كان أحمد يلح عليه مشهد الصحابي عبد الله بن عفيف الأزدي الذي فقد عينيه في الجمل وصفين وكان يستبعد الشهادة وهو في أواخر عمره فاقداً للبصر، إلا أن الله سبحانه وتعالى قد مَنّ عليه بها عندما وقف في مسجد الكوفة يواجه عبيد الله بن زياد مدافعاً عن أولاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)..

 

كان هذا المشهد قد تجسد أمامه وهو يعبر القنطرة الصغيرة المستوية على ترعة صغيرة تسقي بساتين النخيل التي شهدت أياماً عظيمة مليئة بالتحدي والعنفوان.. تلك الأيام التي رسمت مشاهداً لا زالت تملأ الدنيا كرامة، تلك هي أيام انتفاضة المحرم عام 1400هــ.. هنا كان صديقه (...) يطارد جنود السلطة المدججين بالأسلحة الأمريكية والصهيونية.. لم يكن يحمل غير عمود حديد من الاعمدة التي تستخدم في خرسانة البناء.. وهنا  كان الطفل (...) الذي لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره يطارد مجرماً قد تدرب مع المارينز الأمريكي وفي مختبرات الاجرام في صحراء نيفادا … يتذكر جيداً كيف كان يضحك من أعماقه وهو يرى هذا المشهد.. كان أحمد أيام الانتفاضة يندفع بقوة لتنفيذ المهمات الملقاة على عاتقه، وكان يصاب بكآبة وهو يرى أحد الأبطال قد سقط شهيداً.. ما هذا يا أحمد هل أنت حسود لهذه الدرجة ؟! انتفض بسرعة وهو يسمع السؤال في داخله.. كلا.. كلا ولكني أغبطه.. أريد الشهادة أيتها النفس التي لا تهدأ.. وقف جامداً أمام شجرة التوت الكبيرة على جانب الترعة.. عض على شفتيه بقوة.. نعم هنا عذبوا (...).. هنا قتلوا الحاج (...) الرجل الشيخ الذي كان في تقواه وأخلاقه آية من آيات الله.. إلهي أنا لا أحب الموت ولكني أحب الشهادة.. أحب لقاءك.. الهي أحب القتل في سبيلك.. واصل مسيره ومشهد الصحابي لم يفارقه.. وصل إلى البيت، استقبلته زوجته كعادتها مبتسمة وهي تحمل طفلها..

 

أحمد أراك كئيباً؟

 

كان أحمد يخفي آلامه عن زوجته رغم معرفته بقوة إيمانها ولكنه كان يبث لواعجه لوالدته التي كانت تعيش هذه الآلام معه.

 

ـ لست كئيباً وإنما حرارة الجو تجعل الانسان يشعر بما يشبه الكآبة . قال لها ذلك رغم أنه يعرف أنها بحسها الرقيق وحبها إياه تدرك أنه يعيش آلامه في داخله.

 

ولكي لا يترك لها فرصة سؤاله مرة أخرى سألها:

 

ـ هل الوالدة نائمة؟

 

فأجابته بهدوء وهي تغلق الباب خلفه.

 

ـ كلا انها يقضة وقلقة عليك.

 

اتجه إلى غرفة والدته وقد هيأ جواباً حاسماً لما ستطرحه عليه والدته. كانت والدته تصر عليه بالاختفاء بعد أن بدأ جلاوزة النظام يطاردون المؤمنين الذين لهم صلة بانتفاضة المحرم والذين لا زالوا يمارسون جهادهم بالطرق التي تتيحها الظروف المحيطة بالمنطقة، ولما كان أحمد لم يترك فرصة إلا وقد استغلها في إدامة النار التي خلقتها الانتفاضة، فكانت والدته بحسها الأمومي تدرك حجم المخاطرة هذه. كانت الشهادة تلح على أحمد بقوة.. لم تكن هذه الحالة هي حالة يأس يعيشها بسبب ما آلت إليه الانتفاضة من نتائج مادية، فهو يعرف أن الانتفاضة حققت الكثير من النتائج الايجابية على طريق العمل الثوري الإسلامي الذي بدأه المنتفضون، ولكنه اضافة إلى حبه للشهادة كان يدرك أيضاً أن دماء الشهداء ستكون محركاً قوياً لإدامة الانتفاضة في نفوس المؤمنين ليبقى الصراع قائماً بينهم وبين النظام الذي لا يفهم غير لغة القوة..

 

دخل أحمد على والدته بتأني وطرح عليها تحية المساء ثم قبل يدها وجلس بجانبها.

 

ـ ولدي أحمد أنا اعتقد ان جلاوزة النظام لن يتركوك وأن ذهابك خسارة للمؤمنين، فإذا اختفيت ستفيد إخوانك المؤمنين أكثر من وجودك في زنزانات النظام. قالت أم أحمد ذلك وهي تمرر يدها بحنان على رأسه.

 

ـ الا تتصورين يا أماه أن اختفائي سيولد حالة إحباط عند المؤمنين لأنهم سيعتقدون أن الأمر قد انتهى، وأن السلطة استطاعت تنحية الشباب الرسالي من الساحة.. صمت قليلاً وواصل حديثه بنفس النيرة:

 

ـ لم يختف أبو عبد الله (عليه السلام) بل أصر على الشهادة لانه يعرف تماماً أن شهادته هي التي ستبقي جذوة الإسلام مشتعلة.. كان يريد الشهادة لأن الله سبحانه وتعالى أرادها له لكي يبقى الطغاة بخوف دائم.. أراد أبو عبد الله (عليه السلام) يقول لنا هكذا يكون الطريق وإلاّ فغيره مقطوع ولا يوصل إلى هدف..

 

نظر إلى وجه امه التي لم تحرك شفتيها، ورأى دموعها الطاهرة تتحدر على وجنتيها..

 

ادركت أم أحمد أنها لا تستطيع ايقاف أحمد عن رحلته التي تعرف نهايتها لذلك فضلت عدم الرد.

 

خرج أحمد من بنك (بريتش بانك) فرع الدمام الذي كان يعمل به وهو يفكر في المشهد الذي رآه في المنام.. رأى كأن مجموعة من الكلاب المسعورة التي تتصور حيناً بصور القرود وحيناً آخر بصور الخنازير وقد أحاطت به مكشرة أنيابها، غير أنه كان غير عابئ بها وهو يتلو دعاء الصباح لأمير المؤمنين (عليه السلام).. إلهي ان لم تبتدئني الرحمة منك بحسن التوفيق فمن السالك بي إليك في واضح الطريق.. وإن اسلمتني أناتك لقائد الامل والمنى فمن المقيل عثراتي من كبوات الهوى.. هل هذه بشارة.. نعم انها بشارة.. قالها في نفسه. فجأة قفز إلى ذهنه شبح زوجته وهي تحمل طفله.. ترى هل ان سيره في هذا الطريق سيكون خطأ في حقها.. ربما.. ولكن هي ليست أفضل من زينب عليها السلام التي حيرت العقول عندما وقفت أمام طاغية الكوفة لتهزمه بقولها ما رأيت إلا جميلا..

 

توقفت بجانبه سيارة من نوع (جي أم سي)، نزل منها رجل ذو هيئة تدل على أنه من رجال الأمن، توجه نحو أحمد قائلاً:

 

ـ أنت أحمد مهدي آل خميس؟!

 

أجابه أحمد باستغراب.

 

ـ نعم تفضل ماذا تريد؟

 

قال له الرجل بتكلف:

 

ـ تفضل معنا إلى الدائرة لبعض الوقت.

 

قال له أحمد بحدية وهو يرى رجلاً آخر قد نزل من السيارة وهو يضع يده على مسدس في وسطه.

 

ـ أية دائرة أنا لا اعرفكم.

 

لم يمهله الرجلان فمسكوه بقوة وأدخلوه إلى داخل السيارة ثم عصبوا عينيه بعد تكبيل يديه بجامعة.

 

في الطريق المجهول الذي تسير فيه سيارة الجلاوزة تذكر المنام الذي شاهده.. هذه نفس الوجوه التي رآها.. نعم يراها كلاب مسعورة وخنازير وقردة.. الحمد لله انها بشارة..

 

سأله الرجل البدين  الجالس وراء المنضدة بجدية:

 

ـ (شوف أحمد هذه ورقة وقلم ما عليك إلاّ أن تكتب لنا أسماء جماعتك وكل الأمور ستكون في صالحك).

 

أخذ أحمد يردد بصوت مسموع دون ان يكترث للخنزير البدين الذي يجلس أمامه: الهي كيف تطرد مسكيناً التجأ إليك من الذنوب هارباً أم كيف تخيب مسترشداً قصد إلى جنابك ساعياً أم كيف ترد ظمئآناً ورد إلى حياضك شارباً.. كلا وحياضك مترعة في ضنك المحول وبابك مفتوح للطلب والوغول وأنت غاية المسؤول ونهاية المأمول..

 

صرخ به البدين:

 

ـ ماذا تقول؟

 

اجابه أحمد وهو يبتسم:

 

ـ أنت بهيمة لا تفهم كلام الآدميين.

 

انهالت عليه الضربات من كل جانب.. فقد الاحساس بكل شيء.

 

ـ ابنتي العزيزة هذا الثوب لا يليق أن تلبسيه فغداً من أعظم الأيام.. غداً سيكون عيد الغدير ولا بد لك من أن تغيري هذا الثوب.. قالت أم أحمد ذلك لزوجة ابنها.

 

ـ هل تتصورين كم ستكون الفرحة كبيرة لو أن أحمد قد اطلق سراحه غداً؟..

 

أطرقت أم أحمد بعد أن تأوهت.. كانت تعرف ولدها جيداً فهو لن يرضى بغير الشهادة، وانه من المستحيل أن يتراجع عما عزم عليه:

 

ـ الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء قدير.

 

قالت ذلك وانسحبت إلى غرفتها لكي لا تشاهد زوجة ابنها دموعها التي بدأت تترقرق في عينيها.

 

نهضت أم أحمد من مصلاها بعد أن صلت ركعتي يوم الغدير المستحبة وأخذت تطوي سجادة الصلاة عندما سمعت طرقاً على الباب.. اتجهت مسرعة نحو الباب.. تسمرت في مكانها وهي ترى تابوتاً فوق سيارة الـ (جي أم سي).. أدركت ان التابوت يحمل فلذة كبدها.. استدارت إلى الخلف وهي مستندة بيدها اليسرى على الباب وصاحت:

 

ـ لقد صدق حدسك فهذا زوجك قد خرج من السجن.

 

في عيد الغدير في تاريخ 18/ 12/ 1416ﻫ. الموافق لـ 23/ 8/ 1986م.