بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏

 

{رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر اللَّه وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار}

 

صدق اللَّه العلي العظيم‏

 

بطاقة الهوية

 

الاسم: حسين محمد ملك‏

 

اسم الأم: أمون موسى ملك‏

 

محل وتاريخ الولادة: بيت ليف 1973

 

الوضع العائلي: متأهل وله طفلة

 

رقم السجل: 26

 

مكان وتاريخ الاستشهاد: 7 - 12 - 1994

 

يصدحُ صوته في أرجاء القرية «حي على خير العمل»، فتستشعرُ الأرض رنّاته بكُلها كما الأم حين تسمعُ مناغاة طفلها لأول مرة فتسابق لأخذه بين ذراعيها فرحاً به... وصوتُ حسين كان بالنسبة للأرض المسبية الأنس الذي يُشعرها بطعم الوجود كلما أزفَ وقتُ الصلاة، ويُسكت أنين شوقها عندما يتأخر همسُ رصاص المجاهدين في سمائها...

 

منذ صغره وهو مؤذن القرية، فصاحب الصوت الجميل كان يعشقُ تلاوة القرآن وقراءة الدعاء في بيت اللَّه، وكلما لهجت شفتاه بمناجاةٍ تعلقت روحه بأستار الرحمة الإلهية تستجديها المغفرة والصفح الجميل...

 

وإذا كان حسين هو صغير العائلة المدلل والمحبوب، فهو أيضاً الفتى الواعي الذكي الذي ينم هدوؤه عن مكنونات من أسرار لا يعرفها إلا اللَّه، فهو وبالرغم من شخصيته المحبوبة والفكاهية، شاب غامض كتوم من الصعب الوصول إلى حدودٍ في حياته تمكنك من معرفة أشياء بداخله أكثر مما هو يرغب، ففتحُ الأوراق ملك يمينه لا أكثر ولا أقل...

 

كان العشق الإلهي الذي تربى عليه بين والديه واخوته، قلادة العز التي زينت صدره طوال عمره، وإيمانه العميق هو الحقيقة الواضحة التي واجه بها بكل بأس الواقع المرير الذي أحاط به. فمن غير الطبيعي على فتىً كحسين سعى إخوته دوماً لتأمين راحته أن تكون حياته مفصلاً لحياتهم جميعاً وجعلها في مسارٍ خاص من الصعب جداً السير عليه...

 

كانت قرية بيت ليف الحضن الدافى‏ء لحسين، ومكانه الطبيعي، غير أن الاحتلال الإسرائيلي حوّلها إلى قيدٍ يشدُّ الخناق على رقابٍ أبت أن تنحني إلا للَّه الواحد القهار، فغادر البيت الصغير الآمن جميع الأبناء ما عدا حسين، لصغر سنه، غادروا خوفاً من بطش الجيش الصهيوني وجلاوزته من عملاء لحد، وأكثر ما كان يثير اشمئزاز حسين إبان تواجده في القرية هو رؤية عميل، فكان يصرّح عن رأيه بهم دون خوفٍ أو وجل، ويتمنى أن ينالوا عقابهم العادل في الدنيا قبل الآخرة، وحلمه المشاركة في قتل أكبر عدد ممكن من اليهود، ففي عمر العشر سنوات كان ورفيقه في نزهة لصيد العصافير وصادف أن مرت دورية إسرائيلية مؤللة، فوقف يراقبها بصمتٍ فسأله صديقه عن سر تلك النظرات، فأجابه أنه يتمنى في لحظة أن تتحول بندقية الصيد إلى «كلاشينكوف» حتى ينقض عليها...

 

لكن بقاءه في القرية خلال القبضة الحديدية للجيش الإسرائيلي على جنوب لبنان صار شبه مستحيل، خصوصاً وأن إخوته القاطنين في بيروت من المعروفين بانتمائهم الديني والسياسي للمقاومة الإسلامية، فغادر القرية في العام 1985 قبل أن يُلاحق من جيش العملاء للخدمة الالزامية... وعبر حسين الحواجز الإسرائيلية إلى بيروت ليبدأ هناك مرحلة جديدة من حياته التي بدأ بكتابة صفحاتها بالحبر السري... وفي منطقة القنطاري عاش مع إخوته الذين احتضنوه وساندوه لينسجم مع المجتمع الجديد، وانضم إلى كشافة الإمام المهدي (عج) لتكون تلك البوابة الواسعة التي مكّنت الاخوة في المقاومة الإسلامية من معرفة حسين حقيقة المعرفة لانتقائه لأعمالٍ دقيقة ومهمة...

 

وفجأة صار حسين يلحُّ على أخيه أن يعلمه قيادة السيارة، استغرب أخاه هذا الاصرار العجيب منه، فأقنعه حسين بأنه قد يوفق للقيام بعملية استشهادية، عندها استجاب أخاه لطلبه وعلمه القيادة...

 

قضى حسين وقته في بيروت بين المسجد ومركز الكشافة، وتلقى دروساً ثقافية عالية المستوى، إلى أن التحق بأولى دوراته العسكرية ليعود منها شخصاً أكثر صلابة وأعمق روحانية...

 

كان العمل الوحيد الذي يقوم به حسين هو قراءة الدعاء ورفع الآذان، وغير ذلك لم يستطع أحد معرفة ما يجول في رأسه، ولكن سقوط الشهداء، وخصوصاً استشهاد ابن عمه الشهيد العبد ملك، كان يحزُّ بنفسه، ويتمنى أن ينال هذه الكرامة التي اختصها اللَّه للمخصلين من عباده...

 

عند نشوب آخر معارك الحرب الأهلية في لبنان أواخر الثمانينيات، عاد حسين إلى قريته مع أهالي القرية العائدين، لكن ما ميز عودته أن كان لها هدف آخر غير الهروب، وقد حاول إخوته منعه بشتى الطرق خوفاً عليه من بطش العملاء فمضى بقلب مطمئن.

 

وعاد حسين إلى قرية بيت ليف رجلاً واثق الخطى، ولم يغير شيئاً من عاداته التي تعودها، فهو مؤذن القرية وصار يقرأ دعاء كميل كل ليلة جمعة، ما جعل العملاء ينظرون إليه نظرة استياء، لكن حبّ أهل القرية الكبير له، كان يمنع المضايقات عنه، إلى أن جاء العام 1990 حيث قامت قيادة جيش العملاء بحملة للتجنيد الاجباري في كل قرى الجنوب، وكان من ضمنهم اثنا عشر شاباً من قرية بيت ليف منهم حسين الذي قرَّر هو وبعض الشباب الهروب من هذا التجنيد، غير أن رؤيتهم لأهل بعض الشباب يضربون ويعذبون جعلهم يعدلون عن رأيهم والقبول بالأمر الواقع (ظاهرياً)، لتبدأ من ذاك التاريخ مهمة حسين ملك في جيش العميل لحد...

 

بعد خضوعه لدورة تدريبية، صار حسين من المجنَّدين الأكثر مراقبة، فهو كان يرفض أن يسلّم على عميل قبل دخوله إلى المسجد، ولم يتوقف طرفة عين عن تربية نفسه تربية محمدية أصيلة بما اختزنته روحه من تعاليم الإمام الخميني العظيم (قده)، فواظب على صلاة الليل، وعلى القيام بالعديد من المستحبات، فهو بحق (عميل ملتزم)...

 

أولى مواجهاته العنيفة مع مسؤول أمن الميليشيا حصلت أثناء تبادل النيران مع المقاومة الإسلامية، حيث قام حسين بقصف الوجهة الخطأ المطلوب قصفها، ما أثار غضب مسؤوله ودار شجار عنيف بينهما أدى إلى رمي المسؤول اللحدي حسين عن الطابق الأول، هذه الحادثة جعلته تحت المراقبة، غير أنه لم يرتدع عن بيع نوباته للعملاء بمبالغ زهيدة أحياناً وغالياً أحياناً أخرى، وعندما علم المسؤول الأمني بذلك ساقوه إلى التحقيق، واتهموه أنه يتهرب من نوباته عندما يكون هناك عملية للمقاومة الإسلامية، بعد ذلك، وعقاباً له تقرر نقل خدمته إلى منطقة برعشيت حيث يكون رغماً عنه في مواجهة المقاومة، وبالتالي قد يموت أثناء مواجهة ما، لكن حسين بقي يبيع نوباته للعملاء وإن بلغ عددها الأربعة أيام، فاستدعي للتحقيق مرَّة أخرى وهددوه بأخذه إلى معتقل الخيام، وكان دائماً يتحجج بأنه عاجز عن الحراسة وأنه مريض، ويدعي أحياناً أن رجله مكسورة.

 

في يوم من أيام شهر رمضان المبارك، تم ارسال مجموعة من العملاء لنصب كمين لمجموعة من المقاومة قبل الغروب بزمنٍ قصير، وعندما حلّ الافطار طلب حسين إلى الصائمين أن يشاركوه افطاره في مكانٍ مرتفع حتى يتسنى لرجال المقاومة رؤيتهم فلا يقصفونهم، ولكن ذلك أدى إلى وضعه في معتقل الخيام لمدة 17 يوماً تعرض خلالها لأبشع أنواع التعذيب، وإزاء ذلك أعادوه إلى القرية حتى يبقى تحت الأنظار...

 

عندما خدم حسين في موقع برعشيت كان على علاقة طيبة مع العميل المزدوج عدنان سرور، غير أن أحداً منهما لم يصرح للآخر بطبيعة عمله. أما صديقه المقرب فكان العميل المزدوج الشهيد عبد اللَّه قاسم الذي كلما زاره في بلدته خرجا إلى مكان بعيد وتحادثا بأمور لم يعرفها أحد غير اللَّه تعالى.

 

بعد تعرض حسين للكثير من المساءلات قام أحد الأخوة من المقاومة الإسلامية بابلاغ إخوة حسين ببيروت أنه من الممكن أن يكون عمل حسين في جيش لحد قد انكشف ما يعرِّضه للقتل في أية لحظة، فارتاح بال إخوته المضطرب، خصوصاً وأنهم كانوا يشكون في أن حسين صاحب الإيمان العميق قد استسلم لأمر الاحتلال الواقع.

 

لم يكن حسين يقتطع من راتبه في جيش لحد سوى القليل الذي يساعد على العيش أما الباقي فيوزعه على الفقراء والمساكين، وقد رفض أن يشيد منزلاً عندما طلبت إليه أمه ذلك، مؤكداً لها أنه لا يريد أن يعيش في مال حرام.

 

كان حسين يعمل بمنتهى السرية والكتمان، حتى أن والداه لم يلاحظا أي شي‏ء، مع أنهم كجميع أهل القرية كانوا يشعرون أن شاباً كحسين مستحيل أن ينتمي إلا ل«حزب اللَّه»... وعندما تزوج بدأت أمه وزوجته تشكان بأمر لم يلمسا منه أي دليل للتأكد منه...

 

كانت زوجته حاملاً عندما استشهد حسين وهو يقوم بواجبه الجهادي داخل القرى المحتلة، ليختم عمره الجهادي السري بصمتٍ وهدوء وليبقى من الجنود المجهولين الذين خدموا المقاومة الإسلامية في أحلك الظروف، وساهموا في انجاح العديد من الأعمال الجهادية... وبعد مرور عامٍ على التحرير أعلنت قيادة المقاومة الإسلامية عن استشهاد أحد عناصرها من العملاء المزدوجين في قرية بيت ليف، وهو الشهيد المجاهد حسين ملك، ليكون ذلك الاعلان هو العنوان الواضح والصريح لحياة رجل لم تغير الأزمنة ولا الأمكنة من جوهر التزامه العميق...

 

هكذا هم: يكبرون في زمن الصغار... ويخلدون في أمكنةٍ يتآكلها النسيان، ولا يغيبون، فهم شموع تنير ظلام القلوب، وأسماؤهم محاريب دعاء نتقرب بها إلى اللَّه العزيز...