عبقٌ فوّاح يلفّ المكان هنا وهناك، في ذاك البيت وتلك الزاوية، في قارعة الطريق، في ممرّات الأحياء، بين صخور الجبال وفي إحراج الوديان... أينما ذهبنا نستنشقه، وفوراً نشعر براحة وأمان.

فأيّ عبق هو أنت؟ ومن أيّ زهرةٍ أتيت؟ وكيف لك أن تدخل القلوب وتتربع على عروشها؟ ألأنّك من شذى الحسين والعباس؟ ألأنّك من رحيق فاطمة وزينب؟ ألأنّك من عطر القائم؟ ألأنّك من هذا كلّه سحرت البشر ورقّ لك الحجر؟ ألأنّك من هذا كلّه كُلّلت بالغار لشجاعتك وإقدامك وعزمك الذي لا يلين؟ ألأنّك من هذا كلّه استحققت لقب "المقاوم" كما "الشهيد"؟

قليل الحظّ هو ذاك الذي لا يشتَمُّ رحيقك ولا يعرفك ولا يدرك كنهك، أما المحظوظون فهم الذين يرقبونك، يرفعون أيديهم بالدعاء لك مقاوماً كنت أو شهيداً.

فيا ابن فاطمة وعليّ، بك نقاوم، ننتصر، نمتطي صهوة الحياة ونمضي...

 

* مجتمع الشهداء الأحياء

 تحدّث الإمام الخميني قدس سره يوماً عن "مجتمع الشهداء الأحياء"، رجالات الله الذين نذروا أنفسهم للقضية والإسلام فسكنت أجسادهم بيننا وتعالت أرواحهم إلى عالم ملكوتيّ لا يعير قيمة للحياة. هؤلاء هم إخواننا، وأقراننا، وجيراننا، وأصدقاؤنا وأقاربنا القريبون والبعيدون، هم من سمعوا ناقوس الخطر التكفيريّ كما الصهيونيّ يدقّ، فهبّوا للميدان للذود عن الأهل والديار والمقدّسات. لم يكن لديهم وقت لأيّ شيء في هذه الحياة، فما لبثوا أن ارتدوا جُعبهم واعتمروا خُوذهم وتزيّنوا بسلاحهم، حتّى انطلقوا بقامات منتصبة ووجوهٍ باسمة إلى الجهاد، إلى حيث الحسين، إلى دنيا الخلود.

هم غيّروا كلّ شيء؛ المعادلات القتاليّة، النظريّات الحربيّة كما المفاهيم، ونجحوا في إقناع الناس رويداً رويداً بأنّ الشهادة ليست خسارة لشبابهم، وإنّما هي قيمة إنسانيّة عظيمة هدفها طاعة الله. والواقع الحالي فعلاً عَكَس الأمر، فعوائل الشهداء اليوم كالجبال تشمخُ عزّاً بشهادة أبنائها وما يعزّيها تفهّمها للخيار الذي سعى إليه ولدها الشهيد والذي فيه رضوان إلهيّ في الدنيا والآخرة.

 

* سيماهم في وجوههم

 وعلى قاعدة "سيماهم في وجوههم" تجري معادلات الناس ونبوءاتهم أحياناً، فتبعاً لخطّ الإخوة وأخلاقهم وتصرّفاتهم ومسلَكهم العمليّ يرسمون لهم صورة الشهادة. أليسوا هم مَن عايشوا المقاومة ووقَفوا عند حياة شبابها وعرَفوا مزاياهم التي تخوّلهم مقام الشهادة؟، بلى... فالزهد في الدنيا، والعزم الراسخ والهمّة العالية، والارتباط بمدرسة عاشوراء، ما هي إلّا علامات الشهادة المنقوشة على جبين المجاهدين الشرفاء.

وممّن يؤمن بذلك الحاجة فاطمة التي تقول: "منذ صغري كنت أشاهد مع أهلي برامج تحكي سيرة الشهداء، وتبعاً لذلك اكتشفت أنهم متشابهون في الأرواح، مختلفون في الأشكال، يجمعهم العطاء والإيثار والزهد في الدنيا وماديّاتها.. يجمعهم ذاك الوجه الباسم البريء الذي يُنذر بالفراق. كنت أبكي للوعة الفراق التي ستسكنني يوماً حين سيغادرني أخي شهيداً ليلتحق بركبهم بناءً على ميزاته التي تتطابق معهم. وفعلاً، جاء اليوم الموعود وارتفع أخي شهيداً، لأنّه بطهارتهم، والآن أترقّب القافلة التي تسمو فوق البشر، والدعاء للمجاهدين يلازمني، فهذا أقلّ الواجب الذي يمكن أن أقدّمه لهم".

 

* هم أساس صمودنا واستمرارنا

 ويدهشنا كميل، الشاب العشرينيّ الذي تركت الموضة بَصماتها عليه بأشكالها، عندما يتكلّم عن المجاهدين والشهداء قائلاً: "إنّ كان للشرف والعزّة عنوان فهو موجود في مجاهدي المقاومة وشهدائها، الذين لا يمكن أن نقدّر تضحياتهم بأيّ طريقة، ولا يمكن أن ننظر إليهم إلّا نظرة اعتزاز وفخر لأنّهم هم أساس صمودنا واستمرارنا. عندما أرى صور المجاهدين على الجبهات في الحرّ والقرّ في ساحات مكشوفة ينتابني شعور بالخجل، فأين أنا منهم؟ وعندما أسمع بشهيد أطأطىء رأسي اعترافاً بجميله عليّ، وأدعو الله أن يختم لي بالشهادة التي بدأتُ أدرك حلاوتها خلال تشييع الشهداء من الرفاق والأقارب، الذين رحلوا دون أن أعترف لهم بمكانتهم لديّ ومدى إعجابي بخصالهم، التي أسعى لأستمدّها منهم".

 

* عملنا لا يضاهي جهد مقاوم

 أمّا الحاجّة ابتسام فلها قصّة مختلفة مع المقاومة، تكتمل معالمها مع بدايات الدفاع عن المقدّسات، وكونها إحدى الأخوات العاملات مع "الهيئات النسائيّة" فهي تعمل بكلّ طاقاتها لأداء مسؤوليّاتها وخصوصاً فيما يتعلّق بموضوع المجاهدين والشهداء، وتعلّق: "منذ البداية خطّنا هو حزب الله وخيارنا هو المقاومة. هذا الخط كبُر معنا، صقَل أفكارنا أكثر ووسّع مداركنا الإيمانيّة والعقيديّة. مع بداية الدفاع عن المقدّسات والحرب في سوريا شيءٌ ما فينا تغيّر، وفي المجتمع بشكل عام، فمعرفتنا ببعض المجاهدين نظراً إلى كونهم من أبناء محيطنا الاجتماعيّ وإخواننا جعلنا نعيش حالة قلق مع كلّ غياب لهم، حالة ترقّب ودعاء بالعودة سالمين منتصرين وهذا جلّ ما يكون. من ناحية أخرى سقوط أعداد من الشهداء زاد من واجباتنا تجاههم، من خلال التحضير والتنسيق للتشييع، وتجاه عوائلهم، من خلال الوقوف معهم والتخفيف عنهم. ومع تكرار المشهد، وصعوبة الظروف التي عاشها المجاهدون، حاولت أن يكون لي دور مع المجاهدين من خلال تحضير وجبات الطعام لهم. ولمّا كنت أملك مكاناً مناسباً، جهّزته بالأواني والأغراض المطلوبة وجعلته في خدمة من يريد أن "يؤاجر" بوجبة طعام لمقاوم. ولعلّ هذا أمر يسير لا يضاهي قطرة عرق مقاوم مُنهك".

 

هكذا هو حال مجتمعنا، مجتمع حاضنٌ للمقاومة، مقدّر لتضحياتها ولجهودها الرامية لحمايته. وينعكس اندفاعه نحو عالم المقاومة عبر تقديم الأولاد والدعم الماديّ والمعنويّ لها دون أي تردّد، علّه بذلك يفيها جزءاً من الجميل.

 

* مؤسّسات حاضنة

 شكّلت الجهود الشعبيّة العفويّة دوراً كبيراً في مناصَرة المقاومة الإسلاميّة في لبنان منذ انطلاقتها عام 1982، إثر الاجتياح الصهيونيّ. ومع تصاعد عمليّات المقاومة وتضاعف الجهود انبثقت بعض المؤسّسات الاجتماعيّة والخدماتيّة الداعمة للخطّ الجهادي بمباركة من الإمام الخمينيّ قدس سره الذي لم يغفل بوَعيه الثاقب عن الدعوة إلى إنشائها لتحفَظ هذا المجتمع المقاوم وتعزّز قدرته على التحمّل والمواجهة. وهكذا ولد من رحم المقاومة مجموعة مؤسسات رائدة في عالم الخدمات والرعاية وحفظ المقاومة، كان منها مؤسّسة الشهيد ومؤسّسة هيئة دعم المقاومة.

 

أ- هيئة دعم المقاومة

 بمبادرة مجموعة من الإخوة المتطوّعين من أجل تأمين الدعم الماديّ والمعنويّ للمقاومة نشأت هيئة دعم المقاومة الإسلاميّة عام 1990.

وعن كيفيّة دعم المجاهد وتأمين احتياجاته، يقول المسؤول الإعلاميّ لهيئة الدعم الحاج بلال عبد الساتر: "هناك جملة من المشاريع المبتكرة قامت بها الهيئة وهي:

- مشروع قجّة المقاومة.

- مشروع المجسّم.

- مشروع الاشتراك الشهريّ.

- مشروع التبرّعات العامّة.

- مشروع تجهيز مجاهد".

ويضيف الحاج بلال: "تهتمّ هيئة دعم المقاومة بجمهور المقاومة وتعمل على وصلهم بالمقاومة من خلال: الدعم الإعلاميّ، والأنشطة الفنيّة والثقافيّة التي تقوم بها الهيئة".

وأخيراً، وباسم هيئة الدعم تقدّم الحاج بلال عبد الساتر بالشكر من كلّ الداعمين والمساهمين على تجاوبهم وثقتهم، وعلى دورهم الفعّال في استمرار مسيرة المقاومة.

 

ب- مؤسسة الشهيد

 من جهتها انطلقت مؤسسة الشهيد مع انطلاق الرصاصات الأولى للمقاومة، لاستيعاب نتائج العدوان اجتماعيّاً وإنسانيّاً. ويحصر المسؤول الثقافي في المؤسسة الشيخ يوسف عاصي الأهداف الأساسية التي تقف وراءها المؤسسة: "برعاية عوائل الشهداء، وحفظ إرث الشهداء، وتعزيز ثقافة الشهادة في المجتمع". ويضيف: "انطلاقاً من هذه الأهداف تحرص المؤسسة على تقديم الرعاية الشاملة لأُسَر الشهداء بكلّ أبعادها الماديّة والمعنويّة وعلى تأمين رعاية تعليميّة شاملة لأبناء الشهداء وغير ذلك من الاحتياجات الضروريّة أو الطارئة بما يؤمّن لهذه الأُسَر المضحّية عيشاً لائقاً وكريماً... وهذه الخدمات ما هي إلّا محاولة للوفاء بالدين الذي تركه الشهداء في أعناقنا".

ويؤكّد الشيخ عاصي أنّ لعمل مؤسسة الشهيد تأثيراً على حفظ مسيرة الجهاد من خلال رفع معنويات المجاهدين الذين يدركون التفاف الناس حول أمانة الشهداء وقيام المؤسسة بدورها المناسب مع عوائلهم، إنْ كتب الله لهم الشهادة.

وفيما يتعلّق بعلاقة المؤسسة مع الناس يقول الشيخ يوسف: "الناس في مجتمعنا يقدّسون الشهادة، لذلك تحرص المؤسّسة على التواصل مع مختلف الشرائح الراغبة بالمساهمة النقديّة في برامج التكفّل المختلفة".

 

* وقفة مع الإمام الخمينيّ قدس سره

 خير الختام مع الإمام الخمينيّ قدس سره إذ يختصر قيمة الجهاد والشهادة بقوله: "مهما كان، فإنَّ قلمي ولساني عاجزان عن ترسيم المقاومة العظمى لملايين المسلمين، عشّاق الخدمة والإيثار والشهادة في هذا البلد، بلد صاحب الزمان أرواحنا فداه. ولا يمكن توصيف مجاهدات وبطولات وخيرات وبركات هؤلاء الأبناء المعنويّين لكوثر فاطمة الزهراء عليها السلام، وبالتأكيد فإنّ هذه البطولات نابعة من منهج الإسلام الأصيل وأهل البيت، ومن بركات ولاية "إمام عاشوراء" سلام الله عليه".

تحقيق: زهراء عودي شكر

المصدر: مجلة بقية الله