أحبّ عباد الله: من ألزم نفسه العـدل      

 

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي

أشرنا في حديث سابق إلى أن الإخلاص جوهر نادر، لا يحصل إلا بتوفيق من الله تعالى. ولكن عندما يملأ الإخلاص وجود الإنسان ويصبح العبد خالصاً لله، عند ذلك يختاره الله تعالى لنفسه ويفيض المعرفة والحكمة على قلبه، فيصبح مصدراً ومنبعاً للدين الإلهي، يفد إليه الباحثون عن معارف الدين الخالصة.

 

*أوتاد الله في الأرض

وعباد الله هؤلاء ثابتون إلى درجة أنهم يصبحون سبب ثبات واستحكام الأرض وما يحيط بحياة الإنسان، يُحفظ بهم المجتمع من الاضطراب والتفكّك. وقد عبّر الإمام عليه الصلاة والسلام عن هذه الحالة عندما أشار إلى أن هؤلاء الأشخاص يصبحون كالأوتاد، التي بها يحفظ الله المجتمع من الفناء والزوال. فهم كما الجبال، التي تحدث القرآن الكريم عنها فاعتبرها أوتاداً تؤدي إلى الاستحكام والثبات:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ النبأ: ( 7- 6).

إذاً، الجبال تؤدّي إلى ثبات واستحكام الأرض وتمنع اضطرابها، كذلك عباد الله الصالحون وبالأخص الأنبياء والأوصياء والأئمة المعصومون عليهم السلام، سبب استحكام الأرض ودفع البلاء وسبب في نزول البركات الإلهية. أما استعانة الناس بمعارفهم، فتساهم في استحكام دينهم وتمنع الانحراف والتزلزل في عقائدهم الدينية. وفي النتيجة يهتدي الناس بواسطتهم إلى طريق الحق والصواب ويُصانون من عذاب الله.

 

*أهل البيت عليهم السلام منبع المعارف

يعتقد بعض الناس بأن الإمام عليه الصلاة والسلام حاول في القسم الأول من الخطبة الإشارة إلى فضائله وخصائص أبنائه الأئمة عليهم السلام؛ تلك الخصائص التي تصل إلى حدود الكمال، وهي أمور غير موجودة عند غير المعصوم. ويدعم هذه الرؤية بعض العبارات التي استخدمها الإمام عليه الصلاة والسلام مثل: "فهو من معادن دينه وأوتاد أرضه"(1).

فما لم يشرف الإنسان بعلمه اللامتناهي على كافة حقائق القرآن الظاهرية والباطنية، وما لم يكن معصوماً ومصوناً من الجهل، فلا يمكنه أن يكون مبيِّناً ومفسِّراً للقرآن ولحقائق الدين. وهذه الخاصية متعلّقة بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأئمة الأطهار عليهم السلام فقط.

يضاف إلى ذلك استعمال عبارة "أوتاد" في الروايات وفي معرض تبيان دور الحجّة عجل الله فرجه الشريف والإمام المعصوم عليه الصلاة والسلام في حفظ الأرض من الفناء والزوال.

من جملة ذلك حديث الإمام السجاد عليه الصلاة والسلام: "نحن أمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء ونحن الذين بنا ﴿ُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِه﴾ (الحج: 65) وبنا يمسك الأرض أن تميد بأهلها وبنا ينزل الغيث، ولولا ما في الأرض منا لساخت الأرض بأهلها"(2).

يقول الإمام الباقر عليه الصلاة والسلام أيضاً: "لو أن الإمام رُفع من الأرض لماجت الأرض بأهلها كما يموج البحر بأهله"(3).

 

*معيار السلوك الصحيح والمخلص

السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا: ما هو الطريق الذي يجب أن يسلكه الشخص الذي قرر أن يكون عبداً لله، والذي أراد أن يكون وجوده مخلصاً لله؟ ما هو المقياس والمعيار الذي يمكن أن يعتمده الأفراد فيعرفوا العمل الذي يوصل إلى الله ويبتعدوا عن العمل الذي يؤدي إلى الشرك؟

إن لمعرفة طريق عبودية الله والوصول إلى مقام الإخلاص، عاملين:

 

- العامل الأول:

الفطرة والعقل اللذان زرعهما الله تعالى في داخل الإنسان حيث يمكن للإنسان بواسطتهما تشخيص الحق من الباطل والخير من الشر. أشار الله تعالى إلى هذا العامل في القرآن الكريم:﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس: 8–7).

عندما خلق الله تعالى الإنسان، زرع فيه فطرة معرفة الحسن والقبيح والتقوى والفساد، ليتمكّن الإنسان بواسطة هذه الملكة الداخلية من تشخيص الخير من الشر والحسن من القبيح في الكثير من سلوكيّاته، إلّا أنّ هذا العامل غير كامل بسبب المحدوديات التي تعتريه وعدم معرفته بالجزئيات والأحكام التفصيلية، فلا يمكنه أن يكون هادياً كاملاً للإنسان في حياته. من هنا، أعطى الله تعالى الإنسان عاملاً آخر خارجياً، الوحي.

 

- العامل الثاني:

 وهذا العامل خارجي، وهو عبارة عن الوحي الذي يمكّنه من معرفة الحق والباطل والحسن والقبيح وأحكام كافة السلوكيات الاختيارية للإنسان بشكل كامل. لذلك يتمكّن الإنسان من الاستفادة من هذين العاملين أي الداخلي والخارجي في حركته في مسيرة العبودية والخلوص لله تعالى.

وبما أن العقل يتمكّن من إدراك بعض الأحكام وحسنها وقبحها، مال المعتزلة والشيعة إلى القول: إن للعقل أحكاماً مستقلة. وأكدوا على الحسن والقبح الذاتيين للعقل وأن كافة الأفعال إمّا أنها حسنة، أو قبيحة بحد ذاتها من دون أمر ونهي من الشارع.

 

*العدالة والحق واتباع القرآن

بناءً على ما تقدّم، يتحدث الإمام عليه الصلاة والسلام حول إحدى صفات عباد الله المخلصين ويقول: "قد ألزم نفسه العدل فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه".

وقد أشار علماء الأخلاق إلى أن العدل ملكة وهي منشأ الإتيان بالأفعال الفاضلة. وعندما تترسخ في الإنسان ملكة العدل، فهو يبادر باستمرار إلى أعمال الخير ويمتنع عن الأعمال القبيحة. والعدالة فيما له علاقة بالقوة الشهوية تعني العفاف، التي هي أصعب من العدل فيما له علاقة مع سائر قوى الإنسان؛

 لأن أكثر الانحرافات التي نهت الشريعة عنها تعود إلى الشهوات. لذلك جعل الإمام عليه الصلاة والسلام المصداق الأبرز لعدالة عباد الله المخلصين، الابتعاد عن هوى النفس. من هنا، يجب أن يعمد السالك، وقبل أي عمل آخر، إلى إصلاح قوته الشهوية ورعاية حدود الله فيها.

ثم انتقل الإمام عليه الصلاة والسلام للحديث حول صفة أخرى لعباد الله المخلصين فقال: "يصف الحق ويعمل به لا يدع للخير غاية إلّا أمَّها ولا مظنّة إلّا قصدها".

 

*العبوديّة مسؤوليّة السالك

إن سالك طريق الله لا يُدْخل ميوله وأهواءه النفسانية في وصف الحق. وأما المعيار الذي يعتمده في وصف الحق، فهو قانون الوجود، الحاكم على وجوده وحياته هذا القانون الذي يكون العالم والوجود بأكمله لله تعالى وأما مسؤوليته فليست سوى العبودية لله، فلا يجب الاعتقاد باستقلال ذاته واستقلال غير الله في مقابل الله تعالى.

 فإذا وصل إلى هذا المستوى من المعرفة وجب عليه العمل بها. وبما أن روح العبد السالك متعطّشة للخير وللكمال فهي تنظر إلى أفق السعادة والخير والكمال المتعالي، وتكون روحه طالبة باستمرار للوصول إلى تلك الكمالات. نعم تفقد الروح هذه الحالة عندما تصل إلى الكمال اللامتناهي والقرب الإلهي.

أشار الإمام عليه الصلاة والسلام إلى الصفة الأخيرة لعباد الله المخلصين: "قد أمكن الكتاب من زمامه فهو قائده وإمامه يحلّ حيث حلّ ثقله وينزل حيث كان منزله".

بما أن مساحة المعرفة والعقل محدودة ولا يمكنهما تشخيص كافة الوظائف والتكاليف والتفاصيل والجزئيات، فلا مفر أمام الإنسان من اللجوء إلى الوحي كلام الله لمعرفة وظائف العبودية لله، لذلك لا بد له من اللجوء إلى القرآن فيجعله إمامه وقائده ويجعل من أوامره شعاره الأول في حياته ومن خلال العمل بتلك التعاليم يمكنه الوصول إلى رضوان الله والقرب الإلهي والسعادة الأبدية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1.نهج البلاغة، خطبة 87.

2.الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص317.

3.كمال الدين وتمام النعمة، الشيخ الصدوق، ج1، ص203.

المصدر: مجلية بقية الله