1104280400121303977612

بالسَّند المتّصل إلى ثقة الإسلام محمَّد بن يعقوب الكلينيِّ، عن عليِّ بن إبراهيم، عن محمَّد بن خالد الطَّيالسيِّ، عن صَفوانَ بنِ يحيى، عن ابنِ مَسكانَ، عن أبي بصير قال: سَمِعْتُ أبا عبد الله عليه السّلام يَقولُ: «لَمْ يَزَلِ الله عَزَّ وَجَلَّ رَبَّنَا وَالْعِلْمُ ذَاتُهُ وَلاَ مَعْلومَ، وَالسَّمْعُ ذَاتُهُ وَلاَ مَسْمُوعَ، وَالْبَصَرُ ذَاتُهُ وَلاَ مُبْصَرَ، وَالْقُدْرَةُ ذَاتُهُ وَلاَ مَقْدورَ؛ فَلمّا أَحْدَثَ الأَشْيَاء وَكَانَ المَعْلُومُ وَقَعَ العِلْمُ مِنْهُ عَلَى المَعْلومِ وَالسَّمْعُ عَلَى المَسْموعِ وَالْبَصَرُ عَلَى المُبْصَرِ وَالقُدْرَةُ عَلَى المَقْدورِ. قالَ: قُلْت: فَلَمْ يَزَلِ اللهُ مُتَحَرِّكاً؟ قالَ: فَقالَ: تَعالَى اللهُ عَنْ ذلِكَ، إنَّ الحَرَكَةَ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ بالفِعْلِ. قال: فَقُلْتُ: فَلَمْ يَزَلِ اللهُ مُتَكَلِّماً؟ قَالَ: فَقالَ: إنَّ الكَلاَمَ صِفَةٌ مُحْدَثَةٌ لَيْسَتْ بِأَزَلِيَّةٍ كَانَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلا مُتَكَلِّمَ» ([1]).

الشرح:

قوله: «لَمْ يَزَلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ رَبّنَا» إن ربنا حسب الظاهر خبر (لَمْ يَزَلِ) وجملة (وَالعِلْمُ ذَاتُهُ) حال لربنا، ولكن هذا المعنى الظاهر لا يكون بليغاً ولا مقصوداً، لأن الهدف ليس هو إثبات أزلية صفة الربوبية بل المنشود إثبات أزلية صفة العلم قبل حصول المعلوم. ويمكن أن نقول بأنه يستفاد المقصود من مجموع هذه الجمل وهو إثبات الأزلية للعلم. كما يحتمل أن يكون (رَبُّنَا) مرفوعاً على التبعية لاسم (زَالَ) ويكون الخبر محذوفاً دلّت عليه جملة (وَالعِلْمُ ذَاتُهُ) ويكون التقدير هكذا لم يزل الله ربنا عالماً والعلم ذاته.

ومن المحتمل أن تكون (زَال) تامة تقتصر على الاسم المرفوع فيكون المضارع (يَزولُ) وعليه لا يحتاج إلى الخبر ولا يكون مضارعه (يَزالُ) الذي يكون ماضيه زال والذي يعد من الأفعال الناقصة دائماً، على خلاف يزول الذي يكون تاماً دائماً.

قوله عليه السّلام: «وَكَانَ الْمَعْلُومُ» إن كان هنا تامة ومعناها لما أوجد الأشياء وتحقق المعلوم...

قوله عليه السّلام: «مُحْدَثَةٌ بِالْفِعْلِ» من الممكن أن يكون معنى بالفعل ما يقابل القوة أي المعنى المصدري فالمفهوم هو: أن الصفة التي تتحقق بالإيجاد والخلق، لا يمكن أن تكون صفة للخلق سبحانه.

وفي هذا الحديث أبحاث شريفة نذكر بعضها حسب المناسبة والمقام.

فصل: في بيان عينية صفات الحق سبحانه مع الذات المتعالي

إعلم أنه قد أشير في هذا الحديث الشريف إلى عينية الذات المقدس للحق مع الصفات الكمالية الحقيقية. مثل العلم والقدرة والسمع والبصر. وهذا من المباحث المهمة التي يكون الإسهاب فيها خارجاً عن حدود هذا الكتاب. ونحن نشير إلى المذهب الحق الموافق للبراهين السديدة للفلاسفة والمطابق لمنهج أهل المعرفة.

إعلم أنه قد ثبت في محلّه، أنّ ما هو من سنخ الكمال والجمال والتمام، فهو راجع إلى عين الوجود، وحقيقته، وأن الشيء الوحيد الأصيل الشريف في هذا الكون الذي يكون مصدراً لكل الكمالات ومصدراً لكافة الخيرات هو حقيقة الوجود. وذلك أنه إذا لم تكن الكمالات عين حقيقة الوجود وكانت مغايرة في حاقّ الواقع مع حقيقة الوجود، للزم تحقق أصلين في عالم الوجود، ولبعث على مفاسد كثيرة. فكل ما يمون كمالاً، لا يكون بحسب المفهوم والماهية كمالاً، وإنما يكون كمالاً بواسطة تحققه وتحصّله في عالم الأعيان، وما هو موجود ومتحقق في حاق الأعيان ونفس الأمر هو أصل واحد، وهو الوجود فيعود كل ما هو كمال إلى أصل واحد وهو حقيقة الوجود.

وقد ثبت أيضاً أن حقيقة الوجود، أمر بسيط من جميع الجهات، وبريءٌ من التركيب بصورة مطلقة، ما دام محافظاً وباقياً على ذاته الأصلية، وحقيقته الخالصة. وإذا تنزل عن أصالته وحقيقته، لغدا مركباً عقلياً أو خارجياً حسب مقامه ومنزلته. فهو بسيط ذاتاً ومركب نتيجة طروّ أمر غريب عرضي خارج عن ذاته. وتستفاد من هذا البيان المذكور، قاعدتان:

القاعدة الأولى: أن البسيط من جميع الجهات هو بنفسه جميع الكمالات من حيثية واحدة، وجهة فريدة، فمن الحيثية التي بها صار البسيط من جميع الجهات موجوداً، يكون عالماً وقادراً وحياً ومريداً، ويصدق عليه جميع الأسماء والصفات الجمالية والجلالية، فهو عالم من حيث أنه قادر، وقادر من حيث أنه عالم من دون

أدنى اختلاف حتى لدى العقل. وأما تغاير مفاهيم الأسماء، والموضوع له الألفاظ في اللغة، والتي تكون مفاهيم عقليّة متصوّرة على نحو لا بشرط ـ من دون تقييدها بالمدلول البسيط أو المركب ـ أما هذا التغاير فلا يتسرّب إلى الحقيقة العينية ومن الواضح أن المفاهيم المختلفة للكمال، تنتزع من شيءٍ واحد، بل حسب البيان المتقدم (أن بسيط الحقيقة، بسيط من جميع الجهات) وعليه لا بد من انتزاع كل المفاهيم الكمالية من حيثية واحدة. وإذا انتزعت مفاهيم الكمال من حيثيات مختلفة ومصادر متعددة كما هو شأن بعض الممكنات، لكان هذا التغاير أمراً عارضاً طارئاً وناتجاً من تنزل حقيقة الوجود، وتشابكه مع العدم بالعرض.

القاعدة الثانية: إن الكامل من جميع الجهات وإن ما هو صرف الكمال والخير لا بد وأن يكون بسيطاً من جميع الجهات.

وتستفاد أيضاً بالتبع قاعدتان أُخريتان هما:

إن المركب مهما كان نوعه، لا يكون كاملاً من جميع الجهات، إذ أن النقص والعدم قد تسرّبا إليه.

وأن الناقص لا يكون بسيطاً بصورة مطلقة.

إذن لما كان الحق المتعالي بسيطاً تاماً، وبعيداً كل البعد عما يستلزم الإمكان والفقر والتعلق بالغير، كان كاملاً من جميع الجهات، ومشتملاً على جميع الأسماء والصفات، وحقيقة أصيلة، ووجوداً صريحاً من دون أن يخامره غير الوجود، ويخالط الكمال غير الكمال، فهو وجود صرف، إذ لو تدخل غير الوجود فيه لتحقق شرّ التراكيب وهو عبارة عن التركيب بين الوجود والعدم. فهو صرف العلم وصرف الحياة وصرف القدرة وصرف البصر والسمع وكافة الكمالات. وعليه يصحّ كلام الإمام الصادق عليه السّلام: «وَالْعِلْمُ ذَاتُهُ وَالقُدْرَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ ذَاتُهُ».

نقل وتحقيق

في كلام الفلاسفة في تقسيم أوصاف الحق عز وجل

إعلم أن الفلاسفة الإلهيين الحكماء، قد قسموا صفات الحق سبحانه على أقسام ثلاثة:

الأول: الصفات الحقيقية. وصنّفوها إلى صنفين:

 (أ) الصفات الحقيقية المحضة مثل الحياة والثبات والبقاء والأزلية وأمثال ذلك.

 (ب) الصفات الحقيقية ذات الإضافة، مثل العلم والقدرة والإرادة. وهذه الصفات قد أضيفت إلى شيء آخر وهو المعلوم والمقدور والمراد فلا يكون علم أو قدرة أو إرادة إلاَّ إذا كان هناك متعلق. وهذان الصنفان من الصفات الحقيقية يعتبران عين الذات.

الثاني: الصفات الإضافية المحضة، مثل المبدئية والرازقية والراحمية، والعالمية، والقادرية وأمثالها.

الثالث: الصفات السلبية المحضة مثل القدوسية والفردية والسبّوحيّة وأمثالها. ويعتبر هذين النوعين ـ الثاني والثالث ـ من الصفات الزائدة على الذات المقدس. كما وأنهم يرجعون جميع الصفات السلبية إلى سلب واحد هو سلب الإمكان. وجميع الصفات الإضافية إلى إضافة واحدة هي الموجدية، ويرون أن مبدأ الإضافات يعود إلى الإضافة الإشراقية والإفاضة النورية ـ صدور المعلول من العلة ـ.

ولا تكون هذه الأقسام: من العينية في الصفات الحقيقية، والزيادة في الصفات الإضافية والسلبية، حسب البيان الذي شرحوه وعلى ضوء البراهين التي أقاموها، بصحيحة عندي. كما لا تتطابق مع الأدلة القويمة الفلسفية، والاعتبار العرفاني الصحيح. وذلك إننا إذا حدثنا في صفات الله سبحانه، على أساس مفاهيم الأسماء والصفات، وملاحظة المفاهيم المتكثرة، للزم أن لا نجعل صفة من الصفات ـ حتى الصفات الحقيقية ـ عين ذاته المقدس. وإذا جعلنا الذات عين مفاهيم الأوصاف الإضافية أو السلبية، للزم أن يكون الحق سبحانه، إضافة محضة وحيثية سلبية. وكذلك إذا جعلنا الذات عين مفاهيم الصفات الحقيقة، للزم أن يكون الحق عز وجل نفس المفاهيم الاعتبارية والمعاني العقلية. تعالى عن ذلك. وإن لاحظنا حقائق الأوصاف ـ لا مفاهيمها ـ والمصداق المتحقق للأسماء والصفات لكانت الأسماء والصفات الإضافية والحقيقية بأسرها عين الذات

المقدس، لأن الفرق بين العالمية والعالم، والقادرية والقادر، اعتباري ومفهومي. وأن الأوصاف الإضافية كافة، تعود إلى الرحيمية والرحمانية الذاتيتين، حتى الرازقية والخالقية وغيرهما.

وأما أرجاع جميع الصفات السلبية إلى صفة واحدة هي سلب الإمكان، والصفات الإضافية إلى إضافة واحدة هي الموجدية، وعدم إرجاع الأوصاف الحقيقة إلى شيء، فكذلك لأنه إذا بحثنا الموضوع على ضوء المفاهيم، لما عادت صفة من تلك الصفات إلى أخرى، لا في الصفات السلبية ولا الصفات الإضافية ولا الصفات الحقيقية. ولو درسنا الموضوع على أساس الحقائق لا المفاهيم، لرجعت جميع الأوصاف على ما هي من الأقسام والأنواع إلى صفة واجبة واحدة.

في تحقيق عينية الصفات مع الذات المقدسة

وملخص الكلام أن التحقيق في أوصاف الحق سبحانه في ظل الفلسفة لنظرية، يفضي إلى القول بأن الأوصاف الحقيقة والإضافية، على ضوء المفاهيم، متغايرة ومختلفة ولا تكون إحداها عين الأخرى. وعلى ضوء الحقيقة والواقع فإن جميع الأوصاف تعود جميعاً إلى الذات المقدس وتكون عينه. ولكن توجد للأوصاف مرتبتان:

أحدهما: مرتبة الذات والأوصاف الذاتية، حيث نستطيع أن ننتزع من هذه المرتبة العلم والعالمية والقدرة والقادرية.

وأما الأوصاف السلبية مثل القدوس والسبوح والأسماء التنزيهية فإنها من لوازم الذات المقدس، ويكون الذات المقدس مصداقاً بالعرض لتلك الأوصاف السلبية، لأن الحق المتعالي كمال مطلق ويصدق عليه سبحانه الكمال المطلق بالذات ـ لا بالعرض ـ لأنه سبحانه أساس الحقيقة وأصلها، ومن لوازمه سلب النقائص، فيكون الكمال مصداقاً عرضياً لسلب النقائص.

ويرى أهل المعرفة وأصحاب القلوب أن مقام التجلي بالفيض الأقدس مبدأ للأسماء الذاتية. وأن مقام التجلي بالفيض المقدس، مبدأ للأوصاف الفعلية، ويعتقدون بأن هذا المقام ـ التجلي بالفيض المقدس ـ لا يكون (غيراً) ـ غير الذات ـ كما لا يكون (عيناً) ـ عين الذات ـ.

والبحث في هذا الموضوع يفضي إلى البحث عن الأسماء والصفات على مسلك الفلاسفة، ويخرج عما هو مقصود في هذا الكتاب.

لقد أرجع بعض العلماء صفات الحق المتعالي إلى الأمور العدمية، وفسّروا العلم بعدم الجهل، والقدرة بعدم العجز. ورأيت من العرفاء شخصاً يصرّ على هذا المعنى وهو المرحوم العارف الجليل (قاضي سعيد القمي) حيث يتبع حسب الظاهر أستاذه (رجب علي) بالبيان المذكور بكتاب (شرح التوحيد). ونحن في سالف الزمان قد أجبنا على أدلته وعلى الأخبار التي يتمسكوا بظاهرها إجابة حاسمة.

فصل: في بيان أن العلم قبل الإيجاد

ومن الأبحاث الشريفة التي أشار إليها هذا الحديث الشريف هو علم الله سبحانه بمخلوقاته في الأزل قبل إيجادها. لقد حصل خلاف عظيم في أصل هذا العلم وكيفيته من أنه يكون على نحو الإجمال أو التفصيل؟ وهل إن هذا العلم يكون زائداً على الذات أو عينه؟ وهل هو قبل الإيجاد أو معه؟ وتفصيل ذلك موجود في كتب الفلاسفة. ونحن نقتصر على التحقيق في هذا الموضوع ونتجنب عرض الأقوال الأخرى ومناقشتها.

إعلم أنه قد ثبت لدى أصحاب البرهان ـ الفلاسفة ـ وأرباب العرفان ـ العرفاء ـ بأن هذا الحديث الشريف قد أومأ إلى أن العلم بالمعلوم قد كان في الأزل قبل الإيجاد، وأن هذا العلم عين الذات المقدس، وأن علمه سبحانه تفصيلي وليس بإجمالي حيث قال (وَالسَّمْعُ ذاتُهُ وَلاَ مَسْمُوعَ، وَالْبَصَرُ ذاتُهُ وَلا مُبْصَرَ) ومن الواضح أن البصر والسمع شهود للمبصر والمسموع بصورة تفصيلية. وأشير أيضاً في هذا الحديث إلى علمه التفصيلي سبحانه عندما يقول عليه السلام: «فَإذَا أَحْدَث الأَشْيَاءَ وَكَانَ الْمَعْلومُ وَقَعَ الْعِلْمُ مِنْهُ عَلَى الْمَعْلُومِ ـ إلخ» لأنه سبحانه لم يجدد علمه بعد الإيجاد، وإنما وقع العلم منه على المعلوم بعد حدوثه ونحن سنذكر معنا وقوع العلم على المعلوم.

وأما بيان هذا الموضوع الإيماني الشريف على مسلك المحققين من الفلاسفة فهو أنه بعد أن تبين في الفصل السابق، أن الحق سبحانه وجود صرف وكمال صرف وأن الوجود الصرف مع بساطته ووحدته التامة، جامع لجميع الكمالات، ومستجمع لكمال جميع الموجودات، وأن ما يكون خارجاً عن إحاطته الوجودية فهو عدم ونقص وقصور ولا شيئية، وأن نسبة المراتب الأخرى الوجودية إلى ذاته المقدس نسبة النقص إلى الكمال. بعد هذا نقول بأن العلم بالكمال المطلق علم بمطلق الكمال من دون نقص وقصور، ومثل هذا العلم، عين الكشف التفصيلي الكلي البسيط، من دون أن يخرج من إحاطة علمه، ذرة من الموجودات، أزلاً وأبداً من دون أن تتطرّق إليه سبحانه الكثرة والتركيب.

وأما على مسلك العرفاء، فهو أن الحق سبحانه وتعالى مستجمع لجميع الأسماء والصفات، في مقام الواحديّة، ومقام جمع الأسماء، وأن الأعيان الثابتة لجميع الموجودات، من لوازم الأسماء الإلهية في مقام جمع الأسماء في الأزل، قبل الإيجاد. وأن التجلي المطلق للذات سبحانه في مقام الأحدية وغيب الهوية، هو كشف لجميع الأسماء والصفات ولوازمها من الأعيان الثابتة لكافة الموجودات، بتجلي واحد، وكشف بسيط مطلق. إذن يتم من خلال الكشف العلمي بواسطة تجلي الفيض الأقدس، كشف الذات والأسماء والصفات والأعيان من دون حصول كثرة وتركيب.

وهذان المسلكان في منتهى الإتقان والسداد والرفعة. ولكنه من جهة صعوبتهما، وتوقفهما على استيعاب مبادئ فلسفية كثيرة وفهم مصلحات أهل الله، وأصحاب القلوب ـ العرفاء ـ ومن جهة أنه لولا معرفة تلك المقدمات والأنس التام والكامل بها وممارستها وحسن الظن الكامل بالعلماء بالله لمَا أستفيد شيء من هذه الأبحاث، بل ازداد التحير، وتضاعف التعقيد. فالأولى اللجوء في توضيح الموضوع إلى بيان سهل قريب إلى إفهام الناس.

فنقول: ـ أن علّية واجب الوجود تعالى شأنه، ومبدئيته، تختلف عن علّية الفاعل الطبيعي، حيث أن العلة الطبيعية تركّب المواد الموجودة، وتجزّأها، مثل النجّار الذي يغيّر القطعة الخشبية، فيزيد قطعة وينقص أخرى. ومثل البنّاء الذي يجمع ويركب المواد الموجودة، ولكنّ الحق المتعالي فاعل إلهي يخلق الأشياء بإرادته من دون حاجة إلى مواد أولية مسبقة، وأن علمه وإرادته علة ظهور الأشياء ووجودها، فدار التحقق محاطة بعلمه، وتخرج من غيب الهوية، عندما يريد الله سبحانه إظهارها (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) ([2]).

يقال أن مثل عالم الأعيان الخارجية بالنسبة إلى ذاته المقدس جل جلاله، مثل الذهن بالنسبة إلى نفس الإنسان، حيث تخلق النفس في الذهن بإرادتها ما تريد، وتظهر ما هو مكنون في غيب الهوية.

فجميع العوالم الموجودة محاطة بعلمه، وتظهر منه، وتعود إليه (إِنَّا لِلّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

وبعبارة أوضح: إن العلم يسبب الشيء وعلّته التامة، يستلزم العلم بذلك الشيء، فإن علم المنجم بالخسوف والكسوف في ساعة محدّدة من يوم معلوم، يكون نتيجة علمه بالأسباب، حيث يرصد حركة الشمس والقمر، وحيلولة القمر بين الأرض والشمس، فيحصل له العلم بالكسوف والخسوف، وإذا كان رصده دقيقاً لَما تخلّف الكسوف والخسوف عن علمه.

ولَمّا كانت حلقات الأسباب والمسببات من هذا العلم تنتهي إلى الذات المقدس المبدأ لكل المبادئ، وكان الحق سبحانه عالماً بذاته، وأن علمه بذاته الذي هو سبب لجميع الموجودات، علم بالمسبب أيضاً، ولمّا كانت كذلك، كان الله سبحانه عالماً بكل الأشياء، وكان علمه بنفسه سبباً لظهور وخلق جميع الأشياء.

هذه هي الوجوه المذكورة في المقام لإثبات علمه سبحانه بالأشياء قبل خلقها وإيجادها، ويستطيع كل واحد حسب نشأته أن يختار وجهاً منها، رغم أن بعض الوجوه أسد وأوفى بكل المقصود.

فصل: في معنى سمع الحق سبحانه وبصره

من المباحث في باب أسماء الحق سبحانه وصفاته، الدائرة بين الفلاسفة العظام هو إثبات السمع والبصر للحق المتعالي، حيث أرجع جمهور الفلاسفة والمتكلمين السمع والبصر إلى العلم، ولكن الشيخ السهروردي الإشراقي، أرجع العلم إلى البصر والسمع على ضوء بيان يسبّب ذكره الخروج عن الاختصار المنشود في الكتاب. ونحن نتولى بيان المسلك الصحيح والمذهب القيم كي يتضح من خلاله الحق، في مطلق الأسماء والصفات.

إعلم أن كثيراً من الفلاسفة والكبار نتيجة الإهمال والغفلة عن بعض الحيثيات اختلفوا فيما بينهم، وأرجع كل منهم بعض الأسماء والصفات إلى البعض الآخر، حيث أن المعروف والمسلّم به عندهم تفسير إرادة الحق تعالى بعلمه سبحانه بالمصلحة والنظام الأتمّ. وإرجاع بعضهم السمع والبصر إلى العلم، وبعضهم الآخر، أرجع العلم إلى السمع والبصر.

ولكن هذه الآراء والتوجهات مخالفة لما يستدعيه التحقيق، وناجمة عن إهمال الحيثيات. لأنه إذا كان المقصود من إرجاع الإرادة، إلى العلم بالمصلحة، أو إرجاع العلم إلى السمع أو السمع إلى العلم، هو أن لا إرادة للحق سبحانه ولا سمع له ولا بصر وأن له سبحانه العلم وأن إرادته وسمعه وبصره قد سمّيت بالعلم، فهذا باطل وَتَقوّل فظيع على الحق سبحانه، لأنه يستلزم أن يكون الحق المتعالي مبدأ للوجود من دون أن تكون له إرادة واختيار.

مضافاً إلى ذلك: أن المقياس في باب إتصاف الحق سبحانه بالأوصاف الكمالية هو أن تلك الصفة لا بد وأن تثبت للموجود بما أنه موجود، حتى تكون الصفة كمالية، أي تكون الصفة، نفس حقيقة الوجود، ومن كمالات أصل ذات الوجود. ولا ريب أن الإرادة من الصفات الكمالية للحقيقة المطلقة الوجودية. ومن هنا كلّما تنزّل الوجود نحو المنازل السافلة، كلما ضعفت الإرادة فيه، حتى يصل إلى درجة تُسلب منه الإرادة، ويراه الناس عديم الإرادة، كما هو حال الأمور الطبيعية مثل المعادن والنباتات. في حين أن الوجود كلّما سَما نحو الكمالات

وتصاعد نحو الأفق الأعلى كلما ظهرت الإرادة فيه أكثر وأقوى، كما نلمس ذلك في تسلسل الموجودات الطبيعية حيث أنه عندما نتجاوز مقام الهيولى والجسم والعنصر والمعدن والنبات نظهر الإرادة والعلم وكلّما صعدنا أكثر كملت هذه الجوهرة أكثر، حتى أن الإنسان الكامل يملك إرادة كاملة يستطيع أن يحوّل العنصر إلى عنصر آخر فإن عالم الطبيعة خاضع لإرادته، فنكتشف بأن الإرادة من الصفات الكمالية للوجود، وللموجود بما أنه موجود، ونثبت هذه الحقيقة للذات المقدّس الحق من دون رجوع إلى حقيقة أخرى.

وهكذا نجد بعد الدراسات العميقة الجديرة بالإذعان والتصديق، أن السماع والبصر من كمالات الموجود المطلق، فإن حقيقة السمع والبصر لا تقوم بالأدوات الجسمية ولا تكون من العلوم المادية المرتبطة بالآلات والأدوات، وإنما تحتاج النفس إلى الآلات عندما تكون في عالم الطبيعة وترتبط بالبدن، حتّى يتمَّ ظهور السمع والبصر.

كما أنها في مقام العلم تحتاج أيضا إلى أداة تدعى بأم الدماغ، لكي يتحقق العلم ويظهر في علم المُلك والطبيعة، وهذا الاحتياج والنقص ينجم عن عالم الطبيعة والمُلك وليس من قصور ونقص في العلم والسمع والبصر. ثم إن السمع والبصر لو تجرّدا، واستغنيا عن المادة، لاستطاعا البلوغ إلى مستوى رؤية حقائق عالم الغيب، وسماع كلام الملكوتيين من الملائكة والروحانيين في الملأ الأعلى. كما أن موسى كليم الله في مناجاته، كان يسمع كلام الحق وأن خاتم المرسلين المكرّم كان يتحدث مع الملائكة، ويرى الصورة الملكوتية لجبرائيل، من دون تسمع أذن أحد ذلك الحديث ـ حديث النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مع جبرائيل ـ وتبصرعين ذلك المشهد رغم حضور بعض الناس لدى نزول الوحي على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم ولكنهم لم يبصروا المشهد.

وملخّص القول إن السمع والبصر من العلوم الزائدة على أصل العلم، وأنهما يغايران حقيقة العلم ويعتبران من الكمالات المطلقة للوجود، فلا بد من إثباتهما للحق المتعالي الذي يعدّ مبدأً للوجود، ومصدراً لكمالاته.

وإن كان مقصودهم من إرجاع الإرادة والسمع والبصر إلى العلم، أو العلم إلى الإرادة والسمع والبصر، هو أن حيثية العلم والإرادة في الحق سبحانه حيثية واحدة وأنه لا حيثيات مختلفة للبصر والسمع والعلم في الحق المتعالي، فهو كلام صحيح وموافق للبرهان، ولكنه لا وجه لاختصاص هذا الكلام بهذه الأوصاف لأن جميع الأوصاف المتغايرة الكثيرة لذات الحق سبحانه، بل يكون مؤكداً وداعماً لها، لأننا بيّنّا بأن الوجود كلما كان أقرب إلى أفق الوحدة وأبعد من دائرة الكثرة كلما كان أجمع وأشمل تجاه الأسماء والصفات، إلى أن نبلغ مقام صرف الوجود، والحقيقة البسيطة الواجبة ـ جَلَّتْ عَظَمَتُهُ وَعَظُمَتْ قُدْرَتُهُ ـ الذي هو في منتهى الوحدة والبساطة، ومستجمعاً لجميع الكمالات، وجامعاً لجميع الأسماء والصفات، حيث تصدق جميع مفاهيم الكمال ومعاني الجلال والجمال على نحو الحقيقة ـ لا المجاز ـ عليه سبحانه، ويكون صدقها على الذات المقدس الحق، أولى وأجدر بكل معاني ومراتب الأحقية والأولوية من صدقها على غيره سبحانه.

وخلاصة البيان أن الوحدة كلما كانت في الوجود أقوى وأتمّ، كلما كان صدق مفاهيم الكمال عليه أوفى، وعدد الأسماء والصفات فيه أوفر. وعلى العكس، كلما كان الموجود إلى الكثرات أقرب، كان صدق مفاهيم الكمال عليه أقل وكان ما تصدق عليه من مفاهيم الكمال أوهى. وأقرب إلى المجاز ـ دون الحقيقة ـ وكلّ ذلك من أجل أن الوحدة تساوي الوجود، وتعتبر من كمالات الموجود بما هو موجود، ومعنى مساواة الوحدة للوجود، هو أن الوجود مع الوحدة وإن اختلفتا مفهوماً، ولكن حقيقة الوجود نفس حقيقة الوحدة في الخارج، كما أنه أينما كانت الكثرات كان هناك النقص والعدم والشرّ والضعف والفتور.

ولهذا كلما تهاوى الوجود في منحدر المراتب النازلة كانت الكثرات أكثر من جميع مراتب الوجود. وعليه يتنزه مقام الربوبية وساحته المقدسة جل وعلا التي تكون صرف الوجود والذي هو صرف الوحدة والبساطة، من الكثرة والتركيب. وقد أشرنا سابقاً بأن الوجود، مبدأ حقيقة الكمال، وينبوع الجلال والجمال. فصرف الوجود هو صرف الوحدة وصرف الكمال، وصرف الوحدة هو صرف الكمال أيضاً. وكلّما كانت الوحدة في أسمى مراتبها في الموجود، كانت مفاهيم الأسماء والصفات والكمالات بأسرها صادقة عليه، وكان صدق مفهوم كل واحد منها عليه

أولى وأحسن. وعلى العكس كل موجود يدنو من الكثرات أكثر، يكون نقصه أكثر، وصدق مفاهيم الكمال والأسماء والصفات له أقل، وملاك الصدق وكيفيته أوهن.

فالحق المتعالي يستجمع جميع الكمالات والأسماء والصفات، من دون رجوع إحداها إلى الأخرى، بل يصدق حقيقة كل من الكمالات والأسماء والصفات على الذات المقدس فكل من سمعه سبحانه وبصره وإرادته وعلمه. يشتمل على مداليله ومعانيه على نحو الحقيقة، ويصدق على الذات عز وجل كل منها حقيقة من دون أن تستلزم كثرة في ذاته سبحانه بوجه من الوجوه. فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَالأَمْثَالُ الْعُلْيَا وَالْكِبْرِيَاءُ وَالآلاءُ.

فصل: في بيان كيفية تعلق علمه سبحانه بالمعلوم

إعلم أنه على ضوء ما أشرنا إليه من قبل، تنكشف على الحق المتعالي من خلال علمه البسيط الذاتي والكشف الواحد الأزلي، جميع الموجودات بما أنها موجودات وجهات وجودية كمالية بما أنها كمالية، ويتمّ له سبحانه العلم. وهذا الكشف رغم كونه بسيطاً وواحداً تاماً، يكون تفصيلياً على نحو لا تخرج عن حيطة علمه سبحانه ذرّة من سماوات الأرواح، وأراضي الأشباح أزلاً وأبداً. وهذا العلم والكشف يكون منذ الأزل، ويكون عين ذاته المقدس. والمعلوم المتعين والمحدود، الذي يعود تعيينه وتحديده إلى العدم والنقص، يتحقق بالعرض عندما يتعلق به الإيجاد، ويصير معلوماً بالعرض، فيكون التعلّق بالعرض بعد الإيجاد. وأشار عليه الصلاة والسّلام في هذا الحديث إلى هذا المعنى عندما قال: «فَلَمّا أَحْدَثَ الأَشْيَاءَ وَكَان الْمَعْلُومُ وَقَعَ الْعِلْمُ مِنْهُ عَلَى الْمَعْلُومِ».

كما يحتمل أن تكون هذه الجمل إشارة إلى العلم الفعلي الذي يحصل نتيجة التجلي للفيض المقدس. ويكون المقصود من المعلوم، المعلوم بالذات، الذي هو هويّات وجودية قد تعلق بها الفيض المقدس، وتجلٍ، ظهوري، نوري.

فعلى الاحتمال الأول يكون معنى هذه الجملة (فَلَمّا تَجَلّى بِفيْضِهِ المُقَدَّسِ وَظَهَرَ الْكَوْنُ بِالْعَرَضِ وَقَعَ الْعِلْمُ عَلَى الْمَعْلُومِ، أَيْ ظَهَرَ الْفَيْضُ فِي مِرْآةِ الْمُسْتَفيضِ بِالْعَرَضِ).

وعلى الاحتمال الثاني يكون المعنى (فَلَمّا تَجَلّى بِفَيْضِهِ الْمُقَدَّسِ وَظَهَرَ وُجودُ الْكَوْنِ بِالذّاتِ، أَيّ بِلا حَيْثِيَّةٍ تَقْييدِيَّةٍ وَقَعَ الْفَيْضُ عَلَى الْمُسْتَفِيضِ بِالذَّاتِ).

وعلى كلا الاحتمالين، لا يكون هذا التجلي الذي يحصل بالفيض المقدس من جرّاء الحوادث الزمانية والظروف المتغيرة، فإن إيجاد الحق سبحانه مقدس ومنزّه من كل ما فيه شائبة الحدوث والتغيير بل التعيّن والتحديد. فكما أن العلم الذاتي بسيط من جميع الجهات، ومحيط بتمام الحيثيات، فكذلك العلم الفعلي الذي هو آية حقيقية للحق المتعالي، وظهور لعلمه الذاتي ومرآة له، يكون بسيطاً تاماً، وواحداً بالمطلق، ومحيطاً بجميع دائرة الكون والتحقّق، من دون أن يحدث فيه تعيّن وتجدّد وتركيب، غاية الأمر أن هذا العلم الفعلي متقوّم بالذات بذاته المقدس سبحانه، وأنه تعلّق محض. ولهذا يكون فانياً في كبرياء الحق عز وجل وحضوراً في محضر ذي الجلال. ومن هذا المنطلق يعتبرونه علم الحق سبحانه. كما أنه إيجاد النفس الناطقة للحقائق العقلية في عالم العقل والمُثُل الخيالية في لوح الخيال، علم فعلي للنفس وفانٍ فيها.

وقال الحكماء: إن نسبة عالم نفس الأمر إلى الحق سبحانه، تضاهي نسبة الصور العلمية إلى النفس. ومن أجل هذه الإحاطة والسعة والبساطة والنفوذ للحق سبحانه، ذهبوا إلى أن الحق المتعالي يعلم الجزئيات بالعلم الكلي أي أن جزئية المعلوم ومحدوديته ومحاطّيته، لا تبعث على محدودية في العلم. فعلمه سبحانه: محيط وقديم وأزلي وغير متغيّر وأما المعلوم فهو محاط ومحدود وحادث ومتغير. والذي لم يعرف أسلوب كلام الحكماء، يحسب أنهم قد نفوا علمه عز وجل بالجزئيات، حيث فسّروا الكلية والجزئية، بالمعنى الرائج لدى المناطقة واللغويين ولم يعلموا أن هناك معنى آخر للكلي والجزئي في مصطلح أهل العرفان وقد يتبعهم أحياناً الفلاسفة في ذلك المصطلح، بل استعار الحكماء هذا المعنى من أهل المعرفة ـ العرفاء ـ في باب علم واجب الوجود جلّ اسمه وتعالى شأنه.

فصل: في بيان المقياس في الصفات الثبوتية والسلبية

إن المقياس في الصفات الثبوتية للذات المقدس الواجب جل اسمه، والصفات السلبية، هو أن كل صفة من الأوصاف الكمالية، والنعوت الجمالية التي تعود حقيقة الوجود وذاته الصرف، من دون أن تتعيّن بتعيّن، وتتواجد في عالم دون آخر، تعود لهوية الوجود ذاته النورية، يُعتبر من الصفات اللازمة الثبوت والواجبة التحقق، للذات المقدس تعالى شأنه، لأن هذه الصفات لو لم تثبت للذات المقدس للزم إما أن يكون الذات المتعالي، وجوداً صرفاً ومحضاً، أو لا يكون الوجود الصرف محض كمال وجمال. وهذان الأمران باطلان لدى العرفاء والحكماء. كما تقرر في محله.

وإن كل صفة ونعت لا تثبت للموجود، إلا بعد تنزّلّه إلى منزلة من منازل التعينات، وتَقارُنِه بشكل من إشكال التقييد، وتعانقه بمرتبة من مراتب القصور وتلازمه مع حد من حدود الوهن والفتور، ومجمل القول إن كل صفة لا تُعدّ من حقيقة الوجود، بل كانت راجعة إلى الماهية، لكانت من الصفات المسلوبة التي يمتنع تحققها في الذات الكامل المطلق، لأن الذات الكامل المطلق والوجود الصرف كما يكون مصداقاً للكمال الصرف، يكون مصداقاً لسلب النقائص والحدود والأعدام والماهيات.

هذا الكلام وما أشتهر لدى المحققين من أن جميع الصفات السلبية، تعود إلى سلب واحد هو سلب الإمكان، لا يكون سديداً وصائباً لدى الكاتب فكما أن ذاته المقدس سبحانه يكون مصداقاً ذاتياً حقيقياً لكل واحد من الصفات الكمالية، من دون أن يرجع بعضها إلى البعض الآخر ـ كما بيناه سابقاً ـ فكذلك يكون الذات المقدس مصداقاً بالعرض لكل واحد من الصفات السلبية أيضاً.

ولا نستطيع أن نقول بأن الأعدام والنقائص حيثية واحدة وأنه (لاَ مَيْزَ فِي الاعدام)، لأننا إذا درسنا هذا الموضوع على أساس الواقع ونفس الأمر، فكما أن العدم المطلق حيثية واحدة رغم كونه كل الاعدام، فكذلك الوجود المطلق أيضاً حيثية واحدة وكل الكمالات، فلا نستطيع إثبات صفة للحق سبحانه، في مرحلة إعتبار الاحدية، وغيب الغيوب، لا الصفات الحقيقية الثبوتية، ولا الصفات السلبية الجلالية.

وإذا درسناه على أساس مقام الواحدية وجمع الأسماء والصفات، فكما أن الصفات الثبوتية الكمالية متكثرة ومتعدّدة، كانت الصفات السلبية متكثرة أيضاً لأن في مقابل كل صفة كمالية، صفة ناقصة مسلوبة. فالذات المقدس سبحانه كما يكون مصداقاً للعالم بالذات، يكون مصداقاً لعدم كونه جاهلاً بالعرض. وكما يكون قادراً يكون ليس بعاجز، وكما تقرر في علم الأسماء، أن للأسماء والصفات الثبوتية اعتبار المحيطية والمحاطية والرئاسة والمرؤوسية فكذلك تكون للأسماء والصفات السلبية هذه الإعتبارات بالتبع أيضاً.

ومجمل الحديث أنه بعدما اتضح المقياس في الصفات الثبوتية والسلبية، نستطيع أن نفهم بأن الحركة التي تتقوم بالقوة والهيولى، وأن الحدوث والتجدد المتغلغل في ذات القوة، لا تتسرب إلى ذاته المقدس جل جلاله.

والتكلم بمعناه الدارج العرفي الذي يكون محلاً لسؤال الراوي في الحديث الشريف فهو صفة محدثة متجددة يتنزه الحق المتعال ويتبرأ عنها. وهذا لا يتهافت مع إثبات الكلام والتكلم الذاتي للحق سبحانه في مقام الذات على نحو ينسجم مع تنزهه سبحانه عن التجدد وبراءته من الحدوث.

وخلاصة هذا البحث الشريف أن حقيقة التكلم، لا تتوقف على خروج الأحرف من المخارج الخاصة في الحنجرة والفم. وما هو شائع لدى أبناء اللغة وعرف الجمهور من الناس من أن التكلم يتقيد وينصرف إلى خروج الأحرف الأبجدية من مخارجها، فهو ناتج عن العادة وأنس ذهن الناس بمثل هذا التفسير. وقد ساعد أوهام الناس وأفكارهم على ذلك. وأما أصل معنى التكلم فلا يتقيّد بالأحرف أبداً.

إن حقيقة العلم عبارة عن ظهور الشيء لدى العالِم، من غير أن يتقيد بالإدراك بواسطة الأدوات البادية الظاهرة مثل الدماغ أو الآلات المعنوية مثل الحسّ المشترك والخيال. فإذا فرضنا أن شخصاً قد حصل على العلم بشيء بواسطة يده أو رجله أو رأى شيئاً أو سمع صوت شيء، لصدق عليه العلم والسمع والبصر. وهكذا إذا رأى في عالم الرؤيا شيئاً أو سمع صوت شيء أو تكلّم أو أحسّ، لصدق عليه أنه رأى وسمع وتكلم وأحسّ حقيقة، من دون شائبة المجاز مع أن الرؤية والسمع والتكلم والإحساس قد تم من دون الاستعانة بالأدوات الحسية الخاصة التي

تستعمل في هذه الموارد حالة اليقظة. فالمقياس في صدق الرؤية والتكلم والسمع والإحساس هو نفس الإدراك الخاص.

وحقيقة التكلم هو إظهار المكنون في الخاطر وإبراز ما في الضمير من دون أن تكون لآلة خاصة دور في ذلك. ولو فرضنا أن إطلاق التكلم والسمع والبصر على حصول العلم من دون الاستعانة بآلاتها، كان مجازاً في اللغة ولدى العرف، ولكنّ حقيقة معاني هذه الأمور ـ نفس الحقائق ـ لم تكن مقيدة بالأدوات الخاصة ويكون السمع والبصر والتكلم و... صادقاً عليها عقلاً. ولا يكون البحث في باب الأسماء والصفات بحثاً لغوياً، بل المقصود هو إثبات نفس الحقائق حتى إذا لم تسعف اللغة والعرف بذلك.

إذاً نقول إن حقيقة الكلام هي إظهار ما في الضمير، عبر الأدوات المادية الحسيّة أو من دونها، وسواء كان الكلام من مقولة الصوت واللفظ والنَفَس المتصاعد من الداخل والرئة أو لا. وعليه يكون الكلام من الأوصاف الكمالية للوجود، لأن الظهور والإظهار من حقيقة الوجود ويعودان إلى حقيقة الوجود. وكلّما كان الوجود أكمل وأقوى كلما كان الظهور والإظهار أكثر، إلى أن يصل الأمر إلى الأفق الأعلى والمقام الواجب الأسنى، الذي هو نور الأنوار ونور على نور، وظهور على ظهور. وبواسطة الفيض المقدس وكلمة (كُنْ اَلْوجُوُدِيَّة) يتم إظهار ما في الغيب من مقام الواحدية. ومن خلال الفيض الأقدس والتجلي الذاتي الأحدي، يتم إظهار الغيب المطلق، ومقام اللامقام من الأحدية، وفي هذا التجلي الأحدي، يكون المتكلم: هو الذات المقدس الأحدي، والكلام: هو الفيض الأقدس والتجلي الذاتي، والسامع: الأسماء والصفات. وبنفس هذا التجلي تتم طاعة تعيّنات الأسماء والصفات وتتحقق علمياً. وفي التجلي الواحدي بالفيض المقدس يكون المتكلم، الذات المقدس الواحد المستجمع لجميع الأسماء والصفات، والكلام، نفس التجلّي، والسامع والمطيع هما تحقيق الأعيان العلمية، الملازمة للأسماء والصفات واللذان تحققا بواسطة أمر «كُن» تحققاً خارجياً عينياً (فَإِذَا قَالَ لِكُلِّ عَيْنٍ أَرَادَ إِيجَادَهَا: كُنْ، فَيُطِيعُ الأَمْرَ الإِلهيِّ فَيَكُونُ وَيَتَحَقَّقُ). ولم نستعرض الشواهد النقلية في هذا الموضوع ولم نتطرق إليها. والحمد لله أوَّلاً وآخراً.

ــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) أصول الكافي، كتاب التوحيد، باب صفات الذات، ح 1.

 ([2]) سورة الأنعام، آية: 59.