رسالة عشق واشتياق

2007-08-21

من بيت المقدس إلى الإمام الخميني (ره)

سيدي ومولاي روح الله الموسوي الخميني.

أقبل أياديك الطاهرة، وألثم أَناملك، وأستأذن روحك في الدخول إلى محرابك كي أبكي وأبوح بهمّي وغمّي بين يديك..

أنا، يا سيدي، القدس، أنا بيت المقدس، أنا التي باركني الله تعالى وجعلني أولى القبلتين وثالث الحرمين، وشرفني بالمسجد الأقصى وقبة الصخرة.. أنا المظلومة المنسية، السبية الأسيرة، وإن تردد اسمي كل ساعة وكل يوم على لسان المخلص والمنافق، والعدو والصديق، وفي كل إذاعة مسموعة ومرئية.

أنا التي أقيمت وتقام من أجلي المؤتمرات والمهرجانات ويتبارى الخطباء والشعراء والأدباء في الحديث عنّي.. أنا التي سقط من أجلي وما زال يسقط كل يوم شهداء.

أنا التي يتنافس على احتكار رضاي كل تجار السياسة والدين ابتداءً بالبابا وانتهاء بالملك الحسن رئيس لجنة القدس وأشهر من خانني وباعني ثم وقف يتفرّج على اغتصابي وسرقتي.

أنا مهد الأنبياء والأرض المقدسة. أنا التي توقفّ عندي وصلّى جميع الأنبياء فعبدوا الله وقدّسوه في أحضاني جماعة وفرادى.

أنا رأيت جبرائيل واسرافيل وميكائيل والبراق حينما أسرى الله تعالى بعبده محمد صلى الله عليه وآله من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومن أحضاني عرج إلى السماء.

أنا صاحبة إبراهيم واسحق ويعقوب وموسى وداود وسليمان وعيسى وخاتمهم وسيدهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وآله.

كل حبّة تراب من لحمي وعظمي مقدّسة ومباركة، كل نسمة تعبر في أرجائي هي من الجنة وإلى الجنة.

أنا مقياس الإخلاص للإسلام حتى ادعى كلٌّ وصلاً بي، منهم من صدق ومنهم من كذب ونافق، ومنهم من هو ساكت حائر منتظر يحمل حبي في طيّات قلبه.

أشرقت الشمس عليَّ قروناً بلا مغيب، وغابت قروناً بلا شروق.. تناحرت عساكر الشيطان متنافسة في طاعته مستبقةً الشرور في أرجائي.. دنّس اليهود حرمتي فبنوا هيكلاً للشيطان مكان مسجد سليمان في قلبي فسلّط الله عليهم داءً فطهرني من دائي.. ثم عاودوا الكرّة فسلط عليهم داءً ثانياً. وهكذا كان ليلي مليئاً بالكوابيس المرعبة وملوثاً بالنجاسات والخبائث تسحق ورودي وتهتك حرمتي وأنا أنتظر الرحمة.

إلى أن بزغ الفجر الصادق من جهة مكة والمدينة هذه المرة وتلألأت أنوار أحمد فعدت إلى العبادة جهراً بعد أن مارستها سراً لقرون، وارتفع صوتي بالتهليل والتكبير وجرت الدماء الطاهرة في عروقي من جديد بعد أن كادت تجف ودبّ حنان الإيمان في أوصالي، فغفوت قروناً أخرى تحت ضوء الشمس في أحضان أهل التوحيد، أستفيق كل يوم خمس مرّاتٍ على لمسات جباههم الساجدة وهمسات التسبيح تدغدغ مشاعري من أفواههم المصلّية، وأسهر في الليل استمع إلى آهاتهم ويدمع قلبي لبكائهم.

إلى أن استبدت بهم الأهواء وغرّتهم الدنيا وتخلّوا عن حبل الله فتفرقوا وذهبت ريحهم.

وحينها لم أنتظر طويلاً أفول الشمس وغروبها وحدست بقدوم ليل بهيم، ولطالما صدق حدسي، فبعد داود وسليمان تراجع النهار وانسحب الحب من أرجائي وهبط الليل بكفر اليهود بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير الحق وسفكهم دماء بعضهم البعض وإخراجهم أنفسهم من ديارهم ومعصيتهم واعتدائهم.

ولم يطل عليَّ فجر عيسى كثيراً فسرعان ما اتخذوه وأمّه إلهين يعبدونهما من دون الله وجعلوه ثالث ثلاثة، وانقلبوا بعد إيمانهم كافرين يعبدون صليباً ويقدّسونه من دون الله.. ولقد انتظرت حصول الفرق والاختلاف في أمة محمد (ص) بعد أن انقلبت على عترته وأهل بيته رغم وصيته بالتمسك بها وبالقرآن معاً. وفعلاً، فقد وقعوا في الفرقة وأصيبوا بالفتنة فتأمرَّ عليهم شرارهم وتلهّوا بالدنيا وتنافسوا في تحصيلها، فأصابني حينئذٍ قلق عظيم طالما كنت أحس به في هذه المراحل التاريخية المتشابهة. وصدق حدسي، فقد استفقت ذات صباحٍ على جحافل الكفر والخبائث وأكوام النجاسة تحاصرني وتمنع عني هواء الحرية ونور الشمس وهي تحمل صلباناً مختلفة الألوان والأشكال، وأخذت تمارس حيالي تقرباً كشفت كذبه في أعماق نفسي، فكان ادعاؤها عشقي وهتافها سمعي كعواء الذئاب الليلية.

سيدي، أنا منهم براء! لقد كانت محبتهم لي كفراً وقتلاً وسفك دماء.. فسرعان ما اقتحموا أوصالي يقطّعونها ويسفكون دم ما تبقى من الطهر الخائف في عروقي ويهتكون حرمتي ويلوثوني بوجودهم.

سرقوا اسم المسيح وحملوا صليبه، فَقَتَلوا وما قَتَل، ودمَّروا وما دمَّر، وأبادوا غيرهم وهو جاء بالمحبة والسلام، فهو ومحمد (ص) سواء وهم هم الغرباء..

واختفت شمس الأصيل خلف الأفق، وامتد الدجى يتسلّل إلى كل زاوية يخرج منها جنود النهار ويذبحهم، واختلط سوداء الليل بأنين الثكالى وصراخ اليتامى والأرامل.

ورزحت يا سيدي ردحاً طويلاً جديداً تحت نير العبودية والأسر، وأهل التوحيد عنّي بعيدون، تركوني نهباً للشياطين يزرعون في عيوني الشوك، وأنا أرسل دموعي إلى بغداد والقاهرة تعتب وتشكو الجفاء والآذان في صمم والعيون في عمى، سكروا بالماضي فانقلبوا في حاضرهم يتخبطون كالبهائم ويتراكضون حيارى كأشباح مهزومة.

وأشرقت شمسي مرةً أخرى على يد سلطانٍ من سلاطينهم، استردني سلماً بلا حرب، فغادرتني الخبائث وأنا أتنفس الصعداء كلما فارقني عدوٌّ لله منهم، ولم أَعد أَرهم لقرونٍ تلت عشت فيها بهدوء وسكينة أستقبل الموحّدين وعباد الله تعالى وانتقل من اسم إلى اسم وأرى فوق قبتي كل حينٍ رايةً تختلف عن الأخرى من رايات أهل الإسلام، وكلما جاءت راية جديدة استبد بي القلق أكثر فأكثر، فهذا يعني أن أهل التوحيد ما زالوا يعيشون الفرقة والخلاف وما زال حب الرئاسة مستبداً بهم، فعلمت أنهم ما زالوا يدفعون ثمن عدم ولائهم لأهل البيت قاسياً وغالياً ومريراً.

وخلال هذه القرون كنت أشاهد وأسمع ظلم المسلمين للمسلمين واستبدادهم واضطهادهم، فأحسست بالخطر من جديد لأن الظلم والقهر والاستبداد إطاعةً للهوى وحبّاً للدنيا سوف يثمر فرقةً وخلافاً ثم اضمحلالاً وهزيمة.

وكما هي العادة التي لمستها بيدي عبر التاريخ وأحسستها بكل جارحة من جوارحي فسوف يؤول أمره إلى السقوط والانهيار وإلى عودة الخبائث مرة أخرى.

والذي كان يرعبني كثيراً يا سيدي الإمام هو أنني كنت أول من يدفع ثمن الانقسام في صفوف المسلمين ويتضرّر من عبادتهم للدنيا ولأهوائهم، فكنت كلما أصيبوا بالفرقة والانقسام نظرت إلى الأفق وازدادت ضربات قلبي خوفاً من رايات الخبائث من أن تدنسني وتقطعني عن عبادة ربّي.

وفعلاً فقد وقع المحذور وانقض عليَّ شرار خلق الله وأسرني اليهود قتلة الأنبياء فكبلوني بالقيود وجرَّوني بالسلاسل واغتصبوني وهتكوا حرمتي وألقوا بي في غياهب سجنهم وأهل الإسلام والتوحيد صمّ عن سماع استغاثتي وعمي عن مشاهدة ما جرى لي مرة أخرى.

اكتفوا بالصراخ والبكاء على شرفي المهدور، وشغلهم لطم الخدود على مصيبتي التي كادت تكون أهون عليَّ مما كانوا يرسلونه إليَّ في زنزانتي من قصائد الغزل والوفاء والحب بينما هم لا يفعلون من أجلي شيئاً.

كنت أصدق كلامهم وخطبهم في البداية وأنتظر الفارس الذي سوف ينقذني من مخالب اليهود، ولكن الظلام طال واستطال وتمدد حتى أصبحت قصائدهم وأغانيهم تلسع جسدي كسياط أعدائي بلا فرق، وأصبحت بياناتهم الثورية من إذاعتهم تؤذيني كما تؤذيني تراتيل اليهود وتأوهاتهم الكاذبة عند حائط المبكى.. فاستبد بي اليأس والقنوط من قومي.

إني كشجرةٍ باسقةٍ جميلة أصابها مرض في جذعها وانتظرت من ينقذها فإذا به طحالب ونباتات ذليلة حقيرة لا تقوى على شيء.

حتى من كان يأتيني منهم في سجني وغربتي فقد كان يدخل عليَّ مكبّلاً بالأغلال أسيراً لليهود، فكان يحاول أن يراودني عن نفسي مستغلاً أسري وقيودي ولكن وجهه كان مغطى بالبصاق الذي غمره به المخلصون لي والعاشقون الذي فقدوا الحيلة في نجدتي فناموا يحلمون بي، وعندما علموا أنه أراد أن يصلي في محرابي ويتلو فيه تراتيل تلمودية يجلب بها رضا سجّاني وغاصبي ومعذبي فقد ملأوا وجهه بصاقاً.. فأصابني قرف فظيع وأبيت أن أسمع له بوصالي، ثم علمت أن عاشقاً متيماً لي قد حرمه لذة ادعاءِ العقد عليَّ كاذباً وأضاف إلى البصاق الذي في وجهه طلقاتٍ من رشاشه، مما ساعدني على الاستقرار والخلود إلى النوم أحياناً ولو في قيودي وأغلالي، فإنه يوجد في هذا الليل العربي نجوم مضيئة تحبني وتعشقني فتحرس سمعتي على الأقل وإن كانت ضعيفةً قليلةً غير قادرةٍ على تحريري من سجني إلا أنها لا تنام الليل من شدة ولهها بي وقلقها على مصيري، فلن تسمح لكاذب آخر يحاول الدخول عليَّ في نزانتي كي يسرق لقب (محرّر القدس) ثانية كما سرقه الأول فذهب جزاء سرقته وقطعت يده.

سيدي ومولاي روح الله..

وكما تشرق الشمس كل يوم من الشرق ويستحيل أن تشرق من الغرب، فقد تسلّلت من نافذتي الشرقية أنوار ملكوتية فأضاءت زنزانتي وتبيّنت في ألوانها عمائم الرسول وأهل البيت وسيوفهم وبيدهم القرآن..

حملت لي هذه الأنوار عقباً روحياً ما شممته منذ قرون طويلة وأخذ يغازلني ويردد اسمي بقلبه وروحه، فعلمت أن روح الله يحبني ولكن ليس كحب من سبق، ويعشقني ولكن عشقاً عذرياً لا شهوة فيه للسيطرة وحب الرئاسة ولشدة ما أتعبني عشاقي عبر التاريخ، فقد كان سرعان ما يتبدد عشقهم ويتحول هوى بالسلطة والرئاسة واستبداداً وسفك دماء، مستغلين بذلك ـ بوقاحة وقلّة حياء ـ اسمي وسمعتي، ومدّعين ـ لتدعيم ذلك ـ صيانة شرفي وكرامتي حيناً والجهاد من أجلي حيناً آخر.

ولكن عشقك سيدي حبٌ بريء من جيفة الدنيا ممزوج بطيب مأخوذٍ من عبير أهل البيت عليهم السلام، فيه ألوان العيون وبريق الخدود، وفيه خطاب القلب للقلب.

كنت حين أسمع كلامك وأقرأ رسائلك وتأتيني أخبراك في جهادك الطويل المرير أرتعش في سجني رعشةً ما كنت أحس بها منذ قرون.. هل هو الحب الحقيقي؟ فدليل الأنثى قلبها.

عندما نزلت من طائرتك في مطار طهران ازدادت خفقات قلبي، لا أدري، أحمداً لله على سلامتك أم طمعاً بالوصال، وحينما سمعت نشيد الأطفال يستقبلونك تغمر الفرحة قلوبهم والبسمة شفاههم:

خـــمــيـنـي يـا إمــام                خــمــيــنـي يـا إمــام

أيـــهــا الــمجــاهد يـا              عـــنــوان الـــشــرف

يــا مـن بـذلت مـن روحـك            فـــي طــريــق الـهـدف

لــك مــنا تحـيـة وسـلام                  لـك منـا تـحـيـة وســلام

علمت أن فارسي ليس وحيداً ولا مدّعياً تمثيل الأمة وهي منه براء.. فإنه كان كلما اشتكى له أحبابي ظلم سجّاني يقول: يجب إسقاط نظام الشاه الطاغوتي!! وبعضهم كان يفهم، فيما كان يحار البعض الآخر في هذا الجواب. فما هي علاقة إسقاط الشاه بالقدس؟! وعندما كنت أسمع ذلك كنت أحس أن روح الله يشعر بالوحدة وأنه يريد قوةً ورجالاً لكي يكسر أغلالي ويطلقني من الأسر وأن الحبّ وحده لا يكفي.

عندما نزلت من طائرتك يا سيدي بدأت أحلامي الوردية بالحرية تزهر في حقول الأماني حبّاً ووروداً، وبدأت أفسّر كلَّ صوتٍ وكلَّ حركةٍ وكلَّ حدث بما يناسب هذه الأحلام.. وغدا الحلم حقيقةً.. فقد جاءتني أخبارك يا روح الله فازددت يقيناً فوق يقين واطمأن قلبي..

لقد تحدّي روح الله سجّاني وقطع عنه مدداً وفّرته له خيانة الشاه وظلمه وعبادته لهواه، ثم أقفل سفارته في طهران، وتوالت بعدها الأحداث التي يدل كل واحدٍ منها أن روح الله يفعل الأشياء من أجلي، ألم أقل إن دليل الأنثى قلبها. إلى أن أرسل رسالته الغرامية العلنية معلناً حبي والحرب على أعدائي والتصميم على تحريري، فعلمت قطعاً ويقيناً أنه يعشقني عشقاً عذرياً خالصاً لا شهوة فيه لرئاسة أو سلطة.. فقد قال بصوت حازم: إنني أعلن آخر جمعة من شهر رمضان المبارك يوماً عالمياً للقدس يتوحد فيه المسلمون فيتظاهرون ويهتفون ضد أمريكا وإسرائيل غاصبي القدس من أجل تحريرها..

ولأول مرةٍ منذ عشرات السنين ورغم ثقل حديد أغلالي وعبء القيود على صدري فقد وقفت ناهضة على قدمي وألقيت نظرةً عبر نافذة الزنزانة صوب الشرق انتظر الرايات الزاحفة وأصغي السمع لكل صوتٍ علّي أسمع تهليلةً أو تكبيرة...