الحمد لله ربّ العالمين وأفضل صلواته وأزكى تحياته على سيّدنا النبي الأعظم محمد المصطفى وآله الغُرّ الميامين سيّما بقية الله في الأرضين روحي له الفداء.
ألف سنة مِن الآن، وفي يومٍ من أيام بغداد المائجة، اكتظت الجموع في ساحة (أشنان) لمصاب جلل، حتى ضاقت الساحة بأفواج المجتمعين.
كانت آلاف العيون تبكي رجلاً عُدّ موته حادثة كبيرة، فيما مضت عشرات الآلاف تؤدي الصلاة على جثمان رجلٍ عظيم ظلّ على مدار خمسين عاماً كالمشعل الوضّاء، أنار بوهج علمه ومعرفته أفناء كبيرةّ مِن العالم الإسلامي، وشقّ إلى جوار ضفاف نهر (دجلة) دجلة اُخرى من العلم والمعرفة.
إنّ الحوادث المريرة الدامية وموج التعصّب الطائفي الذي ضرب دار الخلافة العباسية، وما ران على القلوب، كُلّها عوامل لم تقوَ على إطفاء شعلة العلم والعمل الموصولة بالشجرة الزيتونة المباركة الماثلة بعلوم القرآن ومعارف أهل البيت (عليهم السلام) والمتلألئة بنور العقل البشري.
أما أشواك وعقبات ذوي الفهم المنحرف وسيّئي التفكير فلم يكن بوسعها هي الاُخرى أن تكون سداً أمام ذلك النهر الهادر الذي استطاع أن يحيط برعايته الفائقة للفقه والكلام، والعقل والنقل، كي تينع في تربةٍ خصبة.
صحيح أنّ بعض القلوب المملوءة حقداً والخالية من الحكمة والكياسة، عدّت ذلك اليوم الذي اجتمعت فيه الخلائق لتشييع الجثمان الطاهر والصلاة عليه بإمامة السيّد الشريف علي المرتضى، حلقة النهاية في دور هذا الرجل الكريم، حتى كان مِن سذاجة البعض وسطحيته أن احتفلوا بتلك المناسبة! بيد أنّ الصحيح أيضاً هو ما كانت تلمحه الأفئدة الذكية وما تراه البصائر النيرِّة، من أنّ موت سيِّد العلماء لا يمكن أن يكون النهاية لرجل انتهلت خمسة عقود من نبع فيضه في الفكر والثقافة، وفي الأخلاق والحكمة، قبل أن يصب عطائه في مسار الفكر البشري.
ذلك أنّ الإرادة الإلهية وسنن التاريخ أبتا إلاّ أن تضمن توالد ونمو مساره المعرفيّ الخالد عبر الأجيال والعصور والقرون، كيما يصب في البحر غير المتناهي الذي يمثل في مطافه الأخير الرشد النهائي للبشرية.
لقد وُري في ذلك اليوم جسد المفيد النحيف في داره الواقعة في محلة (درب الرياح) ببـغداد ليـُنقـل بعد ذلك إلى جـوار قبر الإمـام أبي جعفر الجواد (عليه السلام) لتنهال عليه في دار السلام تلك الرحمة الإلهية.
بيد أنّ شخصيته اللامعة المحكمة لم تغب عن الذاكرة أبداً، بل بقيت على الدوام شاخصة في عين الزمان تُمارس دورها في مسيرة تكامل وانضاج الفقه والكلام ومذهب أهل البيت (عليهم السلام).
وبمبادرتكم اليوم أيها الأحبة للاحتفاء بالذكرى الالفية للشيخ المفيد، إنما تبعثون مجدداً وبعد ألف عام من ذلك اليوم، ذكرى ذلك الحدث العظيم لرجل بلغ الذروة في العلم والتقى، بحيث لم تقو عشرة قرون من تأريخ تنامي العلم والثقافة أن تقلّل من تألّقه وسمو رفعته، أو أن تنال من حضوره.
إنّ الجيل العلمي فيما يقوم به الآن من أحياء ذكرى الشيخ المفيد وإعادة نشر آثاره، إنما يؤدي في الحقيقة ما عليه من مسؤولية إزاء رجل كان له ولأفكاره الحضور الدائم في المسار المعرفيّ الغني المثمر لفقه وكلام مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، بالإضافة لدوره المؤثّر في إرساء دعائم البناء الرفيع للفقاهة والكلام الشيعيين خلال ألف عام، بما وضع من قواعد كانت بمثابة حجر الزاوية في حركة هذا البناء المنيف.
بيد أني أؤكد أنّ استمرار حضور المفيد في ساحة الأفكار والآراء العلمية والكلامية الحيّة، لا يكون من خلال إعادة نشر كتبه وتكرار آرائه ـ رغم ما يعبّر هذا العمل من شكر لما لهذا الرجل العظيم من منّة على جميع المتكلمين والفقهاء من بعده ـ وإنما يتم الحضور الفاعل بالإستمرار على ذات النهج والخط الذي أسّس له، وفتح آفاقه في حقلي الفقه والكلام.
تعليقات الزوار