ولد المرحوم الحاج الشيخ فضل الله النوري بن الحاج المولى عباس النوري في الثاني من ذي الحجة عام 1259 للهجرة. بدأ الشهيد بطلب العلوم الإسلامية وهو في مقتبل العمر، ورحل من بعد مدة بمساعدة خاله المرحوم الحاج الميرزا حسين النوري إلى النجف الأشرف ليدخل حوزة آية الله المرحوم الميرزا الشيرازي صاحب فتوى التبغ المعروفة. فكان تفوقه منذ بداية هذه الدروس واضحاً للعيان، بحيث استطاع وهو في سن العشرين إنشاء منظومة شعرية حول خمس وعشرين قاعدة فقهية باللغة العربية. وبعد مدة قصيرة من حضور دروس المرحوم الميرزا بلغ الشيخ درجة الاجتهاد. كما أنه كان ينهل خلال هذه الفترة من دروس المرحوم الميرزا حبيب الله الرشتي الذي كان يؤمن بعلميته إيماناً كبيراً يحكي عنه تقريظه للرسالة التي كتبها الشيخ الشهيد "في ضمان اليد".
كان الشيخ الشهيد على إحاطة بالفقه والأصول والحكمة (الفلسفة) والعرفان.
وكان على درجة من الشهرة في العلم والمعرفة إلى حد أن مناوئيه ــ على عدائهم ــ لم يستطيعوا إنكار ذلك.
وبعد أن بلغ الشيخ مرتبة الاجتهاد، عاد من النجف إلى طهران بطلب من المرحوم الميرزا الشيرازي ليصبح تدريجاً من أعلام العلماء في البلاد.
مساهمته في حادثة تحريم التبغ
كان للشيخ الشهيد دور حساس جداً في حادثة تحريم التبغ؛ فقد كان حلقة الوصل المهمة بين مركز المرجعية الشيعية في سامراء مقر آية الله الميرزا محمد حسن الشيرازي وبين طهران مركز المواجهة والجهاد ضد عقد امتياز التبغ، حتى ان بعض البرقيات المُرسلة من سامراء إلى طهران خلال تلك الفترة كانت تُحفظ لديه. إلا أن وجود المرحوم الميرزا حسن الآشتياني في حينها، جعل القيادة المباشرة للحركة في طهران تقع على عاتقه، وكان الشيخ الشهيد يمثل تقريباً الشخصية الثانية في المواجهة في طهران.
في ثورة العدلية
وعندما جرى الحديث عن العدلية (عدالتخانه)، دعمها الشيخ باندفاع، وراح يتحرك نحو إقرار العدل ونشر أحكام الإسلام وإقامتها.
ولما نزعت كلمة العدل ثوبها لتتحول إلى كلمة النظام الدستوري (المشروطة)، حمل ذلك على الصحة على أساس أنه جهاز العمل بذلك العدل، وواصل سعيه إلى أن صدر أمر النظام الدستوري.
ولكن عندما كشف النظام الدستوري عن حقيقته ــ كديمقراطية أوربية ــ رأى ذلك مخالفاً لمبادئ الإسلام ونهض لمواجهته.
عند ذلك طرح الشيخ النظام الدستوري المشروع؛ الحكومة التي تقوم على أساس الإسلام ودستورها القرآن. كان يفكر بمجلس شورى إسلامي يُشرف عليه ــ بالضرورة ــ الفقهاء المتخصصون في الشؤون الدينية كي لا يقر قانون على خلاف قوانين الإسلام، ويكون انتخاب هؤلاء الفقهاء بيد العلماء ولا دخل للمجلس في ذلك. بنظره أن نظام الحكم الأوربي لا ينسجم مع وضع ومصلحة الشعب المسلم في إيران.
ولأجل إيجاد النظام الدستوري المشروع، صنع الشيخ فضل الله من طبقة علماء الدين جهازاً قوياً مجهزاً وأخذ يعمل بإيمان راسخ ليجني ثمار عمله. وخلال حياته المباركة حاولوا اغتياله مرة واحدة، ولكنه نجا منها بتضحية من حوله في حمايته، فأصيب بفخذه، وألقي القبض على الضارب، ولكنه لم يرض بقتله، وأمر بإطلاق سراحه!
واعتراضاً على انحراف الحركة، قام الشهيد النوري بالاعتصام في صحن السيد عبد العظيم (ع) مع أكثر من خمسمئة من العلماء وطلاب العلوم الدينية المؤمنين في طهران. وقام خلال هذه المدة بإصدار بلاغات ولوائح مختلفة حاول من خلالها إيصال أفكاره إلى الناس.
وللأثر العميق الذي تركه هذا الموقف، اضطر مجلس الشورى الوطني إلى إمضاء لائحة التزام بالإسلام؛ وبهذا عاد الشيخ إلى طهران.
وبعد مدة تفاقمت الأوضاع بسبب الأعمال التي قام بها المطالبون بالنظام الدستوري، الأمر الذي دعا محمد علي شاه إلى ضرب المجلس بالمدفعية. إلا أنه بعد سنة وبضعة أشهر سيطر المطالبون بالنظام الدستوري على طهران من جديد، فكان أول عمل قاموا به هو إعدام الشيخ فضل الله النوري، هذا المرجع الواعي! ذلك أنه لو بقي حياً لما استطاعوا بلوغ أهدافهم، تلك الأهداف التي شهدناها على مدى سبعين سنة من عمر النظام الدستوري.
أُعدم الشيخ النوري في الثالث عشر من رجب عام 1327 للهجرة، (31 يوليو 1909م) أي في يوم ولادة الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام. حصل ذلك في حال كان فيه أقطاب الاستبداد يتلقون الواحد تلو الآخر المناصب الحساسة في حكومة الدستور.
وتجدر هنا الإشارة إلى جوانب من الأيام الأخيرة التي عاشها هذا الشيخ المجاهد في اعتقاله ومحاكمته واستشهاده على لسان أصحابه المقربين.
أيامه الأخيرة
يقول مدير نظام نواب، وهو أحد الذين عايشوا الشيخ في أواخر حياته:... في أحد الأيام الأخيرة من عمر الشيخ، اجتمعنا كلنا في الغرفة الكبيرة، وكان كل من السادة يقترح حلاّ على قدر فهمه، وكان هو يجيب. وفجأة التفت إليّ الشيخ وخاطبني بالاسم قائلاً: سيد بزرك خان، ماذا ترى أنت؟
فلملمت نفسي وقلت يا شيخ إني أرى أمرين: الأول هو أن تختفي في إحدى الدور ثم تذهب متستراً إلى العتبات المقدسة، وستكون هناك في أمن وأمان، وهناك الكثير ممن يستقبلك في داره بكل ترحيب.
قال: هذا لا يمكن، إذا وضعت قدمي خارج هذه الدار فإن "الإسلام" سيوصم بالعار. ثم هل يدَعون فعل ذلك؟! ماذا لديك بعد؟
قلت: الثاني هو أن تذهب إلى السفارة كما يفعل الكثير. فابتسم الشيخ وقال: يا شيخ خير الله، اذهب وانظر ماذا يوجد تحت المنبر؟ ذهب الشيخ خير الله وأخرج من تحت المنبر صرة مخططة. قال: افتح الصرة. ففتحها وانبهرنا جميعاً لرؤية علم أجنبي! يعلم الله أنا كنت أتعهد بحفظ الدار، لم أفهم أبداً من جاء بهذا العلم ومتى جاء ومن أين! فلم ينبس أحدنا بكلمة لما أصابنا من العجب!
قال: رأيت الآن، أرسلوا هذا لأضعه على سطح داري وأكون في أمان، ولكن أيجوز لي من بعد سبعين سنة ابيضت خلالها لحيتي للإسلام، آتي الآن وأذهب تحت راية الكفر؟! وأعاد الصرة من حيث أتت.
الاعتقال
يقول مشهدي علي أحد الحاضرين في دار الشيخ في تلك الأيام:
...رأينا العصر فجأة عدد كبير من قوات الشرطة الخاصة [ممن كان يسمى بالمجاهدين]! حاصروا الدار وأخذوا يتسلقون الجدران كالنمل والجراد واستقروا في السطح. كان الشيخ في المكتبة وغير مستقر الحال، فلما سمع أصوات التحرك خرج، وضع كلتا يديه على جانبي الباب وقال: "ماذا حدث ثانيةً؟!".
عندها تقدم رئيسهم وقال:
تفضل يا شيخ لنذهب معاً.
نظر الشيخ إلى الباب والسطح وقال:
كل هؤلاء المسلحين لاعتقالي أنا وحدي؟!
فأجاب الرئيس:
لقد سمعنا يا شيخ أن معك بعض العسكر.
فقال الشيخ:
ترى أنه لا يوجد ما تدّعي.
فلم يَدعوا الشيخ يتحرك من عتبة الباب! فذهب الميرزا هادي ليأتي بعباءته وعمامته وأخذوه.
المحاكمة
يقول مدير نظام نواب:
حل الثالث من رجب يوم ولادة مولى المتقين أمير المؤمنين عليه السلام؛ كنت يومها مسؤول الحراسة... عند الساعة الثالثة بعد الظهر أنزلوا الشيخ من مركز الشرطة (النظمية) وكلفوني مع عدة من القوات الخاصة (المجاهدين) بأخذه إلى مبنى گلستان. فوضعنا الشيخ في عربة وأخذناه إلى مبنى گلستان. كانت في گلستان بناية تسمى خورشيد هي اليوم مقابل باب العدلية الكبير. والبناية القائمة اليوم هي ليست تلك البناية< تلك البناية احترقت فيما بعد وبنوا محلها البناية الموجودة اليوم. وعلى أي حال، أخذنا الشيخ ــ حسب الأوامر ــ إلى بناية خورشيد داخل إحدى القاعات؛ في بناية خورشيد توجد ثلاث قاعات كبيرة جداً. دخلنا إحدى القاعات، كانت القاعة غير مفروشة، وفي وسط القاعة طاولة في أحد طرفيها كرسي وفي الطرف الآخر مقعد.
أجلسنا الشيخ على الكرسي وتنحينا جانباً.. وقفت أنا عند أحد الممرات، كان هناك نحو من عشرين متفرجاًُ أيضاً من قواتهم الخاصة وغيرها، ولكنهم جميعاً كانوا ممن يشاركهم العقيدة حيث أعطوهم إذناً بالدخول.
... كان الشيخ إبراهيم على رأس المحققين، حيث بدأ بالسؤال فوراً.. كانت أسئلته كلها حول الاعتصام في مرقد السيد عبد العظيم؛ لماذا ذهبت؟ لماذا قلت ذلك؟ لماذا كتبت كذا؟ من أين كنت تأتي بالمال؟ وما شاكل.. وكان الشيخ يجيب.
كان الشيخ إبراهيم يهاجم شيخنا كثيراً أثناء التحقيق، ثم قال رجل الدين الأمي هذا للشيخ على غير انتظار: "أنا أعلم منك يا شيخ!".
الصلاة في المحكمة
... وأثناء التحقيق طلب الشيخ رخصة للصلاة، فأرخصوه وفرش الشيخ عباءته قريباً هناك على أرضية الغرفة ليصلى الظهر..
إلا أنهم لم يسمحوا له أن يصلي العصر! كان الشيخ في تلك الأيام مريضاً ويعاني من ألم في رجله منذ أن أصابها الرصاص. فأخذناه من تحت عضده وأجلسناه على ذلك الكرسي وبدأ التحقيق والسؤال من جديد حول الاعتصام في مرقد السيد عبد العظيم. وأثناء الأسئلة دخل (يبرم) من الباب السفلية إلى القاعة بهدوء ووضعوا له كرسياً على بعد خمس أو ست أقدام خلف الشيخ وجلس هناك. لم ينتبه الشيخ لمجيئه؛ بعد دقائق حث أمر غيّر وضع القاعة تماماً، رأيت هناك صلابة من الشيخ لم أرها منه طيلة حياتي. كل المتفرجين أصيبوا بالهلع، أصابتني رجفة إذ سأل الشيخ فجأة المحققين: "من منكم يبرم"؟! فقاموا جميعاً احتراماً ليبرم وأشار أحدهم باحترام إليه، إذ كان خلف الشيخ، وقال: "يبرم خان هو سماحته"! فالتفت الشيخ إلى طرفه الأيسر نصف التفاته وأرجع رأسه وهو على كرسيه متكئاً على عصاه وقال بلحن جديد:
أأنت يبرم؟!
فقال يبرم: "نعم، أأنت الشيخ فضل الله"؟!
فقال الشيخ: نعم أنا!
قال يبرم: "أأنت الذي حرمت النظام الدستوري"؟!
فقال الشيخ: "أجل، أنا وسيكون حراماً إلى الأبد. مؤسسو هذا النظام ملحدون جميعاً، وقد خدعوا الناس".
فرجع الشيخ بوجهه عن يبرم إلى حاله السابق.
في الحال الذي كانت تخرج فيه هذه الكلمات من فم الشيخ بذلك الشكل الخاص أطبق السكوت على جدران القاعة؛ كان الجميع صامتين يستمعون.. ارتجف بدني، كنت أقول في نفسي أي فعل خطر هذا الذي يقوم به الشيخ في هذه الساعة! فإن يبرم كان آمر القوات الخاصة ومدير الشرطة!
بعد دقائق عاد يبرم من الطريق الذي جاء منه وانتهى التحقيق وقام الجميع. التفت أحد المحققين إلى المتفرجين وقال: "إلى الوقت الذي يعلن فيه عن محضر رسمي للجلسة، لا يحق لأحد منكم أن ينقل كلمة واحدة عمّا رآه هنا أو سمعه. كل من يتحدث بكلمة فسيكون جزاؤه الجزاء الذي سيلقاه هذا الشخص الآن، وأشار إلى الشيخ".
كنت أنا أقف طيلة التحقيق عند الممر؛ وعندما انتهى التحقيق تقدمنا ووضعنا الشيخ في عربة وتحركنا به نحو ميدان "توبخانه". كان التجمع في الميدان قد بلغ حداً لم يمكن معه للعربة أن تمر لتصل إلى مركز الشرطة، فأبقينا الشيخ في العربة عند مدخل شارع باب همايون، وشقت القوات الخاصة جموع الناس لتفتح لنا الطريق، وتقدمنا إلى مقابل باب الشرطة وأنزلنا الشيخ هناك وأدخلناه إلى المركز... ولا يفوتني أن أقول قبل يوم من استشهاد الشيخ نُشر بلاغ عن محاكمته، ولم يكن ما كتب فيه يمت بصلة قط إلى ما رأيت وسمعت قبلها بيوم.
شهادته
...أخذنا الشيخ إلى مركز الشرطة، وأجلسناه على مقعد جانب الجدار الشمالي للممر، كان ذلك في وسط الصيف؛ عرق الشيخ، كان يبدو تعباً. وضع يديه على رأس عصاه ووضع جبهته على يديه. ومنذ أن قال ذلك المحقق في بناية خورشيد "كل من يتحدث بكلمة فسيكون جزاؤه الجزاء الذي سيلقاه هذا الشخص الآن" كان الشيخ يعلم أنهم سوف يقتلونه، ولا سيما في طريق العودة عندما رأى ذلك التجمع في "توبخانه"، كان قد تيقن بذلك.
في الليلة التي قبلها نصبوا المشنقة مقابل الطابق الأعلى الذي سجن فيه السادة. إيوانات مركز الشرطة وغرفة البرقيات وجميع الغرف والسطوح المجاورة كانت مليئة بالناس. كاميرات التصوير في غرفة البرقيات وبعض الأطراف الأخرى كانت جاهزة ومنصوبة على قوائمها؛ كان كل شيء يحكي عن عدم وجود أمل. كل تمهيدات الإعدام كانت قد أعدت من الليلة السابقة. حلقة من القوات الخاصة شكلت دائرة حول المشنقة ووضع كرسي تحتها.
...فجأة دخل أحد أمراء القوات الخاصة بسرعة إلى مركز الشرطة ــ وهو غريب لا أعرفه ــ وأخذ يصعد السلم إلى الغرف العليا. رفع الشيخ رأسه عن يديه وقال لذلك الشخص بهدوء: إذا كان يجب أن أذهب إلى هناك (وأشار بيديه إلى ميدان توبخانه) فلا تؤخروني، وإذا كان يجب أن أذهب إلى هناك (وأشار إلى غرفة حبسه) فلا تعطلوني أيضاً. فأجاب ذلك الشخص بأنه سيتعين ذلك فوراً، وصعد بسرعة إلى الأعلى وعاد سريعاً وقال: تفضل هناك (وأشار إلى ميدان توبخانه).
فقام الشيخ بطمأنينة يضرب بعصاه متوجهاً إلى باب المركز.. كان الناس قد سدوا الطريق أمام المدخل، فتريث الشيخ عند أسفل المدخل وقامت القوات الخاصة بشق جموع الناس لتفتح له الطريق. وعلى وقفته عند أسفل الباب، ألقى نظرة إلى الناس ورفع رأسه إلى السماء وقرأ هذه الآية:
{وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد} وتوجه نحو المشنقة.
كان الثالث عشر من رجب عام 1327 للهجرة، يوم ولادة أمير المؤمنين علي عليه السلام.. قبل ساعة ونصف من غروب الشمس، وفي وسط هذه الجلبة، هبت ريح واختل الجو. كان الشيخ في السبعين من عمره وقد ابيضت لحيته. كان يتحرك بطمأنينة وهدوء ضارباً بعصاه يتفرج على الناس. عندما اقترب من المشنقة، التفت فجأة إلى الخلف وصاح: "ناد علي" ... .
لاحظوا في تلك اللحظات الحرجة والضوضاء والجلبة، كيف كان الشيخ منتبهاً بحيث عرف خادمه وسط ذلك الزحام وناداه... شق ناد علي زحام الناس وهرع إلى الشيخ وقال: "نعم يا شيخ"! ... هدأ الناس على صخبهم ليروا ماذا يريد الشيخ، كانوا يتصورن أنه يريد الوصية بشيء مثلاً، كان الجميع بانتظار ما يريده الشيخ... أدخل الشيخ يده في جيبه الجانبي وأخرج كيساً وألقى به أمام ناد علي وقال: "فتّت هذه الأختام أختامه يا علي"! ... الله أكبر كبيراً، لاحظوا بمَ كان يفكر هذا الرجل في تلك اللحظات العصيبة، لم يكن يريد أن تقع أختامه من بعده بيد أعدائه لكي يختلقوا منها الوثائق. أخرج ناد علي هناك بعض الأختام من الكيس وفتتها أمام الشيخ. بعد أن اطمأن الشيخ من تفتيت الأختام قال لناد علي: "اذهب"!، وواصل مسيره حتى وصل إلى الكرسي تحت المشنقة. فوقف إلى جانب الكرسي.. رمى عصاه أولاً أمام الناس، فانتشلوها! كانت على كتفيه عباءة رقيقة سوداء صيفية، رفعها عن كتفيه وألقى بها أمام الناس كذلك، فانتشلوها!
في تلك الأثناء ذهبت أنا إلى أعلى مدخل مركز الشرطة لكي أستطيع المشاهدة بشكل أفضل.. فاتكأت على إحدى الأسطوانات بحال مضطرب وأخذت أنظر من الأعلى؛ كنت على بعد أمتار من المشنقة.. أخذوا الشيخ من أبطيه وارتقى الكرسي من الجانب الأيسر.. أمامه البنك الملكي وخلفه مركز الشرطة. تحدث إلى الناس نحو عشر دقائق. ما سمعته من كلامه وبقي في ذاكرتي هو هذه العبارات:
"إلهي أنت الشاهد أني قلت لهؤلاء الناس ما كان يجب عليّ قوله. إلهي أنت الشاهد أني في هذا النفس الأخير لا زلت أقول لهؤلاء الناس أن مؤسسي هذا الكيان ملحدون خدعوا الناس... هذا الكيان خلاف الإسلام... محاكمتنا أنا وأنتم ندعها إلى النبي محمد بن عبد الله (ص)...".
بعد أن انتهى من حديثه أخذ عمامته عن رأسه ونفضها وقال:
"أخذوا العمامة عن رأسي، فسيأخذونها عن رأس الجميع".
قال ذلك ورمى بالعمامة أمام الناس، فانتشلوها.
عند ذلك أدخلوا الحبل في رقبته وأزاحوا الكرسي عن رجليه ورفعوا الحبل.. عندما أزاحوا الكرسي عن رجليه نزل جسمه بثقله إلى الأسفل قليلاً، إلا أنهم رفعوه فوراً، فلم ير أحد حركة من الشيخ بعد ذلك، كأنه لم يكن حياً في وقت من الأوقات!.
...رأينا بأمّ أعيننا غضب الله عليهم واحداً بعد آخر؛ فواحد أمطروه بالرصاص في بيته بعد سنه من شهادة الشيخ في العشرة الأولى من رجب، وآخر أصبح مجنوناً! كان هذا في حارتنا، جُنّ لشدة الهم والتفكير، وكان يقول دائماً: الشيخ فضل الله كان على حق.. كان يفهم أفضل منا، جئنا لنصنع خلاً فإذا به أصبح خمراً، والآخر (يبرم) نفسه جاءه سهم من الغيب، وآخر عميت عيناه، وذاك الذي كان أهم من الجميع انتحر ببندقية صيده! وبناية خورشيد هي الأخرى احترقت!
رأينا بأمّ أعيننا العديد من تلك القوات الخاصة الشقية كانوا يجلسون على الطرقات يتسكعون.. رأيت بنفسي بعض قادتهم معوقين، فقدوا أيديهم أو أرجلهم، يجلسون في "أرك" هذه، وكان أولئك الرؤساء يمرون بهم فينادونهم بأسمائهم ويقولون: أين ذلك الحساء الذي كان يجب أن تأتوا به إلى دورنا؟ أفلم نكن نحن الذين أوصلناكم إلى هذا المقام والرئاسة؟! ارحمونا، ولكن لا أحد كان يعتني بهم!
مرقد الشيخ الشهيد
وضعت جنازة الشيخ فضل الله مدة سنة ونصف في غرفة في داره سراً بشكل أمانة.. فالعدو الجبان لم يسمح حتى بدفنه. من بعد سنة ونصف نقل جثمانه سراً إلى قم ليدفن في إحدى مقابر الصحن المطهر للسيدة المعصومة سلام الله عليها.
وهناك قصص يرويها بعض كبار السن حول الدفن لا يمكن استبعادها؛ من ذلك يقولون عندما كان الشيخ معتصماً على طريق ثورة العدلية في قم، جاء يوماً إلى موضع قبره وقال لمن كان هناك: ستتحول هذه الأرض النكرة سريعاً إلى معرفة.
والقصة الأخرى التي تروى في هذا الصدد:
عندما أرادوا دفنه في ذلك المكان بلغ الأسماع صوت تلاوة قرآن بصوت حزين جداً، إلا أنه لم يُرَ أحد هناك!
ولقد دفن إلى جانب الشيخ فيما بعد زوجته وبعض أولاده، وقد علقت عند قبره أبيات من الشعر باللغة العربية للمرحوم الأديب بيشاوري.
تعليقات الزوار