ورثت عن أبيها البطل الإمام علي(ع) الشجاعة والإقدام، والفصاحة والبلاغة، وورثت عن أمها فاطمة الزهراء(ع) العفاف والتقى، والطهارة والهدى، وورثت عن شقيقها الحسين(ع) حب التضحية، والفداء في سبيل العقيدة والمبدأ، والحرص على الجهاد، وعدم الخوف من الاستشهاد.
{ذرية بعضها من بعض} آل عمران/34.
جهادها مع الحسين
ولما بدأ شقيقها الحسين(ع) جهاده ضد الغاصبين الظالمين، كانت هي الداعية القيادية المحركة للهمم، الباعثة للعزائم. وكان لها شأن كبير في ثورة الحسين(ع)، إذ شاركته في رحلته، وقاسمته جهاده، فكانت تستثير بلسانها البليغ حمية الأبطال، وتدبر بيمناها ضيافة الرجال، وتقضي بيسراها حوائج الأطفال، وتقوم على حراسة الرِّحال، وتسعف الجرحى، وتمرّض، وتطعم الجوعى، وتحرض المقاتلين، وتشجع المستضعفين، وتثبت فرائص المجاهدين وتقوّي عزائمهم، غير مبالية بالجوع والحصار، أو العطش ومرارة الانتظار، أو الوقوع في الإسار، واحتساب الموت الواعي في سبيل الله من أحسن الثمار في الحياة الدنيا.
قال الشاعر:
ولو كانت النساء كمثل هذي لفضّلت النساء على الرجال
إنها امرأة حكيمة تضع كل شيء في موضعه، فتجدّ في موضع الجد، وتلين في موضع اللين، وتبذل الرفق والرحمة غاية ما تستطيع.
روي أن السيدة زينب(ع) أظهرت في معركة كربلاء شجاعة فائقة، وحماسة نادرة، وصبرت صبراً جميلاً، وجاهدت جهاداً كبيراً، وتحملت فوق قدرتها ورضيت بمسؤوليتها الكبيرة فوق جهودها، وعملت أعمالاً لا يعملها إلاّ أشداء الرجال؛ إنها واجهت المحنة العصيبة، وكانت أقوى منها، وتحمّلت البلاء الشديد، وكانت أشد منه، ومرّت عليها أقسى أنواع الفتن ــ ما لم تحتمله الجبال الشامخات الراسيات ــ ووقفت أمامها بكل صلابة وثقة ويقين أنها على الحق، والحق حيّ لا يموت، وإن سُبِيت وعانت من شماتة الأعداء الرهيبة.
وتذكر لها مواقف أبيّة صادقة مثيرة، تدل على مبلغ ما تؤديه المرأة المؤمنة الموقنة الواعية من جهاد وتضحية وفداء؛ فقد هجم على خبائها مجرم أثيم، من الذين أسرفوا في عداوتهم وانتقامهم من أهل البيت ــ الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ــ وحرصوا على دنياهم، ونسوا حظهم من الآخرة، وهو شمر بن ذي الجوشن، يريد قتل الإمام علي بن الحسين زين العابدين(ع)، بعد أن قُتل أبوه الحسين، فصرخت السيدة الشجاعة في وجهه صرخة الليث الهصور، وقالت: والله، والله لا تستطيع قتله حتى تقتلني قبله!
فألقي الرعب في قلب ذلك المجرم، وصرفه عن قتل الإمام زين العابدين.
موقف السيدة زينب وموقف الإمام زين العابدين(ع) أمام الطاغية ابن زياد
أدخل نساء الحسين(ع) وصبيانه على ابن زياد، فلبست زينب(ع) أرذل ثيابها وتنكرت ومضت حتى جلست ناحية من القصر، وحفت بها إماؤها، فقال ابن زياد: من هذه؟ فلم تجبه، فأعاد الكلام ثانياً وثالثاً يسأل عنها، فلم تجبه! فقال له بعض إمائها: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله(ص). فأقبل عليها الطاغية ابن زياد وخاطبها بما فيه الشماتة والجفاء، والغلظة والجرأة على الله ورسوله، كما يقضيه لؤم عنصره، وخبث طينته، وأراد تصديق كونه دعيّاً ابن دعي.
فقال لها: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم، فأجابته زينب(ع) بما أخرسه وأخزاه وفضحه، فقالت: "الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد(ص)، وطهّرنا من الرجس تطهيراً، إنما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا".
فقال: كيف رأيت فعل الله بأخيك وأهل بيتك؟
فقالت: ما رأيت إلاّ جميلاً؛ هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم، فتتحاجون إليه، وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلج ــ الغلبة ــ يومئذٍ، هبلتك أمك يا بن مرجانة!
فغضب ابن زياد، واستشاط حين أعياه الجواب، وكأنه همّ بها!
فقال له عمرو بن حريث: أيها الأمير، إنها امرأة، والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها، ولا تذم على خطيئتها!
فلجأ ابن زياد ــ حينئذٍ ــ إلى البذاءة، وسوء القول، مما هو جدير به.
فقال لها: لقد شفى الله نفسي من طاغيتك الحسين، والعصاة المردة من أهل بيتك!
فرقّت زينب(ع) وبكت وقالت له: لعمري لقد قتلت كهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن كان هذا شفاءك فقد اشتفيت!
وعرض عليه زين العابدين، علي بن الحسين(ع) فقال: من أنت؟
قال: علي بن الحسين(ع).
فقال ابن زياد: أليس قد قتل الله علي بن الحسين؟!
فقال له علي (ع): قد كان لي أخ يسمى عليّاً، قتله الناس.
فقال: بل الله قتله.
فقال علي بن الحسين: {الله يتوفى الأنفس حين موتها}.
فغضب ابن زياد، وقال: وبك جرأة للرد عليّ! اذهبوا به فاضربوا عنقه! فتعلقت به عمّته زينب(ع) وقالت:
يا بن زياد، حسبك من دمائنا، واعتنقته وقالت: لا والله لا أفارقه، فإن كنت عازماً على قتله فاقتلني قبله!
فقال لها علي بن الحسين(ع): اسكتي يا عمة حتى أكلّمه، ثم أقبل عليه فقال:
أبالقتل تهددني يا بن زياد، أما علمت أن القتل لنا عادة، وكرامتنا من الله الشهادة؟!
ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسين(ع) وأهل بيته، فحملوا إلى دار بجنب المسجد الأعظم، فقالت زينب بنت علي(ع): لا تدخلن علينا عربية إلاّ أم ولد أو مملوكة، فإنهن سبين كما سبينا!
خطبة السيدة زينب(ع) في الشام
لما جيء برأس الحسين(ع) إلى يزيد بالشام، دعا بقضيب خيزران، وجعل ينكت به ثنايا الحسين(ع) ويقول:
ليـت أشياخـي بـبدر شهدوا جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهـــلّــوا واسـتـهـلّوا فرحـاً ثـم قـالـوا يـا يـزيـد لا تـشل
قـد قتــلنا القـرم مـن سـاداتهـم وعـدلـنــاه بـبـدر فاعــتـدل
لــعــبــت هـاشم بالملك فـلا خـبــر جـاء ولا وحــي نــزل
لسـت مــن خنــدف إن لم انتقم مــن بــني أحمـد مـا كـان فعـل
عندما لم ترَ عقيلة الهاشميين من رد على هذا الكلام المعلن للكفر والظلم وأخذ الثأر! فقامت زينب بنت علي(ع) فقالت:
"الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله حيث يقول: {ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون}.
أظننت يا يزيد ــ حيث أخذت علينا أقطار الأرض، وآفاق السماء، فأصبحنا نساق كما تساق الإماء ــ أن بنا هواناً على الله، وبك كرامة، وأن ذلك لعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفك، ونظرت في عطفك، جذلان مسروراً، حيث رأيت الدنيا لك مستوسقة، والأمور متسقة، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا! فمهلاً مهلاً، أنسيت قول الله تعالى: {ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين}.
أمن العدل يا بن الطلقاء، تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله(ص) سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والدنيء والشريف، ليس معهن من حماتهن حمي، ولا من رجالهن وليّ! وكيف ترتجى مراقبة ابن من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه بدماء الشهداء! وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت، من نظر إلينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم:
لأهـــلّــوا واسـتـهـلّـوا فـرحـاً ثـم قـالـوا يـا يـزيـد لا تـشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله، سيد شباب أهل الجنة، تنكتها بمخصرتك! وكيف لا تقول ذلك، وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمد(ص)، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك، زعمت أنك تناديهم! فلتردن وشيكاً موردهم، ولتودن أنك شللت وبكمت، ولم تكن قلت ما قلت، وفعلت ما فعلت!
اللهم خذ لنا بحقنا، وانتقم ممن ظلمنا، واحلل غضبك بمن سفك دماءنا، وقتل حماتنا. فوالله ما فريت إلاّ جلدك، ولا حززت إلاّ لحمك، لتردن على رسول الله(ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}.
وحسبك بالله حاكماً، وبمحمد(ص) خصيماً، وسيعلم من سوّل لك، ومكنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً، ولئن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني لأستصغر قدرك، وأستعظم تقريعك، وأستكبر توبيخك، لكن العيون عبرى، والصدور حرّى! ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء، بحزب الشيطان الطلقاء؛ فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلب من لحومنا، وتلك الجثث الطواهر الزواكي، تنتابها العواسل، وتعقرها أمهات الفراعل!
ولئن اتخذتنا مغنماً، لتجدننا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدمت يداك، وما ربّك بظلام للعبيد.
فإلى الله المشتكى، وعليه المعوّل في الشدة والرخاء؛ فكد كيدك، واسعَ سعيك، وناصب جهدك، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا تدرك أمدنا، ولا ترخص عنك عارها. وهل رأيك إلاّ فند، وأيامك إلاّ عدد، وجمعك إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي: ألا لعنة الله على الظالمين.
فالحمد لله الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة، إنه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
موقف آخر لزينب بنت علي(ع) في مجلس يزيد بن معاوية
لما أدخل عيال الحسين(ع) وبناته على يزيد بالشام، نظر رجل من أهل الشام أحمر إلى فاطمة بنت الحسين(ع)، فقال يا أمير المؤمنين: هب لي هذه الجارية!
قالت فاطمة: فارتعدت وظننت أن ذلك جائز عندهم، فأخذت بثياب عمّتي زينب وقلت: يا عمتاه، أوتمت وأستخدم؟!
وكانت عمتي تعلم أن ذلك لا يكون، فقالت عمتي: لا حباً ولا كرامة لهذا الفاسق.
وقالت للشامي: كذبت والله ولؤمت، والله، ما ذاك لك ولا له!
فغضب يزيد وقال: كذبتِ، إن ذلك لي، ولو شئت أن أفعل لفعلت.
قالت زينب: كلا والله، ما جعل الله لك ذلك إلاّ أن تخرج من ملتنا، وتدين بغير ديننا.
فاستطار يزيد غضباً وقال: إيّاي تستقبلين بهذا، إنما خرج من الدين أبوك وأخوك!
قالت زينب: بدين الله، ودين أبي، ودين أخي اهتديت أنت وجدك وأبوك إن كنت مسلماً!
قال: كذبت، يا عدوة الله.
قالت له: أنت أمير، تشتم مظلومة، وتقهر بسلطانك.
فكأنه استحيا وسكت.
فعاد الشامي، فقال: هب لي هذه الجارية.
فقال له يزيد: اعزب، وهب الله لك حتفاً قاضياً.
{وفي رواية} فقال الشامي: من هذه الجارية؟
فقال: هذه فاطمة بنت الحسين، وتلك زينب بنت علي.
فقال الشامي: الحسين بن فاطمة، وعلي بن أبي طالب؟!
فقال: نعم.
فقال الشامي، لعنك الله يا يزيد، تقتل عترة نبيّك، وتسبي ذريته، والله ما توهمت إلاّ أنهم من سبي الروم!
فقال يريد: والله لألحقنك بهم! ثم أمر به فضربت عنقه!
(موسوعة الفداء في الإسلام، ج4، ص147ــ 164 مع الاختصار)
تعليقات الزوار