الشهيد آية الله الشيخ محمد صدوقي أحد شهداء المحراب(الشهيد الرابع)

 

مولده ونسبه

في عام 1327 هــ، ولد لعائلة علمية في مدينة يزد ولد أسموه محمد. والده المرحوم الميرزا أبو طالب كان من العلماء الورعين في تلك الديار وكان يقيم صلاة الجماعة في مسجد محمدية المعروف بــ(حظيرة). كما كان ممن يرجع إليه الناس، ولاسيما في تنظيم عقودهم ووثائقهم ومعاملاتهم، لما كان له من سلوك حسن معهم.

 جده الميرزا محمد رضا الكرمانشاهي كان أيضاً مرجعاً لحل مشكلات الناس ومن علماء منطقة سفح كوير الكبير. وهو بدوره ابن المرحوم الآخوند ملا محمد مهدي الكرمانشاهي الذي نفاه فتح علي شاه القاجاري إلى يزد وتوفي هناك عام 1236 هــ.

 وبحسب ما كتب على حجر قبر الآخوند ملا مهدي الكرمانشاهي، يرجع نسب صدوقي إلى الشيخ الجليل الفقيه أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن موسى بن بابويه القمي المعروف بالشيخ صدوقي (رضوان الله تعالى عليه).

 فقد محمد أباه في سن السابعة وأمه في التاسعة.  

 

دراسته

 تحت رعاية ابن عمه المرحوم الميرزا محمد الكرمانشاهي، أخذ بدراسة علوم الدين، حيث درس كتابي اللمعة والقوانين في مدرسة عبد الرحيم خان في يزد، وتزوج في سن العشرين من ابنة عمه. وفي عام 1348 هــ قصد أصفهان وحوزتها العريقة لمواصلة الدراسة فيها، فسكن في مدرسة چهارباغ (الإمام الصادق حالياً)، وهي من المدارس الجميلة المتبقية من العهد الصفوي.

 ومن حوادث ذلك العام، شتاؤه القارص الذي اضطر الشهيد بسببه إلى مسيرة شهر على الأقدام عن طريق قمشه وآباده لكي يعود بمشقة إلى يزد. وبعد سنة قضاها في بلدته يزد، هاج به هوى السفر إلى قم وحوزتها العلمية التي كان قد أسسها حديثاً آنذاك سماحة الشيخ الكبير عبد الكريم الحائري. وهكذا شد الرحال إلى مدينة الجهاد والاجتهاد. والشهيد نفسه يذكر أن تاريخ سفره إلى قم كان في عام 1349 هــ وأنه لبث فيها واحداً وعشرين سنة.

 كانت إقامته في قم قد تزامنت مع السنة السادسة للحكم الاستبدادي لرضا خان الذي شدد هجماته على علماء الدين؛ فقد كان ذلك في وقت ينشر فيه أزلام رضا خان الرعب بين الناس، ويعتبرون ارتداء لباس العلماء جريمة، ويمنعون المجالس الحسينية، ويضيقون بشدة على مؤسس الحوزة، ويجبرون الناس على ارتداء السترة والبنطلون والقبعة البهلوية. فرضا خان كان قد تخلى في حينها عن التظاهر بالقدسية وكشف عن وجهه الحقيقي.

 يقول الإمام الخميني شارحاً أجواء ذلك العصر:" منذ أن... جاء رضا خان وقام بذلك الانقلاب، لعلكم لا تذكرون، أكثركم لا يذكر، ولعل بينكم من يذكر، ولكنني أذكر وشهدت ذلك. منذ البداية، وبالتدريج، لا دفعة واحدة، عندما جاء بدأ أولاً بالتظاهر بالقدسية كما كان يفعله ولده وبدأ بالتملق أيضاً. فمثلاً ــ أذكرــ أنه قيل في أحد أشهر المحرم ذهب (رضا خان) هذا إلى كل أماكن إقامة العزاء في طهران فزارها وشارك في العزاء، وهو بنفسه كان له مجلس عزاء في هيئة القزاق [الجيش]، وكان له كذلك قضايا التبليغ والدعوة وكل ذلك، حتى إذا استقر شيئاً فشيئاً، وثبتت قدمه، عند ذلك كشف عن وجهه الآخر؛ فمنع كل مجالس التعزية والوعظ والخطابة في كل إيران. كانت المجالس في قم بهذا الشكل، كان لجناب صدوقي مجلس يبدأ قبل أذان الصبح وينتهي أوائل الأذان، ويقتصر على بعض الأفراد، وأحتمل أنهم حالوا دون إقامته أيضاً. كل ما كان يرتبط بالدين بدأ يحول دونه واحداً بعد آخر؛ بدأ يشدد على علماء الدين بحيث كان لي أنا في المدرسة الفيضية درس، يحضره عدد قليل، فذهبت يوماً فلم أجد إلا شخصاً واحداً! قال هذا الشخص إن الآخرين هربوا جميعاً، ذهبوا إلى البساتين! طلبة العلوم الدينية في المدرسة كانوا يفرون قبل طلوع الشمس، كما قيل، إلى الغابات. يذهبون ليعودوا آخر الليل..! كانوا يبتغون اقتلاع جذور هذا الزي بالكامل".

 وبعد مدة في قم، أخذ الشهيد يحضر درس الحاج الشيخ عبد الكريم الحائري الذي أخذ بدوره يهتم به ويعتمد عليه، الأمر الذي جعل الطلاب يرجعون إليه في حل مشكلاتهم. وبوفاة آية الله الحائري في عام 1355هــ من بعد قضية نزع حجاب النساء الإجباري في إيران، تنفس رضا خان الصعداء ليستغل الفراغ الذي حصل في المرجعية ويضيق الخناق على علماء الدين، بحيث آل الأمر إلى يأس الجميع ولجوئهم إلى الدعاء والتوسل. يقول الشهيد صدوقي نفسه: "ضاق الأمر على أهل العلم، فجرت بعد ذلك ابتهالات من بعض أهل العلم، وكان ذلك مؤثراً جداً. كانت الدراسة في حينها صعبة جداً، لأن قم لم يكن فيها مرجع، ذلك أن مرجع التقليد كان المرحوم السيد أبو الحسن الأصفهاني وكان يقيم في النجف".

 وبعد رحيل مؤسس الحوزة العلمية في قم، كان آيات الله الثلاث في قم آنذاك السيد محمد تقي الخوانساري (1295- 1371هــ) والسيد صدر الدين الصدر (1299 – 1377 هــ) والسيد محمد الحجة الكوهكمري (1310- 1373 هــ) يتبادلون لسنوات مشاق إدارة الحوزة العلمية. وكان آية الله صدوقي يسارع إلى إعانتهم بكل همة ونشاط:

 "بعد وفاة آية الله الحائري، وقع الكثير من أعباء الحوزة على عاتقنا، فبالإضافة إلى تولي شؤون المدارس كان توزيع رواتب الطلاب تحت إشرافنا أيضاً".

 وإلى جانب إدارة شؤون الحوزة والدراسة لدى الآيات الثلاثة، كان هو بدوره أيضاً يعطي دروس مرحلة السطوح التي استقبلها الطلاب الشباب لما كان يتمتع به من بيان جميل وحافظة قوية ومحضر لطيف، بحيث إن أغلب الفضلاء والمدرسين في الحوزة العلمية اليوم يذكرون دروسه الجميلة في شرح اللمعة وغيرها من دروس مرحلة السطوح.

 كان اندلاع الحرب العالمية الثانية وهروب رضا خان قد نفخ روحاً من الحرية وكسر ظلال الاستبداد. في تلك الأعوام، استعادت الحوزة العلمية في قم نشاطها وأدت الجهود التي كان يبذلها الآيات العظام إلى تزايد عدد الطلاب.

 ومنذ دخوله قم، اجتذبت آية الله صدوقي صداقة الإمام الخميني بحيث كان كل منهما يشارك في مجالس الآخر:

 "عندما دخلت قم في عام 1349 هــ، تعرفت بالإمام الخميني من بعد يومين أو ثلاثة، وبالتدريج تطورت علاقتنا إلى صداقة حتى كنت أحياناً أقضي الليل والنهار معه".

 في الرابع عشر من محرم عام 1364 هــ، دخل آية الله العظمى البروجردي مدينة قم باستقبال حار من مئات العلماء الكبار والناس. "عندما أدخل آية الله البروجردي إلى مستشفى فيروزآبادي بسبب مرضه، في هذه الأثناء، أخذ بعض أهل العلم والأساتذة يفكر بدعوته إلى قم، ولذلك أخذوا يرسلون إلية الرسائل من قم والتقته شخصيات مندوبة عن علماء الدين. فذهبتُ مع صهر آية الله الصدر إلى المستشفى وعدنا مع آية الله البروجردي إلى قم. وكان الجهد الأساس في مجيء السيد البروجردي إلى قم هو من قبل آية الله الخميني، فهو كان يصر كثيراً على القيام بذلك".  

 

التعاون مع فدائيي الإسلام

 السيل العارم الذي أحدثته حركة فدائيي الإسلام والحماس الذي أثارته في الحوزة، جر معه صدوقي أيضاً؛ فقد كان من جملة العلماء الذين نهضوا للدفاع عن هذه الحركة التي انبعثت من وسط علماء الدين، حيث كانت داره ملجأً لها في الأخطار:

 "في أيام فدائيي الإسلام، كان على اتصال وثيق بهم. حتى نواب صفوي في تلك الظروف العصيبة، كان المكان الوحيد الذي يختاره ملجأً له هو دار أبي. كان يطرق الباب في الليل ويدخل ويقول: أنا ملاحق ولجأت إليكم. فيفتح الباب له بوجه طلق ليختفي في دارنا عدة أيام".

 "في الليلة التي جاؤوا فيها بجنازة البهلوي [رضا خان]، كان له دور كبير في ألاّ يصلي عليها أحد في قم، والتظاهرات التي جرت في المدرسة الفيضية على الإتيان بالجنازة عند إدخالها إلى الصحن رتبتها مجموعة، منهم آية الله صدوقي... في عام 1329ــ1330هــ.ش أخذ المقر الثاني والشرطة في قم بملاحقة فدائيي الإسلام بمن فيهم الرجل الثاني فيها السيد محمد واحدي، الذي لجأ إلى دار آية الله صدوقي. فأخفاه في دولاب صغير (خزانة الملابس) خلف مرآة كبيرة، حيث داهم رجال الشرطة والمقر الثاني الدار مرتين في منتصف الليل ليلقوا القبض على السيد واحدي، إلا أنهم للطريقة التي اتخذها آية الله صدوقي لم ينالوا مرادهم وتركوا الدار معتذرين. أنا كنت أيضاً أعلم بالموضوع، وكان السيد واحدي يمارس الرياضة في الليالي والأسحار في باحة الدار الصغيرة لكي لا يصاب بألم نتيجة جلوسه في الدولاب".   

 

عودته إلى يزد

 بقي آية الله صدوقي إلى عام 1330هــ.ش يمارس التدريس ويطلب العلم ويقوم على خدمة الطلاب تحت ظل زعيم الحوزة العلمية، كما كان في أيام فراغه يمارس الزراعة في منطقة عباس آباد ليعيش بعرق جبينه، إلا أنه أخيراً وعلى أثر إصرار الناس والعلماء في يزد وخاصة العالم الفذ المرحوم السيد علي محمد الوزيري، وكذلك البرقيات العديدة التي أرسلت إلى آية الله البروجردي وغيره من المراجع، عاد آية الله صدوقي إلى يزد على الرغم من الموقع الممتاز الذي كان له في قم، ليستقبله الناس هناك بحفاوة لا نظير لها؛ "حمله الناس على أكتافهم تقريباً مسافة ثمانية كيلومترات، وكلما دخل مدينة أو قرية أهلها".  

 

جهوده العلمية والثقافية في يزد

 وبدخوله يزد، بدأ آية الله صدوقي بإعطاء الدروس وتقديم الخدمات العمرانية والثقافية. وكانت خدماته قد بلغت حداً شبهه بعضهم بالخضر (ع)، لما قيل من أن الخضر أينما كان يجلس كان يونق المكان به ويخضر، وآية الله صدوقي أيضاً، أينما حل ترك آثار خير وباقيات صالحات يذكر بها.  

 

صدوقي والنهضة

 من بعد قضية لجان المحافظات والمدن في شهر مهر (الشهر السابع) من عام 1341 وإقراره من قبل النظام في حذف قيد "الإسلام" من شرائط الناخبين والمنتخبين، وحذف كلمة "القرآن" وإبدالها بــ "الكتاب السماوي" عند أداء اليمين، وإعطاء حق الرأي للنساء لاختبار طبيعة رد فعل علماء الدين وتهيئة الأجواء للتجاوز على حريم القرآن والقضاء عل الدين والتلاعب بالدستور الإيراني لتغيير بعض مواده وإعداد أرضية عمل ومناصب لغير المسلمين، وموقف علماء الدين من هذه القضية بقيادة الإمام الخميني، قام آية الله صدوقي أيضاً بالكشف عن هذه المؤامرة الغادرة وتعبئة العلماء في المنطقة لمواجهتها:

 "في عام 1341 عندما بدأت قضية لجان المحافظات والمدن، كنت على اتصال مباشر بالإمام الخميني، وتردد الكثيرون هنا، وكانت إدارة جمع العلماء وإرسال البرقيات حول هذه اللجان تحت إشرافي تقريباً. وكانت المجالس تعقد بشكل غير معتاد، وتقريباً في كل يوم وليلة يعقد اجتماع لعلماء الدين، والحمد لله اضطرت الحكومة إلى إلغاء هذا المشروع على أثر الجهود والضغوط التي قام بها السيد الخميني ".

 

وقد عكس التقرير المرسل إلى مديرية الساواك الموضوع بالشكل التالي:

 "في يوم الخميس 25 آبان (الشهر الثامن)، اجتمع عدد من العلماء والوعاظ في دار السيد صدوقي وقرروا طرح الموضوع أعلاه على الناس من على المنابر وتوجيه الرأي العام لصالحهم. في يوم الجمعة 26 آبان (الشهر الثامن) انعقد مجلس عزاء في مسجد (حظيرة) بحضور كبير، فارتقى عدد من الوعاظ المنبر وقرأوا للناس أولاً نص البرقية التي وجهها آية الله الخميني إلى رئيس الوزراء...".

 وبعد أن استتبت حالة الاعتراض من قبل علماء الدين ومتابعة الناس لهم وتواصل ضغط الإمام الخميني، نشرت الصحف بعناوين كبيرة في العاشر من دي (الشهر العاشر) من تلك السنة إعلان الحكومة عن عدم إمكان تنفيذ اللائحة.

 وبإقرار الاستفتاء المزيف لمشروع أمريكا في الثورة البيضاء تحت عنوان اللوائح الست في التاسع عشر من دي (الشهر العاشر) 1341 وتنفيذه في السادس من بهمن (الشهر الحادي عشر) من السنة نفسها، والموقف الحازم للعلماء وكبار المراجع تجاهه، أخذ آية الله صدوقي يقوم بدور المنسق في يزد من أجل تعبئة الناس وعلماء الدين ضد الثورة البيضاء:

 "جاءت قضية المواد الست التي اقترحها الشاه ورأى الجميع أنها أسوأ من قضية لجان المحافظات والمدن، كان السيد الخميني أول المعترضين. بعض السادة لم يكونوا مستعدين للتعاون في البداية، ولكن الأمر آل شيئاً فشيئاً إلى أنهم اضطروا أيضاً للتعاون وأخذوا بإرسال البرقيات من هنا وهناك وإصدار البيانات، وهنا (يزد) أرسل علماء الدين برقية وأصدروا البيانات. في تلك الأثناء، جاء أحدهم من قبل الساواك وقال أنا مكلف بمراقبتكم، ما هو دوركم؟ فذكرنا له دورنا علناً والأعمال التي كنا قد قمنا بها وأريناه البيانات والبرقيات جميعاً، وقلنا: نحن على هذا الطريق إلى آخر نفس، فنفذوا على وجه السرعة كل ما هو مقرر فعله من قبل الساواك بحقنا! ولأنه لم يكن لديهم حجة صحيحة لم يتمكنوا من ملاحقتنا".

 وفي حركة غير إنسانية، قام النظام في الثاني من فروردين (الشهر الأول) عام 1342 الموافق لشهادة الإمام الصادق (ع) بإرسال عدة من أزلامه متنكرين بلباس القرويين إلى المدرسة الفيضية ليهاجموا مجلس العزاء الذي أقيم هناك، ويقوموا بضرب عدد كبير من الناس وطلبة الحوزة، ويكسروا أبواب ونوافذ المدرسة. فأرسل علماء يزد بقيادة آية الله صدوقي بياناً وجهوه إلى الإمام الخميني يدينون فيه هذه الفاجعة. نص البيان وجواب الإمام الخميني كما يلي:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 إلى حضرات الآيات العظام ومراجع التقليد في قم ولا سيما سماحة آية الله العظمى الخميني أدام الله ظله العالي

 إنا لله وإنا إليه راجعون

 الحادثة المؤلمة بسبب إهانة وضرب وقتل جمع من طلاب العلوم الدينية في المدرسة الفيضية، ليست أمراً يمكن محوه من ذاكرة المسلمين بسرعة لتلتئم جراحات قلوبهم بمرور الأيام. لقد بلغت القلوب الحناجر لفرط الآلام، وإذا كنا لم نوفق إلى الآن لتقديم التعازي إليكم، فقد اكتفينا بتلك الآلام والأحزان. والآن ونحن نقدم لكم التعازي نُعلم سماحاتكم أنه مادامت الأرواح في أبداننا والنفس يتحرك فينا، فنحن طبقاً لقرارات العلماء الأعلام وإرشادات الآيات العظام، لن ندخر جهداً في سبيل صيانة شعائر الإسلام وأحكامه، وكونوا على يقين بأن الأوهام الساذجة سوف تتلاشى، وأنه بعنايات إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف ستطرق مسامع المسلمين النتائج الوخيمة لمن خالف الدين والقرآن ووخز قلوب المسلمين {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون}.

 أسد الله آية اللهي، الحاج الشيخ الأحمدي، السيد علي محمد الوزيري، الحاج الميرزا السيد علي محمد الكازروني، الحاج الشيخ علي العلومي. محمد صدوقي، الحاج الشيخ محمود الأردكاني فرساد، السيد محمد المدرسي، السيد جواد المدرسي، جلال آية اللهي.

 رسالة آية الله العظمى السيد الخميني في جواب العلماء الأعلام وحجج الإسلام في يزد:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 مع احترامي وتقديري، أسأل الله تعالى السلامة والتوفيق لحضرات السادة في إعلاء كلمة الإسلام وبناء صرح الدين. لا بد لي من أن ألفت نظر السادة إلى الأعمال السابقة والحالية لجهاز الطاغوت؛ ففي السابق أهان الإسلام والقرآن وأراد جعل القرآن إلى جانب الكتب المحرفة. واليوم بالإعلان عن المساواة، يتم محو العديد من الأحكام الإسلامية الضرورية. فمؤخراً، ألغى وزير العدل في مشروعه اشتراط الإسلام والذكورة في القضاء. ومن الأمور التي تثبت سوء نوايا الحكومة الحالية هي التسهيلات التي قدمتها لسفر أكثر من 2000 شخص من الفرق غير الإسلامية وأعطت كلاً منهم 500 دولار ونحو من 1200 تومان كتخفيض في بطاقات الطائرة، وذلك بهدف مشاركتهم في محفل لهم في لندن مضاد للإسلام مئة في المئة. هذا في حين يضعون شتى العراقيل في طريق حجاج بيت الله الحرام ويمارسون أنواع الإجحاف والاختلاق لنفقات لا تحصل.

 أيها السادة، لا بد أن تعلموا أن أغلب المناصب الحساسة بيد هذه الفرقة التي هي في الحقيقة عميلة لإسرائيل. خطر (إسرائيل) قريب من الإسلام وإيران جداً. المعاهدات مع (إسرائيل) في قبال الدول الإسلامية عقدت أو يجري عقدها. يجب على العلماء والخطباء المحترمين توعية سائر طبقات الشعب لكي نتمكن من تلافي الأمر في الموقع المناسب. اليوم ليس يوماً يمكن أن نعمل به بسيرة السلف الصالح. بصمتنا وتنحينا سنفقد كل شيء.

 للإسلام علينا حق، للنبي علينا حق، في هذا الوقت الذي تتعرض فيه الجهود الجبارة لتلك الشخصية للزوال يجب على علماء الإسلام ومن لهم صله بالدين المقدس أن يؤدوا دينهم. إني مصمم ألاّ أقعد حتى أُقعد الجهاز الفاسد مكانه أو أفد على الله تعالى بعذر، وأنتم أيضاً يا علماء الإسلام احزموا أمركم واعلموا أن النصر لكم. والله متم نوره ولو كره الكافرون.

 زاد الله الإسلام والمسلمين وعلماء الإسلام عزة ورفعة.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 روح الله الموسوي الخميني

 

وبعد الخطبة التاريخية الحماسية للإمام في عصر يوم عاشوراء من عام 1383هــ الموافق للثالث عشر من خرداد (الشهر الثالث) 1342هــ.ش في المدرسة الفيضية، قام النظام بتعبئة الآلاف من قواته المسلحة ليعتقل الإمام في الساعة الثالثة من ليلة الخامس عشر من خرداد، فأخذوه أولاً إلى نادي الضباط ثم إلى معسكر عشرت آباد.

 بعد خبر اعتقال الإمام الخميني الذي ذاع في البلاد كلها خلال فترة وجيزة، خرج الناس في تظاهرات عظيمة شكلت بمجموعها "حادثة الخامس عشر من خرداد". ومن التحركات المصيرية الأساسية التي جرت عند اعتقال الإمام الخميني هو التحرك الجماعي للمراجع والعلماء من الطراز الأول في قم والمدن الأخرى ليطالبوا بصورة رسمية نظام الشاه بإطلاق سراح الإمام بلا قيد ولا شرط. ومن هؤلاء العلماء آية الله صدوقي.

 "عندما تصاعد الأمر وأضحت كل المدن والمناطق مع آية الله الخميني، وقعت حادثة الخامس عشر من خرداد في طهران والتي وافقت الثاني عشر من محرم، هنا (يزد) كان هناك مجلس كالعادة في مسجد ملاّ إسماعيل وبحضور مكثّف جداً. كانت الأخبار تتوالى، ومنها خبر الخطاب التفصيلي لآية الله الخميني في عصر يوم عاشوراء في المدرسة الفيضية ضد الشاه الذي لم يكن يتوقعه الناس على الإطلاق. من الذي يمكنه أن يمس اسم الشاه بلا وضوء؟! وفي ذلك اليوم ضرب السيد الخميني الشاه بشكل لم يُبق له ماءً في وجهه، وقال له لا تفعل ما يجعلك كأبيك الذي عندما ذهب من هنا فرح الناس واحتفلوا، وقد سمعتم حتماً بقية الخطاب. وفي الليلة التالية ألقوا عليه القبض وأخذوه إلى طهران، ومن بعدها أخذت مجاميع العلماء من كل مدينة ومحافظة تذهب إلى طهران اعتراضاً على ما أصاب الإمام الخميني. السيد الميلاني من مشهد، السيد النجفي من قم و... وأنا من يزد.

 كانت الأوضاع في طهران متشنجة جداً بحيث أي دار دخلتها خاف صاحبها، حتى عندما كنا ندخل دور الأقرباء كانت ترتعد فرائصهم. نحن بقينا في طهران حتى قال لنا الساواك يجب عليكم الذهاب. أذكر أننا كنا في دار السيد الميلاني وكان كل القادمين من أهل العلم من المدن هنالك حيث جاء (پاكروان) ــ عليه ما عليه ــ وقال يجب على السادة الخروج من طهران إلى حد يوم الخميس. واعتقلوا الكثيرين أيضاً. ويبدو أن هذا السفر والتجمع لم يثمر شيئاً سوى اشتهار ذهاب الجميع إلى طهران لإنقاذ السيد الخميني وتألم الناس لذلك، وهذا بدوره ثمرة كبيرة وسخط من الناس تجاه الجهاز".

 وقد أرسل ساواك أصفهان عدة كتب إلى يزد يعطي فيها تعليمات ويتابع مراراً عودة آية الله صدوقي من طهران ويأمر بالرصد الدقيق لكل أعماله وتحركاته بمجرد دخوله يزد. وأخيراً في تاريخ 5/6/1342هــ.ش أبلغت شرطة يزد في كتاب إلى مديرية ساواك أصفهان بدخول آية الله صدوقي إلى يزد. وعلى أثر ذلك، قام ساواك أصفهان بإصدار بلاغ إلى المديرية العامة بالشكل التالي: "نعلمكم أن الحاج الشيخ محمد صدوقي، إمام جماعة مسجد (حظيرة) الكبير في يزد، عاد في صباح 1/6/1342 من طهران إلى يزد، ومنذ دخوله أخذ عدد كبير من مختلف فئات الناس يتوافدون على داره للقائه، ولا يزال التوافد على قدم وساق، ولا توجد أي سيطرة من ناحية أفراد أمن الشرطة على هذه القضية".

 وأخيراً في الساعة العاشرة مساءً من يوم السبت 18 فروردين (الشهر الأول)، ومن بعد عشرة أشهر من الاعتقال والسجن، جاء أفراد النظام بقائد النهضة سرّاً إلى قم وأنزلوه مقابل مستشفى فاطمي وتواروا بسرعة. بعد أن ذاع خبر إطلاق سراح الإمام، عم الفرح والسرور كل مكان وتقاطر الناس على قم على شكل مجاميع يسارعون إلى لقاء الإمام؛ علماء البلاد مع أهالي كل بلدة توجهوا واحداً بعد آخر إلى قم. "وأخيراً أطلق سراح الإمام كما يبدو وجاء إلى قم. فذهبت لزيارته عدة أيام حيث كنا نريد الذهاب إلى مكة، وعند عودتنا من مكة بقينا في قم عدة أيام أخرى، حيث كنت أقضي أغلب الليالي والأيام عنده، حتى جاءت مجموعة من يزد وأخذونا إلى هناك".

 بقية العلماء الذين كانوا في طهران بقوا هناك إلى بداية شهريور (الشهر السادس) على الرغم من ضغط وتهديد الحكم الظالم المستبد، وأصدروا في يوم 31/5/42 قرارات تحت عنوان "علماء الدين في إيران لا يجيزون المشاركة في الانتخابات الشكلية"، فحرموا انتخابات الدورة الحادية والعشرين معترضين على اعتقال السيد الإمام وأجواء الضغط والتشديد الحاكمة في البلاد. ومن الموقعين على هذا البيان النادر آية الله صدوقي.

 وقد أرسل قائد قوات المقاومة الشعبية في يزد ونائين كتاباً إلى مدير ساواك المحافظة العاشرة (أصفهان) ضم إليه نسخة من هذا البيان وقال:

 "السيد المذكور أعلاه (صدوقي)... عاد من طهران... وقد وصلنا الآن بيان بطرد بريدي، كتبه الملالي في تحريم الانتخابات وقد صادق عليه هو أيضاً، نرفقه إليكم طيّاً للاطلاع ولأي إجراء قانوني".

 في الحادي والعشرين من مهر (الشهر السابع) عام 1343 عندما أقر نواب مجلس الشاه لائحة صيانة المستشارين والمواطنين الأمريكان وتسرب الخبر بطريق ما إلى أسماع الإمام، أعلن قائد الثورة في الرابع من آبان (الشهر الثامن) في خطاب حماسي عن موقفه من هذه اللائحة، ففضح النظام وعرّاه بالكامل بحيث لم يبق ماء في وجهه. وعلى أثر هذا الخطاب الذي ألقي وسط أنين وعويل الحاضرين، وزعت أكثر من نصف مليون نسخة من بيان الإمام في أنحاء البلاد في وقت واحد، فقام نظام الشاه بتحرك انفعالي سريع في ليلة الثالث عشر من آبان (الشهر الثامن) ليداهم بيت الإمام على عجلة واضطراب واختطفه لينفيه إلى تركيا. وعندما سمع آية الله صدوقي خبر نفي الإمام المؤلم لطم على وجهه وجلس حزيناً يئن في داره وامتنع عن إقامة صلاة الجماعة ومنع الآخرين من إقامتها. كما أمر المؤذنين بالتوقف عن الأذان. "عندما سمع الحاج الشيخ محمد صدوقي خبر [نفي الإمام] لطم على وجهه ورأسه بشكل غير طبيعي وامتنع عن إقامة صلاة الجماعة ولم يخرج من الدار لعدة أيام". واللافت هو حماقة مدير الساواك الذي لم يكن يعرف شيئاً عن صدوقي، إذ فسر اعتراضه وإضرابه هذا على مبلغه من العلم ليكتب بكل وقاحة في ذيل هذا الخبر: "لا بد أنه انقطع عنه المال"!

 يقول آية الله صدوقي: "خلال الفترة التي كان فيها في قم قبل نفيه إلى تركيا، كانت تصل منه أحياناً أوامر وكنا نعمل بها، أذكر أننا كنا قد دعونا السيد الفلسفي للخطابة وكانت تعقد مجالس ضخمة جداً، إذ وصلنا خبر نفي الإمام إلى تركيا في الليلة الخامسة. فقيل أنواصل المجلس أم نعطله؟ فقلنا في الجواب إذا كان القرار ألاّ تقولوا شيئاً ويكون المجلس كالمعتاد، فهذا المجلس لا فائدة فيه، ولكن إذا جرى الحديث عن الموضوع واستطعتم التضحية والحديث عن الإجراء الذي قاموا به، فإنه سيقام المجلس. وأخيراًً جاء أمر بعد يومين أو ثلاثة باستدعاء السيد الفلسفي وإرساله إلى طهران. نحن ذهبنا أيضاً إلى الشرطة وتحدثنا بكل خشونة مع مديرها، وعلى أي حال أرسلوه إلى طهران عند اقتراب وقت الغروب".

 بعد دخول الإمام مدينة النجف في الثالث عشر من مهر (الشهر السابع) عام 1344 وتسني الاتصال به، قام آية الله صدوقي بإرسال برقية يبارك له فيها وصوله إلى النجف: "سماحة حجة الإسلام الحاج الشيخ نصر الله الخلخالي دامت بركاته، أبارك لسماحة آية الله العظمى الخميني دام ظله قدومه وأبلغ سماحته السلام". وكان صدوقي إلى جانب اتصاله به يحاول في كل مناسبة وبشتى الطرق إرسال المساعدات المالية للقائد.

 "عندما انتقل الإمام من تركيا إلى النجف، بدأت بيننا المراسلات والبرقيات. وكانت تقدم وباستمرار شهرياً مساعدة مالية، وأحياناً كانت تقدم مساعدة استثنائية".

 كان "قانون حماية الأسرة" في الرابع والعشرين من تير (الشهر الرابع) عام 1346 باسم الدفاع عن حقوق المرأة لمواجهة قوانين الإسلام، وإقرار قضايا عجيبة في خصوص "ولد الزنا"، "مساواة الذكر والأنثى في الإرث"، "النكاح نوع واحد وهو الدائم"، وجواز "زواج المسلمة من الكافر" و "إذا ثبت اتصال المرأة بعدة رجال عند انعقاد النطفة فهؤلاء الرجال جميعاً ملزمون بنفقة الأم والطفل" وما إلى ذلك... كل ذلك كان له انعكاسات كبيرة لدى علماء الدين، حيث كان آية الله صدوقي من المعارضين لها بقوة.

 "آية الله صدوقي، أحد العلماء من الطراز الأول في يزد، عارض لائحة حماية الأسرة بشدة، ولأن رواتب طلاب العلوم الدينية تأتي عن طريق المشار إليه وهو وكيل آية الله الخميني في يزد، فإن أهالي يزد يمتثلون أمره".

 في هذه الفترة، بدأ آية الله صدوقي نضالاً سلبياً ضد النظام، فإلى جانب تطوير الحوزة العلمية في يزد كان يجاهر في كل مناسبة بمعارضته للنظام؛ فقد كان يعارض بشدة مشاركة علماء الدين في مجالس الاحتفالات الملكية، بحيث كان يقوم بفضح وطرد من يشارك فيها: "علماء يزد لا يستطيعون المشاركة في الاحتفالات العامة والأدعية التي تقام خوفاً من آية الله صدوقي، ذلك أن من يشترك في هذه الاحتفالات يعنّف من قبل المشار إليه وتوضع المعوقات في طريقه".

 ومن ذلك الحين، أصبح الساواك أكثر انتباهاً مما كان عليه في عام 1348 وبدأ يتخذ إجراءات مناوئة له وأصدر أمراً بمراقبة مراسلاته وأعماله وتحركاته.

 ومع بداية احتفالات الــ 2500 سنة الملكية والإعلام الموسع للنظام والبذخ الذي كان يقوم به محمد رضا بهلوي لإقامة هذه الاحتفالات، قام بعضهم باستعراض بعض القضايا للدعاية، فأخذوا يفتتحون المدارس والمراكز بهذه المناسبة، فانتبه آية الله صدوقي لمحاولات النظام هذه ومنع عن بناء أي مدرسة يمكن أن يستغل افتتاحها في هذا الصدد. فقد طلب منه أحد العلماء في يزد رأيه في بناء مدرسة ابتدائية في محلة أكبر آباد في يزد، فقال له: "لا يصح القيام بذلك أبداً لأنها ستكون باسم احتفالات الــ 2500 سنة، وهذا خلاف الشرع؛ دعها حتى تنقضي أيام هذه الاحتفالات، وسأبني مدرسة تحت إشرافي". كما يعلن الساواك عن: " فليبلغ السيد صدوقي أنه إذا تحدث في المستقبل ضد الاحتفالات الملكية فإنه سيتم إخراجه من المنطقة".

 ومع تشكيل "حرس الدين" الملكي في عام 1350، قام آية الله صدوقي باتخاذ موقف من ذلك على الرغم من تضييق الساواك عليه، حيث قال في إحدى خطبه الساخنة: "أيها الناس، الويل لكم أن يكون معلمو أطفالكم في دوائر التربية والتعليم من البهائية والزردشتية، وهؤلاء الذين يعطون أولادكم دروس الدين والأخلاق"!

 وعندما سفر نظام البعث العراقي عدداً كبيراً من الشعب العراقي في شتاء عام 1350، أصدر آية الله صدوقي بياناً أدان فيه ممارسات البعثيين وطلب من الناس المسارعة إلى إعانة إخوانهم وأخواتهم وقام هو بنفسه بتشكيل لجنة لإعانتهم.  

 

المراقبة الشديدة للساواك

 شدد الساواك في هذه الأعوام تجسسه ورقابته للرسائل التي كان يبعث بها آية الله صدوقي، وكانت كل تحركاته ترصد بدقة؛ فالساواك وضع مصدر معلومات قريب منه بحيث استطاع مراقبته بدقه حتى في أسفاره. في عام 1352 قام مدير أوقاف يزد بدعوته لحضور مجلس دعاء لسلامة الشاه، فامتنع هو عن المشاركة في هذا الحفل الذي تفرضه الحكومة، وكان "يعتبر مبلغي الدين في مديرية الأوقاف مشركين وكفاراً".

 وفي إحدى المرات، بعث الساواك تقريراً يقول فيه أراد أحدهم الذهاب إلى مكة كمرشد لمجموعة من الحجاج فقال الشيخ صدوقي: "السيد الخميني لا يجيز الصلاة مع شخص يرتبط بالأوقاف". وهذا ما أدى إلى تبديل عالم الدين هذا بشخص آخر.

 وكان (ثابتي) مدير الشعبة الثالثة للساواك، قد قلق جداً لمواقفه، فكتب إلى ساواك يزد: "للمرة الأخيرة يستدعى الشخص المذكور وينبه إلى أن استمراره على هذه الشاكلة ليس في صالحه، وفي حال تكرر المخالفات ستتخذ ضده إجراءات أشد".

 وبعد أمر (ثابتي) هذا، لم يجرؤ ساواك يزد على استدعائه علماً منه بمكانته بين الناس، فألقى الأمر على عاتق الشرطة، ولكن طبقاً للوثائق المتوفرة لا توجد وثيقة تشير إلى قيام الشرطة بمثل هذا الإجراء.

 وعلى الرغم من المراقبة الخاصة للساواك، تحكي الوثائق الموجودة عن أن آية الله صدوقي كان يضاعف ببراعة المعونات المالية والأموال الشرعية المرسلة إلى مكتب الإمام في النجف، جاعلاً كل محاولات الساواك كهواء في شبك.

 في عام 1354 قام الساواك بإيقاف بناء مؤسسة الصدوق الكبيرة التي كان يقوم ببنائها، كما إنهم منعوه من السفر عندما أراد الذهاب إلى العراق.

 في خرداد (الشهر الثالث) من عام 1356 أخبر الساواك عن تشكيل آية الله صدوقي لحرس الإسلام في محافظة يزد، حيث قاموا بالتصدي لحركة التبليغ والدعوة هذه التي اندفع بها علماء الدين إلى مختلف مناطق المحافظة ليستقروا بشكل منظم في المدن والأرياف.

 لقد بلغت حساسية الساواك حداً بحيث عندما نشرت جريدة "اطلاعات" خبراً قصيراً عنه اكتفت فيه بذكر عدم رؤية الهلال في يزد، اتخذ الساواك موقفاً من الخبر معتبراً أنه يؤدي إلى تقويته.

 في عام 1356 طلب آية الله صدوقي رخصة في الخروج للسفر إلى مكة حيث طلبت مديرية الساواك العامة من ساواك يزد أن: "يجري الاتصال بالشخص المذكور بالشكل المطلوب ويتم توجيهه وتنبيهه إلى سوابقه، فإذا كان مستعداً لعدم القيام في المستقبل بأعمال تنافي مصالح البلاد وإعطاء تعهد أخلاقي وعملي، فستتم الموافقة على إصدار جواز سفر، وإلا فسنخالف ذلك". فأبلغ ساواك يزد في كتاب أن: "الشخص المذكور لم يكن مستعداً لإعطاء تعهد، ولذلك قرر عدم الذهاب إلى العربية السعودية".

 وباستشهاد آية الله الحاج مصطفى الخميني في الأول من آبان (الشهر الثامن) عام 1356 وتصاعد حركة الإمام الخميني، بدأ آية الله صدوقي فصلاً جديداً من نضاله، فأقام حفلات تأبين ضخمة له في محافظة يزد، وأخذ يعمل على تحرك منظم في مناطق كبيرة من البلاد، حيث يتضح دوره المحوري في ذلك من خلال الوثائق المتوفرة.

 في عام 1356 كان العديد من علماء الدين في المنفى، فتحرك هو مع مجموعة من أنصاره ليقطع مسافات شاسعة لزيارتهم جميعاً في مختلف المدن، وكان بالطبع لتفقده ومساعدته لأسرهم دوره وأثره. وفي مناسبة شهداء التاسع عشر من دي (الشهر العاشر) في عام 1356، سافر إلى قم في محاولة جادة منه للقاء المراجع في الحوزة وأخذ تكليفه منهم ودفعهم إلى إعلان تعطيل عام والاعتراض على مجزرة التاسع عشر من دي، وكذلك تعطيل صلاة الجماعة. كما أصدر بياناً حرم فيه احتفالات نوروز عام 1357 معلناً: "ليدع الناس الاحتفال بنوروز، ويقيموا حفلات التأبين والمآتم لشهداء قم وتبريز ولبنان".

 يقول آية الله الخامنئي حول دوره المحوري: "خلال عام أو عامين قبل انتصار الثورة، كان المرحوم آية الله صدوقي محوراً لأكثر النشاطات، لا في يزد فحسب، بل في أنحاء البلاد، وذلك لأن آية الله صدوقي كان شخصية دينية ذات مكانة، بحيث كانت آراؤه واقتراحاته تؤثر في شؤون المدن الأخرى. كان غالباً ما يُستشار ويُعمل برأيه حتى في طهران".

 وفي بيان له بمناسبة شهداء بهمن (الشهر الحادي عشر) عام 1356 في تبريز، دعا أهل يزد إلى التجمع في مسجد الروضة المحمدية (حظيرة) في العاشر من فروردين (الشهر الأول) عام 1357 لإقامة احتفال تأبيني لهم. فاستقبل الناس هذه الدعوة واجتمع الآلاف في المسجد والشوارع المحيطة به. وبعد الخطبة، أخذوا ينصرفون بهدوء إلى بيوتهم وحاجاتهم، وإذا بهم يواجهون بكمين من قوات الشرطة ونيرانها. وبمقتل اليزديين في هذا اليوم، دخل اليوم العاشر من فروردين عام 1357 في سلسلة الأربعينيات التي انتهت بسقوط حكومة الشاه. "في الساعة 30: 9 من يوم 10/1/57 دخل عدد كبير (أكثر من 2500) من العناصر الدينية المتعصبة، شكل الشباب اليافعون90 بالمئة منها، وفي ضوء البيان رقم 2 للشيخ محمد صدوقي، دخلوا إلى مسجد (حظيرة)، فجلسوا بالتدريج في مسجد (حظيرة) في يزد، واستمعوا الخطبة الدينية... وفي الساعة 00: 11 خرجوا من المسجد وقاموا بالتظاهر...".

 بعد هذه الحادثة، كتب (ثابتي) مدير عام الشعبة الثالثة: "في يزد هناك شخصان: "الشيخ محمد صدوقي وكاظم راشدي بور، كانا من وراء حوادث بعد الظهر من يوم 9/1/57 وقبل الظهر من يوم 10/1/57، وفي خصوص كاظم راشدي بور أعطي أمر بتشكيل لجنة أمنية اجتماعية لنفيه إلى إحدى المناطق السنية الكردية.

 الشيخ محمد صدوقي من العلماء المعروفين في البلاد وله أنصار لا يستهان بهم في يزد وقم وكاشان وأصفهان وله موقع مشابه للقاضي الطباطبائي في تبريز. فإذا نفي يحتمل قيام أنصاره بتحرك".

 بعد حادثة العاشر من فروردين عام 1357، كان آية الله صدوقي يقوم في كل فرصة بإصدار بيانات يفضح بها النظام، تم جمعها من بين وثائق الساواك. "ومن شواهد صفته المتميزة هذه، أي الشجاعة، أن بيانات آية الله صدوقي في يزد كانت بيانات تنتشر على مستوى البلاد أولاً، وذات محتوى شديد يفتح الآفاق ثانياً، وفي كل قضية يعطي فيها موقفة سريعاً". كان بوعيه الكامل وتحاشيه إعطاء الخسائر طيلة هذه الفترة قد جعل من مسجد (حظيرة) مقراً قوياً للثورة: "كنت عائداً من المنفى، مررت عن طريق يزد إلى مسجده، عندما دخلت رأيت كأن هذا المكان ليس جزءاً من الجو العام الخانق في إيران؛ ففي المسجد توجد إعلانات حرة تماماً، يأتي الجميع ليقرأوا في هذه الإعلانات موضوعات استفزازية جداً... أو مثلاً وضعوا طريقة صناعة خليط المولوتوف أو الرمانة اليدوية...".

 لقد قام بجهد كبير لدفع المراجع في قم للاحتفال بأربعينية شهداء يزد، فأعلن يوم 19/2/1357 يوم عزاء عام في البلاد من قبل المراجع في قم: "الآيات الثلاث في قم وقعوا تحت ضغط من المتشددين الدينيين، ولاسيما آية الله صدوقي، واضطروا إلى عقد مجلس وإصدار بيان مشترك معلنين عن انتهاء المجلس".

 "كتب آية الله الشيرازي بتاريخ 2/2 رسالة إلى آية الله صدوقي يعزيه بمناسبة الأحداث الأخيرة في يزد ويضيف آخر الرسالة أنه في يوم 19/2، يوم أربعينية القتلى [في يزد] سنقيم مجلساً في هذه المناسبة في مشهد".

 في أواخر أرديبهشت (الشهر الثاني) من عام 1357 أبلغ الساواك شرطة يزد: "أصدروا أمراً بتنبيه الشخص المذكور أنه إذا لم يتخلَّ عن السلوك الذي هو عليه واستمر بإصدار البيانات والتحدث بما يخالف مصالح البلاد على المنبر، كما هو الحال في السابق، فإنه ستتخذ ضده الإجراءات اللازمة".

 "في تلك الفترة في يزد كان عناصر النظام يحاولون اغتياله، وكان هو يسير ويتحرك من دون أي حماية أو مراقبة ويذهب ويأتي إلى المسجد وتعقد في مسجده اجتماعات كبيرة جداً".

 في تاريخ 1/3/1357، أبلغ ساواك قم المديرية العامة بما يلي: "طبقاً للمعلومات، جاء الليلة البارحة آية الله صدوقي إلى قم ونزل في دار ولده. وهو يقول إنه جاء إلى قم لاستشارة الآيات وتحديد ما يجب عليه في خصوص الأحداث الأخيرة".

 وفي تجسس على خطوط الهاتف في دار السيد شريعتمداري، يؤكد سفر آية الله صدوقي إلى قم؛ ففي هذه المكالمة الخاصة بين السيد شريعتمداري وشخص آخر جاء ما يلي: "يقول آية الله شريعتمداري كان هنا، كان الاتفاق أن يأتي إلى هنا الليلة، أنتم أيضاً تعالوا بعد صلاة المغرب لأنه بحاجة إلى توجيه جداً. يبدو أنه جديد على العمل، لأنه لم يكن سابقاً بهذا الوضع". يقول الشخص المتحدث مع شريعتمداري: "حاد جداً". عند ذلك يقول شريعتمداري: "أحد الأمور التي يجب أن تعرفها مسبقاً هي أن صدوقي كان يقول أنه في القضية التي حدثت لك [ يقصد هجوم خسروداد على دار السيد شريعتمداري واستشهاد اثنين من طلبة العلوم الدينية في داره] كان الناس ينتظرون منك بياناً ساخناً، وأشار إلي في مكالمة هاتفية من يزد، أنا قلت هل يجب علي أن أقيم مجلساًَ لنفسي، الناس يجب أن يفعلوا ذلك، ولكنه لم يقتنع. فتحدثنا، ولكن يبدو أنه لا يجد ذلك كافياً. ولهذا قلنا ليلة غد (الليلة) نتشاور ونتحدث، فإذا لم يكن لديكم مانع تفضلوا... قلت له أولاً ما هو مطلبك؟ وما هو مطلبنا، ومن خلال مقدمة ذكرتها أردته [صدوقي] أن يجيب هو بنفسه. ثانياً لو فرضنا أني أصدرت بياناً ثم مر عليه خمسة عشر يوماً، ولأنهم يقولون يجب المحافظة على حرارة الناس، فماذا يحصل بعدها"؟!

 يقول المتحدث مع شريعتمداري: "هؤلاء لا يتحدثون عن دليل وتتحكم بهم العواطف وهذه مصيبة كبرى، وأنا أساساً لا أستطيع التجاسر والتحدث بمحضركم. فإذا رأيته [صدوقي] أنا وحدي لفهمت ما يدور في رأسه، ولقلت له يجب تعديل موقفك".

 بعد ذلك يقول شريعتمداري: "في الوقت الذي نتوقع فيه من كبار السن ومن ذاق الحياة أن يدرك الحقائق بشكل أفضل وندعه [صدوقي] يقول ما يريد لنرى ماذا نفعل، فإذا قال رأيه انتقدناه ولا حل لنا في هذه القضية".

 بعد عودة آية الله صدوقي من قم، أرسل ساواك يزد إلى المديرية العامة اقتراحاً بنفيه: "الحاج الشيخ محمد صدوقي ــ وكيل الخميني ــ الذي يقود كل المخالفات الحاصلة في هذه المحافظة، وكل مخالفاته تم إرسالها إليكم في تقارير متعددة، يستحسن نفيه من يزد إلى منطقة أخرى".

 وبغية (إصلاح) مواقف آية الله صدوقي، قام النظام بإجراء نادر، حيث سارع محافظ يزد بزيارة الشيخ صدوقي. وفي هذا الزيارة أوضح الشيخ صدوقي قضايا التاسع عشر من دي (الشهر العاشر) ومقالة أحمد رشيدي مطلق، منتقداً موقف النظام في قتله الناس في العاشر من فروردين في يزد.

 وفي ذيل هذا التقرير يكتب الساواك ما يلي: "يبدو أن الشيخ محمد صدوقي قد أصابه الهلع من بعد نفي [آية الله] بسنديده وفرض الإقامة الجبرية على السيد صادق الروحاني في داره، وقد آن الأوان لساواك يزد أن يعمل اللازم لتكوين علاقة معه، وإذا لم يمكن تكوين علاقة سرية، فليكن الاتصال به علنياً لكي يفقد الناس ثقتهم به بمرور الأيام".

 ويكتب مدير الساواك في ذيل التقرير: "ما هو تخطيطكم لاجتذاب هذا الشخص وتنحيته عن النشاطات المضرة".

 فقامت شرطة يزد على أثر أمر الساواك بتهديد آية الله صدوقي عن طريق الهاتف، فصرح هو بذلك مباشرة في خطبة الحادي عشر من خرداد (الشهر الثالث) في مسجد (حظيرة) وقال: "اتصلوا بي هاتفياً من الشرطة يطلبون مني عدم التحدث ببعض الأمور، وفي ذلك أربع حالات: يعتقلون أو يسجنون أو ينفون أو يقتلون. فإن قتلوا، فكل قطرة من دمي ستصبح صدوقياً. وأنتم الآن لا تلقوا شعاراً أو تفعلوا شيئاً حتى أرى أيستجيبون لنا أم لا".

 وتزامناً مع جميع المراجع، قام آية الله صدوقي في الخامس عشر من خرداد (الشهر الثالث) من عام 1357 بالإعلان عن حداد عام وطلب من الناس عدم الخروج من دورهم وإغلاق محلاتهم: "في 15/3/57 ومن بعد الصلاة قام المذكور أعلاه في مسجد (حظيرة) من على المنبر، وبحضور أكثر من ألف شخص، بتقديم شكره للتجار وأصحاب المحلات لتعاونهم في إغلاق محلاتهم".

 يقول ساواك يزد في كتاب له: " تنفيذاً للأوامر الصادرة إلى شرطة يزد أبلغتم بتنبيه المشار إليه إلى عدم ذكر ما يخالف الواقع من على المنبر. في مقابل بلاغ الشرطة المذكور، كان جواب هذا الشخص: أي قرار تريدون اتخاذه بشأني اتخذوه".

 وعلى أثر انتشار شائعة الصلح بين علماء الدين والحكومة بواسطة عناصر نظام الشاه وإصدار البيانات من قبل العلماء في قم وغيرها، كتب آية الله صدوقي في بيان الدعوة إلى الأربعينية الرابعة لشهداء إيران في 27/4/1357: "وبالمناسبة نذكر هنا أن جميع التصريحات التي يذكرها راديو إيران والدول الأجنبية من أن علماء الدين في حال صلح، هي كذب، وأكبر دليل على كذب ما يقولون هو بيان العلماء الأخير في التعطيل العام".

 في شهر تير (الرابع) من تلك السنة، قامت المديرية العامة للشعبة الثالثة للساواك بإعداد نشرة خبرية عن نشاطات وفعاليات وكلمات الشيخ صدوقي لإطلاع المدير العام للساواك عليها. فكتب المدير العام للساواك في ذيل هذا التقرير: "ما هو تخطيط المسؤول عن هذا الأمر لإنهاء نشاطاته وإرجاعه في نهاية المطاف عن الوقوف في الجبهة المخالفة".

 كتب (ثابتي) في حاشية هذا التقرير: " في حال موافقتكم، يتم إعلام آيات قم بخلاصة عن تصريحاته وتحريضاته ليقوموا هم بتوصيته بالتخلي عن هذا التحريض، وإلا فالحكومة ستضطر إلى اتخاذ قرار في خصوصه".

 وبتحريم احتفالات الخامس عشر من شعبان من قبل قائد النهضة، قام آية الله صدوقي بإصدار بيان شديد: "نحن نهتف عالياً إن تعطيل الاحتفالات هذا هو لأجل فضح الظالمين بأمر آية الله العظمى نائب الإمام الإمام الخميني مرجع الشعب الإيراني المحبوب وبقية المراجع العظام، ونحن ليس لنا عيد".

 وكما في السابق، كانت بيانات الإمام في النجف تخابر إلى داره عن طريق الهاتف، فتسجل وتكتب ويتم تحت إشرافه استنساخها وتوزيعها إلى مختلف أنحاء إيران.

 كانت تحركات آية الله صدوقي قد أخذت بعداً دعا مدير ساواك أصفهان إلى أن يقول في تقرير له إلى المديرية العامة إن أفكاره أكثر حدة من الإمام الخميني! ويقترح محاصرة بيته وقطع اتصالاته الهاتفية.

 وفي الحادثة المروعة التي وقعت في سينما ريكس في عبادان، كان هو أول من اتخذ موقفاً منها من خلال إصدار بيان شديد كشف به عن وجه المفتعلين لتلك الحادثة الغريبة، معتبراً النظام هو المذنب الرئيس في إحراق البشر فيها، وأن إعلامه نوع من النفاق ومواقف مسؤوليه عبارة عن دموع تماسيح: "النهضة الإسلامية المقدسة والإنسانية في إيران بقيادة المرجع الكبير سماحة آية الله العظمى الخميني دام ظله في تحرك، وتدين حوادث مفجعة من هذا القبيل، وليست على استعداد في رسالتها التي تبعث الحياة في الفرد والمجتمع الإيراني أن تمحو أي كائن حي وإن كان حيواناً أو نباتاً، فضلاً عن إنسان مسلم أو تهدر مال المسلمين".

 وفي قضية استلام شريف إمامي للحكم، أصدر بياناً كشف فيه عن مؤامرة حكومة الوفاق الوطني، وسخر بادعاء كون شريف إمامي الماسوني ابن عائلة علمائية. وبعد اطلاع (مقدم) ــ المدير العام للساواك المنصوب حديثاً آنذاك ــ على اتساع رقعة عمل صدوقي، طلب بإصرار من ممثله في يزد أن يديم اللقاء به لتحسين مواقفه! إلا أن وعي آية الله صدوقي جعل كل هذه التحركات تذهب سدى. وعندما تراجع الخط القومي وأخذ يداهن النظام مكتفياً بالجهاد القانوني ومؤملاً بالنقاش البرلماني وما إلى ذلك... وبقول بازرجان كان لا بد لهم أن يسيروا خلف الجماهير، دعاهم هو من خلال البلاغات والمحادثات المختلفة إلى اتباع خط القيادة.

 وفي مجزرة الجمعة الدموية في 17/6/1357 قام في بيان بتحليل الحادثة بشكل لطيف: "كل الأصباغ فقدت ألوانها، ومناورات الديمقراطية للهيئة الحاكمة في إيران واجهها الشعب الإيراني الشجاع بالتهكم. اتباع قانون الإسلام المقدس! واحترام الشريعة الذي حال بكل قوة دون غضب الجماهير، كشف عن نفسه في ميدان جاله "ميدان الشهداء" في طهران. آلاف المسلمين العزل ممن كان أكبر جرمهم هو الجهر بمطالبهم القانونية والشرعية في فضاء سياسي مفتوح!!! حاصرتهم الدبابات الثقيلة وأطلقت عليهم نيران رشاشات جلاوزة النظام وجرى دمهم المقدس على شوارع طهران وغسل كل الكلمات والأحاديث الملفقة الكاذبة، كالإسلام والدستور والعدالة الاجتماعية وغيرها، من قلوب البسطاء في الداخل والخارج. وهذا الدم بلون أحمر متلألئ لن يمحى أبداً، لقد كتب على جبين أزلام الحكومة الفاشية في إيران جملة أبدية: (القاتل مخذول)، وجملة أخرى على راية النهضة المقدسة في إيران: (الشجاع منصور)".

 وعندما تصاعد المد الثوري في يزد بقيادة آية الله صدوقي، قام محافظ يزد الجديد بتهديده في بلاغ بأني لست كالمحافظ السابق وأنا شخص متمرس ورياضي أشرب في اليوم عشرات الكيلوات من الحليب وأرفع ثقل مئة كيلو غرام! وما إلى ذلك... حيث قام آية الله صدوقي من على المنبر يستهزئ بهذا التهديد ليحدث الناس عنه ويقول: ليت الحكومة أرسلت إلينا بقرة بدل هذا الرجل لينتفع الناس أكثر بحليبها وجبنها.

 وفي إجراء انفعالي، قام النظام بإغلاق مسجد (حظيرة) وحاصره بالدبابات، فتحرك آية الله صدوقي بكل شجاعة نحو المسجد غير مبال بالقوات العسكرية، وعندما قامت عناصر النظام بمنعه قال لهم: "لابد لي أن أذهب إلى المسجد، وإذا كان يجب عليك أن تقتل، فتعال هذا صدري اجعله هدفاً واضرب". فاضطرب الأفراد من شجاعته وهيبته وخلوا له الطريق ليفتح هو بنفسه باب المسجد ويقيم الصلاة.

 وإبان حادثة الزلزال المؤلمة في طبس والإجراءات الضخمة الفريدة التي قام بها آية الله صدوقي، جاء في أحد أخبار المراسلين التي منعتها الرقابة: "على الرغم من شدة حاجة الناس إلى المساعدات، لا يبدون رغبة في قبول مساعدات الحكومة، إلا أن قدوم آية الله صدوقي إلى المنطقة من طرف الإمام كان مؤثراً جداً إلى حد طرح عليه الناس كل احتياجاتهم".

 وفي طبس، قام آية الله صدوقي بنصب مخيم لمساعدة المتضررين بالزلزال باسم "مخيم الإمام الخميني"، وصرح بأن جميع المساعدات حتى الطائرة والتجهيزات العسكرية قد جاءت إلى المنطقة بأمر من الخميني، وأن أبسط مساعداته هي بأمر منه، وجميع قطع [الثورة البيضاء] المنصوبة على طرق طبس تم كسرها، وأطلق حمار كتبت عليه كلمات توهين يدور في طبس.

 وعندما حوصر بيت الإمام في النجف في مهر (الشهر السابع) من عام 1357، هاجت به نفسه وراح يعمل على دفع العلماء والمراجع لكسر هذه المحاصرة عن بيت الإمام: "اتصل آية الله صدوقي بشريعتمداري وقال إن بيت الخميني قد حوصر، ولكن ليس بشدة المحاصرة السابقة، ومن المناسب الإعلان عن يوم من التعطيل العام وإرسال برقية. شريعتمداري لم يجد ضرورة للإعلان عن تعطيل عام، وتقرر أن يستشير بقية الآيات".

 ولما ضاق الساواك بإجراءات آية الله صدوقي، أخذ يتعلق بأذيال بعض المراجع من قبيل آية الله شريعتمداري طالباً منهم تحسين موقف "موظف الخميني الجاد" هذا! فأعلنوا أنه نظراً لوضع ونفوذ المشار إليه فإن من الأفضل حالياً قطع هاتفه وتحديد الحركة إلى داره.. وفي حال الضرورة تتخذ بحقه إجراءات أشد. فقام الساواك من خلال أخذ رأي السيد شريعتمداري بإرسال تقرير إلى الشاه يقترح فيه: "في حال موافقتكم، طبقاًً للمقررات السابقة ومن خلال تقوية وحدات الأمن الداخلي في يزد والمدن الأخرى للمحافظة، يتم قطع اتصالات الشخص المذكور، وبتعيين الأفراد يتم منعه عن الاتصال خارج الدار. الرجاء إبلاغنا بمرادكم الملكي الكريم". وفي ضوء ذلك يرسل (ثابتي) برقية بتاريخ 11/7/1357 إلى يزد يقول فيها: "طبقاً للأوامر، تقرر في الحال الحاضر وضع الشيخ محمد صدوقي تحت المراقبة الشديدة".

 وأخيراً تم بسعيه وجهوده الإعلان عن يوم الأحد التاسع والعشرين من شوال الموافق للعاشر من مهر (الشهر السابع) عام 1357 يوم إضراب عام في إيران اعتراضاً على محاصرة بيت الإمام.

 وبهجرة الإمام إلى باريس، تصاعد نشاط آية الله صدوقي؛ فمن خلال تنسيقه للنشاطات، جعل من يزد ومسجد (حظيرة) وداره قناة أمينة لإيصال البلاغات ومركزاً لتنسيق الكفاح والجهاد.

 "عندما ذهب الإمام إلى باريس، تحسنت الأوضاع وزاد تحرك الجماهير. الاتصالات والمراسلات والمكالمات الهاتفية بيننا زادت أيضاً، والبيانات التي كان يصدرها الإمام من باريس كانت تسجل هنا عن طريق الهاتف، وكنا نحن نبلغها إلى علماء مشهد وتبريز وشيراز وبقية المحافظات، وكانوا هم أيضاً يسجلونها بالهاتف، وفي يزد يتم طبعها وتوزيعها بحد كافٍ".

 ولم تجد محاولات الساواك ومراقبته الشديدة له في الحد من فعاليته، الأمر الذي دعا مدير ساواك أصفهان إلى إرسال تقرير إلى المديرية العامة يطلب فيه تحديد تكليفه تجاه هذا الأمر.

 " الشخص المذكور أعلاه لم يدع استفزازاته ولا يزال يصدر البيانات ويرسلها عن طريق أعوانه إلى أصفهان لتوزع سرّاً، الأمر الذي يؤدي إلى إثارة الرأي العام ويؤول بالنتيجة إلى تشنج واضطراب. هذه المعلومات نقدمها إليكم للعلم والاطلاع واتخاذ اللازم".

 وفي تاريخ 24/7/1357 أبلغ الساواك عن قصده السفر إلى باريس، إلا أن هذا السفر لم يحصل حتى اتصل به السيد أحمد الخميني هاتفياً من باريس في تاريخ 10/8/1357 وسأله عن سبب التأخير.

 "في تاريخ 10/8/1357 اتصل أحمد الخميني من باريس بمحمد صدوقي وقال: كنا ننتظر، فلم تأتِ! فقال صدوقي: خفت أن تأخذ شكلاً سياسياً. فقال أحمد: لا يوجد شيء من هذا القبيل بالنسبة إليكم، والسيد الخميني يريد أن يلتقيك والسيد الخامنئي".

 وقبل مغادرة آية الله صدوقي إلى باريس، أخبر الساواك عن قيامه بتوزيع أسلحة: "في الليلة السابقة، قام الشيخ محمد صدوقي بتوزيع نحو من خمسين قطعة سلاح بين عدة مجموعات، وقال: من ليس لديهم سلاح فليُخفوا الحراب والسكاكين تحت ملابسهم لاستخدامها عند الضرورة".

 وفي تاريخ 18/8/1357 اتصل ساواك قم بالمديرية العامة ليبلغ عن سفر آية الله صدوقي إلى باريس بالشكل التالي: "تقرر أن يذهب آية الله صدوقي، الساكن في يزد، إلى باريس مع نحو ثمانية آخرين من علماء الدين المتطرفين المعارضين في هذه المدينة بدعوة لهم من هناك، ليلتحقوا بآية الله الخميني ويتم بعدها تشكيل وإعلان حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية من باريس ليجروا الترتيبات اللازمة في المستقبل من مقرها في باريس تحت إشراف الخميني".

 وأخيراً طار إلى باريس في تاريخ 13/8/1357.

 "ثم ذهبنا لزيارة الإمام في باريس ودار بيننا الحديث خلال نحو اثني عشر يوماً قضيناها هناك".

 وطبقاً لتقرير الساواك في فرنسا، كان محور محادثات آية الله صدوقي والإمام الخميني حول إضراب السوق "البازار" وكيفية تنسيق كفاح الجماهير وتحاشي الضغط المضاعف على التجار وأصحاب المحلات.

 وبحلول شهر محرم من عام 1357 الذي سماه الإمام شهر انتصار الدم على السيف، تصاعد كفاح الجماهير بشكل لا حساب له. وقرر النظام أن تقام المجالس الحسينية برخصة تؤخذ من الشرطة ومراكزها، وأخذ يؤكد ذلك في وسائل إعلامه. فأوصى الإمام في بيان للجماهير بعدم أخذ رخصة من الشرطة والساواك في إقامة المجالس رغم أنف النظام. كما قال آية الله صدوقي في خطبة له في مسجد (حظيرة) بهذا الصدد: "واصلوا كفاحكم ولا يحق لأحد أن يأخذ رخصة من الشرطة للمجالس وغيرها. وإذا عطلت الشرطة المجلس لعدم أخذ رخصة فاكتبوا ما حدث بخط عريض وعلّقوه في ذلك المحل".

 بعد انتشار هذا الرأي بين الناس، لم يراجع أحد في يزد لترخيصه في إقامة مجلس باعتراف الشرطة نفسها.

 وكما تحكي الوثائق، كان لآية الله صدوقي دور مصيري في مختلف الإضرابات والتظاهرات ضد النظام من خلال إصدار البيانات والأوامر الهاتفية الشفوية. وذلك من قبيل إعلان التضامن مع عمال النفط المضربين ومجزرة محرم في (سرچشمه) في طهران وتهديد محافظ يزد ومسيرة مئة وأربعين ألفاً في يوم تاسوعاء التي لم يسبق لها مثيل في منطقة (كوير).

 وعلى أثر الحادثة الانفعالية لأفراد (الدرك) في جمع صور الإمام الخميني من المحلات، قام هو بالإعلان عن إضراب. وبعد إعلانه هذا، قرر النظام باضطراب تشكيل مجلس أمن المحافظة ليتراجع علناً عن قراره: "عقد مجلس أمن يزد وتم إبلاغه وطمأنته بأن أفراد الحكومة لا علاقة لهم من الآن فصاعداً بصور [الإمام] الخميني".

 وبتشكيل آية الله صدوقي لــ "جمعية المعلمين" في يزد، أخذ بتنظيم حركة المعلمين والعاملين في الحقل الثقافي ليرتب لإضراب رجال الثقافة والتعليم على أثر ذلك. وبعد تصاعد ضغط الجماهير في يزد بقيادة آية الله صدوقي، أرسل مدير عام ساواك يزد تقريراً في 17/10/1357 إلى المديرية العامة يعلن فيه بالحقيقة عن انحلال الساواك وعن انعدام الأمان لوكلائه وعناصره، وأن الملفات والوثائق نقلت إلى الشرطة.

 من هذا التاريخ فما بعد لا توجد وثيقة تحكي عن نشاطات آية الله صدوقي، ولكن يبدو من خلال المصادر والوثائق الأخرى ولاسيما كتاب "بيانات شهيد المحراب الثالث سماحة آية الله صدوقي من قبل الثورة إلى شهادته"، أنه واصل إصدار البيانات في مختلف المراحل.

 وعندما اعتصم علماء الدين المجاهدون في جامعة طهران، التحق آية الله صدوقي بهم، ولما عاد الإمام منتصراً في الثاني عشر من بهمن التقى آية الله صدوقي القائد ليعود في الثالث عشر من بهمن إلى يزد حيث استقبله الناس هناك استقبالاً منقطع النظير.  

 

تواجده في الساحة بعد الثورة

 بانتصار الثورة في الثاني والعشرين من بهمن عام 1357، تحرك آية صدوقي من يزد إلى مجلس الخبراء من أجل كتابة دستور الجمهورية الإسلامية. فأبدى هناك بعداً آخر من شهامته وشجاعته في كتابة بند ولاية الفقيه.

 وفي فاجعة الزلزال في خراسان، هرع بأمر من الإمام على رغم كبره إلى مساعدة المصابين، ليكون بوجوده مرهماً لجراحات من عانى هناك.  

 

إمامة الجمعة وممثلية الإمام

 كانت إمامة الجمعة وممثلية الإمام مهمة أخرى أكسبها الشهيد شرفاً ونفذها على أحسن وجه من خلال حل مشكلات الناس وتعديل حالات التطرف، ودفع الناس إلى إعمار المحافظة وتقديم المساعدات إلى المحرومين والمستضعفين. وكان يعمل بدراية وإدارة قوية، بحيث صان محافظة يزد من كل المؤامرات التي كانت تشهدها إيران كل يوم خلال سنوات الثورة الأولى؛ ففي الأيام الأولى للانتصار، كان يقضي على أوكار المؤامرة والفساد للمجموعات اليمينية واليسارية، ويئد كل تحرك للأعداء في مهده.

 وباندلاع نار الحرب المفروضة، أخذت تتقاطر بجهوده المساعدات والقوات من يزد إلى جبهات القتال، وكان هو نفسه يحضر بعض العمليات ليمنح أجواء الجبهة حرارة، حيث كان أروع حضور له في عمليات بيت المقدس وفتح خرمشهر. وعند شهادة أول شهداء المحراب، سمى "المدني" بــ "الأسوة" وسمى قاتليه بالأعداء عمي القلوب المضللين من قبل الدول العظمى.  

 

الشهادة

 وكتب: "الفكر الذي بني أساسه على دم علي وأمثاله، لا بد أن يسقى بدم المدني وأمثاله...".

 وكتب عند شهادة رفيق دربه الثاني يقول: "وا إماماه! لقد أدرك شعبنا في مدرسة الحسين كاملاً أن موت رجل كآية الله دستغيب في فراشه قليل في حقه".

 كما كتب: "وكلنا كان ولايزال على استعداد لقضايا من هذا القبيل"، حتى أعلن فجأة في يوم صيف قائظ من صوت الجمهورية الإسلامية في إيران عن خبر ثاكل بالشكل التالي: "نسترعي انتباه المستمعين الكرام، نسترعي انتباه المستمعين الكرام؛ بلغنا بكل أسف أنه في الساعة الواحدة والنصف تقريباً من بعد ظهر اليوم (الجمعة الحادي عشر من تير1361) استشهد العالم الرباني والمجاهد الذي لم يعرف الكلل آية الله صدوقي، نصير الإمام والأمة وممثل الإمام وإمام جمعة يزد بفم صائم في محراب صلاة الجمعة...".

 أجل، بعد لحظات من انتهاء صلاة الجمعة، أغلق آية الله صدوقي في سن الخامسة والسبعين ملف حياة ملؤها الزهد والسعي والخدمة والجهاد والكفاح، ليأخذ طريقه بالشهادة إلى حياة أبدية خالدة في جوار رحمة الله.

 قالت بعض الإذاعات العالمية: "اغتيل الرجل الثاني في الثورة الإيرانية".

 وقال الإمام الخميني: "من أولى بالشهادة، في عصر يهدد فيه الاستكبار العالمي ومن استخلفه في الداخل والخارج الإسلام العزيز، من شهيدنا الكبير والفقيه الملتزم المضحي للإسلام الشهيد صدوقي العزيز رضوان الله تعالى عليه. شهيد عظيم حضر ساحات الثورة كلها وكان عوناً للمحتاجين والفقراء. كان يقضى وقته الثمين في نصرة الإسلام وإزالة العوائق عن طريق الثورة، منهمكاً في خدمة الشعب والثورة".