ما قاله الإمام الخميني في المناجاة الشعبانية
إنّ المناجاة الشعبانيّة هي من أرقي المناجاة وأسمى المعارف الإلهيّة، ومن أعظم الأمور التي يستطيع ـ من كان من أهلها ـ الاستفادة منها، وحسب إدراكه.
هل ناجيتم الله تعالى، في شهر شعبان هذا، بـ «المناجاة الشعبانيّة»، التي نصّت الأحاديث الشريفة على قراءتها في كل يوم من هذا الشهر؟ وهل انتفعتم من معانيها الإيمانيّة السامية والإحاطة بمضامينها حول مقام الربوبيّة؟ فقد ذكرت الأحاديث الواردة بهذا الشأن بأنّ الإمام أمير المؤمنين وأبناءه وجميع الأئمة الأطهار (عليهم السلام) كانوا يناجون الله تعالى بها.
وقلّما نجد دعاء ومناجاة نصّت الأحاديث الواردة بشأنها من أنّ الأئمة جميعهم كانوا يقرأونها ويناجون الله تعالى بها. إنّ هذه المناجاة هي في الحقيقة مقدّمة تعدّ الإنسان وتهيّئه للقيام بأعمال شهر رمضان المبارك. ولعلّه لهذا السبب تمّ تذكير الإنسان الواعي للالتفات إلى دوافع الصيام وجني فوائده العظيمة.
لقد كان الأئمة الأطهار (عليهم السلام) يوضّحون كثيراً من المسائل عن طريق الأدعية. فهناك فرق كبير بين أسلوب الأدعية والأساليب الأخرى التي كان يستعين بها هؤلاء العظام في بيان الأحكام؛ إذ غالباً ما كانوا يوضّحون المسائل المعنويّة ومسائل ما وراء الطبيعة والمسائل الإلهيّة وتلك التي ترتبط بمعرفة الله سبحانه يوضّحونها بلغة الدعاء. بيد أننا نقرأ نحن هذه الأدعية ونمرّ عليها مرور الكرام دون أن نلتفت إلى معانيها مع الأسف، بل لا نعي أساساً ماذا كان يريد الأئمة (عليهم السلام) منها.
هذه المناجاة الشعبانية التي وردت عن أمير المؤمنين وأولاده المعصومين (سلام الله عليهم) وقد قرأتها غير مرّة، هل تأمّلت وتدبّرت جملها؟! وأن الغاية القصوى لآمال العارفين ومنتهى أمل السالكين هذه الفقرة الشريفة من ذلك الدعاء الشريف: «إِلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ، وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ. إِلهِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فأجابَكَ وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ فَناجَيْتَهُ سِرّاً وعَمِلَ لَكَ جَهْراً». فما المقصود من هذا التعلّق بعزّ القدس؟ وما حقيقة «وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ» غير الصعق الذي على لسان الأولياء؟ هل المقصود من التجلّيات التي وردت في دعاء السمات عظيم الشأن غير التجلّيات والمشاهدات على لسانهم؟ أو هل رأيتم في كلام أحد من العرفاء كلاماً أرفع من الحديث المروي في الكتب المعتبرة للشيعة والسنّة. ويمكن أن يقال أنّه من الأحاديث المتواترة وهو «ما يتقرّب إليّ عبد من عبادي بشيء أحبّ إليّ مما افترضت عليه، وإنّه يتقرب إليّ بالنافلة حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت إذاً سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته»
فنحن نقرأ في هذه المناجاة: «إِلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ، وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ».
فما هي هذه المعاني والتعبيرات؟! وما معنى هذه التعبيرات التي يقولها السادة الواردة في كلماتهم الأخرى؟! ماذا يعني «كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ»؟! وماذا يعني طلب جميع الأئمة له؟! الإمام المعصوم يطلب من الله، فما يعني ذلك؟! وما هي أبصار القلوب هذه التي يطلب من الله إنارتها؟! «وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا». كيف يريد بالبصر النظر إلى الحق تعالى؟! ما هو هذا القلب وما هو بصره بحيث يكون بهذا البصر القلبي نظرة إلى الله تعالى ثمّ «أَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ». الإمام يطلب من الله كلّ ذلك من أجل غاية هي «حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ»، وعندما تخرق هذه الحجب: «تَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَتَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ». وماذا بعد ذلك؟! إنّه «إِلهِي وَاجْعَلْنِي مِمَّنْ نَادَيْتَهُ فأجابَكَ وَلاحَظْتَهُ فَصَعِقَ لِجَلالِكَ». ما هو صعق الجلال هذا؟! أليس هو ما يذكره القرآن الكريم في شأن موسى (عليه السلام)؟! فهل هو غير الفناء الذي يقوله العرفاء؟
«فَصَعِقَ لِجَلالِكَ» مرتبة يرتفع إليه مرتبةً مرتبةً، أبصار القلوب تخرق جميع الحجب، «فتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ». ما هو معدن العظمة الذي تصل إليه؟! وما هو هذا الوصول؟! أليس هو نفسه الوصول الذي يقوله أولئك و «معدن العظمة» هل هو غير الحق تعالى؟! هل يمكن لغيره تعالى أن يكون معدن العظمة الذي يجب أن تصدر منه كافة أشكال العظمة؟! وعندما تصل إلى هذا المعدن «تَصِيرَ أرْوَاحُنَا مُعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ»، وهذا المعنى هو نفس ما يقوله أولئك العرفاء.
نحن وأمثالنا لم نصل إلى الحجب النورانية بعد، وما زلنا أسرى الحجب الظلمانية! فمن قال: «هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ، وَأَنْرِ أَبْصَارَ قُلوبِنَا بِضِياءِ نَظَرِها إِلَيْكَ حَتّى تَخْرِقَ أَبْصَارُ القُلوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ»، فقد اخترق الحجب الظلمانية وتعدَّاها. أما الشيطان الذي خالف أمر الله ولم يسجد لآدم، فقد رأى نفسه عظيماً، لأنه كان في الحجب الظلمانية و ?.. قال أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ..?(الأعراف/12). جعلته يُطرد ويُبعد عن ساحة الربوبية! نحن أيضاً، ما دمنا في حجاب النفس والأنانية، فنحن شيطانيّون مطرودون محضر الرحمن، وما أصعب تحطيم هذا الصنم الذي يعدُّ «أم الأصنام». فنحن ما دمنا خاضعين لله (جلّ وعلا)، ولا مطيعين لأوامره، وما لم يُحطَّم هذا الصنم؛ فإنّ الحجب الظلمانيّة لن تتمزّق ولن تُزال. علينا أن نعرف ما هو الحجاب أولاً، فنحن إذا لم نعرفه، لن نستطيع المبادرة إلى إزالتـه، أو تضعيف أثـره - أو في الأقل - الحدّ من تزايد رسوخه وقوّته بمرور الوقت.
انّ جملة «إلهي هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاع إِلَيْكَ» ربما تريد أن توضّح هذا المعنى، وهو أنّ الرجال الربانيّين الواعين ينبغي لهم أن يعدّوا أنفسهم ويهيّئوها قبل حلول شهر رمضان، لصوم هو في الحقيقة انقطاع عن الدنيا واجتناب لذائذها، وهذا الاجتناب في صورته الكاملة هو هذا الانقطاع إلى الله.
إنّ كمال الانقطاع لا يتحقّق بهذه البساطة. إنّه بحاجة إلى ترويض للنفس غير اعتيادي، ويحتاج إلى جهد ورياضة واستقامة وممارسة، لكي يمكن الانقطاع بكل القوى عن كل ما سوى الله سبحانه وتعالى، وأن لا يكون هناك توجّه لغير الله تعالى. فجميع الصفات الإيمانية الجليلة وكلّ مستويات التّقوى كامنة في الانقطاع إلى الله سبحانه وتعالى؛ ومن يتمكن من الوصول إلى هذه المرحلة فقد بلغ غاية السعادة. ولكن من المستحيل أن يستطيع الإنسان بلوغ هذه الذرى ما دام في قلبه مثقال ذرّ من حبّ الدنيا. والذي يريد أن يقوم بأعمال شهر رمضان بالصورة المطلوبة، عليه أن يحقق في نفسه هذا الانقطاع إلى الله، وإلا لن يستطيع مراعاة آداب الضيافة ولن يتسنّى له إدراك عظمة المضيف.. لن يمكنه أن يدرك أنه في رحاب من وعلى مائدة من؟
طبقاً لقول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) - حسبما ورد في الخطبة المنسوبة إليه (صلّى الله عليه وآله) - فإنّ عباد الله كافة قد تمّت دعوتهم في شهر رمضان المبارك إلى ضيافة الله تعالى، وإن مضيفهم هو الله تبارك وتعالى: «أيها الناس، إنه قد أقبل إليكم شهر الله، وقد دعيتم فيه إلى ضيافة الله».
فما عليكم في هذه الأيام القلائل التي تفصلنا عن شهر رمضان المبارك، إلا أن تفكّروا في إصلاح أنفسكم والتوجّه إلى بارئكم.. استغفروا الله من أفعالكم وأقوالكم التي لا تليق. وإذا كنتم قد ارتكبتم - لا سمح الله - ذنباً فتوبوا إلى الله قبل الدخول في شهر رمضان المبارك.. عوّدوا ألسنتكم على ذكر الله ومناجاته.. إياكم أن تصدر منكم غيبة أو تهمة أو نميمة أو أيّ ذنب في هذا الشهر، وأن تدّنسوا أنفسكم بالمعاصي وتسيئوا آداب الضيافة وأنتم ضيوف الله سبحانه.
لقد دعيتم في هذا الشهر الفضيل إلى ضيافة الحق تعالى: «دعيتم فيه إلى ضيافة الله»، فهيئوا أنفسـكم لهذه الضيـافة العظيمة.. تحلوا - على الأقل - بالآداب الصورية والظاهرية للصيام. فالآداب الحقيقية موضوع آخر، حيث هي بحاجة إلى جهد وجد وتعب. فالصوم لا يعني الإمساك عن الطعام والشراب فحسب؛ بل ينبغي اجتناب المعاصي أيضاً. إن هذه من الآداب الأولية للصوم بالنسبة إلى المبتدئين. أما آداب الصيام بالنسبة إلى رجال الله الذين يتطلّعون لبلوغ معدن العظمة فهي شيء آخر. فاعملوا - على الأقلّ - بالآداب الأولية للصيام. فممّا تمسكون البطن عن الطعام والشراب، فامسكوا عيونكم وأسماعكم وألسنتكم عن المعاصي. عاهدوا أنفسكم من الآن أن تكفّوا اللّسان عن الغيبة والتهمة والكذب والإساءة، وأخرجوا من قلوبكم الحسد والحقد وسائر الصفات الشيطانيّة القبيحة. حاولوا قدر المستطاع أن تحقّقوا معنى الانقطاع إلى الله تعالى، وأن تؤدّوا أعمالكم بعيدة عن الرياء، وخالصة لوجه الله تعالى، وانقطعوا عن شياطين الإنس والجن.
تعليقات الزوار