في رحاب الوصية الالهية (03)
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين بعد أن بيّن الامام المقدس دور الشعب في عملية البناء والتأسيس، وبعد أن حدد المسؤوليات الملقاة على عاتق هذا الشعب وأن الحكم لا يقوم على أساس الأفراد وإنما يقوم على أساس المؤسسات، وهذا ما يجعل الأمور في غاية الأهمية، وبعد أن حمّل الامام المسؤولية لمن ابتعد هو عن المسؤولية ومن جعل نفسه منعزلاً، وبعد أن ذكر أن الأخطاء الشخصية يمكن السكوت عنها بخلاف الأخطاء على مستوى الأمة لأنها أخطاء تتعلق بالآخرين، وبعد أن حدّد للأمة الاسلامية مواصفات من يكون رئيساً ممن فيه مؤهلات معينة، وبعد أن ذكر أن من أهم مواصفات هذا الرئيس هو حامل الهم على مستوى الأمة، وبعد أن ذكّر بأن هناك مناصب حسّاسة في الدولة ولكن هناك مناصب أكثر حساسية من المناصب الأخرى، أكّد الامام في هذا النص الذي سوف يأتي على أهمية القائد ومجلس القيادة حيث أن للقائد ولمجلس القيادة الدور الأول في نهوض الدولة وفي النهوض بالأمة الاسلامية، ومثل هذا الدور يجعل من الإنسان الذي يقوم به إنسان غير عادي وينبغي أن يكون فيه المؤهلات التي يمكن لها أن تنهض بهذا الأمر.
فيقول الامام المقدس: «ووصيتي إلى القائد ومجلس القيادة في هذا العصر الذي هو عصر هجمة الدول الكبرى وعملائها في داخل البلد وخارجه ضد الجمهورية الاسلامية، وفي الحقيقة ضد الاسلام تحت ستار الهجمة على الجمهورية الاسلامية وفي العصور القادمة هي أن يجعلوا أنفسهم وقفاً على خدمة الإسلام والجمهورية الإسلامية والمحرومين والمستضعفين ولا يظنوا أن القيادة في نفسها هدية ومقامٍ سامٍ بل هي واجب ثقيل وخطير إذ أن الزلّة فيه إذا كانت لا سمح الله إتباعاً لهوى النفس تستتبع العار الأبدي في هذه الدنيا ونار وغضب الله القهّار في العالم الآخر.
أسأل الله المنّان الهادي بتضرّع وابتهال أن يستقبلنا وإياكم وقد اجتزنا هذا الامتحان الخطير بوجوه مبيضّة وأن ينجينا، وهذا الخطر أقلّ بعض الشيء بالنسبة لرؤساء الجمهورية في الحال وفي المستقبل وكذلك الحكومة والمعنيين بحسب الدرجات في المسؤوليات فيجب أن ينتبهوا إلى أن الله تعالى حاضر وناظر ويعتبروا أنفسهم في محضره المبارك. يسّر الله أمورهم».
والذي يمكن ملاحظته في هذا النص أن الامام رضوان الله عليه عندما يكتب في جزءٍ من وصيته عن القيادة وعن مجلس القيادة فإن هذا يضع الأمور في نصابها وذلك لأن الذي يكتب عن هذه القيادة وعن هذه الحالة التي تقود الأمة ليس إنساناً عادياً وإنما هو إمام فجّر ثورةً وأسّس دولةً واستطاع أن ينهض بالأمة، والذي يقوم به الإمام من خلال كتابته لهذه الوصية منبثق عن مسألة أساسية وهي أن الإمام عاش تجربة الثورة قبل بدايتها وفي وقتها، وبعد انتصار هذه الثورة حيث عاش بداية تأسيس هذه الدولة وكل المراحل التي عاشتها الثورة والدولة وعلى مستوى الأمة الاسلامية بكاملها.
وينبغي علينا هنا أن نتوقف عند بعض المنعطفات الأساسية في هذا المقطع من الوصية:
النقطة الأولى: أن الإمام في هذا المقطع من الوصية يُعبّرُ وبشكل واضحٍ عن أنه يكتب وصيةً فعلاً لأمة سوف يتركها بعد فترة من الزمن وذلك لأنه عندما يكتب للقيادة كيف ينبغي أن تكون فهذا يعني أنه مغادر لهذا المنصب، ولأنه مغادر لهذا المنصب ولأن هذه الدولة وهذه الأمة سوف تستمر من بعد الإمام، فلذلك لا بد أن أولئك الذين يقودون هذه الأمة في غياب المؤسس. وعملية الإدارة بعد الامام (ره) قد تكون بالنسبة إلى البعض شيئاً ميسوراً على المستوى النظري، إلاّ أن الامام (ره) لا يعتبر أن المسألة مجرد مسألة نظرية بل إن هناك مسائل عملية ينبغي أن تكون في الشخصية القيادية التي سوف تستلم هذه المهام.
النقطة الثانية: أن الإمام قد أوكل الأمر إلى مجلس الخبراء الذي يحدد هو شكل هذه القيادة، إن الإمام يركّز على ولاية الفقيه ويقول بأن المهم أن تعمل ولاية الفقيه في وسط الأمة، هذا يحدد شكل الدولة بشكل عام ولكن على مستوى التفصيل قد لا يكون فقيه من الفقهاء ذا قدرة على إدارة شؤون الأمة الإسلامية بأكملها لوحده، فلذلك يمكن تصور أن يكون هناك مجلس لقيادة هذه الثورة يكون مؤلفاً من مجموعة من الفقهاء والأمر موكول على أي حال إلى مجلس الخبراء الذي يحدد هو تفاصيل هذه المسألة المتعلقة بالنقاط التفصيلية على مستوى إدارة الشؤون في الدولة الإسلامية، وإن كان الواقع بعد الإمام(ره) قد أفرز إلى الساحة قيادة تمثّل حقيقةً إستمراراً لخط الامام المقدس(ره) وهي قيادة الإمام الخامنئي حفظه الله، إلاّ أن هذه المسألة ينبغي أن تدور على المستوى النظري وينبغي علينا أن نفترض أسوأ الظروف التي لا يكون فيها شخصية جامعة لكل المواصفات موجودة في أوساط هذه الأمة.
النقطة الثالثة: أن الذين ينظرون إلى هذا العصر على أنه عصر الانتصار وحسب هؤلاء مخطؤون، وذلك لأن الهجمة التي يقوم بها الاستكبار العالمي هي في غاية القسوة والشدّة ضد الاسلام وضد المستضعفين، فلا يعتقدن أحد بأن انتصار الثورة الاسلامية قد استأصل العدوان من جذوره بل إن هذا العدو الذي أصيب بضربة من إنتصار الثورة الإسلامية سوف يثير قواه في الخارج وعملائه في الداخل من أجل أن يقوّض بناء هذه الثورة، فالنظرة التي ينظر من خلالها البعض على أن هذا العصر هو عصر الانتصارات إذا كان الهدف منها هو إعطاء الأمل للشعوب من أجل أن تنهض ومن أجل أن تثور فهذا التصور والتصوير في محله، إلاّ أن الإفراط في التفاؤل والإيحاء بأن العدو قد أصبح بلا قوّة وبلا حراك هذا يجعل من الانسان صاحب مواقف غير سليمة لأنه لن يحسب للعدو حساباً إذا كان يعتقد بأن هذا العدو قد انتهى ولم يعد له وجود أصلاً، إنّ ما يقوله الإمام المقدس هنا هو أن العدو موجود وأنه سوف يهجم بكل قواه وأنه على الثورة الإسلامية والدولة الإسلامية وأبناء الأمة أن يكونوا على حذرٍ دائم من مخططات ذلك العدو.
النقطة الرابعة: إن الإمام، كما هي العادة في خطاباته وفي وصاياه، يلفت إلى خطورة مقام هذه القيادة، وذلك لأن هذه القيادة ليست عبارة عن تشريف بشري لفرد أو لمجموعة من الأفراد، وإنما هي تكليف من الله سبحانه وتعالى، وهذا التكليف الإلهي هو في حد ذاته تشريف من الله سبحانه وتعالى لهذا الفرد أو لهذه الجماعة، لأنه وضعهم في هذه المسؤولية، غير أن هذا ليس هو نهاية المطاف، بل إن الأمر يحمل في طيّاته مخاطر كبيرة ينبغي على القادة، سواء كان فرداً أو كان جماعة، أن يلتفتوا إليها وأن يعيشوها وبشكل دائم، وذلك لأن العيش ضمن المفاهيم الاسلامية يجعل من الانسان صاحب مسؤولية خطيرة للغاية، وذلك لأنه في الفهم الاسلامي للتكليف الشرعي في هذا الفهم تتوضح لنا معالم المسؤولية التي يقفها الانسان أمام الله عزّ وجلّ من خلال قول الله سبحانه وتعالى: (وقفوهم إنهم مسؤولون) ولن يقف الأمر عند وقوف المسؤول وإنما سيكون هناك حساب لذلك المسؤول.
النقطة الخامسة: إنّ على كل المسؤولين أن يلتفتوا إلى أن غيرهم قد يكون محاسباً ممن هم غير مسؤولين على المستوى الرسمي وعلى المستوى السياسي، غير أن حساب المسؤول مضاعف لأن أخطاء غير المسؤول قد تقع بسبب المسؤول، فيكون التاريخ فيما بعد منصفاً لو صنّف هؤلاء في دائرة الخَوَنة، فمثلاً لو قام الإنسان المسؤول بوضع إنسان غير لائق في مقام معيّن وعاث هذا الانسان في الأرض فساداً فإن هذا الانسان سوف يحاسَب، غير أن الحساب الأكبر سوف يكون على من وضعه في ذلك المقام، وهذا لن يكون حساباً على مستوى الأمة فحسب لأنه قد لا يتسنى للأمة أن تحاسب فرداً، غير أن المهم في هذه المسألة هو حساب الله سبحانه وتعالى، وهذا الانسان الذي تحمّل هنّات الآخرين وعيوب الآخرين في هذه الحياة الدنيا فعليه أن يتحمل الأوزار أيضاً في الحياة الآخرة وهذا ما يجعل مهمة القائد في غاية الصعوبة لأنه يتحمل كل حالة تفصيلية تقوم بها الأمة في داخلها.
النقطة السادسة والأخيرة: إن الخضوع بين يدي الله سبحانه وتعالى مطلوب وباستمرار، وهذا ما كان الإمام المقدس(ره) يلجأ إليه في كل يوم وفي كل مناسبة، هناك انقطاع إلى الله سبحانه وتعالى، وفي هذا الجزء من الوصية يركّز الامام وبدعاء منقطع إلى الله سبحانه وتعالى أن يعينه الله ويعين هذه القيادة على النجاة من هذه الأخطار التي تحدق بهذه الأمة في الحاضر وفي المستقبل وإن عملية الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى مطلوبة من كل فرد مهما كان حجم المسؤولية، سواء كانت مسؤوليته صغيرة أم كبيرة، غير أن الانسان كلما زادت مسؤوليته فإن انقطاعه إلى الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يكون أقوى لأن الإعانة على تحمل هذه المسؤولية سوف لن تحصل إلاّ من خلال معونة الله سبحانه وتعالى، لهذا الانسان الذي يريد في نهاية المطاف أن يقف بين يدي الله سبحانه وتعالى ووجهه أبيض وهو بريء من كل تهمة يمكن أن تُوجه إليه، وهذه المسألة قد يعيشها الإنسان على المستوى الدنيوي فلا يكون متهماً ولكنه عند الله سبحانه وتعالى قد يكون مجرماً، كما أن الانسان قد لا يكون في هذه الحياة الدنيا إنساناً صالحاً بنظر البعض غير أنه عند الله سبحانه وتعالى هو إنسان صالح فينبغي على الإنسان أولاً وآخراً أن يراقب الله سبحانه وتعالى في حركاته وفي سكناته لأنه هو المحاسب ولأنه هو الموفّق والمسدّد، والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تعليقات الزوار