك إلى الله تراثاً ضخماً في العمل والقول، حتى ظن بعضهم أن التصوف نشأ من التشيع، وما ذلك إلا لهذا التركيز من أهل البيت على الارتباط المستمر بالله تعالى. انظر: الصلة بين التصوف والتشيع، والفكر الشيعي والنزاعات الصوفية، للدكتور كامل مصطفى الشيبي.

(28) كل ثورة الحسين وما أعقبها من مواقف لأهل بيته وللثوار السائرين على طريقه، تدور حول محور استعادة العزة وإبعاد الذل عن المجتمع الإسلامي؛ ولذلك نشير فقط إلى بعض أقوال الإمام الحسين في هذا المجال، ونحيل القارئ إلى كتب التاريخ؛ من ذلك:

"ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة؛ يأبى الله لنا ذلك ورسوله، وحجور طابت، وأنوف حمية، ونفوس أبية من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر…".

ثم تمثل بأبيات فروة بن مسلك المرادي:

فإن نهـزِم فهزّامون قدمـاً                        وإن نُغلــب فغير مهزّمِينا

وما إن طبّنا جـبن ولـكن                       منايـــانا ودولة  آخرِينا

إذا ما المـوت رفّع عن أناس                      كلاكـله أناخ بآخــرِينا

فأفنى ذلكم سروات قومـي                      كما أفنى القرون الآخرـِينا

فلو خلد الملوك إذاً خلـدنا                       ولو بقي الكــرام إذاً بقِينا

فقل للشامتين بـنا أفيـقوا                        سيلقى الشامتون كما لقِينـا

وقوله لقيس أبن الأشعث: "…لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد. عباد الله أني عُذت بربي وربكم أن ترجمون. أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب".

وقوله مخاطباً أصحاب الحر: "أيها الناس، إن رسول الله (ص) قال: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله، وحرموا حلال الله، وأنا أحق من غيّر…".

وقوله بذي حسم: "إنه قد نزل بنا من الأمر ما قد ترون، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت، وأدبر معروفها؛ فلم يبقَ منها إلا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل؛ ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمنُ في لقاء الله محقاً. فإني لا أرى الموت إلا سعادة، ولا الحياة مع الظالمين إلا برماً".

وقوله للفرزدق: "رحم الله مسلماً، فلقد صار إلى روح الله وريحانه وجنته ورضوانه. أما إنه قد قضى ما عليه وبقي ما علينا، ثم أنشأ يقول: 

فــإن تـكنِ الدنــيــا تعـد نفـيسةً             فــإن ثــواب الله أعــلــى وأنـبلُ

وإن تُــكـن الأبـدانُ للمــوت أُنشئت             فقتـلُ الفتـى بالسيف فــي اللهِ أفــضلُ

وإن تــكـنِ الأرزاقُ قــسمـاً مـقدراً             فقــــلة حرص المرء فـي السـعي أجملُ

وإن تــكـن الأمـوال للترك جـمعُهــا            فـما بـال متـروكٍ بـــه المـرءُ يـبخلُ