يكفيه فخرا أن القدس تشتاق إلى وجهه، وأن طهران لا زالت تبكيه، وأنّ لبنان المحرومين الذين صنعوا الانتصارات؛ يراه في المرآة مع إطلالة كل فجر،.. وأنّ جيلا؛ ومنهم كاتب هذه السطور؛ وقبل أن يصلوا إلى تفاصيل من حياته، وصلهم وميضُ من ثوريته.

 

على درب العشق الإلهي سلك، ومبكرا احتضن حلم الثورة، حتى صارت الثورة هوية له، وخارطة طريق أشواقه، عرفته سوح النضال والجهاد هامة منصوبة وموقفا لا يلين، لم يكن الشهيد مصطفى شمران مثقفا عضويا فقط بحسب توصيف الفيلسوف الايطالي انطونيو غرامشي؛ أي ذاك الذي يعيش هموم عصره ويرتبط بقضايا أمته؛ بل كانت ميزته فضلا على ذلك كلّه؛ أنه مثقف ملتزم وعرفانيّ سالك، لم يستوحش الطريق وهو الإسلاميُّ المتفرد؛ يوم كانت المعادلة أنت ثوريٌّ إذا فأنت يساري، لم يعش لنفسه قط ولم يكن يرى لذاته أي معنىً إلاّ فيما يمنحه الانصهار التام بقضايا المستضعفين والمحرومين، لم تكن الحياة بالنسبة إليه ووفق فلسفته إلاّ موقفَ مواساةٍ للمحرومين؛ بالانحياز إلى نمط عيشهم والحياة بينهم كما يعيشون هم الحياة، فاتحاً أبواب قلبه الكبير لاستقبال حزنهم وشقائهم. لقد اختار - وكما كتب هو نفسه- بألاّ يُحشر في هذه الحياة الدنيا مع زمرة أولي النعمة والجائرين، وألاّ يتنفس من أجوائهم، وألاّ يقرب لذاتهم وألاّ يبيعهم علمه وفكره في مقابل حفنة من المال ولحظة من لذة الحياة.

 

كان منتهى ما يريد الوصول إليه عبر التزكية والنضال - كما كتب في إحدى خاطراته- أن يكون شمعة تحترق من أعلاها إلى أسفلها حتى تدفع الظلمة إلى الانقشاع، وبأن لا يدع مجالاً للكفر والجهل والظلم للسيطرة على الوجود.

 

كانت القدس في قلبه، كما طهران التي تركها مكرها في رحلة علم وجهاد بعد مرحلة نضال وعطاء بالكلية الفنية في جامعة طهران التي تخرج منها بتقدير امتياز، وبمرتبة أولى في تخصص الهندسة الكهربائية.

 

لم يكن عبوره من الكليّة الفنيّة من دون بصمات واضحة، كيف ذلك وهو المناضل العتيد صاحب المؤهلات الفكرية والأخلاقية النادرة، الذي لم ترهبه سطوة اليسار في الجامعة ولا هيمنة حزب"توده" الشيوعي من أن ينخرط بنشاط وهمّة في"اتحاد الطلبة المسلمين" يوم كان يُنكل بالإسلاميين ويوصمون بالرجعية والتخلف، ليحدث بنشاطه المميز أول اختراق إسلامي في الكلية الفنيّة غيّر صورتها وهويتها الإيديولوجية، الكليّة نفسها التي ستقدم في مرحلة شمران ثلاثة شهداء كثمن لموقف الاحتجاج على زيارة الرئيس الأمريكي نيكسون لطهران.

 

كتب لشقيقه يوما يقول:"أكتب إليك هذه السطور بآخر رمق من حياتي"، كان ذلك بعدما أجهده الإضراب عن الطعام الذي نظم داخل مصلّى منظمة الأمم المتحدة احتجاجاً على اعتقال ومحاكمة آية الله الطالقاني وأصحابه، لكنّ القدر أفسح له في العمر، العمر الذي استثمره شمران بطريقة ثورية، تمثلت في ذلك الجمع الخلاق بين نضاله السياسي وتحصيله العلمي وترقيه في مدارج الكمال الأخلاقي، فقد حصل على درجة الماجستير من جامعة تكساس الأمريكية بتقدير ممتاز في الهندسة الكهربائية، ثم انتقل إلى جامعة باركلي للحصول على الدكتوراه في الإلكترونيات والفيزياء الحيوية (هندسة الطاقة النووية) والتي نالها بامتياز، وهو الذي حُرم من منحته الدراسية بسبب نشاطه السياسي ضد نظام الشاه، فقد كان من مؤسسي "الإتحاد الإسلامي للطلبة" في أمريكا، وصاحب النشرة الشهرية (جبهة) التي عنيت بالقضايا الفكرية، فقد كان شمران صاحب فكر أصيل استفاده من درس تفسير القرآن الكريم لدى المرحوم آية الله الطالقاني في مسجد (هدايت)، ومن دروس الفلسفة والمنطق عند الأستاذ الشهيد آية الله مرتضى المطهري وهو في مرحلته الجامعية.

 

لم تكن انتفاضة 15خرداد، يوما من يوميات العطاء والشهادة في نضال الشعب الإيراني، بل كانت أيضا بالنسبة لشمران لحظة الانعطافة النوعية في مسيرته الجهادية، حيث يمّم شهيدنا وجهه شطر مصر الناصرية، فأوان البندقية قد أزف، لم يكن وحده في هجرته هذه بل اصطحب معه جمعا من رفاقه للتمرس على فنون القتال.

 

لم يدم المكوث في مصر طويلا، وكان لبنان هو المحطة التي تهفو إليها قلوب الثوار من كل مكان، فقد كانت البندقية الفلسطينية تمنح المعنى للباحثين عن موقع متقدم في الصراع بوجه المشروع الأمريكي والصهيوني، وكان المشروع الاستنهاضي للمحرومين في لبنان؛ وقاعدته العريضة من الشيعة؛ يشق طريقه بقيادة الإمام موسى الصدر، وكانت عين الصدر كما شمران على القدس وفلسطين، ووجد كل منهما نفسه في الآخر.

 

اختار شمران في جغرافية لبنان أقرب نقطة متاحة من فلسطين المحتلة، وحيث لا مسافة قائمة تفصله عن مستضعفي الشيعة ومحرومي المخيمات الفلسطينية، فكانت مدينة صور حيث أخذ على عاتقه إدارة المدرسة الصناعية في مؤسسة جبل عامل -البرج الشمالي- على بعد خمسة كيلومترات من مركز المدينة، وهنا أتيح له بناء الكوادر وتأهيلهم علميا وثقافيا، وعمل إلى جانب القائد المغيب على تشكيل حركة؛ حملت اسم ذلك المعنى الذي ملك عليه تفكيره واستقر في حلمه؛ (حركة المحرومين)، التي انبثقت منها لاحقا (حركة أمل)-أفواج المقاومة اللبنانية- وكان الهاجس دائما عند شمران تحقيق الهدف المقدس وهو تحرير فلسطين.

 

لا يخلو طريق ذات الشوكة من صعوبات وآلام، بثها الشهيد وشكاها لربّه في مناجاته الليلية التي أدمن عليها، وكانت أقسى اللحظات وأشدّها على قلبه يوم تاهت البندقية التي نذرت نفسها لفلسطين بعيدا عن أولى القبلتين، وشردت في دروب الحرب الأهلية التي تفجرت عام 75م، فكتب متفجّعا يقول: «.. يا إلهي، لقد شددت الرحال إلى هذه البلاد تحدوني الطموحات الكبرى؛ تلك الطموحات النقية والمقدسة والإلهية التي لا يشوبها شيء من حب النفس أو الاندفاع.. لقد كنت أرجو أن أبذل نفسي في سبيل الثورة الفلسطينية.. وكنت آمل أن أحج إلى القدس سيراً على الأقدام وأسجد هناك لله تعالى شكراً على لطفه ورحمته.. إن إيماني بالثورة هو الذي دفعني لاتخاذ خطوة على هذا الطريق..».

 

بإيمانه وصبره المعهود وصلابته تقبّل هذا القدر وهذا المآل الذي بدا لوهلة وكأنه يُبعد عن القدس، فواصل جهاده الفكري، وإعداد الكادر العسكري وهو يواكب عن كثب الحركة الثورية التي كان يقودها الإمام الخميني(قدس سره) من منفاه، وينهض ببعض مسؤولياتها من موقع المناضل والمسؤول.

 

ولم يمضي وقت طويل حتى بدأت البشارات تترى، والمخاض الثوري في إيران يعد بلحظة الولادة الكبرى المنتظرة على طول تاريخ من الآمال والأحلام والآلام والدماء، وبدا أنّ أفقا جديدا ينفتح أمام المشروع الإسلامي، وأنّ فرصا تاريخية ستتاح للكفاح الفلسطيني بتلاحم الثورتين.

 

بعد اثنين وعشرين عاماً من الهجرة والجهاد أمضى منها ثمانية أعوام مميزة في لبنان، عاد الشهيد شمران إلى أرض الوطن المحرّر من الطاغوت، مفتتحاً هذه العودة بلقاء الإمام الخميني(قدس سره)، وكان الإمام يعرف معدن الرجل وتجربته الغنية فعيّنه وزيراً للدفاع باقتراح من مجلس قيادة الثورة، وكان بذلك أوّل شخص غير عسكري يتولّى هذا المنصب. ثم عيّنه الإمام الخميني(قدس سره) حين تشكل مجلس الدفاع الأعلى، ممثلاً ومستشاراً له في هذا المجلس.

 

كان من حظ الجيش في وضعه الانتقالي أن يستفيد من خبرات ومؤهلات قائد فذ كالشهيد شمران جمع بين الثقافة والخبرات العسكرية، ليمنحه هوية جديدة ويعيد صياغة عقيدته العسكرية، ويضخ فيه من المعنويات التي ميزت شخصية الشهيد، فلم يكن يناسبه بشهادته هو نفسه، الاشتغال بالسياسية كإدارة وإن كان مارسها كمعارضة من موقع الالتزام والوعي والفهم العميق لأبعاد الصراع، كتب يقول عن نفسه والموقع الذي يميل إليه زمن الثورة «إنني شخص عارف، وأجدني أشد قرباً من عالم القلب والروح من واقعيات الحياة. كما أنني زاهد ودرويش في حياتي الخاصة وهارب من علائق الحياة»، لم يكن هذا من شهيدنا فتورا في التزاماته، بل بالعكس أراد أن يصون صورته أمام نفسه، يوضح ذلك فيقول: «أريد أن أعمل في صمت وهدوء في سبيل الله وحسب، وأرغب في خدمة الإسلام والثورة والوطن بكل ما أستطيع، ولا أتوقع على ذلك جزاءً من أحد ولا شكوراً».

 

وبقدر ما ناسبت خصاله المعنوية والثورية؛ مسؤوليته العسكرية كوزير للدفاع، بقدر ما قربته الجبهة في الحرب المفروضة من حلمه وتطلعه للشهادة..الشهادة التي تمنّاها على تخوم فلسطين المحتلّة، فأرادها الله له في سوسنگرد وهكذا كان، فعلى الخط الأمامي من الجبهة، وبين المقاتلين كما كان يحب دائما، وعند أقرب نقطة من العدو البعثي، خلف ساتر ترابي أصابته شظية في رأسه، فأغمض عيناه التي لم تتسع لشيء قدر اتساعها للقدس وفلسطين.. ورحل نحو معشوقه تزفه دموع رفاقه شهيدا نحو الملكوت الأعلى بجوار ربه و ﴿..مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا﴾.