قصة العروج والوصال

2007-08-21

اعتدنا طوال فترة عملنا بين يدي الإمام على التوجه إلى مكتب الشؤون الشرعية عند الساعة الثامنة صباحاً حيث كنا نشغل من وقته الثمين فترة تتراوح بين عشرين إلى خمسين دقيقة يقضيها في الإجابة عن الأسئلة والاستفتاءات المطروحة، وبعدها كنا ننشغل بترتيب الملفات بينما ينصرف هو إلى المطالعة والبحث، مع إشرافه على العمل الذي نقوم به.

عندما قرر الأطباء ضرورة خضوع الإمام لعملية جراحية، وحدد الموعد في أحد أيام الثلاثاء، تغيرت عادته قليلاً حيث بدأ في وضعية خاصة، يومي الأحد والاثنين اللذين سبقا يوم العملية فلم يجب خلالهما سوى عن سؤالين من الأسئلة المطروحة عليه بكلمات مختصرة ومحددة. ثم لم يعمد بعد ذلك إلى المطالعة المعتادة بل ركن إلى جلسة هادئة ساكنة. وبدت علامات السكينة على وجهه المشرق وهو ينظر إلى الأفق البعيد. وبالرغم من أنه اختار المجلس المعتاد، فقد بدا وكأنه لم يكن بيننا.

لقد كان وضع الإمام الصحي عادياً ومستقراً إلى درجة أنه كان يستطيع الذهاب إلى أماكن اللقاءات والأعمال المعهودة تماماً كما جرت العادة في أوقات الصحة والسلامة. إذاً لهو لم يكن يعاني ظاهرياً من المتاعب الجسدية، كما لم يكن مطلعاً بشكل دقيق على نوعية المرض الذي يعاني منه. وعلى حد علمي، فإنه لم يبلغ بحقيقة حالته حتى النهاية. وبالنسبة لوضعية تناوله الطعام والشراب، هي أيضاً كانت طبيعية، إذ أنه استمر في تناول المرطبات حتى الأسبوع الأخير الذي سبق اجراء العملية، حين طلب منه طبيبه الخاص التوقف عن ذلك. يوم الاثنين، أتى الطبيب المشرف وأخبر الإمام بعزمه على إجراء نفس العمل الذي أجري يوم أمس، أي أخذ صورة (أندوسكوبي) لمعدته.

بعد أن نأخذ هذه الخصوصيات بعين الاعتبار، وبالنظر إلى أن الإمام لم يمر بمراحل مستعصية من الأمراض المختلفة من قبل، لا أجد دليلاً يقنعني بأنه كان كئيباً بسبب حالته المرضية. وحتى لو افترضنا أنه كان مطلعاً على خطورة العملية الجراحية المزمع إجراؤها له، أو مدركاً لدنو أجله، فلم تكن شخصيته من النوع الذي يهتز لهذه المشاعر. لذا نطرح تساؤلاً عن السبب الذي دفعه إلى الاندماج في تلك الحالة من السكوت، والتأمل العميق المعبر؟ الصورة الظاهرية كانت تفيد بأن الإمام لم يكن مطلعاً على شيء من حقيقة حالته، بينما نحن كنا ملمين ببعض الشيء منها. لكن ترى ألم تكن بصيرة الإمام النافذة مطلعة على أمور دقيقة لم تكن لتخطر حتى على بالنا ومخيلتنا؟

في صبيحة يوم الثلاثاء، أي اليوم المقرر لإجراء العملية الجراحية، توجهت إلى بيت الإمام كالمعتاد حاملاً معي الأوراق والمستندات التي كنت أعرضها عليه كل يوم لأخذ الرأي المناسب بشأنها. وبالرغم من أني كنت مطلعاً على برنامج العملية، إلا أنني تصرفت بوحي من العاطفة التي ترفض تصديق ذلك الحدث. فذهبت في الموعد المحدد، لكني فوجئت بالباب مغلقاً. اضطربت أعصابي وارتعش قلبي، وهرعت فزعاً إلى المستشفى. وما كدت أدخل إلى البهو حتى وقعت عيناي على جهاز التلفاز الموجود على الطاولة. رأيت الإمام في حالة الغيبوبة في غرفة العمليات. وبدأ الأطباء وهو يحومون حوله، كالفراشات وهي تحوم حول الشمعة المشتعلة، ويستعدون لمباشرة العملية. اللحظات الكئيبة هذه كانت تضغط على صدري كأنها حمل لا يطاق. نظرت حولي فوجدت الدموع تنسكب من عيون الحاضرين. الشفاه تترنم بالدعاء والابتهال، والنفوس تخشع لذكر الله وتلتمس الفرج. بعد ذلك، توالى حضور قادة السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، سماحة الشيخ رفسنجاني، سماحة السيد خامنئي، وسماحة السيد أردبيلي، إلى القاعة المذكورة. كان هناك أيضاً بعض أعضاء مكتب الإمام، ونجله السيد أحمد، وإحدى أخواته الكريمات. تسمرت العيون على جهاز التلفاز لتشاهد الإمام، لكن الدموع الغزيرة كانت تحجب الرؤية عنها، بينما كان أفراد عائلته أكثر الحاضرين رباطة في الجأش والهدوء والسكينة، ولا غرابة في ذلك لكونهم ورثوا صلابة العزيمة عن والدهم الجليل.

وأخيراً غمرت الفرحة المكان المكتظ بالحضور، ونجحت العملية بدون حدوث أي عارض قلبي. حانت لحظة الحبور والأمل، والسعادة التي تعادل فرحة ملازمة ثلاثين سنة، وعند انتقاله من غرفة العمليات، ومروره من أمامي، انسكبت دموع الشوق والعشق من عيني وأزالت الغشاوة عنهما، فاكتحلت مرة أخرى برؤية وجهه المشرق الذي يشرق نوراً، وهدأ روعي وسكنت خواطري.

كنت أود أن أتقدم بالشكر الجزيل من الطبيب المعالج والفريق المعاون له، لكن الألفاظ هربت مني ولساني لم يطاوعني من شدة التأثر، وأذكر أني تمكنت فقط من تقبيل يد الطبيب.

هناك خواطر كثيرة في ذهني عن أيام المستشفى، وهناك أناس كثيرون نالوا شرف الحضور إلى جانب الإمام في تلك الفترة، وكل واحد منهم كان يعبر عن لهفته على المحبوب بطريقة مختلفة العبادات، الصلوات، الأدعية، الابتهالات، البكاء في آخر الليل والتوسل إلى الله، والاهتمام الذي يفوق كل حد بكل الأسلحة المعنوية التي اعتمدها الإمام في حياته، وقد أراد الله عز وجل ألا يحرم هذه العيون الولهى من رؤية الأبعاد المعنوية الخفية التي تنطوي عليها شخصية عبده الصالح، حيث بين من خلال هذه المناسبة الاستثنائية والمحزنة في آن، التجليات العظيمة للعبودية الصالحة له، حتى تصبح هذه التجليات دروساً مثبتة في وعي التاريخ وتهدي كل السائرين إلى درب الله. لكن واأسفاه، فليس هناك من بصر أو بصيرة أو مجهر أو أي جهاز استكشاف يقوى على سبر أغوار مقام العبودية الخالصة التي جسدها الإمام، وخلوص النية التي طبع عليها. ثمانون سنة من العبادة الخالصة، ثمانون سنة من المناجاة الليلية، ثمانون سنة من الرياضة الروحية والجهاد الأكبر والأصغر، ثمانون سنة من السير والعروج إلى الله. أين نحن من هذا المستوى الإيماني الرفيع.

ومع كل هذا الوصف السهب، أقول إن المشيئة الإلهية قد اقتضت أن تكشف للعيان، بصورة قاطعة، ولو لبضعة أيام وليال، أن قانون {ومن نعمره ننكسه في الخلق} الذي ينطبق على الجميع، من الممكن أن يستثني بعض الأفراد المتميزين الذين يوفر لهم "الخالق" القويم الذي يتمتعون به والذوبان الذي يعيشونه في ذات الحق من الناحية الباطنية، يوفر لهم مناعة تستعصي على الأمراض الجسدية، كما تستعصي على الموت والفناء.

كلما كان الإمام يقترب أكثر من لحظات الفراق والوحشة، كان اقترابه من الله يأخذ طابعاً أوضح، وآثار وبينات حكمته ومعرفته الإلهية تسطع أكثر وصفاء وجهه النير يشرق أكثر. وفي الوقت الذي كانت حالته الصحية تتدهور يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، وكان جسده المنهك يضعف بصورة أوضح، الأمر الذي يستوجب حسب الحلة المعتادة المزيد من التأوه والتألم والجزع، برزت شخصية الإمام المصقولة وحقيقة إنسانيته المتكاملة التي غلبت روحه السامية على الجسد وعالم الطبيعة، حيث بات الجسم مجرد وعاء يسع تلك الروح. برزت وقدمت نموذجاً مختلفاً من التجلي والعظمة. وبدل أن تسمع من أصوات الآلام المحرقة من الوجع والتلوي، لم يصدر من فمه سوى ذكر الله عز وجل وبعض الأدعية التي يبث فيها شوقه إلى بارئه. فهو لم يتعود على إظهار المسكنة إلا أمام الله. وبدل أن تظهر إمارات الغضب والضيق على وجهه من أثر الحالة التي هو فيها، كان يشع من قسماته المتلألئة، نور الإيمان والهدوء والاطمئنان.

لقد كان الإمام من النماذج المؤمنة الصادقة التي تنشغل بمحاسبة ذاتها في هذه الفانية قبل أن تقف يوم الحساب حائرة بين يدي العدل المطلق، لا تدري ما يفعل بها. إن روحه المطمئنة وإن كانت مرتبطة بصورتها الترابية التي فطرت عليها، في الظاهر، لكنها في الواقع كانت قد تحررت من أسر الجسد وانقطعت تماماً عن كل الصور المادية الجذابة. لذا تراه قد اتصل بالله عز وجل وشد رحاله للسفر الطويل الطويل بقلب هادئ وروح مطمئنة وضمير مستأنس ونفس هانئة.

وخلاصة القول أنه لم يتسن لأحد على الإطلاق أن يسمع من صرخة وجع أو تأوه ألم، كما لم يلاحظ عليه أي عبوس في الوجه أو ضيق في الصدر، بل عاش كل من كان حوله حالة من الوجد العميق فرضها عليه جو الدعاء والمناجاة والخشوع التي فاحت من الفضاء، وحالة من التأمل العميق والتفاعل الشديد من هذه المعجزة الإنسانية التي تجسد المقام المعنوي الرفيع والإيمان الجارف والعشق الإلهي المقدس.

وفي أحد أيام الجمعة، ذهبت إلى منزل الإمام وبذلت قصارى جهدي ـ كما شرحت سابقاً ـ في ألا يسبب دخولي إلى المكتب أدنى إزعاج لخاطره الكريم. فمشيت بخطى هادئة، إلا أن أحد الأصدقاء الذي كان جالساً عند سرير الإمام ومشغولاً بأداء عمله، لاحظ قدومي فقال: لقد أتى السيد رحيميان. عندها اضطررت لأن أتقدم نحو الإمام الذي فتح عينيه المباركتين ونظر إليّ ألقيت عليه التحية فأجابني بوداعة وصوت مرتجف. دعوت له بطول العمر والسلامة، فقال بلهجة أبوية حارة: وفقك الله وسدد خطاك. ثم توقف عن الكلام واسترخى على سريره وأغمض عينيه وأخلد إلى النوم.

في يوم السبت، كثرت المراجعات إلى المكتب وتعدد الزوار. وفي الوقت نفسه، كانت الأوراق والملفات قد أعدت كالعادة لكي يلقي الإمام نظرة عليها في ذلك اليوم.. تلك الملفات التي بقيت دون إنجاز حتى النهاية.. بعد ظهر اليوم نفسه، اتصل أحد موظفي المكتب هاتفياً بمنزلي وطلب مني أن آتي سريعاً إلى منزل الإمام. بعد فترة وصل إلى المنزل رؤساء السلطات الثلاث بعد أن علقت جلسة هامة لمسؤولي الدولة. خيم الوجوم على وجوه الحاضرين واحتاروا حيال حقيقة ما يحدث. ثم طلب مني كوادر المكتب أن أتحرك بسرعة وأستفسر عن حقيقة الأمر كي يعرفوا بالتالي ما يجري حولهم.

عند الساعة الرابعة من بعد الظهر، وصلت على المستشفى فوجدت الجو ملبداً بالكآبة والقلق، والوجوه حائرة حزينة، وشاهدت الجميع جالسين في البهو. العيون كانت دامعة والوجوه شاحبة مصفرة، والصمت المطبق كان مخيماً على المكان. تساءلت ترى ما الذي حدث؟ تجمد الدم في عروقي وتراخت ركباتي وبدأت دقات قلبي بالتسارع. ثم فقدت توازني قليلاً فجلست على الأرض لدقائق معدودة. تمالكت نفسي بعد حين ونهضت عن الأرض وتوجهت صوب الغرفة. وعندما دخلت، وجدتني أمام أحد أصعب المواقف في حياتي، الإمام في حالة الغيبوبة. الأجهزة الطبية المتنوعة كانت تحيط به من كل جهة، جهاز التنفس الاصطناعي، جهاز تنظيم دقات القلب، وغيرها. الشعور الحاد بالقلق والحيرة لم يفارق الموجودين لحظة واحدة.

وعند المغرب، تلا الفريق الطبي المعالج تقريراً حول وضع الإمام الصحي، وسأل أحد الحاضرين مسؤول الفريق عن الاحتمالات التي يضعها للأيام القليلة المقبلة. فأجاب بأن المسألة لن تستمر حتى الأيام القليلة المقلبلة، بل تنحصر ضمن ساعات قليلة. كان وقع هذه الجملة على الحاضرين كالصاعقة. لكن مراعاة بعض المسائل فرضت عليهم المحافظة على الهدوء. في تلك اللحظات الكئيبة، تضافرت جميع عوامل الحزن، من السكوت الممل، إلى سواد الليل المعتم، إلى التوقعات السيئة التي راودت الأذهان. أحسست بأن الجميع يكابدون أنفسهم ويعاندون مشاعرهم ويحاولون الخروج من بحر الغم المتلاطم هذا.

كل ما كنا نتمناه حينها، هو أن تصدر عن الإمام حركة بسيطة أو إيماءة عابرة أو رمشة عين واحدة.

اللحظات الرهيبة كانت تمر أبطأ من أي وقت مضى، حتى دقت الساعة المروعة حاملة معها الحدث المرير. لم تكن الساعة قد استقرت على العاشرة والنصف ليلاً عندما وصل ضغط دم الإمام إلى الصفر حيث توقف قلب العالم الإسلامي النابض عن الخفقان. لا أظن أن القلم واليراع واللسان، تستطيع كلها أن تعبر عن هول المأساة التي حلّت. مرت دقائق وصراخ التفجع يعلو في أرجاء المكان، والدموع الغزيرة تتفجر من المقل، إلا أن أحد المسؤولين الكبار خاطب الجميع وأخبرهم بأن الإعداد السليم من أجل إعلان هذا الحدث، يتطلب منا الإحساس بروح المسؤولية وضبط الأعصاب والتحكم بالمشاعر.

في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، نقلت الجنازة المطهرة إلى باحة المنزل، أي المكان الذي اعتاد الإمام أن يلتقي فيها جماهير الناس التي أحبته وعشقته، وذلك لإجراء عملية الغسل والتكفين. وعند أذان الفجر تقريباً، كان العمل قد أنجز، فنقل الجثمان الطاهر إلى براد كان قد أعد خصيصاً لهذه الغاية، يقع بالقرب من المنزل والمستشفى في آن.

وفي الليلة التالية التي تقرر فيها أن يصلى على الجثمان في اليوم الذي يليها، ذهبت لكي أتشرف للمرة الأخيرة بزيارة الإمام ورؤية وجهه المقدس وتوديعه، فوجدته كما لو كان حياً يرزق، بل أشد حضوراً من أي وقت مضى. أمسكت برجليه اللتين لم تمشيا سوى في طريق الحق، ولثمتهما ووضعتهما على عيني، ثم شممت أريج وجهه وقبلته للمرة الأخيرة. طلبت منه أن يسامحني على أي تقصير بدر 

مني وسألته الدعاء واستأذنت بالانصراف. هذه اللحظات الفريدة تشكل أكبر وأعظم، وفي نفس الوقت، أفجع وآلم خاطرة في حياتي.. خاطرة لا أستطيع أن أعلق عليها أو أحاول وصفها بأي حال من الأحوال.