بِأسَانِيدِنَا المُتَّصِلَةِ إِلى ثِقَةِ الإِسْلاَمِ وَالمُسْلِمِينَ، فَخْرِ الطَائِفَةِ الحَقَّةِ وَمُقَدَّمِهِمْ مُحَمَّد بْنِ يَعْقُوبَ الكُلَيْنِيّ ـ رضي الله عنه ـ عَنْ عِدَّةٍ مِنْ أَصْحَابِنَا، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ النُّعمانِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْكانَ، عَنْ أَبِي بَصِير قَالَ: «سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ عليه السّلام يَقُولُ: إنَّ الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ أَحْوَالِهِ، إِنْ نَابَتْهُ نَائِبَةٌ صَبَرَ لَهَا، وَإِنْ تَدَاكَّتْ عَلَيْهِ المَصَائِبُ لَمْ تَكْسِرْهُ، وَإِنْ أُسِرَ وَقُهِرَ، وَاسْتُبْدِلَ بِاليُسْر عُسْراً، كَمَا كَانَ يُوسُفُ الصِّدّيقُ الأمينُ لَمْ يُضْرِرْ حُرِيَّتَهُ أَنِ استُعْبِدَ وَقَهُرَ، وَأُسِرَ وَلَمْ تُضْرِرْهُ ظُلْمَةُ الجُبِّ وَوَحْشَتُهُ وَمَا نَالَهُ أنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْهِ فَجَعَلَ الجَبَّارَ العَاتِيَ لَهَ عَبْداً بَعْدَ إِذْ كَانِ [ لَهُ ] مَالِكاً، فَأَرْسَلَهُ وَرَحِمَ بِهِ أُمَّةً وَكَذلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا»[1].

 

الشرح:

 

إن الـ «نَائِبَةُ» مفرد وجمعها نوائب وهي الحوادث والكوارث النازلة. وفي الصحاح أنها المصيبة. و«دَكَّ» بمعنى دقّ. وفي الصحاح: (وقد دككت الشيء أدكَّه دكاً إذا ضربته وكسرته حتى سويته بالأرض. انتهى). وتداكّت عليه أي تداقت واستعملت أيضاً بمعنى الاجتماع والازدحام. كما نقل عن كتاب «النهاية» حديثاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام «ثُمَّ تَدَاكَكْتُمْ عَلَيَّ تَدَاكُكُ الإِبِلِ الهيم عَلَى حِيَاضِهَا»[2] أي ازدحمتم. ونقل عن النهاية أيضاً أن أصل دكَّ بمعنى الكسر وأن استعماله في هذا الحديث بالمعنى الأول ـ الاجتماع ـ أنسب لمكان «لم تكسره» وان كان المعنى الثاني ـ الكسر ـ أيضاً مناسباً.

 

وكلمة (إن) في «وَإِنْ أُسِرَ» وصلية وقوله «وَقَهَرَ وَاسْتَبْدَلَ» معطوفان على «أُسر». وقال المجلسي[3] رحمه الله أن في بعض النسخ «واستبدل بالعسر يسراً» ـ بتقديم العسر على اليسر ـ وعليه تكون جملة (واستبدل) معطوفة على «لَمْ تَكْسِرْهُ» فيتبين بذلك منتهى الصبر.

 

وجملة «أَن اسْتُعْبِدَ» مبني على المفعول وفاعل لقوله «لم يضرر». وفي نسخة مرآة العقول «استبعد» بتقديم الباء على العين المهملة[4]. وفي كتاب وسائل الشيعة «استعبد» بتقديم العين على الباء[5]، ولكن المظنون أن نسخة مرآة العقول من سهو الكاتب وان كان معناه ـ استبعد ـ لا يخلو عن الصحة. ولكن المناسب مع المقام ومع الحديث الشريف هو ما ورد في نسخة وسائل الشيعة. وقوله «وَمَا نَالَهُ» معطوف على ظلمة الجُبّ أي لم يضرره ما ناله من إخوته ومن ظلمة الجُبّ والوحشة والبليّات. وقوله «أن مَنَّ الله» الأظهر أنه بتقدير إلى ـ حرف الجر ـ ومتعلق بـ «لم تضرر» (فالظرف متعلق بلم يُضرر في الموضعين ـ ما ناله وأن استعبد ـ على سبيل التنازع)[6]. وأورد المرحوم المجلسي احتمالات كثيرة في ذلك ـ أن منّ الله ولم تُضرر ـ لا يخلو ذكرها عن التطويل[7]. والمقصود من قوله «عبداً بعد إذ كان مالكاً» أنه أطاعه.

 

فصل: في بيان أن أسر الشهوة مصدرٌ لكل أسر

 

اعلم أن الإنسان إذا أصبح مقهوراً لهيمنة الشهوة والميول النفسية، كان رقُّه وعبوديته وذلته بقدر مقهوريته لتلك السلطات الحاكمة عليه، ومعنى العبودية لشخص هو الخضوع التام له وإطاعته. والإنسان المطيع للشهوات المقهور للنفس الأمارة يكون عبداً منقاداً لها. وكلما توحي هذه السلطات بشيء أطاعها الإنسان في منتهى الخضوع، ويغدو عبداً خاضعاً ومطيعاً أمام تلك القوى الحاكمة، ويبلغ الأمر إلى مستوىً يفضّل طاعتها على طاعة خالق السماوات والأرض، وعبوديتها على عبودية مالك الملوك الحقيقي، وفي هذا الحال تزول عن نفسه العزة والكرامة والحرية ويحل محلّها الذل والهوان والعبودية، ويخضع لأهل الدنيا، وينحني قلبه أمامهما وأمام ذوي الجاه والحشمة، ويتحمل لأجل البلوغ إلى شهواته النفسية الذل والمنّة، ويستسيغ لأجل الترفيه عن البطن والفرج الهوان، ولا يتضايق من اقتراف ما فيه خلاف الشرف والفتوة والحرية عندما يكون أسيراً لهوى النفس والشهوة. وينقلب إلى أداة طيّعة أمام كل صالح وطالح، ويقبل امتنان كل وضيع عنده لمجرد احتمال نيل ما يبتغيه حتى إذا كان ذلك الشخص أحط وأتفه إنسان، وذلك الاحتمال موهوماً، حيث يزعمون أن الوهم في دائرة الأطماع حجة. إن عبيد الدنيا وعبيد الرغبات الذاتية، والذين رسن عبودية الميول النفسية في رقابهم، يعبدون كل من يعلمون أن لديه الدنيا أو يحتملون أنه من ذوي الدنيا، ويخضعون له، وإذا تحدثوا عن التعفف وكبر النفس كان حديثهم تدليساً محضاً، وأن أعمالهم أقوالهم تكذّب حديثهم عن عفة النفس ومناعتها. وهذا الأسر والرق من الأمور التي تجعل الإنسان دائماً في المذلّة والعذاب والنَصَب. ويجب على الإنسان ذي النبل والكرامة أن يلتجأ إلى كل وسيلة لتطهير نفسه منها. ويتم التطهير من هذه القذارات، والتحرير من كل خفّة وهوان، بمعالجة النفس، وهي لا تكون إلاّ بواسطة العلم والعمل الناجع. أما العمل فيكون بالرياضة الشرعية وبمخالفة النفس فترة يتم فيها الوازع للنفس تجاه حبها المفرط للدنيا والشهوات والأهواء حتى تتعوّد النفس على الخيرات والكمالات. وأما العلم فيتم بتلقين النفس وإبلاغ القلب: بأن الناس الآخرين يضاهونه في الفقر والضعف والحاجة والعجز، وأنهم يشبهونه أيضاً في الاحتياج إلى الغنيّ المطلق القادر على جميع الأمور الجزئية والكلية، وأنهم غير قادرين على إنجاز حاجة أحد أبداً، وأنهم أتفه من أن تنعطف النفس إليهم، ويخشع القلب أمامهم، وان القادر الذي منحهم العزة والشرف والمال والوجاهة، قادر على المنح لكل أحد. ومن العار حقيقة على الإنسان أن يتذلّل وينحطّ في سبيل بطنه وشهوته، ويتحمل الامتنان من مخلوق فقير ذليل لا حول له ولا علم ولا وعي. إذا أردت ـ أيها الإنسان ـ أن تقبل المنّة فلتكن من الغني المطلق وخالق السماوات والأرض، فإنك إذا وجهت وجهك إلى الذات المقدسة، وخشع في محضره قلبك تحرّرت من العالَمين ـ ما سوى الله ـ وخلعت من رقبتك طوق العبودية. «العُبُوديَّةُ جَوْهَرَةٌ كُنْهُهَا الرُبُوبِيَّةُ» (مصباح الشريعة، الباب المائة، في حقيقة العبودية). ونتيجةً لعبودية الحق والانتباه إلى نقطة واحدة مركزية، وإفناء كل القوى والسلطات ـ النفس وأهوائها ـ في السلطة الإلهية المطلقة، تنجم حالة في القلب تقهر العوالم الأخرى ويستولي عليها، وتظهر للروح حالة من الشموخ والعظمة تأبى الطاعة إلاّ أمام الرب سبحانه وأمام من تكون طاعتهم طاعة ذات الحق المقدس، وإذا كان من جراء الظروف الطارئة محكوماً لأحد، لما تزلزل قلبه منه ولحافظ على حرية نفسه واستقلالها، كما كان الشأن في النبي يوسف ولقمان حيث لم تنعكس سلباً عبوديتهما الظاهرية على حرية وانطلاقة نفسيهما. كم من أصحاب القدرة والسلطة الظاهرية لم يستنشقوا نسمة حرية النفس الشخصية والاعتداد بها ويكونون أذلاء وعبيداً للنفس وأهوائها، ويتزلفون نحو المخلوق التافه؟. نقل عن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام أنه قال في حديث «إنّي لآنّفُ أنْ أطْلُبَ الدُّنْيَا مِنْ خَالِقِهَا فَكَيْفَ مِنْ مَخْلُوقٍ مِثْلِي» ؟.[8]

 

أيها العزيز إن لم تشعر بالنقص في طلب الدنيا، فعلى الأقل لا تطلبها من إنسان ضعيف مثلك. وافهم بأنه لا حول للمخلوق في أعمال دنياك. فلو فرضنا بأنك استطعت مع الذل والامتنان المتكرر أن تكسب رأي الإنسان الذي تطلب منه إعمار دنياك فان رأيه وإرادته لا تكون فاعلة في مُلك الحق سبحانه. إذ لا يوجد أحد يتصرف في مملكة مالك الملوك. فلا تتملق لتأمين حياتك الدنيوية المعدودة، وشهواتك المحدودة، تجاه مخلوق معدم. ولا تغفل عن إلهك، وحافظ على حريتك، وارفع أغلال العبودية والأسر عن رقبتك، وكن حراً في جميع حالاتك كما ورد في الحديث الشريف «إن الحُرَّ حُرٌّ عَلَى جَميعِ أَحْوَالِهِ». واعلم أن الغِنى ـ غنى النفس ـ وأن عدم الحاجة من حالات الروح، وغير مرتبطة بأمور خارجة عن الإنسان.

 

وإنني رأيت أناساً من أهل الثراء والمال والجاه يتفوهون بكلمات يندي لها الجبين ولا يقولها المستجدي المتهتك. انه المسكين الذي ضُربت على روحه الذلة والمسكنة.

 

إن شعب اليهود بالنسبة إلى عددهم يعدّون من أغنى الشعوب القاطنين على ظهر الأرض كافة ولكنهم يعيشون طيلة حياتهم في الشقاء والتعاسة والشدة والهوان، وتبدو على ملامحهم الحاجة والفقر والذل المسكنة، ولا يكون ذلك الأمن وراء الفقر النفسي والذل الروحي. ورأينا في أصحاب الزهد وذوي الحياة البسيطة ـ الدراوشة ـ أشخاصاً قلوبهم مفعمة بالغنى والكفاف، ويلقون نظرة اللامبالاة على الدنيا وكل ما فيها، ولا يجدون أحداً أهلاً الاستنجاد به إلاّ الحق المقدس المتعالي. وأنت أيضاً تمعّن وابحث في أحوال أهل الدنيا وذوي الرغبة في الرئاسة، كي ترى ذلهم وتزلفهم وخضوعهم أمام الناس أكثر من الآخرين. إن أدعياء الإِرشاد والتوجيه، يتحملون الذل بعد الذل ويبدون الخضوع اثر الخضوع في سبيل ترفيه بطونهم وفروجهم. إن خضوع الحالة القلبية للمراد ـ المربِّي ـ الطالب للدنيا، تجاه المُريد ـ المُربَّى ـ أكثر من خضوع قلب المُريد تجاه المُراد، رغم البون الشاسع بين نوعية الإرادتين. فإن إرادة المريد روحانية وآلهية حتى إذا كان على خطأ واشتباه ـ من جهة متعلق الإرادة ـ في حين أن إرادة المراد دنيوية وشيطانية. إن ما ذكرناه بأسره، هو الذل الدنيوي والمفاسد الدنيوية. فإذا ارتفعت الحجب تتجلى الصورة الملكوتية للأسر في أغلال الشهوات، وسلاسل الرغبات النفسانية وأنها كيف تكون؟. ولعل هذه السلسلة التي طولها سبعون ذراعاً والتي أخبر عنها الله تعالى والتي تكون أصفادَاً وأغلالاً لنا في يوم الآخرة هي الصورة الملكوتية لهذا الأسر والرق في ظل أوامر القوة الشهويّة والغضبية. يقول الله تعالى ﴿وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا﴾ (الكهف/ 49). ويقول ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ (البقرة/ 286). فما يصل إلينا في ذلك العالم هو صور أعمالنا. فلذلك مزّق سلاسل الشهوة والأهواء المتعرجة بعضها على بعض، وحطم أصفاد القلب، وأُخْرج من قيود الأسر، وكن حراً في هذا العالم، حتى تكون حراً في ذلك العالم. ولولا ذلك لوجدت الصورة الملكوتية لهذا الأسر حاضرة في ذلك العالم، واعلم بأنها مؤلمة جداً. إن أولياء الله رغم تحررهم التام من الأسر والرق، وبلوغهم الحرية المطلقة فإن قلوبهم كانت مضطربة وكانوا يجزعون وينحبون بدرجة تثير دهشة العقول.

 

فصل: أسر الشهوة أساس البلاء

 

إن أبحاث هذه الأوراق وان كانت من الأمور الرائجة الشائعة ومن المكررات، ولكن لا بأس في ذلك فإن تذكير النفس وتكرار قول الحق، أمر مطلوب. ولهذا يستحب تكرار الأذكار والأوراد والعبادات والمناسك. والسبب الرئيسي هو تعويد النفس وترويضها. فلا تضجر عزيزي من التكرار. واعلم أنه ما دام الإنسان يرزح في قيود النفس والشهوات، وما دامت سلاسل الشهوة والغضب الطويلة على رقبته لا يستطيع أن يبلغ المقامات المعنوية والروحانية، ولا تظهر فيه السلطة الباطنية للنفس وإرادتها الثاقبة، ولا يحصل له مقام استقلال النفس وعزّتها، الذي هو أرقى مقام لكمال الروح، بل إن هذا الأسر والرق يقيّده ولا يسمح له بالتمرّد على النفس في جميع الأحوال. ولما قويت هيمنة النفس الأمارة والشيطان في الباطن، وانقادت القوى جميعها لهما في العبودية والطاعة وأبدت لهما الخضوع والتسليم التامّين، لما اقتصرتا على المعاصي بل دفعتا بالإنسان من المعاصي الصغيرة رويداً رويداً إلى المعاصي الكبيرة، ومنها إلى ضعف في العقائد ثم إلى الأفكار المظلمة ثم إلى الطريق المغلق للجحود ثم إلى بغض وعداوة الأنبياء والأولياء.

 

وحيث إن النفس مضطهدة وتعيش حالة الرق، لا تستطيع أن تخرج على رغباتها. وعليه تكون عاقبة أمر الطاعة والتقيّد ـ للنفس الأمارة ـ وخيمة جداً، وستدفع بالإنسان إلى أماكن خطيرة ومخيفة. إن الإنسان العاقل الرؤوف بنفسه لا بد له من السعي واللجوء إلى كل سبيل لإنقاذ نفسه من الأسر، والنهوض أمام النفس الأمارة والشيطان الباطني، ما دامت الفرصة سانحة، وقواه الجسدية سالمة وما دام أنه على قيد الحياة وفي صحة موفورة وفتوّة موجودة، وأن قواه لم تتسخر كلياً، ثم يراقب حياته فترة من الوقت، ويتأمل في أحوال نفسه وأحوال الماضين، ويتمعن في سوء عاقبة بعضهم. ويُفهم نفسه أن هذه الأيام القليلة، تبلى، ويوقظ قلبه ويفهمه الحقيقة التالية المنقولة عن الرسول الأكرم ـ صلّى الله عليه وسلم ـ حيث خاطبنا قائلاً: «الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الآخِرَةِ»[9] فلو إننا لم نـزرع في هذه الأيام المعدودة، ولم نعمل عملاً صالحاً، لفاتتنا الفرصة، وإذا غشينا الموت، وحلّ العالم الأخر، لانقطعت أعمالنا جميعاً وذهبت آمالنا نهائياً. وإذا جاء ملك الموت ونحن لا نـزال عبيد الشهوات وأسارى قيود أهواء النفس المتشعبة ـ والعياذ بالله ـ لكان من الممكن للشيطان أن يسرق إيماننا الذي هو غايته القصوى وأن يحتال ويتراءى أمام قلبنا بصورة نخرج من الدنيا ونحن أعداء الحق المتعالي والأنبياء والأولياء. والله سبحانه يعرف ماذا وراء هذا الحجاب من الشقاوات والظلمات والوحشة؟. فيا أيتها النفس الدنيئة ويا أيها القلب الساهي استيقظا وأنهضا أمام هذا العدو الذي ألجمكما منذ سنين وربطكما بأغلال الأسر وقادكما إلى كل جهة حيث يريد، ودفع بكما إلى كل عمل قبيح وسلوك بشع وأجبركما عليه. وحطّما هذه القيود، وكسَّرا هذه السلاسل، وكن أيها الإنسان حراً، وادفع عن نفسك الذل والهوان، وضع في رقبتك طوق العبودية للحق ـ جلّ وجلاله ـ حتى تتحرر من كل عبودية وترقى إلى السلطة الإلهية في العالمين. أيها العزيز على الرغم من أن هذا العالم ليس بدار الجزاء والمكافأة وليس بمحل لظهور سلطة الحق المتعالي، وإنما هو سجن المؤمن[10]، فلو تحررت من أسر النفس، وأصبحت عبداً للحق المتعالي، وجعلت القلب موحداً، وأجليت مرآة روحك من غبار النفاق والأثنينيّة، وأرسلت قلبك إلى النقطة المركزية للكمال المطلق، لشاهدت بعينك آثار ذلك في هذا العالم، ولتوسع قلبك بقدر يغدو محلاً لظهور السلطنة التامة الإلهية حيث تصير مساحتها أوسع من جميع العوالم «لاَ يَسعُني أَرْضِي وَلاَ سَمَائِي وَلكِنْ يَسَعُنِي قَلْبُ عَبْدِي المُؤْمِن»[11]  ولشعرت غنى واضحاً في النفس، حيث لم تعبأ بكل العوالم الغيبية والمادية، ولأصبحت إرادتك قوية، حيث لم تفكر في عالمي المُلك والملكوت، ولم تجد لهما اللياقة لاحتضانك. بيت شعر: هل رأيت تحليق الطير؟. انسلخ من أغلال الشهوة حتى ترى تحليق الإنسان![12].

 

فصل: معنى الصبر

 

وأنه نتيجة التحرر من قيود النفس من النتائج الكبيرة والثمار العظيمة لتحرّر الإنسان من عبودية النفس، الصبر في البلايا والنوائب. وعلينا أن نشرح معنى الصبر بصورة مختصرة مع ذكر أقسامه ونتائجه، وارتباطه بالتحرر من أسر النفس. قال محقّق الطائفة الحقّة ومدقّق الفرقة المحقّة، الكامل في العلم والعمل نصير الدين الطوسي[13] ـ قدّس الله نفسه القدوسية ـ في تعريف الصبر: إنه كفّ النفس عن الجزع عند حلول مكروه[14]. وقال العارف المحقق المشهور في كتاب «منازل السائرين» انه: امتناع النفس عن الشكوى على الجزع المستور[15] (انتهى).

 

واعلم إن الصبر يعتبر من مقامات المتوسطين، لأن النفس ما دامت تكره المصائب والبليات، وتجزع منها، يكون مقام معرفته ناقصاً، كما أن مقام الرضا بالقضاء، والابتهاج من إقبال المصائب عليه، مقام أرقى من مقام الصبر، رغم كون مقام الرضا من مقامات المتوسطين أيضاً. وهكذا يكون الصبر على المعصية والطاعة، من جراء نقص المعرفة بأسرار العبادة وصور المعاصي والطاعات. فان الإنسان إذا أدرك حقيقة العبادة وآمن بصورها البهيّة البرزخية، وكذلك آمن بالصور البرزخية الموحشة للمعاصي لما كان للصبر على الطاعة أو المعصية وقعٌ. بل الأمر يغدو معكوساً. فإنه إذا واجه ابتهاجاً وراحةً أو أفضى به الأمر إلى ترك عبادة أو فعل معصية، لأصبحت هذه الأمور مكروهة عنده وكان جزعه الباطني ـ النفسي ـ أكثر من جزع ذوي الصبر في البليّات والمصائب. نقل عن العبد الصالح، العارف بوظائف العبودية وصاحب المقامات والكرامات علي بن طاووس ـ قدس الله نفسه ـ أنه كان يحتفل في كل عام يوم ذكرى بلوغه للتكليف الشرعي، ويتّخذه عيداً وينثر الهدايا على الأصدقاء والأهل، وذلك لِما شرّفه الله سبحانه وتعالى في اليوم بالإذن في فعل العبادات والطاعات[16].

 

هل إن فعل الطاعات يعدُّ لهذا الروحاني من الصبر على المكروهات الكامنة في أعماق الإنسان؟ أين نحن وأين هؤلاء العباد المنقادون للحق تبارك وتعالى؟ نحن نحسب بأن الحق تبارك وتعالى قد كلفنا وشدد علينا، ونعتبر الأحكام الشرعية كلفة وإزعاجاً.

 

وإذا بذل أحدنا الجهد في أول الوقت لأداء الفريضة، لقال أنه المفروض عليَّ، ويجب في أقرب وقت أن أرتاح منه! كل هذه التعاسة من جهلنا وقلة علمنا ونقص أو فقدان إيماننا. وعلى أيّ حال فالحقيقة أن الصبر هو الامتناع عن الشكوى على الجزع الكامن.

 

وما ورد في أئمة الهدى أو الأنبياء العظام من نعتهم بالصبر، فمن المحتمل أنه من الصبر على الآلام الجسدية التي تسبب الانفعال والتأثر ـ حسب طبيعة الإنسان ـ أو من الصبر على فراق الأحبة وهو حينئذٍ من المقامات الكبيرة للمحبين فيصحّ الحديث عنه في تراجم حياتهم. وأما الصبر على الطاعات أو المعاصي أو النوائب عدا ما ذكرنا ـ الآلام الجسمية ـ فلا معنى لها في حقهم ولا في حق شيعتهم. يقول العارف المعروف كمال الدين عبد الرزاق الكاشاني في كتابه شرح المنازل: إن هدف خواجة الأنصاري من قوله إن الصبر كف النفس عن الشكوى. هو الشكوى إلى المخلوق وأما الشكوى عند الحق المتعالي وإظهار الجزع والفزع أمام قدسيته فلا تتنافى مع الصبر. كما اشتكى النبي أيوب عند الحق سبحانه قائلا: ﴿أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ﴾ (ص41). رغم أن الله تعالى أثنى عليه بقوله: ﴿إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ﴾ (ص44). وقال النبي يعقوب ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ﴾ (يوسف/ 86) مع أنه كان من الصابرين. بل إن ترك الشكوى إلى الحق المتعالي إظهار للجلادة وللدعوى (انتهى).

 

ويبدو من تراجم حياة الأنبياء العظام والأئمة المعصومين ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ رغم أن مقاماتهم كانت أرفع من مقام الصبر ومقام الرضا والتسليم. إنهم لم يمتنعوا من الدعاء والتضرع والعجز أمام المعبود، وكانوا يسألون حاجاتهم من الحق سبحانه. وهذا لا يكون مغايراً للمقامات الروحية، بل إن تذكر الحق جل وعلا والخلوة والمناجاة مع المحبوب وإظهار العبودية والذل أمام عظمة الكامل المطلق، غاية آمال العارفين وثمرة سلوك السالكين.

 

فصل: في نتائج الصبر

 

اعلم أن للصبر نتائج كثيرة التي منها ترويض النفس وتربيتها: إذا صبر الإنسان حيناً من الوقت على المفاجئات المزعجة ونوائب الدهر، وعلى مشّاق العبادات والمناسك وعلى مرارة ترك الملذات النفسية امتثالاً لأوامر وليّ النعم، وتَحَمّل الصعاب مهما كانت شديدة ومؤلمة، تروضت النفس شيئاً فشيئاً، واعتادت وتخلّت عن طغيانها، وتذلَّلت صعوبة تحمل المشاق، عليها، وحصلت للنفس ملكة راسخة نورية، بها يتجاوز الإنسان مقام الصبر ليبلغ المقامات الأخرى الشامخة. بل إن الصبر على المعصية يبعث على تقوي النفس، والصبر على الطاعة يسبب الاستيناس بالحق عز وجل، والصبر على البلايا يوجب الرضا بالقضاء الإلهي، وكل ذلك من المقامات الشامخة لأهل الإيمان، بل لأهل العرفان. وقد ورد في الأحاديث الشريفة عن أهل بيت العصمة ثناءٌ بليغٌ على الصبر. كما جاء في الكافي الشريف عن الأمام الصادق عليه السلام: قالَ: «الصَّبْرُ مِنَ الإيْمَانِ بِمَنـزلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ فَإِذَا ذَهَبَ الرَّأْسُ، ذَهَبَ الجَسَدُ، وَكَذلِكَ إذَا ذَهَبَ الصَّبْرُ، ذَهَبَ الإِيْمَانُ»[17]. وفي حديث آخر عن الأمام السجّاد علي بن الحسين عليهما السلام: قالَ: «الصَّبْرُ مِنَ الإِيْمَان بِمَنـزلَةِ الرَّأْسِ مِنَ الجَسَدِ وَلاَ إِيْمَانَ لِمَنْ لاَ صَبْرَ لَهُ»[18].

 

والأحاديث كثيرة في هذا الباب. ونحن سنأتي على ذكر بعضها عند توفر المناسبة. إن الصبر مفتاح أبواب السعادات، وباعث للنجاة من المهالك بل الصبر يهوّن المصائب، ويخفف الصعاب، ويقوي العزم والإرادة، ويبعث على استقلالية مملكة الروح. وأما الفزع والجزع فمضافاً على أنه عيب، وكاشف عن الضعف في النفس، يجعل الإنسان مضطرباً، والإرادة ضعيفة والعقل موهوناً. يقول المحقق الخبير الخواجة بصير الدين الطوسي: «وهو ـ أي الصَّبْرُ ـ يَمْنَعُ البَاطِنَ عَنِ الاضْطِرَابِ، وَاللِّسَانَ عَنِ الشِّكَايَة، والأَعْضَاءَ عَنِ الحَرَكَاتِ الغَيْرِ المُعْتَادَةِ». وعلى العكس فإن الإنسان غير الصابر، قلبه مضطرب، وباطنه موحش ونفسه قلقة ومهزوزة. وهذا بنفسه بليّة فوق جميع البلايا، ومصيبة من أعظم المصائب التي تحل بالإنسان، وتسلب منه الراحة والقرار. وأما بالصبر فتخفّ الرزية، ويتغلّب القلب على النوائب والبلايا، وتنتصر إرادة الإنسان على المصائب. ولذا نجد الإنسان الغير صابر، يشكو عند من هو أهل للشكاية، ومن هو ليس أهل للشكاية، وهذا الأمر زائداً على أنه يؤدي إلى الفضيحة لدى الناس. والاشتهار بالضعف بينهم وعدم الجلادة، فإنه يسقطه من أعين الناس ويحطّ من كرامته لدى ملائكة الله، وأمام جلال القدس الربوبي. إن العبد الذي لا يتحمّل مصيبة واحدة نازلة عليه من الحق المتعالي والحبيب المطلق والذي إذا واجه بليّة واحدة رفع صوته بالشكوى من ولي نعمه أمام المخلوق، رغم نـزول البركات عليه وتلقيه آلاف آلاف النعم، مثل هذا العبد أي إيمان له؟ وأي تسليم له أمام المقام المقدسي للحق؟ فيصحّ أن يقال: من لا صبر له لا إيمان له. لو كنت مؤمناً بالحضرة الربوبية، ورأيت مجاري الأمور بيد قدرته الكاملة، ولا يكون لأحد يد في الحوادث والأمور، لما اشتكيت من حوادث الأيام والبليّات أمام غير الحق تعالى، بل لاستقبلتها بكل حفاوة وتكريم وشكرت نعم الحق سبحانه. فكلّ الاضطرابات النفسية والشكاوى اللسانية والحركات الغير اللائقة والغير المعتادة للأعضاء، تشهد بأننا لسنا من ذوي الإيمان، فما دامت النعمة موفورة، شكرنا ربنا شكراً ظاهرياً لا لبّ له، بل يكون لأجل طمع الزيادة، وحينما تواجهنا مصيبة واحدة أو يحلّ بنا ألم ومرض، اشتكينا من الحق المتعالي لدى الناس وغمزنا فيه، واعترضنا عليه، وأبدينا الشكوى أمام كل من هو أهل ومن هو ليس بأهل وتتحول الشكاوى والجزع والفزع في النفس إلى بذور البغض تجاه الحق والقضاء الإلهي، ثم ينمو شيئاً فشيئاً ويشتد حتى يتحول إلى ملكة، بل ـ لا سمح الله ـ تتحول الصورة الداخلية للذات صورة البغض لقضاء الحق، والعداء للذات المقدس. وحين ذلك يفلت الزمام من اليد، ويزول الاختيار عن الإنسان، ولا يستطيع أن يفعل شيئاً لتحسين الوضع وضبط الأوهام، ويتلّون الظاهر والباطن بلون العداء للحق سبحانه تعالى، وينتقل من هذا العالم وهو قطعة من البغض والعداء لمالك النعم، فيبتلي بالشقاء الأبدي والظلام الدائم.

 

وأعوذ بالله من سوء العاقبة والإيمان المستعار المستودع. فيكون كلام المعصوم عليه السلام صحيحاً حيث يقول: عندما يذهب الصبر يذهب الإيمان. فيا أيها العزيز أن الموضوع خطير، والطريق محفوف بالمخاطر، فابذل من كل وجودك الجهد واجعل الصبر والثبات من طبيعتك، أمام حوادث الأيام وانهض أمام النكبات والرزايا، ولقن النفس بأن الجزع والفزع مضافاً إلى أنهما عيبان فادحان، لا جدوى من ورائهما للقضاء على المصائب والبليات، ولا فائدة من الشكوى على القضاء الإلهي وعلى إرادة الحق عز وجل أمام المخلوق الضعيف الذي لا حول له ولا قوة. كما أشير إلى ذلك في الحديث الشريف المنقول في الكافي: «مُحَمَّد بْنُ يَعْقُوبَ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَمَاعَةَ بْنَ مِهْرَانَ، عَنْ أَبِي الحَسَنِ ـ عليه السّلام ـ قالَ: قَالَ لِي: مَا حَبَسَكَ عَنِ الحَجِّ؟ قَالَ: قُلْتُ: جْعِلْتُ فِدَاكَ، وَقَعَ عَلَيَّ دَيْنٌ كَثِيرٌ وَذَهَبَ مَالِي، وَدَيْنِي الَّذي قَدّ لَزَمَنِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَهَابِ مَالِي، فَلَوْلاَ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَصْحَابِنَا أَخْرَجَنِي مَا قَدَرْتُ أَنْ أَخْرُجَ، فَقَالَ لِي: إِنْ تَصْبِرْ تُغْتَبَطْ وإلاّ تَصْبِرْ يُنْفِذِ اللهُ مَقَادِيرَهُ رَاضِياً كُنْتَ أَمْ كَارِهاً»[19]. فاعلم بأن الجزع والفزع لا يجديان، بل لهما أضرار مخيفة ومهالك تنسف الإيمان. وأم الصبر والجلادة فلهما الثواب الجزيل والأجر الجميل والصورة البهيّة البرزخية الشريفة كما ورد في ذيلَ الحديث الشريف الذي نحن بصدد شرحه حيث يقول: «وَكَذلِكَ الصَّبْرُ يُعَقِّبُ خَيْراً فَاصْبِرُوا وَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى الصَّبْرِ تُؤجَرُوا». فعاقبة الصبر إلى الخير في هذه الدنيا كما يستفاد من التمثيل بالنبي يوسف عليه السلام ـ في الحديث المذكور ـ يبعث على الأجر والثواب في يوم الآخرة. وفي الحديث الشريف المنقول في الكافي بسنده إلى أبي حمزة الثمالي ـ رحمه الله ـ قال: «مَنِ ابْتُلِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِبَلاءٍ فَصَبَرَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَلْفِ شَهيدٍ»[20]. ووردت أحاديث كثيرة في هذا المضمار. ونحن سنذكر بعضها في الفصل القادم. وأما أن للصبر صورة بهية برزخية، فمضافاً إلى أنها تتطابق مع بعض الأدلة نجد الأحاديث الشريفة أيضاً تتحدث عنها. كما في الكافي الشريف عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إِذَا دَخَلَ المُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ كَانَتِ الصَّلاَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَالزَّكَاةُ عَنْ يَسَارِهِ والبِرُّ مُطلٌّ عَلَيْهِ وَيَتَنَحَّى الصَّبْرُ نَاحِيةً، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ المَلَكَانَ اللَّذَانِ يَلِيَانِ مُسَاءَلَتَهُ قَالَ الصَّبْرُ لِلصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالبِرِّ: دُونَكُمْ صَاحِبَكُمْ فَإِنْ عَجَزْتُمْ مِنْهُ فَأَنَا دُونَهُ»[21].

 

فصل: في درجات الصبر

 

اعلم أن للصبر درجات حسب ما يفهم من الأحاديث الشريفة. ويختلف الأجر والثواب عليه على ضوء مراتبه. كما في الكافي الشريف مستندا إلى مولى المتقين الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. «قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صلَّى الله عليه وآله وسلم ـ الصَّبْرُ ثَلاَثَةٌ: صَبْرٌ عِنْدَ المُصِيبَةِ وَصَبْرٌ عَلَى الطَّاعَةِ وَصَبْرٌ عَنِ المَعْصِيَةِ، فَمَنْ صَبَرَ عَلَى المُصِيبَةِ حَتّى يَرُدَّهَا بِحُسْنِ عَزَائِهَا، كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَمَنْ صَبَرَ عَلَى الطَّاعَةِ كَتَبَ اللهُ لَهُ سِتَّمِائَةِ دَرَجَةٍ مَا بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الأَرْضِ إِلَى العَرْشِ، وَمَنْ صَبَرَ عَنِ المَعْصِيَة كَتَبَ اللهُ لَهُ تِسْعَمِائَةِ دَرَجَةٍ ما بَيْنَ الدَّرَجَةِ إِلَى الدَّرَجَةِ كَمَا بَيْنَ تُخُومِ الأَرْضِ إِلَى مُنْتَهَى العَرْشِ»[22]. ويفهم من هذا الحديث بأن الصبر على المعصية أفضل من كل مراتب الصبر حيث تكون درجات أكثر، والفواصل بين درجاته كبيرة جداً. ويفهم أيضاً بأن مساحة الجنة أوسع مما في أوهامنا نحن المحجوبين والمقيدين. ولعل ما ورد في تحديد الجنة من قوله تعالى: ﴿عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ﴾[23]. عائد إلى جنة الأعمال، وما ورد في هذا الحديث الشريف، جنة الأخلاق، والمقياس في جنة الأخلاق، قوّة الإرادة وكمالها، وهي غير محدودة بحدّ. وقال بعض بأن المقصود في الحديث الشريف تحديد الجنة من جهة العلو والارتفاع، وفي الآية المباركة من جهة العرض، ولا تنافس بينهما إذ أنه من الممكن أن يتّحدا من ناحية العرض ويختلفان من ناحية الارتفاع. وهذا بعيد، لأن الظاهر من «العرض» المساحة لا ما يقابل الطول. كما أنه ليس للسماوات والأرض عرضاً بالمعنى المقابل للطول حسب المتفاهم العرفي واللغوي، وان كان لهما عرض بمعنى البُعد الثاني في مصطلح الطبيعيين، والقرآن الكريم لا يتكلم على أساس المصطلحات العلمية.

 

وفي الكافي الشريف مستنداً إلى الإمام الصادق عليه السلام قال: «قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وأله وسلم ـ: سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُنَالُ فِيهِ المُلْكُ إلاّ بِالقَتْلِ وَالتَّجَبِّرِ، وَلاَ الغِنَى إلاّ بِالغَضْبِ وَالبُخْلِ، وَلاَ المَحَبَّةُ إلاّ بِاسْتِخْرَاجِ الدَّينِ وَاتِّبَاعِ الهَوى، فَمَنْ أَدْرَكَ ذلِكَ الزَّمَانَ فَصَبَرَ عَلَى الفَقْرِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى الغِنَى وَصَبَر عَلَى البِغْضَةِ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى المَحَبَّةِ وَصَبَرَ عَلَى الذُّلِّ وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى العِزِّ أَتَاهُ اللهُ ثَوَابَ خَمْسِينَ صِدِّيقاً مِمَّنْ صَدَّقَ بِي»[24]. ونقل حديث آخر أيضاً عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بهذا المضمون وعلى أي حال فإن الأحاديث في هذا الموضوع كثيرة. ونحن نكتفي بهذا القدر من الأحاديث الشريفة.

 

فصل: في بيان درجات صبر أهل المعرفة

 

اعلم أن ما ذكرناه إلى هنا، يعود إلى عامة الناس والمتوسطين كما ذكرت في أول فصل من هذه الفصول ـ المذكورة ـ من أن الصبر قد عُدَّ من مقامات المتوسطين من الناس. ولكن للصبر درجات أخرى ترجع إلى أهل السلوك والعرفاء والكُمَّلين والأولياء. حيث أن منها: (الصَبْرُ فِي اللهِ) وهو الثبات في المجاهدة وترك ما هو متعارف عليه لدى الناس ومألوف عندهم. بل ترك نفسه في سبيل الحبيب. وهذا المقام عائد لأهل السلوك. والمرتبة الأخرى (الصَبْرُ مَعِ اللهِ) وهو لأهل الحضور ومشاهدي الجمال حين الخروج من جلباب الإنسانية، والتجرد عن ملابس الأفعال والصفات ولدى تجلي القلب بتجليات الأسماء والصفات، وتوارد واردات الأُنس والهيبة، وحفظ النفس من التلّونات، والغياب عن مقام الأنس والشهود.

 

والمرتبة الثالثة (الصَبْرُ عَنِ اللهِ) وهو من درجات العشاق والمشتاقين من أهل الشهود والعيان عندما يعودون إلى عالَمِهم ويرجعون إلى عالم الكثرات والصحو.

 

وهذا من أصعب مراتب الصبر وأقسى المقامات. وقد أشار إلى هذه المرتبة مولى السالكين وإمام الكُملين أمير المؤمنين عليه السلام في الدعاء الشريف الموسوم بدعاء كميل: «فَهبني يَا إلهِي وَسَيِّدي وَمَوْلاَيَ صَبَرْتُ عَلَى عَذَابِك فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكَ».

 

وَرُوِيَ أَنَّ شَابّاً مِنَ المُحِبّينَ سَأَلَ الشِّبْلِي عَنِ الصَّبْرِ فَقَالَ: أيُّ الصَّبْرِ أَشَدُّ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ للهِ. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: الصَّبْرُ بِاللهِ. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: الصَّبْرُ عَلَى اللهِ. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: الصَّبْرُ فِي اللهِ. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: الصَّبْرُ مَعَ الله. فَقَالَ: لاَ. فَقَالَ: وَيْحَكَ فَأَيٌّ؟ فَقَالَ: الصَّبْرُ عَنِ اللهِ فَشَهِقَ الشِّبْلِي وَخَرَّ مَغْشِيّاً عَلَيْهِ «(شرح منازل السائرين، باب الصبر، ص 88). والمرتبة الرابعة (الصَّبْرُ باللهِ) وهو لأهل التمكين والاستقامة حيث يحصل بعد الصحو والبقاء بالله وبعد التخلّق بأخلاق الله، ولا نصيب فيه إلاّ للكملين. وحيث أنه لا حظّ لنا في هذه المراتب ولا نصيب، لم نتطرق في هذه الأوراق للبحث المفصل عن ذلك.

 

والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

ــــــــــــــــــ

 

[1] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 6)

 

[2] نهج البلاغة, الخطبة 229 "صبحي الصلاح" , وكذلك في النهاية لأبن الأثير, ج2 ص128.

 

[3] الحديث 1, ص23 الهامش 3.

 

[4] مرآة العقول ج8 صذ130.

 

[5] وسائل الشيعة ج2 ص903 "كتاب الطهارة, أبواب الطهارة, أبواب الدفن" الباب 76 الحديث 7.

 

[6] (بحار الأنوار، المجلد 71، ص70)

 

[7] (بحار الأنوار، المجلد 71، ص70)

 

[8] علل الشرائع، المجلد الأول، باب 165، العلة التي من أجلها سمي علي بن الحسين زين العابدين.

 

[9] علم اليقين ج1 ص347 " المقصد الثالث " الباب الأول الفصل 8 وكذلك ورد في إحياء العلوم ج4 ص19 "كتاب التوبة".

 

[10] إشارة للحديث عن أبي عبد الله "ع" انه قال: الدنيا سجن المؤمن".

 

[11](عوالي اللئالئ، المجلد الرابع، ص7).

 

[12] بيت شعر باللغة الفارسية للشاعر الإيراني "سعدي".

 

[13] كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد ص218 "المقصد الرابع في وجوب العصمة".

 

[14] أوصاف الأشراف, ص108 الفصل 5 الباب 3.

 

[15] منازل السائرين, ص38 باب الصبر.

 

[16] رضي الدين علي بن موسى بن جعفر (589ـ664) المعروف ب ـ (ابن طاووس) من مشاهير علماء الشيعة وأعاظمهم عالم, عابد, زاهد ومن ذوي المقامات والكرامات وكان من خواص الحجة " ع " في زمن الغيبة الصغرى, له كتب قيمة في الكثير من العلوم وبالخصوص في الأخلاق والعبادات منها: مهج الدعوات, الإقبال, جمال الأسبوع, كشف المحجة, اليقين وفلاح المسائل.

 

[17] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 2)

 

[18] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 4)

 

[19] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 10)

 

[20] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 17)

 

[21] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح8)

 

[22] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 15)

 

[23] إشارة للآية الكريمة "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنةِ عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين". آل عمران/ 133.

 

[24] (أصول الكافي، المجلد الثاني، كتاب الإيمان والكفر، باب الصبر، ح 12).