Skip to main content

الشهيد السعيد الشيخ محمد رملاوي

التاريخ: 04-08-2007

الشهيد السعيد الشيخ محمد رملاوي

امتشق دمه، ومضى من أقصى الجنوب في عيتيت، ليحطَّ رحاله في أرض الطهر في إيران

امتشق دمه، ومضى من أقصى الجنوب في عيتيت، ليحطَّ رحاله في أرض الطهر في إيران..

 

من قرية جنوبيّة منسيَّة، حمل دماءه ليبذرها هناك على أرض "الفاو" في جبهة الحق ضد الباطل.

 

ترى!

 

ما الذي دفع هذا العاملي الشاب، ليهاجر ناحية الشرق، ويستشهد في الخندق المتقدم..؟!

 

الجوابُ واضح وبسيط..

 

فالجهاد في سبيل الله لا يختزله عصر كما لا يختصره مصر..

 

قد تتنوع الساحات، وتتعدد الأزمنة، ولكن دم الشهيد يظل واحداً، عنوانه: الإسلام، والحريّة، والكرامة..  

 

طفولته

 

ولد الشهيد محمد أحمد رملاوي في بلدة عيتيت إحدى حواضر جبل عامل، وتفتحت عيناه على الحياة في الخامس عشر من شهر تشرين الثاني عام 1960م، وترعرع في بيت متواضع من أبوين مؤمنين، عرفا الصدق والأمانة والتعلق بأهداب الفضيلة، بفطرتهما العاملية، صقلا شخصية الطفل الصغير محمد، فكان نعم مولود لأبوين مخلصين.

 

في القرية الوادعة، المتواضعة، تربى الفتى محمد بين أتراب من نفس طينته الطاهرة، وتعلم شطراً من المرحلة الابتدائية في مدرسة الضيعة، وامتاز في طفولته بالذكار والتقدم في الدراسة. كما امتاز أيضاً بأنه كان ينفذ ما يقرر..  

 

الهجرة إلى بيروت

 

وأمام تزايد أفراد العائلة، وقلة الموارد في القرية، ارتحلت عائلته بأكملها إلى بيروت، وهناك دخل الفتى محمد إلى مدرسة النجاح في سن الفيل حيث أكمل دراسته الابتدائية والمتوسطة، وكان من التلامذة النابغين والمثاليين والمتفوقين..

 

كانت علاقته بجميع رفاقه مميزة، بحيث كان الجميع يتفقون على محبته وسماع آرائه وإرشاداته. لم تغير المدينة وبهارجها شيئاً من استقامته والتزامه الفطري، وكان نموذجاً للتلميذ المجتهد والمهذب والمؤمن في آن واحد.  

 

العودة إلى الجنوب

 

.. وعندما اندلعت شرارة الحرب اللبنانية عام 1975م، وبات القتل على الهوية شعار تلك المرحلة، نزحت العائلة بالاتجاه المعاكس، وعادت أدراجها نحو الجنوب، واستقرت في بلدتها "عيتيت"، وكان الفتى محمد قد نضج وأصبح يافعاً، فتابع دراسته الثانوية، في صرح الثانوية الجعفرية في مدينة صور، إلى أن نال الشهادة الثانوية ـ القسم العلمي ـ، ثم عاد إلى بيروت في العام 1977، والتحق بالجامعة اللبنانية ـ في كلية العلوم ـ قسم الرياضيات، وأنهى السنة الأولى بنجاح.  

 

ميوله

 

كان الشهيد ميّالاً منذ طفولته لحب الاستطلاع والمعرفة، يطالع كثيراً خارج كتبه المدرسية، يكره أذية الآخرين، يحب استكشاف ما يجهل في شتى المجالات، ويحب المرح والانطلاق والجد في المواقف، كان رقيقاً في تعامله مع إخوته وأخواته مع اصدقائه، يحب الإيثار ولو كان على حساب نفسه، يغضب لله وفي سبيل الله.

 

وعندما بلغ مرحلة الشباب، راح يفكر بما يعين فيه والديه وعائلته، وكأنه رب العائلة، فساعد الوالد في أكثر أعماله، إضافة إلى مواظبته على الدراسة، وأخيراً فكر بالتخصص في مجال علمي معين، ليؤمن له فيما بعد عيشاً مقبولاً، وليساعد أهله، ورغم كل هذه التوجهات فإنه كان من الملتزمين بدينهم والواعين الراشدين، لا تزعزعه المفاتن ولا تغريه الميول ولا الغرائز.  

 

هجرته إلى إيران الإسلام

 

أنهى الشهيد محمد السنة الأولى من دراسته في الجامعة اللبنانية، ثم عزم على السفر إلى الخارج للتخصص في المجالات العلمية حتى يفي حاجته المادية في هذه الدنيا، وباشر بنفسه يفتش عن وسيلة توفر له "منحة دراسية" فيسر الله سرّاً من أسراره، وشاءت قدرته أن يوفق بالحصول على منحة دراسية في طب الأسنان، فسافر إلى حيث حصلت الموافقة، ويمم وجهه شطر الجمهورية الإسلامية الإيرانية، بعد أربعة أشهر من انتصار الثورة، وفي جامعة طهران، التقى بإخوة له هناك، كان قد مضى على بقائهم أكثر من سنة...  

 

في جامعة طهران

 

انتسب الشيخ الشهيد إلى كلية الطب في جامعة طهران، وكان لزاماً عليه في البداية أن يخضع لدورة في اللغة الفارسية، فأتقنها خلال ستة أشهر كتابة وقراءة، حتى نال إعجاب الأساتذة المشرفين، وبقي يتابع دراسة الطب في الجامعة، وكانت ملامح الذكاء تشعّ في عينيه، وهناك راح يرتشف من ينبوع الإسلام الذي نشأ عليه. فرأى ووعى ولمس روحية الشعب الذي قضى على أعتى امبراطورية في الشرق، جالسهم وحادثهم وناقشهم، فوجد فيهم عشقاً لله، واكتشف سرّ الانتصار الذي قضى على الطاغوت، ومما تميز به الشهير في هذه المرحلة، حبّه للآخرين، واندفاعه لقضاء حاجاتهم، وإنني أذكره وأتذكره عندما زرت جمهورية الإسلام بعد انتصار الثورة بتسعة أشهر، ولم يمض على وجوده هناك أكثر من أربعة أشهر، أذكر أنني قررت زيارة الإمام الرضا (ع) ولم أكن أعرف اللغة الفارسية، فشكوت له الأمر، فأجابني بدعابة: "لا بأس عليك، أنا سأرافقك وأكون "ترجماناً" لك". وبالفعل، فقد رافقني في هذه الزيارة المباركة، وكان خير جليس وأعزّ أنيس.. 

 

انتقاله إلى الحوزة العلمية

 

بعد مضي سنة على وجوده في جامعة طهران، بدأت المؤامرات تحاك ضد الجمهورية الإسلامية، والشيطان الأكبر يوعز لأتباعه الصغار في المنطقة، أن يعملوا بكل الوسائل لإخماد أنفاس المؤمنين، فكانت بداية أعمالهم الإجرامية: القضاء على الرموز الدينية الكبرى، فاغتيل عدد من قادة الثورة الإسلامية من علماء وغيرهم، داخل إيران الإسلام، وكانت أكبر فاجعة وأعظم جريمة، إقدام النظام العراقي على قتل السيد محمد باقر الصدر وكوكبة أخرى من الجهابذة العلماء في العراق، وفي تلك الفترة كانت الثورة الإسلامية تشق طريقها وسط المؤامرات، وكان الطلبة المسلمون المؤمنون في طهران يرتشفون من معين الإمام الخميني، وينتظرون تعليماته، ولما سمع طالب الطب في جامعة طهران الشهيد محمد رملاوي بذلك، قرر ترك الدنيا بكل ما فيها، وتوجه نحو الحوزة العلمية في قم قائلاً: "الطريق إلى الله هناك أقرب".

 

اتخذ قراره هذا بعد تفكير طويل، واستعد لمواجهة كل الصعوبات المادية والاجتماعية، لكنه كان مصراً على هذا الاختيار، وقابل المسألة بثقة ووعي، وتعامل معها بهدوء، ثم أخبر ذويه بذلك، فباركوا له مسعاه..  

 

في الحوزة العلمية

 

في قم المقدسة، حيث يُصنع الرجال ويتخرج الفقهاء والعلماء، وحيث تتطهر النفوس من الأدران، وحيث يكون المرء قريباً من الله، هناك، التحق الشيخ الشهيد في حوزة الرسول الأكرم (ص)، وكان الطلبة اللبنانيون فيها قلّة.

 

واظب الشهيد على دراسته وعلومه، فكان سريع الاستيعاب، مما جعل أساتذته يضربون به المثل لشدة تقواه، إضافة إلى ذلك، لم يترك الشهيد لحظة من وقته تمر سدى، فكان مميزاً بعلاقاته مع أخوانه وأصدقائه، كان بمثابة خادم لهم يقضي حوائجهم ويطلع على مشاكلهم، يسدّ ما استطاع من حوائج المعوزين، وعلى دراجته النارية يتنقل من بيت إلى بيت قاصداً زيارتهم، راجياً الأجر والثواب، حاملاً ما يحتاجه بعضهم من أشياء لم تكن متوفرة لديهم.

 

ويروي أحد الأخوة العلماء أنه عندما تزوج كان قد استأجر بيتاً بعيداً في إحدى ضواحي قم، ففوجئ ذات يوم بالشهيد يدق بابه عند المساء، فقابله والبسمة والبشاشة على وجهه وبادره قائلاً: "لقد علمت يا أخي أنك اقترنت وسكنت في هذه الضاحية البعيدة، أدركت أنه ينقصك بعد الحاجيات فجئت إليك بصفيحة "المازوت" هذه لصعوبة حصولك عليها".

 

وذات مرة راح يوزع "مؤناً" على إخوانه الطلبة عندما اشترى كمية منها، بعد أن علم أنهم بحاجة إليها، والكثير الكثير من هذه الاهتمامات الملفتة.  

 

المرحلة العلمية التي بلغها

 

واصل الشهيد دراسته في الحوزة الدينية بجد ونشاط، وكان من المثابرين والمواظبين، فلم ينقطع أبداً حتى وصل بدراسته الحوزوية إلى مرحلة الكفاية والمكاسب، وكان يعد نفسه بعد أشهر للشروع بدراسة الخارج، لولا أن اختاره الله إلى جواره، أضف إلى ذلك أنه كان يقصد كبار العلماء ويتعرف إليهم ليأخذ منهم دروساً في الأخلاق، حيث كان يعتبر أن هذا النمط من الدروس يهذب النفس، ويقربها من الله أكثر فأكثر. فضلاً عن أنه كان يحث إخوانه الطلبة على حضوره هذه الدروس والمداومة عليها..  

 

السلوك الذاتي وعلاقته بالله

 

بصفاء الإنسان القروي المؤمن بقيم الحياة، عرف الشهيد أنّ الجهاد الأكبر أولى بكثير من الجوانب الأخرى، ومقدم عليها، إذاً فلابد من تزكية النفس وتطهيرها من دنس الماديات، والشهوات ولابد من تجريدها من كل الشوائب والأدران حتى تصبح قابلة لتلقي العلوم الإلهية، وإلا فالوقت يذهب سدى، ولكن كيف السبيل إلى ذلك؟ وكيف الوصول؟

 

على الرغم من حيرة الآخرين الذين يفتشون عن سلوك الطريق، لم يحتج الشهيد إلى المزيد جهد لأنه صمم وشرع على ترويض نفسه وتهذيبها، وعرف الطريق وبدأ يواظب على حضور درس الأخلاق الأسبوعي للأستاذ المعروف: آية الله الشيخ "مظاهري" في قم المقدسة، لأن المسألة الأخلاقية لها دور مهم وأساسي في تربية النفس وتزكيتها، خصوصاً أن مثل هذه الأمور لا يهتم بها طالب العلم بشكل عام، لاسيما في بعض الحوزات العلمية، رغم أهميتها وضرورتها في حياة الطالب الرسالي، الذي سيخرج للمجتمع هادياً ومنذراً ومبشراً، لكنه فهم الدور جيداً وأعدّ نفسه له. وهنا برز الانسجام التام بين ما تعلمه من دروس الأخلاق حيث طبق ذلك في عمله، فأستاذه يطلب من طلابه زيارة العلماء واختيار الرفقاء الصالحين الذين يعينون الإنسان على طاعة الله والابتعاد الدائم عن مجالس السوء التي يعصى فيها الله، وقراءة أحوال العلماء وكراماتهم، والاقتداء بهم، فحمل هذه الإرشادات بين جنبيه، ليفتش بنفسه عن العلماء العارفين بالله، لينظر إلى وجوههم، لأن النظر إليهم عبادة وليستفيد من مواعظهم، فكان دقيقاً في اختيار الرفقهاء يبتعد بهم عن اللغو ومجالس السوء، الأمر الذي دفعه للاتصال بالله بشكل دائم.

 

ولم يكتف بذلك، بل واظب على حضور دعاء كميل ليلة الجمعة في حرم المعصومة المطهرة (ع) وبغض النظر عما فيه من معان عظيمة، فقد كان الشهيد يقصد الذهاب إلى هناك نظراً لأهمية قراءة الدعاء بشكل جماعي وللأجواء الروحية العالية التي تنتشر بين المؤمنين. أضف إلى ذلك كله، تلك الصور الحيّة التي تتخلل الدعاء فتشد العبد إلى ربه وتسلخه عن أوحال الأرض لترتفع به إلى قيم السماء، فتنتعش روحه وتسمو نفسه، ومقبرة عيتيت في بلدته، تشهد له حينما جمع أهلها وقرأ لهم الدعاء بين قبور شهدائنا وبالطريقة التي تعلمها، لينقل تلك الأجواء إلى أرض عاملة.  

 

صلاة الجمعة

 

وأكمل الشهيد مسيرة التربية الذاتية بمضمونها العبادي والسياسي الواعي، فلم يترك صلاة الجمعة، أبداً، لأنه عرف أنها توحد الأمّة وتظهر كيانها السياسي أمام الأعداء وبها تتجلى مظاهر الوحدة الفكرية والروحية التي أرادها الله.

 

من هنا كان إصراره الدائم على حضورها، فحث الآخرين على ذلك لأنها تكليف إلهي عبادي وسياسي ينبغي القيام به، ولم يكتف بهذه الفريضة الأسبوعية بل داوم على كل صلاة الجماعة اليومية ظهراً ومغرباً حتى في حرم المعصومة (ع).  

 

مسجد جمكران

 

لم يرتو الشهيد من كل هذا السلوك، بل راح ينظم علاقته مع الله، التي هي أساس كل العلاقات، وما ان سمع بمسجد صاحب العصر والزمان (عج) والذي يبعد مسافة 7 كلم عن قم، حيث يجتمع الناس من أصقاع البلاد في ليلة الأربعاء لأداء صلاة الفريضة والصلاة المعروفة بصلاة صاحب العصر والزمان، فلم يفوت الفرصة على نفسه ونظم وقته ليحافظ عليها ويؤديها، فراح يتردد على ذلك الموضع بشكل دائم، كيف لا وهو الذي آمن واعتقد بولاية الإمام المهدي (عج)، لقد فهم الشهيد أن أية حركة خارج هذا الخط هي حركة ضالة غير صحيحة، ثم وثق صلته وارتاد المكان بشكل دائم ليرشف من معين الولاية ويحافظ عليها وعلى حركته العملية نحو الله، وكانت تزيده صرخات الاستغاثة لصاحب الزمان اعتقاداً وإيماناً وثباتاً، وتتحرك فيه دموع الخوف والرجاء، لينتقل إلى عالمها المشرق والبعيد كل البعد عن زخرف الدنيا وبهارجها.

 

وهكذا أثمر خطه الذي رسمه لنفسه والذي سلكه في حياته، فلم يشعر يوماً بالاضطراب النفسي، حيث جعل الله نصب عينيه وبنى علاقته معه على أرضية قوية ومتينة.  

 

سلوكه العام وعلاقته بالآخرين

 

بعد أن متّن علاقته بالله وأحكمها جيداً، وبعد أن صقل نفسه وهذّبها، تعامل مع أهله كما أمره رسول الله (ص): "خيركم خيركم لأهله" فكان مثالاً للزوج الرؤوف بزوجته وولده، فلا يترك مناسبة إسلامية إلا ويفرح من خلالها قلب ابنته وزوجته، فيقدم لهما الهدايا الزمزية المتواضعة ليشيع أجواء المودة والمحبة والرحمة في الجو العائلي الواحد، وكان يطبق قول رسول الله (ص): "تهادوا، تحابوا".

 

ولقد تسامى في خُلقه وارتفع بروحه. أحبّ بقلبه الذي اتسع لجميع الناس، وتودد لهم جميعاً على مبدأ الحب في الله والبغض في الله، أعطى من وقته الكثير لإشاعة جو الحب والود بين إخوانه الطلبة وأبناء مجتمعه، فعمل على توحيد قلوبهم وعلى ما يرضي رب العالمين وسعى لإبعادهم عن جو الفتن التي تمزق وحدة الصف وتهدد كيان الأمة، فبمقدار تقرب الإنسان من ربه يتقرب الشيخ منه ويتودّد له، وبمقدار بعده عن الله يدعو له بالهداية والمغفرة ويعمل على إصلاحه وإرشاده، ولم يكن تفوقه باللغة الفارسية على أقرانه إلا ليعيش في المجتمع الجديد كواحد من أبنائه، من أجل التعرف على حقيقة الثورة التي رسمت الطريق وأضاءت السبيل لكل مستضعفي العالم، ولكي يعي ويفهم حقيقة الولاية وخط الإمام من خلال القائد الذي آمن به واستنار بإرشاداته ومواعظه، وعلى هذا الأساس تحرك باتجاه الآخرين مرشداً وواعظاً ومهتماً بشؤونهم وحاجاتهم..

 

وقد فاجأ أحد إخوانه الطلبة ذات مرّة بالعودة إليه بعد فترة قصيرة من فراقه. فظن صديقه أن شيئاً ما قد حدث، نظراً لعودته من مكان بعيد، فقال له صديقه: "ما الذي أرجعك إلينا، لعلّ ذلك خيراً؟"، فقال له الشهيد: "كل الخير"، فقال صديقه: "ماذا؟" ثم تناول كتاباً أحضره معه وفتحه وقال له بما مضمونه: "وجدت رواية في كتاب الأخلاق هذا، تقول: "من دخل بيت أخيه المؤمن وجلس على فراشه بقصد التقارب والإخوّة  له أجر كذا.. فجئت أطبق الرواية لأنال أجرها من الله".

 

لم يكن يحتمل أن يرى أخاه معذباً أو محتاجاً، حيث كان يتحرك فوراً لمساعدته وقضاء حوائجه، ولم يكن يتحمل أبداً أن يرى إخوته الطلبة أكثر من أسبوع، إلا يبادر إلى زيارتهم ليطمئن عليهم، وكان يُشعِر الآخرين بسيرته هذه، فقضاء حاجاتهم بنيته الصادقة، إنما تعادل عنده دراسته لسنة أو أكثر، لأن موازين الله يوم القيامة لا يدركها الإنسان العادي أبداً.

 

كان يتألم لمرض الآخرين، وكان السبّاق لمساعدتهم، فيحملهم إلى الطبيب ويؤمن لهم العلاج بنفسه ويخفف عنهم آلامهم، ولم يكتف بذلك فحسب بل كان يعطيهم من وقته ليعوض عليهم ما فقدوه من حنان وعطف، فيتعامل معهم وكأنه الأب الشفوق والأم الحنون والأخ المسؤول. كان طالباً في مدرسة، بل مدرسة علم من طالب.  

 

علاقته بالجبهة

 

سما الشهيد بعد ترويض نفسه إلى مرحلة أعلى، ومقام رفيع، وكانت علاقته بالآخرين تدور حول رضى الله سبحانه. ومن هناك كانت تصرفاته قد تغيرت جذرياً، بحيث كان يخشى أن يسيء إلى أحد، وكان يطلب المسامحة من أصدقائه ووالديه وأصبح شفافاً كالروح ومحبوباً كالملاك.

 

تلقى تدريبات عسكرية شاقة، وأعد نفسه ليكون جندياً في كل القطاعات، أعجب المدربين بشجاعته ورجولته وقوة شخصيته وهدوئه وأخلاقه، ووجدوا فيه المثال في التقوى والزهد والإخلاص والشجاعة، كان مؤهلاً لأن يكون رجل مرحلة، أو قلّ في مواقع المسؤولية.

 

شارك في الذهاب إلى جبهة خوزستان حوالي ست مرات، وكانت مهامه متنوعة، ما بين مبلّغ ومقاتل، كانت شخصية الإمام الخميني (قده) وأوامره بالنسبة إليه مثالاً أعلى، وكانت طاعة الإمام عنده أوجب الواجبات، لذا، كان يعتبر أن خط الإمام هو خط ولاية الفقيه، وأن هذا الخط هو أقوم الخطوط وأصلحها، فذهابه إلى الجبهة كان ذوباناً في قناعاته وحفظه لوصايا الإمام وأوامره.  

 

علاقته بالعلماء ورجال السياسة

 

ذاع صيت الشيخ محمد رملاوي في حوزات قم وبين الطلبة الإيرانيين وغير الإيرانيين، لأنه كان المتأثر جداً بشخصية وروحية الإمام الخميني (قده)، وكان يحث بعض العاملين في السياسة على قراءة كتب الأخلاق، وعندما حضر إلى لبنان قبل استشهاده، كان يزور كبار العلماء والعاملين في الحقل السياسي، ويبين لهم حسنات الثورة الإسلامية ووجوب العلاقة بها. وهكذا، كان يحث الشباب المؤمن للذهاب إلى الجبهة من منطلق أن الحرب ليست من واجب الإيرانيين فقط، إنما هو واجب عقائدي يطال الجميع بدون استثناء.  

 

استشهاده

 

قبل شهر من ذهابه إلى الجبهة أرسل زوجته إلى لبنان، ولما توجهت نحو صالة الانتظار في المطار، رمقها بعينيه مودعاً وكأنه كان يعلم أنه الوداع الأخير، ورفع يده مودعاً، فبادرت طفلته الصغيرة برفع يدها، ثم عاود الكرة وفي كل مرة كان يحس أن شيئاً ما يشده نحوهما، ثم انصرف، ثم عاد بعد ساعة لعلمه أن الطائرة سوف تتأخر عن الإقراع، وشاهد زوجته وطفلته في صالة الانتظار، ومرة أخرى راح يودعهما، وهو يسير إلى الخلف وعيناه مسمّرتان نحوهما..

 

كان الشيخ قد تقدم بطلب للالتحاق بالجبهة، فأجابه المسؤول عن إلحاق المقاتلين والمبلغين في الجبهة: "إنّ بلدك جنوب لبنان بحاجة إليك، فعندكم إسرائيل"، فأجابه الشيخ محمد: "كل أرض كربلاء، وكل يوم عاشوراء". وأخيراً جاءت الموافقة، فسر كثيراً واستبشر، ثم التحق بجبهة "الفاو"، وفي ليلة التاسع عشر من شهر رمضان سنة 1406هـ راح الشيخ الرملاوي يقرأ دعاء الكميل، في متراس مع المقاتلين، والإشراق والبشر يطفحان على وجهه النوراني، فيحدق أحد المجاهدين به ملياً بدون التفات. فيبادره أخ آخر: "لماذا تنظر هكذا في وجه الشيخ يا أبا زينب؟" فيجيبه أبو زينب: "إني أشاهد نوراً ينبعث من عنقه". وما أن أطال فجر اليوم الذي ضُرب فيه أمير المؤمنين علي (ع)، وفي شهر رمضان المبارك، ومع ترداد أصوات المؤذنين لصلاة الفجر، وإذا بقذيفة صدامية حاقدة اجتثت رأس الشهيد الشيخ محمد رملاوي وقطعت يده، وتحققت أمنيته التي كان يرددها: "أتمنى أن أستشهد كما استشهد العباس بن علي (ع)، وهكذا بلغ الرضوان الأعلى وفاز الشهيد بجنات النعيم.

 

فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يُبعث حيّاً..

 

 

 

احدث الاخبار

الاكثر قراءة