ظاهرٌ أنيق وباطنٌ عميق
الإمام الخميني (قدس سره)
إنّ مولد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم له أبعاد وبركات متتالية، من بعثة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونزول الوحي الإلهي على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه البركات لا زالت كلّها مجهولة للبشرية.
كما أنّ ما نزل به القرآن الكريم، لم يزل مجهولاً حتى بالنسبة للمتبحّرين في آخر الزمان، ولم يدرَك كما كان ينبغي. فما عُرف منه حتى اليوم إذا ما قارناه بما كانت عليه المعارف البشرية، والفلسفة، والعدالة الاجتماعية قبل الإسلام لدلّنا على تطوّر عظيم في العالم ليس له مثيل لا قبله ولا بعده. كذلك تلاحظون ما حصل من تطوّر عظيم في مسار المعرفة الإلهية، إذا نظرتم إلى ما كان عليه العالم قبل الإسلام، وإلى أين وصل بعد الإسلام، بفضل تعاليم الإسلام المقدّس والقرآن الكريم.
*أمور يصعب إدراكها
إنّ عظمة بعض الشخصيات ممّن كانوا قبل الإسلام من أمثال أرسطو وغيره، عندما نقرأ كتبهم لا نجد فيها أثراً مما ورد من أمور عظيمة في القرآن الكريم. فالآيات التي أشارت إليها الروايات والتي نزلت لمن يتعمّقون في الأمور في آخر الزمان، مثل سورة التوحيد والآيات الست الأولى من سورة الحديد لا أظن أنّ أسرارها يمكن أن تتكشّف للبشر، حتى في الأيام القادمة. ولقد دُوّنت تحقيقات قيّمة في هذا المجال، لكنّ أبعاد القرآن العظيمة هي أكثر مما هو متصور.
إذا قرأنا، على سبيل المثال، الآية الشريفة ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِن﴾ (الحديد: 3) يتصور الإنسان أن أوّل الخليقة هو الله، وآخر الخليقة هو الله. وهو الظاهر بآثاره، والباطن بأسمائه. لكن المسألة ليست ما ندركه نحن أو ما أدركه من كان قبلنا، إن المسألة أكبر من ذلك. إن الله تعالى يريد نفي الظهور عن غيره بقوله ﴿هُوَ الظَّاهِرُ﴾ فالظهور له، والواقع كذلك. ولكن إدراك المعنى القائل إن الظهور هو ظهوره وإن العالم وجميع ما في الحياة ليس إلا ظهوره صعبٌ!!
ومعنى قوله ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ (الحديد: 4) الذي ورد في هذه الآيات هو أنه معنا، فهو هنا ونحن هنا. وهذه المعيّة التي يسمّيها الفلاسفة "المعية القيومية" لا تحلّ المشكلة. فهل هي من قبيل العلّة والمعلول؟ أم أنها معيّة التجلّي وصاحب التجلّي؟ إنّ الأمور ليست بهذا المعنى، وأمثالنا من البشر العاديين عاجزون عن إدراك معنى }وَهُوَ مَعَكُمْ{ فأيّ نوع من المعيّة هذه؟
وما معنى أنه نور السموات والأرض؟ ﴿اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (النور: 35). وكيف هو نور السموات؟ ولذلك سمّي (منوّر السموات).
*"مَنْ خُوطِبَ به"
إنّ المتعمّقين في القرآن في آخر الزمان يدركون الأمور أفضل من غيرهم لعمق إدراكهم. وإلّا فإنّ حدّ القرآن هو ما قيل عنه: "إنّما يَعرفُ القرآنَ مَنْ خوطب به"(1). فمعنى يعرف القرآن من خوطب به إنما ينطبق على آيات من هذا القبيل، فالآيات التي ترتبط بالأحكام الظاهرة والنصائح يدركها الجميع. مَنْ خُوطِبَ به" فهو الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم. حتى مَنْ كان واسطة الوحي، أي جبرائيل نفسه، لا يستطيع فهمها. ولقد كان جبرائيل الأمين واسطة لقراءة ما ورد من الغيب على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وكان مكلّفاً بإيصاله، ولكنه لم يكن مصداقاً لمن خوطب به. فمن خوطب به ينطبق على الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم نفسه وأما الآخرون فقد أدركوا من خلال النور الذي انتقل من قلبه إلى قلوب خواص أصحابه.
*السرُّ بين الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم
إنّ التطور المعنوي والعرفاني الذي ظهر في القرآن يفوق جميع المسائل، أما البشر فقد نظروا إلى القرآن كلٌ من زاوية خاصة. فهناك من نظر إلى البعد الظاهري، وبعضٌ آخر نظر إلى البعد الاجتماعي، والبعد السياسي، وكذلك نظر بعضهم إلى البعد الفلسفي، والبعد العرفاني أو المعرفي. ولكنّ البُعد الحقيقي الكامن بين المحبّ والمحبوب، والسرّ الموجود بين الله تعالى والرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليس أمراً هيناً، أو نستطيع نحن إدراكه.
روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: "إنني أستطيع استخراج جميع الأحكام والشرائع من لفظة (الصمد)"(2). إن هذا الموضوع مهم. طبعاً نستطيع نحن أيضاً إدراك أصول المعارف من الصمد، لكن الإمام يقول أشياء أكبر من ذلك. على أي حال، من المؤسف للبشر أنهم لا يريدون أن يعرفوا؛ لم يسلكوا طريق المعرفة، ولم يسلكوا طريق معرفة كتاب الله. فهم لم يقيموا علاقة مع مصدر الوحي حتى يفسّر الأمر لهم من مصدر الوحي. إنّ هذه العلاقة كانت قائمة بين رسول الله وبين الله، وكانت موجودة تبعاً لذلك بينه وبين خواص أصحابه.
*القرآن مائدة بسطت للبشر
كذلك الأمر في الفلسفة، ففلسفة أرسطو التي كانت أفضل الفلسفات قبل الإسلام، تختلف عن الفلسفة التي ظهرت بعد الإسلام. والفرق بينهما هو كالفرق بين الثّرى والثريّا رغم كونها ذات أهمية كبرى ورغم أن الشيخ الرئيس قال عن منطق أرسطو: "لم يستطِع أحد أنْ يُشكل على منطق أرسطو لحدّ الآن أو يضيف إليه..". في ذات الوقت الذي ترى أن الفلسفة الإسلامية تختلف عن فلسفة ما قبل الإسلام اختلافاً كبيراً. كذلك الأمر، بالنسبة للقضايا الأخلاقية والتربوية، فالقرآن نزل لجميع شؤون الإنسان ولتربيته في مختلف الأبعاد، فأبعاد الإنسان غير متناهية.
نزل القرآن للجميع، وهو مائدة بسطت للبشر، فكل من يستطيع سيستفيد منها بقدر إمكانياته. ولكن لم تتم الاستفادة من هذه المائدة إلا قليلاً مع الأسف ويجب أن أقول إن الأنبياء منذ آدم وحتى عهد النبي الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم لم يحقّقوا الهدف الذي كانوا ينشدونه رغم أن جميع الفضائل التي وجدت في العالم هي منهم ولكنهم رغم ذلك لم يتمكّنوا من تحقيق ما كانوا يصبون إليه.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار