السيرة الذاتية

 في سماء الثورة الإسلامية في إيران الملونة بحمرة الدماء سطعت نجوم زاهرة شقت صدر ليل الظلم المعتم، وطعنت قلب ذوي الأفئدة السوداء الجائرين بخنجر النور، وقضّت مضاجع الشياطين على طول التاريخ، وأنشدت لنزلاء الأكواخ نشيد "أليس الصبح بقريب" المترع بالآمال.

 يعتبر الشهيد السيد علي أندرزگو أحد أبرز هذه النجوم الساطعة، حيث قام بدور مشهود في دفع عجلة الثورة الإسلامية للأمام.

 فلقد كان مجاهداً لا يشق له غبار، واصل طريق النضال الدامي تحت راية ولي الأمر حتى النهاية دون أدنى ارتباط بالتنظيمات الملحدة والالتقاطية، وكان واحداً من حُداة ركب هذه الحركة الإلهية بلا مراء، وله دَيْن عظيم في عنق الشعب الإيراني المسلم.

 كما كان قائداً عظيماً زلزل بأقدامه الراسخة واسمه المهيب عرش النظام الملكي الأجوف، وكان طالباً عالي الهمة من طلبة العلوم الدينية، وفدائياً مؤمناً، ومصداقاً بارزاً لقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام) "في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون".

 لقد كان أخاً فدائياً ومضحياً، ومرشداً حريصاً، ورفيق خندق شجاعاً ومقداماً للتنظيمات الإسلامية والمجاهدة، كما كان مقلداً مطيعاً للإمام وتابعاً صادقاً للقائد، وكان شهيداً ضحى بكل حياته على طريق الجهاد في سبيل الله، ومصداقاً حقيقياً للمهاجر إلى الله.

 ولا شك أن رعايته التامة لقواعد التخفي وأصول التحفظ في سلوكه مع كافة أصدقائه وحتى مع أفراد أسرته، فضلاً عن استخدامه للعديد من الأسماء المستعارة لدى مواكبته وتعاونه مع التنظيمات المختلفة داخل وخارج البلاد تُعدّ كلها من الأدلة المهمة والأساسية على استحالة التاريخ الكامل لهذه الأسطورة المجاهدة.

 كما يمكن إضافة أمور أخرى لهذه الأدلة ومن أبرزها فشل السافاك في اللحاق به والقبض عليه، ومن ثم اضطراره لتدريج التحليلات الخاطئة والناقصة والمتهافتة حول شخصيته الفذة. 

 

الميلاد

 كان ميلاده في شهر رمضان المبارك عام 1316هــ ش (1357هــ ق) بينما المؤمنون متحلقون حول المائدة الإلهية ملبّين نداء "دعيتم إلى ضيافة الله" حيث كانت إيران والإسلام والمسلمون ولا سيما الشيعة يعانون أشد الضغوط في نطاق العداء السافر للإسلام والتدين الذي شنّه حكام ذلك الزمان مستهدفين علماء الشيعة الذين كانوا مشعل الهداية وحاملي لواء مجابهة الطواغيت على مر الزمان.

 ففي تلك السنوات التي مثّلت مرحلة الاستبداد المطلق لرضا خان بهلوي كان الالتزام بأحكام الدين والقرآن سبباً للابتلاء بالمشاكل والمصائب المختلفة. كما كان ذلك أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة للسيدات المؤمنات العفيفات اللائي فرض عليهن رضا خان قانون السفور.

 وفي تلك الظروف كانت عائلة السيد أسد الله اندرزو [اندرزوّر] التي تعيش في حي من أحياء جنوب طهران تنتظر وليداً لها. وبعد طول انتظار جاء الوليد ليلة الثامن عشر من شهر رمضان المبارك، وفتح ابن آخر من سلالة آل رسول الله (ص) الطاهرة عيونه على العالم. ولأن الميلاد تزامن مع أيام شهادة أمير المؤمنين علي (ع) فقد أطلق على المولود اسم "علي".

 نعم، فلقد خلّد المولود الذي طرق أبواب الدنيا في تلك الليلة اسم عائلة اندرزگو في تاريخ العالم بأسره وليس في تاريخ إيران وحسب. وهذا الابن لم يستخدم هذا الاسم على مدى أعوام متمادية بسبب لعبة الأقدار، وعاش في وحدة واغتراب، حتى لقد كان من المحذور والمتعذر عليه استخدام اسم "السيد علي" في داخله منزله.  

 

العائلة

 كان والده السيد أسد الله يشتغل بالبناء في البداية، ثم ما لبث أن تحول إلى بيع الأمتعة المتفرقة في ميدان شوش بجنوب طهران، وكان يعاني شظف العيش بسبب ما ألمّ به من إفلاس، لقد كان هو وعائلته من المحبين الراسخين لأهل بيت العصمة والطهارة، وقد رُزق سبعة أبناء، أربعة من الذكور وثلاثاً من الإناث، وكان السيد علي آخر العنقود.  

 

الدراسة

 لاحت علامات النبوغ على سيمائه منذ طفولته المباركة، وكانت تصرفاته دليلاً على ذكائه الوقاد الذي وهبه الله إياه. وكسائر أقرانه فقد التحق بالمدرسة في سن السابعة، وسجل اسمه في مدرسة "فَرّخي" الابتدائية الواقعة بالمنطقة التي يسكن بها. غير أنه ترك الدراسة بعد إنهاء المرحلة الابتدائية بسبب العوز والفقر الذي كانت تعاني منه عائلته، وتحول للعمل في (البازار) للمساعدة في تدبير أمور العائلة.

 ولكن السيد علي الذي كان يعدّ نفسه لخوض ساحة جهاد واسعة بقدر اتساع إيران، وأداء رسالة كبرى، ولم يكن يرى في الدراسة التقليدية على ما كانت عليه في ذلك الزمان عاملاً مساعداً على ذلك، انضم إلى صفوف مسجد منطقته لدراسة العلوم الحوزوية، فتتلمذ على يدي عدد من الأساتذة من قبيل حجج الإسلام السيد البروجردي والميرزا علي الأصغر الهرندي، وتوفر في تلك الفترة على دراسة جامع المقدمات، وتحف العقول، ونهج البلاغة، والفقه والأصول، وسواها من العلوم الدينية. وبعدما واجه من ظروف في أعقاب الإعدام الثوري لحسن علي منصور، فإنه عاش فترة في مدينة قم، ثم توجه إلى النجف الأشرف، ثم عاد مرة أخرى لمواصلة الدراسة بالحوزة العلمية في قم. وفي تلك الفترة درس التفسير والأخلاق لدى آية الله المشكيني، وآية الله مكارم الشيرازي، كما درس القوانين واللمعة لدى آية الله الدوزدوزاني. ولكن السيد علي أندرزگو الذي كان يدرس في الحوزة العلمية في قم تحت اسم مستعار هو الشيخ عباس الطهراني لم يلبث أن اكتشف أمره بسبب ما كان يمارسه من نشاطات، فنزع لباسه الديني وتوجه إلى منطقة "چيدر" في طهران وأخذ في مواصلة دروسه الحوزوية في المدرسة التي كان قد أسسها حجة الإسلام السيد علي الأصغر الهاشمي وكأن القدر كان له بالمرصاد، فعاد إلى حياة الاغتراب، ثم ما لبث أن جاور حرم الإمام الرضا (ع) في مشهد بعد عدة سفرات شاقة إلى أفغانستان وغيرها.

 وفي مشهد دأب الشهيد اندرزگو على حضور دروس المرحوم أديب النيشابوري الذي تتلمذ على يديه لمدة خمس سنوات كما تقول زوجة الشهيد، كما حضر دروس السيد الموسوي التي كان يلقيها في حسينية الاصفهانيين الكائنة في بازار "سرشور".

 وتدل قائمة الكتب الخطية والقديمة التي ضبطها السافاك لدى الشهيد اندرزگو على دقته المتناهية وحبّه الجم للدراسة، حتى أن الكتب الكثيرة التي كان يشتريها مع انهماكه في النشاط الجهادي كانت مثار دهشة وتعجب بعض المرتبطين به. كما تميز الشهيد بحبه الشديد للشعر ولا سيما الأشعار الدينية، وأقبل كذلك على التدريس رغم انشغاله بالتبليغ والدراسة، حيث كان يدرس اللغة العربية لبعض الطلبة في مدرسة "چيدز" وكذلك في المساجد الواقعة في بازار "سرشور" في مشهد.  

 

أعماله

 وكما ورد آنفاً، فإن الشهيد اندرزگو ترك الدراسة بعد إتمام المرحلة الابتدائية وفضّل العمل من أجل مد يد العون لوالده الذي كان يعاني الكثير في الحصول على لقمة العيش للعائلة، فذهب السيد علي للعمل لدي أخيه السيد حسن الذي كان يملك محلاً للنجارة في بازار طهران وواظب على ذلك لمدة عشر سنوات ولم يترك عمله كنجار إلاّ بعد التحاقه بالفرع العسكري للجمعيات المؤتلفة، واستمر في نشاطه الجهادي وعمله النضالي من أجل إسقاط نظام الشاه الجائر حتى آخر أيام حياته. غير أنه، ونظراً لارتباطه بالجماهير، كان عليه أن يتخذ له مهنة هدفاً للتمويه على نشاطاته، ومن هذه المهن والاشغال:

 قارئ للشعائر الحسينية، وبائع للمسابح والأختامن وبائع لمواد العطارة، وممارسة الطب التقليدي، ومقاول للبناء، وبائع للسجاجيد، وما إلى ذلك.

 ولقد وصلت تمويهاته في اشتغاله بالمهن المتعددة درجة استطاع بها حتى التمويه على أقربائه والمحيطين به، لدرجة أن أحد المرتبطين به تحدث عنه في لقاء مع مجلة "سروش" بعد انتصار الثورة الإسلامية على أنه من تجار البازار وبائع للشاي!  

 

الزواج

 أ ــ في البداية وفي أوائل عام 1343هــ ش، وفي الربيع السابع والعشرين من عمره، ذهب السيد علي إلى منزل الحاج رضا خواجه محمد علي ليخطب ابنته بناءً على توصية خاصة من الشهيد الحاج مهدي العراقي. وبعد إتمام مراسم الزواج، انتقلت الزوجة إلى بيت والد زوجها لبدء الحياة الزوجية. غير أن هذا الزواج لم يدم إلا لبعضة أشهر، فبعد تنفيذ خطة اغتيال حسن علي منصور اضطر الزوج للحياة في الخفاء، وتعرضت الزوجة ووالدها لأبشع أنواع الإهانات والاستجواب، وطالبتهما السلطات بتسليم الزوج أو الكشف عن مكان اختفائه، وكان الأقدار قد أبت إلا وأن تنتهي هذه الحياة الزوجية الجديدة، وكان على السيد علي أن يختار بين مواصلة طريق الجهاد مع رفقاء الدرب أو الإعلان عن نفسه والذهاب إلى مشنقة الاعدام.

 ومن البديهي أن الزوجة لم تكن لتوافق على مغادرة زوجها لخندق الجهاد، وذلك لأنها هي الأخرى كانت قد نشأت في أكناف أسرة مجاهدة، ومع أن الافتراق كان أمراً عسيراً عليها إلا أنها رضخت لمشيئة القدر، وانتهى المطاف بالطلاق بدون أولاد. ولم تلبث الزوجة أن استلمت بقلب دامٍ ورقة الطلاق التي جاءتها في البريد.

 ب ــ ولما وجد السيد علي أندرزگو أن حياته تسير من السيء إلى الأسوأ، وكذلك حياة أفراد عائلته وأقربائه الذين تعرضوا بسببه إلى الملاحقة والاعتقال والمراقبة، فإن حجة الإسلام الموسوي إمام جماعة مسجد چيذر العلمية قد توسطا له بعد سبع سنوات من التخفي والتشرد وأرسلاه تحت اسم مستعار هو الشيخ عباس الطهراني إلى منزل السيد عزة الله سيل سپور لخطبة ابنته ولتكون له رفيق حياة لمواصلة طريق الجهاد. وكما تقول زوجة الشهيد اندرزگو، فإن السيد علي بعث بعدد من السيدات المؤمنات في منطقة چيذر إلى بيت شريكه المستقبل ليقمن بالحديث في شأن الخطبة والإعداد لمقدمات الزواج، حيث كان من التقاليد السائدة ضرورة ذهاب عائلة العريس إلى بيت العروس للقيام بهذه المهمة. ولم يلبث الزواج أن تم في بساطة ويسر وبلا ضجة ولا ضوضاء. وكانت ثمرة هذا الزواج أربعة أبناء ذكورهم: السيد مهدي، والسيد محمود، والسيد محسن، والسيد مرتضى.  

 

النشاط الجهادي والنضالي

 وكما أسلفنا، فإن كل من يدّعي بأن لديه معلومات كاملة حول طبيعة نشاطات الشهيد أندرزگو السياسة والاجتماعية والجهادية، سيكون ادعاؤه هذا بلا أساس. والسبب في ذلك هو أن الشهيد كان يمارس نشاطاته في سرية تامة، ولم تكن طبيعته لتسمح له إلا بإفشاء القليل عن نشاطه لمن يشاركونه هذا النشاط فحسب، وهذا هو ما ضلل جهاز السافاك الرهيب بكل ما أوقفه من إمكانيات ونفقات بالهظة للتعرف عليه واعتقاله، حيث دام هذا الفشل الذريع لعدة سنوات، حتى عندما كانوا يتوصلون إلى درجة الثقة بالقبض عليه فإنهم كانوا يواجهون موله خالياً، وهذا مصداق لقوله تعالى {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً}.

 وفي الواقع فإنه يمكن القول بأن الشهيد السيد علي أندرزگو لم يكن فرداً حتى يمكن الإحاطة بكافة نشاطاته، بل إنه كان أمة على طريق الجهاد. إذاً… فمن الطبيعي أنه لا يمكن لهذه الترجمة الذاتية لحياته أن تلم بشتى أبعاد الحياة الجهادية لهذا الشهيد الفذ مع كل ما يدعمها من وثائق وأسانيد، ويا للحسرة إذ لم يعد بوسع أحبائه المشتاقين أن يستمعوا إليه هو متحدثاً بلسانه ولو بقبس من توجهات هذه الحياة الملألئة.  

 

خصائص شخصيته في مرحلة التكوّن

 تكونّت شخصية الشهيد السيد علي أندرزگو في مرحلة تاريخية خاضت إيران أثناءها أحداثاً جسيمة ومنها حركة تأميم النفط، وتسارع تغيير الوزارات، وإعلان حالة الطوارئ المتتابعة في طهران، واغتيال "هژير" على يد السيد حسين إمامي، ثم إعدام إمامي فيما بعد، ونفي وإعادة آية الله الكاشاني، واللقاءات المتكررة بين آية الله الكاشاني وأعضاء منظمة "فدائي الإسلام"، واغتيال "رزم آرا" على يدي خليل طهماسي، وإغلاق بازار طهران، ودور تجار البازار في هذه التحركات. وكان السيد علي منذ شبابه المبكر فتى متحمساً وكم سمع من العلماء والفضلاء ما يمارسه النظام الملكي من عسف وجور، كما كان قد تعلم الكثير في جامعة اسمها جامعة بازار طهران. وعندما كان في الثالثة عشرة من عمره (بعد عودته من زيارة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد) فإنه وقف في منطقة "دروازه دولت" في طهران، وصاح بأعلى صوته: "ما هذا البلد، وما هذه الحياة، وما هذا المَلِك!!". وقد صدر منه هذا التصرف عدة مرات.  

 

أ ــ فدائيو الإسلام

 كان السيد علي يحمل مشاعر خاصة تجاه فدائيي الإسلام والشهيد السيد مجتبى نواب صفوي، وشارك هذه المنظمة في جهادها المرير، كما كان يتميز بشخصية متديّنة ومعارضة للظلم والطغيان. ولهذا فإنه ذهب إلى قبر الشهيد نواب صفوي بعد استشهاده وعقد العهد مع روحه على مواصلة دربه. لقد آلمته شهادة المرحوم نواب صفوي وجرحت مشاعره وضاعفت في قلبه الحق والضغينة على الشاه وبطانته، فظل يترقب الفرصة ليثأر لدماء الشهيد صفوي سيراً على طريق الإسلام العزيز.  

 

ب ــ الجمعيات المؤتلفة الإسلامية

 وبتأسيس الجمعيات المؤتلفة الإسلامية تحقيقاً لإدارة التجمعات الدينية وبازار طهران، والتي كان يتولى أمرها نخبة من المجاهدين المخضرمين والذين كان بعضهم من رفاق الشهيد نواب صفوي ومنظمة فدائيي الإسلام في كفاحها الطويل، وبعد إحراز موافقة الإمام الخميني (ره)، فإن هذه الحركة أخذت في ممارسة نشاطها. وانضم السيد علي الذي كان يعمل في صناعة الصناديق لدى شقيقه في بازار طهران إلى جمعية الشهيد الحاج صادق أماني الهمداني وهي إحدى الجمعيات المؤسسة لهذا الإئتلاف، حيث كان يقوم بتوزيع بيانات الإمام الخميني (ره) وعلماء الدين المجاهدين.

 ولقد كان لشخصية الشهيد أماني الرفيعة والمجاهدة تأثير كبير على السيد علي فدفعته إلى مواصلة الطريق والقيام بالنشاطات السرية. وفي تلك الفترة كان السيد علي يتلقى دروسه لدى الميرزا علي أصغر الهرندي، فتعرف على الشهيد صفار الهرندي والشهيد بخارائي، وانخرط معهما في ممارسة النشاطات المختلفة، حيث أصبح حلقة الوصل بين الشهداء بخارائي وصفار الهرندي ونيك نژاد وبين الشهيد صادق أماني وصار عضواً في الفرع العسكري لحركتهم.  

 

الإعدام الثوري لحسن علي منصور

 وفي اجتماع للجنة المركزية، وبعد الحصول على فتوى من آية الله الميلاني، تقرر اغتيال حسن علي منصور رئيس وزراء الشاه في ذلك الوقت، حيث كان هو المخطط للائحة الكاپيتولاسيون المشؤومة، كما كان عميلاً لبريطانيا وأمريكا ويتمتع بدعمهما، وكان منفذاً للسياسة الغربية، ولم يكن هناك بُدّ من القضاء عليه جزاءً وفاقاً لجرائمه النكراء حتى يكون عبرة للذين تسول لهم نفوسهم بيع إيران للخونة والمستعبدين. وتوزّعت المسؤوليات، فالبعض كان عليه رصد تحركات رئيس الوزراء، والبعض تعهد بإعداد الوسائل اللازمة، بينما تحمل البعض الآخر مسؤولية تنفيذ الحكم الإلهي.

 وكان دور الشهيد اندرزگو في هذه العملية هو المراقب والمتممّ؛ أي الذي يقوم بالإجهاز على المعدوم فيها لو أخطأته رصاصات الشهيد بخارائي. ولم يكن نظام الشاه المنتشي بالكبرياء والخيلاء يدري بأن يد الثأر الإلهي ستمتد هذه المرة من جهة الجمعيات المؤتلفة ولا سيما بعد جرائم الخامس عشر من شهر خرداد عام 1342هــ ش والتصديق على مشروع الكاپيتولاسيون ونفي القائد الكبير الإمام الخميني (قده)، وأن حلم الأمن والاستقرار سيتحول إلى كابوس يقضّ مضاجع الحكام الخونة والمجرمين.

 وقبل ساعة الصفر بليلة، اجتمع المخططون للعملية في منزل الشهيد صفار الهرندي وقاموا بالتدقيق في الخطة للمرة الأخيرة، ثم انشغلوا بالدعاء والمناجاة بعد التأكد من صلاحية الأدوات والأسلحة والتوصل إلى أفضل وسيلة للهرب ومناقشة شتى الاحتمالات القائمة، حيث كانت هذه الليلة من ليالي القدر في شهر رمضان المبارك. ولكيلا يتسنى للنظام الفاسد أو التجمعات القومية واليساريين والالتقاطيين سوء استخدام هذه الحركة ونسبتها للأجانب أو الإعلان عن مسؤوليتهم تجاهها، فإن مخططي العملية أعدّوا بياناً وأشرطة سجلوا عليها الهدف من تنفيذ هذه العملية، كما كتب كل منهم وصيته. ولكن كافة هذه الوثائق وقعت في أيدي الشرطة ورجال الأمن ولم يظهر لها أثر حتى بعد انتصار الثورة الإسلامية.

 ومضى الليل، وأشرقت شمس اليوم الموعود، ووصل رئيس الوزراء إلى ميدان بهارستان في تمام العاشرة صباحاً، وترجّل من سيارته للدخول إلى مبنى مجلس الشورى القومي (البرلمان).

 وكان الشهيد بخارائي يرتدي كنْزَةً (جاكتة) من القطيفة المربعة، وبدا كأحد الشباب المتغربين، بينما كان الشهيد اندرزگو وهو صبيّ نجار يرتدي حلّة جديدة مكوية ورباط عنق أهداه له الشهيد الحاج صادق أماني بهدف التمويه. وأما الشهيد نيك نژاد والشهيد هرندي فكانا يرتديان لباساً عادياً، وكان الشهيد الحاج صادق أماني يرقب العملية منتظراً في إحدى سيارات الأجرة.

 ويصور زملاء شهداء هذه الحادثة كيفية تنفيذ الخطة فيقولون: "أطلق الشهيد بخارائي رصاصة على منصور فأصابت بطنه، فانحنى، وعندئذ جاءته الرصاصة الثانية فاستقرت في حنجرته القذرة. ولما همّ الشهيد بخارائي بإطلاق الرصاصة الثالثة مستهدفاً دماغه تعطّل السلاح، فلاذ الشهيد بخارائي بالفرار".

 وتقول زوجة الشهيد اندرزگو في لقاء مع مجلة سروش بتاريخ 11/6/1359هــ ش موضحة دور الشهيد اندرزگو: "خطا السيد علي الخطوة الأولى في تنفيذ العملية بكل ما لديه من مهارة، فألقى بنفسه أمام إحدى سيارات الشرطة، ووقع رجال الشرطة في مأزق من أن يكونوا داسوه بسيارتهم، فاختلت حركة المرور، وأعيقت سيارة منصور عن الحركة".

 وبعد أن لاذ الشهيد بخارائي بالفرار، أطلق الشهيد مرتضى نيك نژاد عدة رصاصات في الهواء لتضليل الشرطة في ملاحقة بخارائي، فأصبت رصاصتان ميزاب مركز الشرطة، وأصابت أخرى الواجهة الزجاجية من ناحية اليمين للسيارة التي كانت تقلّ جسد منصور إلى المستشفى. ونجح رجال الشرطة في القبض على الشهيد بخارائي الذي سقط حينما كان يجري بسرعة على الأرض المتزلجة جراء سقوط الجليد. وعندما شاهد الشهداء اندرزگو ونيك نژاد وهرندي تأزم الأوضاع فإنهم أسرعوا إلى ميدان شوش طبقاً للاتفاق مع الشهيد أماني، وسلّموا الأسلحة وتقرر ألا يذهب أحد منهم إلى منزله طيلة أسبوع كامل وأن يعيشوا في الخفاء طوال هذه المدة.

 وبعد القبض على بخارائي، نزلت كل قوى المخابرات والأمن بما فيها قوات الشرطة والدرك والسافاك إلى الساحة، وجاء المدعو نصيري الذي كان مديراً عاماً لكافة قوات الشرطة في البلاد للتحقيق بنفسه شخصياً مع بخارائي في قسم الشرطة. وقد وصف أول تقرير خبري يصدر بهذا الشأن بخارائي بأنه أبكم على ما يبدو، حيث أنه كان قد عقد العزم على الصمت وعدم الإدلاء بأية أقوال، كما كان قد أعدّ نفسه للقاء المحبوب.  

 

بدء حملة الاعتقالات الواسعة

 وعن طريق والد ووالدة الشهيد بخارائي تم التعرف على أصدقائه المقربين، ثم اعتقل الشهيدان نيك نژاد وصفار هرندي. وأثناء الاستجواب وتحت أبشع الوان التعذيب أزيح النقاب عن اسم الشهيد الحاج صادق أماني والشهيد السيد علي أندرزگو. فأصدر الشاه شخصياً أوامره بالقبض عليهما، واستمرت التحقيقات بلا هوادة. وبعد ذلك تم تسليم أصدقاء السيد علي وزملائه في الجهاد إلى محكمة عسكرية جائرة، فحكمت على الحاج صادق أماني ومحمد بخارائي ومرتضى نيك نژاد ورضا صفار الهرندي بالإعدام، ثم حكمت على البعض بالسجن المؤبد وعلى البعض الآخر بالسجن الطويل الأمد وعلى بعضهم أيضاً بالسجن القصير الأمد، وحكمت غيابياً بالاعدام على السيد علي أندرزگو. وفي يوم بطول يوم عاشوراء اقتيد زملاء السيد علي إلى المشنقة في كربلاء الإيرانية ليلتقوا بالمعبود وقد تزيّنوا بوشاح الشهادة.  

 إجراءات السافاك والشرطة للقبض على السيد علي أندرزگو

 وأصدر الشاه أوامره المباشرة إلى قوات السافاك والشرطة بالنزول إلى الساحة بكافة ما لديهم من إمكانيات وأن يستخدموا كل ما عندهم من حيل فربما كان الحظ حليفهم. وبالطبع فقد ذهبوا أوّلاً إلى عائلة السيد اندرزگو، فاعتقلوا والده وإخوته وزوجته ووالد زوجته علّهم يتوصلون إلى طرف خيط للقبض على السيد علي. كما حصلوا على صورته من أحد مراكز ثبت الأحوال المدنية ومن شقيقه فاستنسخوها ووزعوها على كافة أفراد السافاك والشرطة والجمارك والحدود، ثم أرسلوا شقيقه السيد حسين مع أحد رجال الأمن إلى مشهد بحثاً عن السيد علي الذي كان قد قال عند الوداع بأنه متوجه إلى مشهد واستمر البحث لمدة أسبوع كامل، كما أرسلوا شقيقه الآخر السيد محمد مع رجل آخر من رجال الأمن إلى إصفهان حيث كان يسكن أحد أزواج خالاته.

 وكانت إجراءات البحث في هذه المرحلة من الشدة بحيث كانت تصل التقارير المتعددة خلال يوم واحد إلى مسؤولي الأمن والشرطة أملاً في العثور على أثر السيد أندرزگو ليشفوا غليلهم بالعثور عليه واعتقاله. ومع ذلك فقد عادوا خالين الوفاض من أنواع الرقابة المشددة على منزل الوالد والشقيق ووالد الزوجة والخال فضلاً عن تفتيش منازل العديد من الأهل والأقارب وأخذ العهود الغليظة منهم {ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين}. وفي تلك الأثناء تم القبض على بعض الأشخاص الشديدي الشبه بالسيد علي وأخضعوا لسلسلة من الاستجوابات، ومن هؤلاء محمد رضا شريفي ومحمد رضا قرباني. والطريف في هذا الأمر أن سبب اعتقال محمد رضا شريفي كان الجلوس بجانب محل للنجارة في مدينة گلپايگان! وتواصلت الاجراءات، واستمر إرسال الصور إلى المعنيين من عناصر الأمن والشرطة، ولكن كل جهود قوات السافاك والشرطة ذهبت سدى غافلين عن أن طائر الحب يحلق خارج القفص. فبعدما لاحظ السيد علي بأن دائرة الحصار تضيق وتشتد وأن كل رفاقه وقعوا في قبضة النظام الملكي الطاغي، فإنه أعمل ذكاءه المفرط في رسم خطة للهرب بعد تلك المدة التي عاشها في الخفاء، فودع أرض الوطن وسافر إلى العراق. ولكن لأنه كان قد عقد العزم على مجابهة أزلام الطاغوت حتى الرمق الأخير فإنه ما لبث أن عاد إلى إيران بعد بضعة أشهر.

 وفي شهر تير عام 1346هــ ش قام أحد عناصر السافاك من المنافقين المندسّين بين صفوف المجاهدين والذي كان عاملاً من عوامل القبض على الكثير من المجاهدين بتقديم تقرير يفيد بأن السيد علي اندرزگو قد عاد توّاً من العراق إلى إيران حاملاً مسودة لبيان الإمام الخميني (ره) حول أحداث الشرق الأوسط، وأنه قد شوهد في شارع "غياثي" في طهران. وما لبثت قوات الأمن أن داهمت منازل شقيق السيد علي وخاله الواقعة في تلك المنطقة وفرضت عليها الرقابة المشددة لدرجة التدقق في أرقام الدراجات والدراجات البخارية التي يستخدمها سكان المنطقة. غير أن كل ذلك لم يجدهم نفعاً وغرقوا في دوامة من اليأس والفشل.  

 

الشيخ عباس الطهراني

 وكان السيد علي أندرزگو قد جرّب بأن تغيير الملابس هو أفضل وسيلة للتمويه عندما كان يدرس مقدمات العلوم الحوزوية لدى حجة الإسلام الميرزا علي أصغر الهرندي قبل اغتيال منصور، فتوجه إلى مدينة قم لمواصلة الدراسة في حوزتها العلمية مستمراً في حياة الخفاء تحت اسم مستعار هو الشيخ عباس الطهراني. ولأن قوات الأمن كانت قد نشرت نسخاً من صورته في كل مكان فإنه رأي أن اراتداء الملابس الدينية سيكون أجدى نفعاً في تضليلهم. وفي عام 1347هــ ش قام شخص اسمه بشارتيان بالعمل على بناء دار للسينما في مدينة قم الدينية مستغلاً دعم النظام الحاكم له في كسر شوكة المجاهدين وتوجيه ضربة لصرح الحوزة العلمية في قم. فتقدم الشيخ عباس الطهراني إلى واجهة المواجهة وبدأ تحركاً معارضاً مع جمع من طلاب الحوزة العلمية تعبيراً عن الاحتجاج على بناء السينما وطلباً للدعم، ومن ثم توجه المحتجون إلى منازل مراجع التقليد ومنهم سماحة آية الله العظمى الگلپايگاني وشريعتمداري، واستطاع الشيخ عباس أن ينال تشجيعهم بخطاباته الملتهبة.

 ورغم كافة الاجراءات والاحتجاجات فقد تم بناء السينما، حتى قامت مجموعة اشتهرت باسم عباس آباد بتفجير دار السينما في قم بمساعدة السيد على أندرزگو. وبتتابع التقارير حول الحركات الاحتجاجية بدعم من الشيخ عباس، فإن السافاك قام بفتح ملف اسمه في قم وبعث بهذه التقارير إلى القيادة. وشعر الشهيد اندرزگو بتحركات السافاك وأن الشيخ عباس الطهراني خاضع للمراقبة، فأسرع بالالتحاق بالمدرسة العلمية التي كانت قد افتتحت حديثاً في منطقة "چيذر" في طهران، ولكن بالملابس المدنية في هذه المرة.  

 

چيذر

 وبعد مدة قضاها في المدرسة العلمية في چيذر، فإن السيد علي أندرزگو ما لبث أن ارتدى الملابس الدينية مرة أخرى وذلك خلال مراسم في يوم النصف من شعبان، وأخذ يمارس التبليغ كأي طالب حوزوي آخر. فحضر الدروس، وقام بالتدريس، وقرأ الشعائر الحسينية في المنازل، وخطب على المنبر، وصار إماماً للجماعة في مسجد رستم آباد، وعُرف كطالب نشط في الحوزة العلمية في قم بدعوة من علمائها الكبار من أمثال سماحة آية الله المشكيني. ولكنه كان مستمراً في ممارسة نشاطاته التنظيمية تحت غطاء من السرية المتناهية.  

 

ج ــ حزب الله

 وكان الشهيد اندرزگو قد ارتبط بمحمد مفيدي في تلك الفترة، وشارك في تنظيمات حزب الله عن طريق توفير السلاح وتزويدها بالمعلومات، وباشر نشاطه بهدف توجيه ضربة لهيكل النظام الملكي. وتواصلت هذه النشاطات حتى اعتقال محمد مفيدي بعد اغتيال اللواء طاهري. وعندئذ جمع السيد علي أثاث منزله مستخدماً إحدى الحيل وغادر طهران إلى قم، وأخذ حذره في المجيء إلى چيدز، حتى تأكد بأن محمد مفيدي لم يعترف بشيء ضده، فعاد ليواصل نشاطه براحة بال.  

 

د ــ منظمة (مجاهدين خلق)

 ولأن السيد علي أندرزگو كان يعلم بأن خلاص إيران من قبضة المستعمرين وعملائهم لن يكون إلاّ بقيام الحكومة الإسلامية، وأن هذا هو دافعه للالتحاق بركب الجهاد، فإنه لم يدخر جهداً في تحقيق هذا الهدف السامي. وكانت منظمة (مجاهدي خلق) تتمتع بدعم المتدينين والعلماء المادي والفكر في ذلك الوقت، ولم يكن قد ظهر شيء بعدُ حول تمايلهم للماركسية، فارتبط السيد علي بهذه المنظمة إثر تعرفه على أحمد رضائي من اللقاءات الدينية التي كانت تعقد في مسجد (هدايت) و(مكتب توحيد)، وأخذ يوفر لهم الأسلحة إلى مجاهدي خلق، حيث كان هذا يتم سابقاً عن طريق محمد مفيدي، ولكن النجاح لم يكتب لهذه المحاولة، إذ تم القبض على أسد الله تأملي الذي كان قد ذهب إليه فياض لتسليم الأسلحة، كما اعتقل فياض أيضاً، واعترف على الشيخ عباس الطهراني تحت أبشع أساليب التعذيب، ودلّ السافاك على مكان اختفاء الأسلحة. وبعد اعترافات مجيد فياض قام السافاك باعتقال عزة الله سيل سپور والد زوجة الشهيد اندرزگو، وذهبوا به إلى قم للقبض على الشيخ عباس الطهراني. وكان السيد علي قد سافر للتبليغ، فانتظره السافاك للقبض عليه عند عودته. ولكن الشيخ عباس عاد إلى قم قبل الموعد المقرر بيوم واحد وشعر بحاسته القوية أنهم يراقبون منزله، فدلف إلى المنزل مستخدماً إحدى الحيل، وأخذ زوجته وابنه البالغ من العمر ستة أشهر وعاد بهما إلى طهران وقصد منزل أحد أصدقائه القدامى الذي كان على ارتباط معه منذ عامي 42 ــ 1343هــ ش وداهم السافاك بوحشية منزله في چيذر وفي قم واستولوا على كافة ما لديه من متاع تعبيراً عن غضبهم الشديد. وضاعفت المشكلة أخت زوجة الشهيد اندرزگو التي كانت معهم في قم في مهمة تبليغية حتى لا يكون أفراد العائلة وحدهم، ولهذا فإنه أخذها معه أيضاً إلى منزل صديقه أسد الله أوسطي عند هربه من قم. وضاعف السافاك من إجراءاته للقبض على السيد اندرزگو عندما علم أن أخت زوجته برفقته، وذلك من خلال المراقبة التي فرضوها على منزل عزة الله سيل سپور. وبعد ثلاثة أيام، حلق السيد علي لحيته وبدّل ملابسه، وتوجه مع العائلة إلى مشهد من أجل مغادرة البلاد، وكان قد كلّف صديقه أسد الله أوسطي بأخذ أخت زوجته إلى منزل عمه في منطقة ورامين متوخياً الحذر الشديد. ولدى وصول السيد علي إلى مشهد فإن عدد من أصداقئه وزملائه في الجهاد إضافة إلى حجة الإسلام والمسلمين واعظ طبسي قد ساعدوه على الذهاب إلى زاهدان في طريق الهرب إلى أفغانستان. ولكنه بعد الذهاب والإياب من أفغانستان وجد أنه من الأفضل أن يقيم بمدينة مشهد، فحط الرحال بجوار ثامن الحجج الإمام الرضا (ع).  

 

مشهد المقدسة

 وكان أول عمل قام به السيد علي لدى عودته إلى مشهد أنه استخرج لنفسه وزوجته وابنه بطاقة شخصية مزورة، واستأنف نشاطه تحت اسم السيد حسين الحسيني، واستأجر له منزلاً في أحد أزقة شارع خاكي. ولكنه اضطر لمغادرة هذا المنزل ولسكنى في حارة بازار سرشور بمساعدة أصدقائه، وذلك بعد قرار السافاك بضرورة إقدام أصحاب المنازل على إخبار مراكز الشرطة بالمستأجرين. ومع خضوعه للمراقبة الشديدة في مشهد، فإن أحد نشاطات السيد علي كان جمع الأشخاص المختلفين بعد توجيه السافاك ضربته إلى منظمة مجاهدين خلق، وإحضار هؤلاء الأشخاص إلى مشهد وتأسيس تنظيم لاستئناف النشاط الجهادي. واتسع نطاق نشاطات السيد علي أندرزگو التي كان يقوم بها هذه المرة تحت اسم الدكتور حسين الحسيني، وامتدت إلى خارج الحدود. فقام برحلات متعددة إلى لبنان والمقرات الفلسطينية وسواها لإعداد المقدمات اللازمة من أجل تدريب العناصر المتدينة في (منظمة فتح) بمساعدة جلال الدين الفارسي. 

 

ضغوط متعددة

 1 ــ ظل السافاك والأجهزة الأمنية يترصدون القبض على السيد علي أندرزور (اندرزگو) حيث كان ملفه مازال مفتوحاً لديهم بعد قرار الشاه بعدم إغلاق هذا الملف إثر اغتيال منصور وضرورة القبض على السيد علي أندرزو. فاستمروا في متابعة هذه القضية خلال عدة أعوام، وكانوا كلما فشلوا في عملية لهم للقبض عليه عادوا للتخطيط من جديد وقد اشتد غضبهم عن ذي قبل. وتدل المراسلات المتعددة والنفقات الباهظة وإجراءات الملاحقة والمراقبة الدورية ومداهمة منازل الأقارب والمعارف على تعطش جهاز السافاك الرهيب للحصول على السيد علي، فحرموه من الشعور بالأمن والاستقرار حيثما كان. ومن الطبيعي أن حياته في الخفاء في ظل هذه الظروف القاسية كان عملاً بالغ المشقة ولا سيما أنه كان يستخدم أساليب إسلامية حتى في التخفي بعيداً عن أساليب المنافقين. وتدل مجموعة الوثائق التي تم الحصول عليها بهذا الصدد على صدق هذا الادعاء لدى كل منصف وصاحب ضمير حيّ.

 

2 ــ المنافقون

 في عام 1344هــ ش تعرّف سعيد محسن ومحمد حنيف نژاد وأصغر بديع زادگان أحدهم على الآخر خلال لقاءات (نهضة الحرية). ولأنهم لم يقتنعوا بالأفكار المساومة لهذه الحركة، فقد قرروا تأسيس تنظيم جديد. وظلت هذه الفكرة لعدة سنوات رهن الدراسة والبحث واستقطاب العناصر اللازمة، فعرفت في البداية باسم (منظمة تحرير إيران) ثم اشتهرت باسم منظمة (مجاهدي خلق إيران). وكان الفكر الديني لمؤسسي هذه المنظمة نابعاً من الأفكار الدينية التقليدية والإسلامية التي كانت تطرح في اجتماعات (نهضة الحرية) والتي امتزجت بدراساتهم الشخصية خلال العامين الأولين لتأسيس الحركة، فكانت سبباً في ترسخ الأفكار الإلتقاطية في أصولهم الفكرية الدينية. ولم يكن هذا الفكر الالتقاطي واضحاً في السنوات الأولى الأمر الذي حدا بالعناصر الدينية المجاهدة للانضمام إليهم من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد مكّنهم من الحصول على الدعم المادي والمعنوي من علماء الدين المجاهدين والعناصر الدينية المكافحة وتجار البازار.

 وكان السيد علي أندرزگو أحد الذين تمتعوا بهذه الأمور الثلاثة، أي ضم العناصر المنظمة، ومدها بالإمكانيات المادية والتسليحية، وكذلك دعمها والدفاع عنها. وقد ظهرت دلالات الانحراف الفكري لدى منظمة مجاهدي خلق بشكل ملحوظ في عامي 1349 ــ 1350هــ ش عندما لجأت في أبحاثها للتركيز على الفقر في النضال والوقوع في التحليلات الطبقية حيث يُعتبر التأكيد على البنى الاقتصادية لا غير في أحياء جنوب طهران والنفوذ خلالها لاستقطاب العناصر المؤهلة واحدة من هذه الدلالات. ولأن الشهيد اندرزگو كان يتميز بحاسة قوية وفكر ديني أصيل، فإنه اكتشف الانحراف العقائدي لدى المنظمة في تلك الفترة. وبإلقاء نظرة على اعترافات السيد مجيد فياض 1351هــ ش، فإننا نجد فرقاً شاسعاً بين أفكار سعيد صفار الأول والشيخ عباس الطهراني، حيث كان كل همّ سعيد هو استقطاب الأعضاء والتركيز على الفقر والوضع المادي للعمال وما إلى ذلك، بينما كان الشيخ عباس لا يهتم إلاّ بالعمل بأحكام الدين والقرآن.

 وبإعلان المنظمة عن مواقفها الالتقاطية والماركسية 1354هــ ش، وقتل مجيد شريف واقفي واغتيال صمدية لباف، فإن الشيخ عباس الطهراني كان أحد الذين تقرر تصفيتهم جسدياً، وذلك بسبب ما أورده من نقد على بيان تغيير المواقف الآيديولوجية وقطعه للمساعدات المالية.

 وكانت هذه القضية هي السبب في تشديد السافاك لضغوطه على السيد أندرزگو ذلك الرجل الشهم والمقاوم. وحتى في تلك الفترة، ولأن بعض العناصر الدينية كانت مازالت باقية في المنظمة، فإن السيد علي ظل يسعى في استقطاب القوى دعماً لهذه المجموعة، وكذلك لم يتوقف عن دعمه المالي والتسليحي، غير أنه جعله مقصوراً على هذه المجموعة فحسب.

 

3 ــ عوامل النفوذ والاختراق

 إن إحدى وسائل الأجهزة الاستخباراتية كيفما وحيثما كانت هي بث عناصرها النفوذية بين صفوف الحركات والتنظيمات التي من شأنها الاخلال بالنظام الحاكم. وقد استغل جهاز السافاك هذا الاسلوب أيضاً وتغلغل في صفوف الجماعات والتنظيمات والجمعيات والمساجد وسواها عن طريق ترغيب وترهيب العناصر المتزعزعة في هذه التنظيمات مما جعله على اطلاع بنشاطات المجاهدين بصورة مستمرة. ومع فشل هذه الوسيلة بالنسبة للشهيد أندرزگو بسبب شدة مراعاته لأصول التخفي، إلا أنها تكللت بالنجاح في السنوات الأخيرة، فزرع السافاك حوله العديد من عوامل النفوذ بغية إرضاء أسيادهم.

 

4 ــ الغربة داخل الوطن

 ثمة عدد من الأشخاص يخافون بالفطرة وهؤلاء لا حرج عليهم. ومن هؤلاء بعض المتدينين الذين كانوا يدعمون الثورة الإسلامية ويسيرون في ركابها، ولكنهم لم يخوضوا غمار القتال حتى ليوم واحد خوفاً من القتل. كما كان هناك بعض الذين يرتجفون رعباً في أيام المواجهة المريرة عندما يسمعون اسم السافاك. ولهذا فإنهم كانوا يتجنبون كل من له نشاط في ساحة المواجهة المسلحة حتى لا يكون سبباً في وقوعهم بأيدي الأجهزة الأمنية. ولا شك أن الاحساس بالخطورة كان مضاعفاً لديهم عندما يكون الأمر متعلقاً بالارتباط بالسيد علي أندرزگو، حتى أنه لم يكونوا مستعدين لإلقاء السلام عليه. وكان هذا الجفاء يمثل أحد الضغوط خلال الحياة الجهادية لهذا الشهيد الشامخ، وهو ما لا يعدّ بالقليل. ومع ذلك فإن مثل هؤلاء يفضلون ألف مرة أولئك الذين اقتحموا غمار المواجهة ولكنهم اعترفوا بكل شيء عند تلقي أول سوط، فكانوا سبباً في استشهاد زملائهم ورفاق دربهم.  

 

العثور عليه واستشهاده

 وبالقبض على عدد من المرتبطين بالسيد على أندرزگو عن طريق اللجنة المشتركة لمكافحة الشغب في طهران، فقد تم التعرف على السيد علي من جديد واستخدم السافاك تليفون أحدهم من أجل الإيقاع به. وعن طريق هذا التليفون اكتشف السافاك عنوانه في مشهد ونما إلى علمه أن السيد أندرزگو يمارس نشاطه في هذه المرة تحت اسم مستعار هو جوادي. ولم تدخر هذه اللجنة وسعاً في استخدام شتى الأساليب الممكنة والعناصر الذليلة المأجورة للتقرب من الشهيد اندرزگو والتعرف على طبيعة نشاطاته. وكانت الثورة الإسلامية تشق طريقها نحو الذروة، بينما كانت صرخات الشعب المسلم تنطلق بقيادة الإمام الخميني (ره) لتزلزل أعمدة قصور الاستبداد. ومع أن أجهزة الشاه الأمنية كانت تمر بمأزق حرج، بينما كان نطاق التظاهرات ونشر البيانات يتسع يوماً بعد آخر، إلاّ أنها لم تكف عن المراقبة الشديدة للسيد أندرزگو، وكأن دوره كان أساسياً وحيوياً في تنظيم التجمعات وتوزيع البيانات. وكان اثنان من العناصر النفوذية قد سافرا إلى لبنان من أجل التدريب. وكان خبراء السافاك يعتقدون بأنهما لو عادا إلى إيران فستسند إليهما مسؤوليات خطيرة، وعندئذ ستكون هذه العناصر النفوذية قناة جديدة للسافاك لمراقبة المجموعة. وأعد المعنيون تقريراً بهذا الشأن، ولكن الأوامر صدرت بهذه الصيغة: "كفوا عن التحقيقات واقبضوا عليه، واكتشفوا باقي العناصر عن طريقه". وكان السيد علي أندرزگو يقوم بإحياء مراسم ليلة القدر في منزل صديقه (رجب علي أفشار) ليلة التاسع عشر من شهر رمضان، وكان يناجي ربه من أعماق قلبه: "اللهم اجعله قتلاً في سبيلك". وفي يوم التاسع عشر من شهر رمضان، وقبيل الإفطار، توجّه السيد علي إلى منزل الحاج أكبر، بينما كانت فرق السافاك قد كمنت له في الطريق. ولكن السيد علي لم يكن من أولئك الذين يمكن القبض عليهم وهو الذي كم قال لأصدقائه: لن يكون بوسع السافاك القبض عليّ حياً! وبحركة منه تأهّب رجال السافاك لإطلاق النار، ثم ما لبثت مئات الرصاصات أن أطلقت عليه تعبيراً عن مدى ما يكنّوه له من حقد وغضب شديد. واستقر عدد كبير من الرصاص في جسده حتى يلقى ربه صائماً محتسباً ويشرب كأس الوصال الأوفى من يد ساقي الكوثر (عليّ) عليه السلام. وفي آخر اتصال بالهاتف، تحدثت ابنة الحاج أكبر الصالحي مع والدها في دكانه وهي تقول:

 "والدي، لقد سمعنا صوت إطلاق النيران بالقرب من المنزل، وسقط أحد الأشخاص قتيلاً، ولم يصل السيد جوادي إلى المنزل حتى الآن".  

 

ما بعد الشهادة

 وبدأت حملات الاعتقال المسعورة، وألقي القبض على من تم التعرف عليهم ممن لهم أدنى ارتباط بالسيد علي أندرزگو في طهران ومشهد، واستمرت التحقيقات حيث انهم لم يشفوا غليلهم حتى بعد استشهاده، فداهموا منزله في مشهد المقدسة واستولوا على متاعه مرة أخرى، وأخذوا زوجته وأطفاله إلى طهران تحت رقابة مشددة. ويقول أبناؤه الصغار إنهم لم يتورعوا عن إهانتهم وتعذيبهم وإن لجنة "إفين" قد استجوبت زوجة الشهيد عدة مرات مع ما رافق ذلك من أنواع المضايقات والأذى.  

 

بعد الثورة

 وبعد انتصار الثورة الإسلامية بخمسة عشر يوماً تم استدعاء زوجة وأبناء الشهيد حجة الإسلام السيد علي أندرزگو إلى طهران مرة أخرى، ولكن بواسطة إمام المسلمين في هذه المرة. فاستقبلهم الإمام في منزله بحفاوة بالغة وأسبغ عليهم من عطفه العميق حتى يمسح عن وجوههم المتعبة غبار الغربة والألم الذي خيّم على حياتهم في الأعوام السالفة وليمسّد جروحهم ببلسم الصبر والاستقامة.  

 

خصاله الأخلاقية

 أ ــ يتفق الكثيرون ممن كانت لهم صلة بالشهيد أندرزگو أن ضميره كان بحراً متموجاً بالتوكّل على الله، وذلك انطلاقاً من اعتقاده الراسخ بالنصر الإلهي والغيبي. لقد كان يؤمن إيماناً جازماً بقول تعالى {وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون}، وكان يخلص نفسه من المهالك في أحلك الأزمات تمسكاً بحبل الله المتين وذكره سبحانه.

 ب ــ استخدام وسائل التخفي المناسبة عند الحاجة، ومعرفة أصول التخفي والسريّة والاستخبارات، وعدم إفشاء المعلومات والقدرة على القيام بالأدوار المختلفة، والالمام بمختلف اللهجات المحلية، والمهارة في تغيير الشكل والملامح، والتخصص في وضع الوثائق، والتمتع بقنوات قوية وواسعة للارتباط مع فصل كل واحد عن الأخرى. وقد جعلت منه كافة هذه الخصائص مجاهداً عظيماً، حيث كان بإمكانه التردد على الأماكن العامة والخاصة المختلفة والقيام بالسفر إلى الخارج دون أن تهتدي إلى أثره العناصر الأمنية المبثوثة حوله في كل مكان.

 ج ــ كان السيد علي ملتزماً بالمبادئ الدينية طوال حياته، كما كان عطوفاً ومتهلل الأسارير دون توانٍ عن مدّ يد العون للفقراء والمستضعفين على الدوام. ومع أنه كان يستقبل الأموال الطائلة على امتداد حياته الجهادية إلا أنه كان يعيش حياة بسيطة ولا ينفق إلاّ من دخله الخاص، وكان دائماً ما يضع أهدافه نُصب عينيه، ولا يتوانى عن بناء نفسه والتحلي بالفضائل، ومع كل ما كان يتحمله من مسؤوليات فإنه لم يتجاهل أداء واجباته العائلية.  

 

أسماؤه المستعارة

 

1 ــ الشيخ عباس الطهراني

 2 ــ الدكتور السيد حسين الحسيني

 3 ــ أبو القاسم الواسعي

 4 ــ عبد الكريم سپهر نيا

 5 ــ أبو الحسن النحوي

 6 ــ جوادي

 7 ــ وسوى ذلك من الأسماء.

 

أساليبه

 

1 ــ استخدام الأسماء المستعارة والوثائق والهويات المختلفة.

 2 ــ التحدث باللهجات المحلية المختلفة بشكل ممتاز.

 3 ــ الاستعانة بأساليب التخفي المختلفة.

 4 ــ الاخفاء وراء المهن المختلفة كالتجارة والمقاولات وسواها.

 5 ــ ارتداء العمامة البيضاء بينما كان عليه ارتداء العمامة السوداء بصفته من السادة.

 6 ــ الالتجاء إلى أماكن الايواء المختلفة، كالسكن في إحدى حظائر الدواجن في منزل من المنازل.

 7 ــ الحياة العادية البسيطة.  

 

ملاحظات

 ثمة بعض الأمور التي تكشف لكاتب هذا البحث في مطاوي الأحداث مما يشكل ارتباطاً خاصاً بحياة الشهيد اندرزگو، ومنها:

 أ ــ كانت كلمة السرّ التي أطلقها السافاك على عمليات البحث والقبض على الشهيد اندرزگو هي "كيس سرافراز"، وقد استخدمناها كلقب له وأسميناه "القائد الشامخ".

 ب ــ ولد السيد علي في الثامن عشر من شهر رمضان، وشارك في عملية اغتيال منصور في السابع عشر من الشهر المبارك ومن ثم بدأ حياته في الخفاء، ونال وسام الشهادة في التاسع عشر من شهر رمضان المبارك.

 ج ــ ولد السيد علي عام 1357هــ ق بينما استشهد عام 1375هــ ش.

 هــ ــ كان اسمه عليّاً، حيث ولد في أيام شهادة علي (ع)، واستشهد أيضاً في أيام شهادته.