نبذة عن سيرة الشهيد نزيه ناجي علي الحِجّاج بمناسبة ذكرى استشهاده

 

«مهد الطفولة»

ولد الشهيد أبو محمد القمّي عام 1384ﻫ في مدينة القطيف بجزيرة تاروت في قرية الربيعية، وبها نشأ الشهيد نشأته الطيّبة، وتربّى في حجر والديه تربيةً صالحة،فقد عنيا به عنايةً تامة؛ مما جعل منه شاباً ذكياً وشخصية مهذّبة، فأشبعاه الحبّ والحنان ليكون طيب النفس رحب الصدر، وغذّياه بالصراحة فأصبح صادقاً، مجداً صابراً في الشدائد والصعاب.

نشأ الشهيد في أوساط مجتمع اسلامي شيعي كلّه ولاء لأهل البيت عليهم السلام وسيرة جدّهم المصطفى(صلى الله عليه وآله وسلم) ؛ ممّا كان له الأثر الأكبر على تربية شهيدنا وسلوكه الحسن.

التحق الشهيد ـ وبعد إكماله السادسة من عمره ـ بالمدارس الحكومية، فكان مثال الطالب المجد، والتلميذ المهذّب مع مدرّسيه وزملائه.

كان شهيدنا (رحمه الله) ـ ومن أوّل دراسته وحتى آخر ما وصل إليه ـ الأوّل في كل صف، وعندما تخرّج من الثانوية تخرّج وهو يحمل تقديراً ممتازاً.

وقد نال المركز الاول بين أقرانه، بل هذا ديدنه في كل سنة؛ وذلك لما كان يتحلّى به من عقل كبير، ومثابرة وجد، بل وفطنة، وبُعد نظر، وذوق سليم.

«البيت الطيب»

تربّى الشهيد في أسرة طيبة تعيش التفاهم والإخاء والمحبة والصفاء فيما بينها، فكان والده ولا زال من الآباء الذين يولون اهتماماً كبيراً بتربية أبناءهم من الناحية الدراسية، فتراه يهيّئ لهم الأجواء العلمية للدراسة والمطالعة.

والشهيد نزيه (رحمه الله) كان يحظى كسائر إخوانه بحظٍّ وافر من العناية والتربية، كما أن حسن معيشة والدهم المالية ساعدت الشهيد وإخوانه على أن يصلوا إلى مراتب جيدة من الدراسة.

أما والدته: فهي الأخرى التي قامت بتأدية الدور الأكبر في تربية أبناءها، وإعدادهم رجالاً للمستقبل، بل كانت هي ربّة البيت الوفية والمربّية الصادقة، ولعل دورها في تربية أبناءها كان أكبر بكثير من والدهم الذي كان يقضي نهاره كلّه في العمل خارج المنزل، فكانت لأبنائها مثال الامّ الطيبة والوالدة الحنونة.

أما إخوان الشهيد (رحمه الله) والحمد لله فإنهم من خيرة الشباب الملتزمين، والمؤمنين الواعين.

«انتصار العقيدة»

لقد كان الشهيد نزيه قوي الإرادة صلب الايمان، ثابت القدم، كبير النفس، وهو بهذا المعنى فَهِمَ البطولة والشجاعة، فلم تكن الشجاعة عند شهيدنا (رحمه الله) قوة العضلات ولا فتل السواعد حتى ينهزم أمام العواصف، بل كان كالجبل الراسخ لا تهزّه العواصف.

ولذا نراه يسطّر لنا على صفحة التاريخ موقفاً إيمانياً خالداً، فبعد أن أنهى الشهيد دراسته الثانوية التحق بشركة (أرامكو) وواصل دراسته فيها، وبعد مرور ستة شهور من التحاقه قررت الشركة إرساله إلى (أمريكا) ، من أجل مواصلة الدراسة هناك؛ لما رأوا فيه من الفطنة والنبوغ، فأرادوا أن يجعلوا منه آلة لخدمة مصالحهم.

ولكن شهيدنا الغالي وبعد ستة أيام من صدور القرار خرج من الحجاز ليلتحق بركب المجاهدين الأبرار، تاركاً الدنيا وما فيها، تاركاً (أرامكو وأمريكا) معاً، هكذا البطولة وجهاد النفس، وهذا هو الصمود، وهذه هي العقيدة الراسخة الثابتة، تاركاً كل زبارج الدنيا وما فيها، وهذه هي النفوس الكبيرة حقاً.

وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام.

«عمر الورود»

أياماً وليالي توجّها الشهيد أبو محمد رحمه الله بالصدق والوفاء، بالجد والعمل، بالصراحة والإخلاص، بالسعي والنشاط، بالإيمان والمحبة في خدمة المؤمنين والعقيدة، هذه هي أيّامه التي عاشها في البلاد قبل أن يلتحق بركب المقاتلين الأخيار.

فحياته في البلاد كلّها نور على نور، لقد كان رحمه الله هو رجل المسجد وهو في الندوة، وكذلك في المدرسة كان مثال الطالب المجد المثابر.

لقد بذل شهيدنا كل وجوده من أجل الدعوة إلى خط الإمام الخميني (رضوان الله عليه) وولاية الفقيه وولاية أهل البيت (عليهم السلام)، فقد كان في المدرسة وفي العمل كما هو في المسجد حتى في الملعب، يُفَهّم هذا، ويوضح لذاك، ويناقش آخر عن خط ولاية الفقيه، طارحاً الفهم الرسالي الصحيح للإسلام والقيادة الاسلامية بروحية بطولية فذّة قلّ نظيرها، وقبل إتمامه للمرحلة الثانوية سافر للجمهورية الاسلامية في ايران وبقي فيها قرابة أربعة أشهر مردّداً بين الحوزة العلمية في مدينة قم المقدسة وبين معسكر التدريب، مما ساعد في ازدياد معارفه وقوة حجّته، وشمولية فهمه لقضايا الساعة ومستجداتها، وخصوصاً ما استجدّ في الساحة عن الأحزاب والمنظّمات الاسلامية وغيرها.

وبعدها كرّ راجعاً للبلاد، فبقي في أوساط الشباب ينقل لهم مشاهداته التي تفاعل معها وانفعل بها في جمهورية ايران الإسلام، ملبّياً دعوة الإمام القائد في ضرورة تصدير الثورة الاسلامية المجيدة، كما أنه أخذ يوضّح لهم ما يلتبس على أذهانهم من قضايا وأفكار جديدة.

ولقد كان (رحمه الله) سريع البديهة، قوي الحجّة، طلق اللسان لا تأخذه في الله لومة لائم، يعمل على بصيرة من أمره وهدى في دينه.

كما أنه عُرف ـ ومن صغر سنه ـ بين الشباب من إخوانه وأبناء بلده بكبر عقله، فراحوا يعاملونه معاملة الرجل الكبير الواعي لما رأوا فيه من الفكر المتوقّد والرأي الحصيف.

وكان أوّل ما سعى إليه بعد رجوعه من ايران الإسلام إصلاح بيته وقرابته، ومن جهوده المباركة تأثيره على الشهيد السعيد أبي مصطفى (رحمه الله) وهو ابن عمه وابن خالته، وقد كان لشهيدنا الغالي نشاط جيّد في تنظيم رحلات إسلامية يقوم بها الشباب المؤمنون إلى البساتين والشواطئ، من أجل توطيد روابط الأخوة والمحبّة، والتفاهم الايماني الهادف، وطرح الفكر الأصيل وجذب عدد آخر من الشباب إلى ركب المؤمنين، فكان للشهيد (رحمه الله) دور مميز في تلك الرحلات الإيمانية.

وممّا تميّز به الشهيد (رحمه الله) ـ ومن أيام بلوغه الأولى ـ الجرأة في طرح أفكاره بعيداً، عن ألوان المصانعة والمجاملة، صادعاً بكلمة الحق العليا. فكانت له مناقشات مع أولئك الذين رضوا بالحياة الدنيا، وعملوا من الاسلام بما لا يتعارض مع صلاح حياتهم الدنيئة ونفوسهم المساومة، فليست الصلاة عندهم إلا كتحية الجندي التي تعوّد أن يؤدّيها كل ّيوم لضابطه خالية من كل معنى، اولئك الذين يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، كما قال الإمام الباقر (عليه السلام) : «ولو أضرّت الصلاة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا أسمى الفرائض وأشرفها» ويعني (عليه السلام) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض، فيخلد أبو محمد شهيداً إلى نعيم الجنان مخدوماً بالحور والولدان ولا زال بعضهم في ضلالهم كالأنعام .

كان (رحمه الله) كثيراً ما يردد كلمة سيد الأوصياء أمير المؤمنين (عليه السلام): «ولا تستوحشوا من طريق الحق لقلّة سالكيه» شديداً في الله حتى أن الشباب كانوا يرون فيه جرأة هشام بن الحكم صاحب الإمام الصادق (عليه السلام).

كان إذا رأى الأمريكان المستعمرين داخل البلاد يسخر منهم، ويسفّه أحلامهم، ويتهدّدهم بكل شجاعة وإقدام.

عاش (رحمه الله) في مجتمع أقبلت عليه الدنيا بكل زينتها، ولم يكن شهيدنا بمعزل عن ذلك وما كان فقيراً، بل هو كذلك ممن فتحت لهم الدنيا بابها على مصراعيه، فلم يكترث ولم يعبأ بما فيها، بل راح يسخر بكل مظاهر التجمّل وأشكال الموضات التافهة والأزياء المائعة، بل لم يسجّل في برنامجه ما كان يحلم به الكثيرون من البيت الجميل والسيارة الأنيقة، والأزياء الفاخرة، والمأكولات المنوّعة، همّه أن يحقق من نفسه وشباب مجتمعه شخصية الشاب المسلم البطل والرجل الحرّ الشجاع، الذي لا يجعل من نفسه هدفاً لزخارف الدنيا وتوافهها الزائلة، فهو ليس من أولئك الذين تفصّل لهم السوق الأوروبية والشوارع الأمريكية ويلبسون.

كيف وأبو محمد إذا جالسته رأيت فيه بطلاً إسلامياً، يحمل نفساً كبيرة وطموحات إسلامية صادقة، تراه وكأنه يريد أن يحرّر الإنسان كل الإنسان، من المستعمرين وجور الظالمين.

هذه نبذة قصيرة عن تلك الأيام البيضاء التي قضاها أبو محمد بين أهله وإخوانه، بين أصدقاءه في بلاده، التي مرّت وكأنها حلم عابر ولكنها خالدة، بخلوده وحاضرة بشهود روحه الزكية، فلا تُنسى وأنّى لي ولمن عاش مع شهيدنا الغالي أن ينسى تلك الشخصية الفذّة، وذلك الملاك الذي وهبته السماء جمال الروح، وهل الجمال إلاّ جمالها؟

كيف انساه، بل وكأنّي أراه؟ وأنا معه في البيت وفي الحسينية، وفي المسجد، وفي البستان، نمشي بين جداوله، وفي السيارة وهو يحدثني وأحدثه ينظر لي وأنظر اليه، فمتى اللقاء يا ابا محمد فقد طال الفراق .

«الفكر السليم»

الحديث عن ثقافة وفكر الشهيد أبي محمد (رحمه الله) هو في الواقع حديث عن تلك النفس الطيّبة التي ذابت في الإسلام، وجسّدت تعاليمه الخالدة، وانصهرت في أحكامه، وتنوّرت بنور وحيه المقدس، فزكت وطابت وطهرت بتلك الأخلاق العظيمة، والسنن المحمدية، والتربية العلوية.

فالحديث عن فكر شهيدنا الغالي حديث عن فهمه الصحيح لما يعنيه المسلم السائر على خط آل محمد وعلى خط الشهادة الدامي، فلقد كان (رحمه الله ) واسع الأفق، كثير الاطلاع على سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار( عليهم السلام) فإذا ما تحدّثت معه تراه كأنه حافظاً وعن ظهر قلب لسيرة النبي الأكرم (ص) ، وحياة أصحابه وأهل بيته (عليهم السلام).

كما كان (رحمه الله) على معرفة جيّدة بتاريخ الدول والثورات ورجالها، ورجال العلم والأدب عبر التاريخ وبالأخص التاريخ الإسلامي أيام الدولتين الأموية والعباسية وما بعدها، هذا علاوة على ما كان عليه من حسن القراءة للقرآن الكريم من آياته وتفسيرها ومعاني كلماتها، وكذلك بالنسبة لأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته وبالأخص نهج البلاغة وخطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فقد كان مولعاً بهما حفظاً وقراءةً واستشهاداً في طيّات حديثه، كما كانت له (رحمه الله) كذلك يد طولى في العلوم الحديثة وبالأخص التي درسها كالرياضيات والفيزياء والأحياء وغيرها، كما كان جيّد التحدّث باللغة الإنجليزية.

حتى أنه عندما كان يتلقّى دورة في المتفجرات، أعجب به الأستاذ وبزميله الشهيد أبي مصطفى وقرّر بعد الانتهاء من الدورة أن يأخذهما معه إلى المختبر لإجراء التجارب والمعادلات هناك، عارضاً عليهما البقاء وترك الجبهة إلا أنهما رفضا رفضاً باتاً وحبّذا البقاء في الجبهة وبين المجاهدين.

نقل لي احد اصدقائه الذين حضروا معه الدورات الثقافية في المعسكر: انه كان كثير المناقشة للمدرّسين في المسائل العلمية والعقائدية وغيرها؛ ممّا جعلهم يحبّونه كثيراً، كما كان (رحمه الله) كثير الولع بكتب الشهيد مطهري، والشهيد الصدر، و الشهيد دستغيب (رضوان الله عليهم أجمعين) وكتاب الآداب المعنوية للصلاة للإمام القائد (قدس سره) وغيرها من الكتب الأخلاقية والعقائدية، إلى جانب هذا كان كثير السؤال محبّاً لمجالسة العلماء، فإذا ما عاد من الجبهة الى مدينة قم المقدسة ـ حيث كانت قم مكان استراحته أيام الإجازة ـ يضع في برنامجه زيارة العلماء، حتى أنه ليودّ أن يقضي أيامه في مجالسة العلماء الكرام هو والشهيد أبو مصطفى.

أما بالنسبة لثقافته الفقهية فحدّث ولا حرج؛ ولذا كان (رحمه الله) مشتهراً بين أصدقائه وأصحابه بحفظ تحرير الوسيلة في الفقه للإمام القائد (رضوان الله عليه) ، وفي الواقع ما تحرير الوسيلة بالنسبة له إلا وكأنها مكتوبة على شاشة أمام عينيه، حتى لا تكاد تسأله مسألة، وفي أي باب من أبواب الفقه، إلا وجوابها حاضر لديه، ولقد ذهبت في إحدى المرّات إلى أحد المحافل التأبينية على أرواح الشهداء، فقام أحد السادة العلماء، وهو ممن يدرّسون الرسائل والمكاسب في الحوزة متحدّثاً عن المجاهدين وما شاهده منهم، فذكر الشهيدين (أبا محمد وأبا مصطفى) وقال :لقد حفظت كثيراً من المسائل الفقهية منهما وبالأخص مسائل الخمس، ثم أثنى عليهما ثناءاً كبيراً من ناحية إيمانهما واطّلاعهما الفقهي، وكان هذا بعد مرور ستة أشهر من شهادتهما (رحمهما الله تعالى).

ولا بد لنا من الإشارة إلى فكره العملي وتصوّره للواقع المعاصر اليوم، فقد كان (رحمه الله) مؤمناً كل الإيمان بضرورة الانقياد لولاية الفقيه؛ لأنها الأطروحة الإسلامية الحقّة، مجسداً كل أوامره ونواهيه بعيداً عن كل الرغبات النفسية والأهواء الشخصيّة، فلا يقدّم رأيه على رأي الإمام ولا يضع له منهجاً مخالفاً لنهج الإمام، حتى إنّي سمعته يقول: (ليس بقائي في الجبهة إلاّ تأديةً للواجب الشرعي، وتلبية لنداء إمام الجبهة، ولو أمرني في الذهاب إلى أي جهة أخرى لامتثلت، وليس طاعتي له إلاّ طاعة لله الذي أمرني بطاعته والقبول بقيادته عن رضىً، والالتفاف تحت رايته فأنا معه، حربه حربي وسلمه سلمي) كما كان (رحمه الله) على بصيرة من أمره ويقين من نهجه وخطّه، وكان كثيراً ما يردد كلمة عمار بن ياسر (رضي الله عنه): «والله لو ضربونا حتى بلغوا بنا سعيفات هجر لعلمنا أنّا على الحق وأنهم على الباطل» وهكذا دائماً رجال الله الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.

«في ميادين السابقين»

الحديث عن عبادة الشهيد أبي محمد (رحمه الله) حديث إنسان ألبسه الله خلع الهداية والصلاح، وشملته يد الرحمة بحسن التوفيق، فأصبح من السالكين إلى الله سبحانه، والساعين إلى جنانه، فورد حياضه المترعة ودخل أبوابه المفتّحة، فسرح في ميادين السابقين فأصبحت كل أوقاته بذكر الله معمورة، لاسيما اذا وقف بين يدي الله مصلّياً، والصلاة معراج المؤمن .

فالذي لاحظته في الشهيد (رحمه الله) إذا قام يصلي، وهو في العشرين من عمره، تراه كأنه شيخ قد أنهكته العبادة بوقار وطمأنينة وسكينة، وخشوع وإخلاص وتأنّي، ومحبة وشوق إلى الله سبحانه.

حريصاً على أوقات الصلاة وحضور الجمعة والجماعات، وكما رأيته (رحمه الله) عندما يجلس لصلاة الصبح ويصلي يبقى مشتغلاً بالدعاء والذكر حتى طلوع الشمس، وكان مواظباً على زيارة سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) كل يوم، ثم يشرع في قراءة ما تيسر من كتاب الله العزيز، كما كان (رحمه الله) في أكثر إجازاته، وقبل أن يأتي إلى قم، يذهب إلى مدينة مشهد لزيارة الإمام الثامن أبي الحسن علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ، وكان كثير السماع للأدعية وعزاء الإمام الحسين (عليه السلام) ، وفي كل يوم كان يسمع عزاء الإمام الحسين (عليه السلام) ويبكي، وذلك من شدّة ولائه وتعلّقه بأئمة الهدى (عليهم السلام).

وحريّ بنا أن نشير هنا إلى أن الشهيد (رحمه الله) كان له دفتر خمس، وعمره آنذاك ستة عشرة سنة، وكان يحاسب نفسه على رأس كل سنة حساباً دقيقاً، ويخرج خمس ما فضل عن العام الماضي إن كان، هذا علاوة على أن كل ما كان يملكه (رحمه الله) قبل إنهاء دراسته الثانوية هو من الأمور التي لا يجب فيها الخمس.

أما ورعه فقد كان (رحمه الله) ممن روّضوا أنفسهم على طاعة الله سبحانه وتعالى ومحبته، فصقل نفسه وحاسبها قبل أن تُحاسب، فعادت تلك النفس المطمئنة الراضية بما قسم الله والمرضية في درجات الكاملين، فلا تكاد تراه يخطئ بل كان إذا ما جلس مع إخوانه يتورع عن المبالغة في الكلام وعن الكلام الذي لا فائدة فيه، شديد الحذر من سماع الغيبة، يحدثنا أحد أصدقاءه في الجبهة يقول: إذا جلسنا نحن ودار الحديث بنا عن الحركات والشخصيات الإسلامية وهو معنا نراه سرعان ما يترك الجلسة ويخرج من الخندق، لئلا يقع في سماع الغيبة أو الكلام الذي لا فائدة فيه، بل كان يتورع حتى من سماع بعض القصائد الحسينية التي فيها لحن وترجيع، وهذا ما شاهدته منه شخصياً، وقد كنّا معاً في بيت أحد الإخوان فوضعوا في المسجل شريطاً لعزاء حسيني وكان في صوته لحن وترجيع فرفض سماعه.

أما زهده (رحمه الله) فحدّث ولا حرج، فقد كان لا يعبأ بزخارف الدنيا وما فيها، فملبسه ملبساً عادياً ومأكله كذلك، لم يفكر يوماً قط فيما كان يفكر فيه شباب عصره من البيت والسيارة والمظاهر التافهة، والموضات الغربية والشرقية، بل كان كل هدفه أن يجعل من نفسه شخصية إسلامية كما أراد رسول الله (صلى الله عليه آله) ، وقد فهم الشهيد (رحمه الله) كلمة سيد البلغاء والموحدين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «ليس الزهد أن لا تملك شيئاً إنما الزهد أن لا يملكك شيء» وهو خير دليل على هذا. وقد ذهبت معه في إحدى المرات إلى بيت أحد المؤمنين وكان بيته كبيراً وجميلاً وكمالياً فقال (رحمه الله): لماذا كل هذا؟ ثم رجع وقال: فلربما صاحب هذا البيت هو من خيرة الزاهدين في الدنيا وما فيها.

فهنيئاً لك يا أبا محمد تلك النفس المطمئنة القانعة التي جاهدتها فعادت تحت أوامر عقلك السليم.

«باب الجنة»

«إن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه» كثيراً ما كان شهيدنا (رحمه الله) ـ وقبل التحاقه بجبهات النور الرباني ـ يرددها وهو يعيش تلك الطموحات التي تحملها نفسه الكبيرة، إذ كان كل همّه أن يجعل من نفسه شخصية إسلامية تعيش تعاليم الرسالة وتحقق أهدافها، جاعلاً من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) أسوة حسنة له، فكان (رحمه الله) معجباً أيما إعجاب بأولئك الأفذاذ، أمثال: حجر بن عدي، ومالك الأشتر، وعمار بن ياسر، والمرقال، ومصعب، وزيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) وغيرهم من الشخصيات الرائدة وذوي النفوس العملاقة عبر التاريخ، فكان يربّي نفسه ثقافياً ورياضياً وعسكرياً؛ ليعود شخصية إسلامية معدّة لتحمّل الصعاب.

فلقد كان (رحمه الله) لا يعرف للخوف من سوى الله معنى قط، وقد لاحظت هذه الخصلة فيه خلال حياتي معه في البلاد وفي إيران الإسلام، بل كان يبعث في نفوس الشباب روح الشجاعة والإقدام، وحب الشهادة والتضحية والفداء، غير مكترث بإرهاب النظام الفاشي وفرعونيته الطاغوتية، تاركاً وراءه الدنيا وما فيها، مع أن الدنيا فتحت للشهيد الباب على مصراعيه وهو في عمر الورود.

أما جهاده في الجبهة فذاك حديث المجاهدين، وأغنية الأبطال، وأنشودة كل حر كريم.

ثلاث سنوات تقريباً قضّاها الشهيد (رحمه الله) في الجبهة في مياه الأهوار، شارك خلالها في عمليات عاشوراء الرابعة وعمليات القدس الرابعة، وأخيراً في جبال كردستان بروحية عملاقة، وشجاعة باسلة، وإيمان راسخ، والتزام فريد وتواضع قلَّ نظيره، ومعاملة مع إخوانه كما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ثلاث سنوات سجلتها له ملائكة الرحمة بأقلام النور على صفائح الرضوان؛ لتزف مع روحه الطاهرة تيجاناً وأكاليلاً مهدية إليه كواعب الجنان وولدان الفردوس.

كانت المحطة الأولى لأبي محمد في هور الهويزة، في بيئة لم يشاهدها من قبل، ورغم ظروفها القاسية في الصيف وصعوبة العيش فيها لكنه تكيف معها وكأنه من سكانها الأصليين، ولم يتململ أو يشتك يوماً من شدة الحرارة والرطوبة، بل كان يتحمل ذلك بكل صبر كونه في سبيل الله، فقد استقر أبو محمد في النقطة الثالثة  التي كانت من مسؤولية الفوج الثاني الذي نسب له، وكانت تتعرض لقصف طائرات العدو لأهميتها الحيوية، لكن أبا محمد لم ترهبه طائرات العدو وكان يحث إخوته المجاهدين على التحمل، كما كان يشارك في نصب الكمائن بواسطة الزوارق وذلك العمل كان يتطلب الصبر والتحمل وعد الحركة إلا في الحالات الضرورية جدا، كي لا يعرف العدو بوجود كمين في تلك المنطقة.

بعد عمليات تحرير مخفر الترابة والمناطق والممرات المائية المحيطة به في هور الهويزة في 11/03/1985م، اندفع أبو محمد مع فوجه للسيطرة على منطقة النهروان، الواقعة إلى الغرب من مخفر الترابة لتأمين الحماية وصد أي محاولة للعدو لاستعادة المخفر.

بتاريخ 22/03/1985 حاول العدو استعادة ما فقد من مواضع، فدفع بأحد أفواجه ليلاً بواسطة الزوارق، لكنه أضل الطريق فوقع في مرمى المجاهدين، فدمرت تلك القوات ولم يفلت منها إلا مجموعة قليلة، توارت في غابات القصب، فلم يجرأ العدو بعد ذلك تكرار محاولته. ثم اندفع المجاهدون للسيطرة على الممرين المائيين مالة عويد ومالة رويض حتى شط الدوب، ثم أخذوا يخططون لشن عمليات واسعة من أجل السيطرة على مناطق أخرى في هور الهويزة.

بتاريخ 23/07/1985م نفذ المجاهدون عملية نوعية، أسموها القدس، للسيطرة على النصف الجنوبي لبحيرة أم النعاج الواقعة جنوب شرق مدينة العمارة، وكان واجب أبي محمد مع فوجه على الجانب الشرقي للبحيرة، فاستطاع المجاهدون السيطرة بسرعة فائقة على كل الهداف على المحورين، الشرقي والغربي، فغنموا معداته وزوارقه وقتلوا وأسروا العديد من أفراده.

في الساعة الثانية بعد منتصف ليلة 23/10/1985م، شن المجاهدون عمليات واسعة أخرى أسموها عاشوراء، للسيطرة على النصف الشمالي لبحيرة أم النعاج، وكانت عمليات بطولية صاعقة بوغت فيها العدو؛ فالمجاهدون كانوا قد أوجدوا ممرات بين كل نقطتين من نقاطه داخل القصب، فلم يستطع إبداء أي مقاومة تذكر، وفي تلك العمليات ضرب أبو محمد مثلاً في الشجاعة والإقدام، فقد كان معاوناً آمر أحد فصائل السرية الثانية من الفوج الثاني.

فهنيئاً لروحك الطاهرة يا أبا محمد وهي ترفرف بيضاء شفافة وسط جنائن الجنة وأشجارها الدانية القطوف.

أجل، لقد قضى الشهيد نزيه الحجّاج (رحمه الله) ثلاث سنوات مع الصالحين الأبرار في جبهات الحق ضرب فيها المثل الأعلى للمقاتل الرسالي والبطل الحر، ولقد التقيت بكثير من المجاهدين الذين معه في الجبهة فما رأيتهم إلاّ وكلّهم يحملون الثناء الجميل للشهيد أبي محمد وهم يقولون: إن فقده خسارة جسيمة.

وفي الحقيقة ما حياته في الجبهة إلاّ كربوة ورود لا تدري أي وردة تقطف منها.

كان (رحمه الله) شديد الالتزام بأوامر المسؤولين وقوانين الجبهة العسكرية وغيرها، حتى أنه وفي إحدى المرات درّبوهم تدريبات خاصة، فسألته عن تلك التدريبات فرفض أن يحدّثني عنها، وقال: لقد قالوا لنا لا تخبروا أحداً بنوع التدريب أبداً، وكان لا يتردد في واجب قط، بل كان يعمل أصعب الواجبات، ويقول: أنا لها، ولا يتأخر في إجازته قط بل يذهب قبل تمامها، بل بلغ الأمر به أنه لم يخبرني وأنا أقرب الناس إليه عن مسؤوليته في الجبهة، وما عرفت أنه مسؤول استعلامات الفوج إلا بعد شهادته، كما أنه أسر قاتل قائد جيش علي بن أبي طالب (عليه السلام) ولم يخبرني بذلك، بل قال لي: إن قاتل قائد جيش علي بن أبي طالب وقع في الأسر عند جماعتنا واكتفى، وكان كثيراً ما يستشيره قائد الفوج في كثير من الأمور العسكرية، حتى أنه قبل القيام بالهجوم الذي استشهد فيه، وهو كربلاء الثانية، كان جالساً مع قائد اللواء وقائد الفوج يخطّطون للعمليات، وكان قائد اللواء يسمع قوله وهو يتحدث ويدلي بآرائه، وقد اخذت لهم صورة بالفيديو وهم في جلستهم هذه.

وإلى هنا أنهي حديثي عن حياته في الجبهة؛ لأني لم أصل إلى ما وصل إليه فلم أكن معه في الجبهة ولكن أسأل الله أن يحشرني معه تحت راية أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء وريحانة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

«قافلة كربلاء»

إيه يا نزيه أجل يا أبا محمد يا نوراً تلألأ في أفق الإيمان فأشرقت أشعته شموعاً تضيء لنا طريق الحق إلى الله.. يا من لبس أبراد الفضيلة فعاد داعية بغير لسانه، وخُلقاً عالياً يتحلى به المتحابون في الله وفي روح الله، وصرخة في وجه الشيطان الأكبر محطّمة خيله ورجاله وساحقة كلّ فلوله.. ويا صمصامة الحق الضاربة في سبيل الله قوى الظلم وأصنام الشرك الصليبي الحاقد، إن دمك الطاهر الذي روّى شجرة الإسلام الطيبة في عمليات كربلاء الثانية وعلى مرتفعات حاج عمران في كردستان العراق لا زال يا نور عيني وحبيب فؤادي غضّاً طرياً، يشحد الهمم ويبعث فينا روح الشجاعة والإقدام، ويخيف عتاة الكفر .

إن دمك الطاهر يا أبا محمد يهيب بأبطال العقيدة أن يواصلوا المسيرة على خط قائدها المفدى الخميني العظيم.

أجل يا أبا محمد، وأخيراً سقطت شهيداً وفي مرتفعات حاج عمران في عمليات كربلاء الثانية التي جدّدت لنا كربلاء ثانية، وفي آخر شهر ذي الحجة لعام ألف وأربعمائة وستة هجرية (1406) سقط مخضباً بدم العقيدة الذي تاجرت به مع الله فرضيت بثمنه، فعدت إلى ربك راضياً مرضياً، وسقطت في حجور الحور العين، ودخلت في عباد الله، فدخلت جنته التي أعدّها لعباده الصالحين مطمئنّاً بما حباك الله به من نعيم قربه وسرور لقائه .

لقد أصيب شهيدنا الغالي برصاصتين إحداهما في صدره والأخرى في حلقه، وقال «خذوا سلاحي واذهبوا قاتلوا ودعوني»، وبعد أن توقف الهجوم قال لهم: «خذوني للمستشفى فإنني لم أقدّم للإسلام شيئاً»، فنقل إلى المستشفى وهناك عرجت روحه الطاهرة إلى لقاء ربها بعد وصوله المستشفى بساعات، ومن ثم نقل إلى طهران وشيع في ركب الشهادة مع إخوانه الأبرار، ثم نقل جثمانه إلى مدينة قم المقدسة وتم تشييعه كذلك مع صحبه الذين استشهدوا معه إلى حيث مثواه الأخير في مقبرة الشهداء، مقبرة علي بن جعفر (عليه السلام) وذلك في اليوم الخامس من شهر محرم لعام 1407ﻫ.

فسلام الله عليك يا أبا محمد وعلى روحك الطاهرة، وأسأل الله ان يلحقنا بكم سريعاً، ويحشرنا معكم في مستقر رحمته إنه سميع مجيب الدعاء ...

«كلمات للشهيد»

لقد ترك شهيدنا (رحمه الله) أثراً خالداً وكلمات تُنْبِئ عن كبر عقله ونضج فكره، لا بد لنا من ذكرها لتبقى شاهدةً خالدة وإلى الأبد.

 (الكلمة الأولى)

«الكل يرجع إلى السبب الأصلي سبب الأسباب والحقيقة واضحة كالشمس، ولكن النفوس تأباها لا كل النفوس، فالبعض يعشق الحقيقة، والذي يريد النور لا بدّ أن يصل، فالنور والظلام واضحان، ألا ترى الفراش ينتشر حول النور، ولا يُرجِع الحق إلا السيف، هكذا أثبت التاريخ والأيام أن الحق يؤخذ بالحجة والبرهان أو بالسيف، لكن عند اجتماع الجهل والظلم فالحجة والبرهان ساقطان ويبقى السيف».

 (الكلمة الثانية)

«قد تجلّت حقيقة الأشياء ولكل مَن يريدها على حسب القابلية لكن ليس بتلك البساطة، فالأمر صعب على القلوب القاسية، أما النفوس السامية، فإنها ترى الحقيقة حقيقة الوجود وتنطلق بلا قيود لتكشف الأسرار».

 

 (ابتهال للشهيد)

«اللهم يا عالم كل شيء أشكو إليك حالي، فالرحمة منك وأنت يا رب وسعت كل شيء رحمة، فإليك يا راحم الطفل الصغير وملهمه، يا منزل الغيث من السماء ومحي به الأرض الجدباء، يا عالم ما في الصدور إنك تعلم أني أحبك وأريدك ولكني ظالم وجاهل ومسكين فافعل بي ما أنت أهله ولا تفعل بي ما أنا أهله، فأنت أعلم بي من نفسي، وأنت أجلّ وأكرم من أن تخيب مَن رجاك، وأنت أكرم من أن ترد مَن دعاك، وأنت يا رب أمرتنا بالدعاء، وإن كنا لا نعرف كيف ندعوك ولكنا نسألك أن تهدينا الى الدعاء المستجاب، فاستجب لنا يا رب، فليس لنا غيرك يا راحم من لا يرحمه أحد.

يا خالق الأشياء من لا شيء أنت حسبي سبحانك، حسبي الذي خلقني يا من يقبل من رفضه الناس، سبحانك تفضلت على العباد بالمغفرة والتوبة وأمرتهم بعدم اليأس من روحك ومنك الأشياء وإليك تعود. أمرتنا بعدم اليأس من رحمتك لأن اليأس هو الضلال. وأمرتنا بالتوبة وأنت سبحانك قابل التوب، ولكني جاهل بالتوبة. فأعوذ بك يا رب من الجهل، وأعوذ أن أجهل إني جاهل.

ربّاه إني نادم على كل ما صدر منّي، استغفرك يا رب من كل أعمال؛ي لأنها مهما بلغت فهي لا شيء في حقك.

لا حول ولا قوة إلا بك، لا حول ولا قوة إلا بك يا رب، لا حول ولا قوة إلا بك يا لطيف يا خبير إن لم ألذ بك يا رب فبمن ألوذ؛ وإن لم أشكو إليك حالي فلمن أشكو، وإن لم تهدني يا رب فمن يهديني، أنت الحق يا رب فعرّفني الحق واهدني إلى الداعين إليه.

يا إلهي انت حسبي، أعترف وأقرّ بأني مذنب، ولكن يا رب إذا لم تغفر لي وتهدني فمصيري إلى النار. إلهي سبحانك أنت أعلى من أن أدعوك أن تهديني فلا تفعل؛ لأنك تريد الهداية للناس، وما خلقت البشر يا رب ليدخلوا النار ولكنهم هم الذين اختاروا ذلك. سبحانك يا رباه اجعلني كما تحب بحق من تحب، وأخرجني من ذنوبي واجعل أعمالي ووجودي لك يا رب، وأخرجني من هذه الدنيا راضياً عني فإني سئمت هذه الحياة؛ لأن الجهل كثير ولا أُحب يا رب أن أرى أنك تعصى.

يا رب إلى حيث الرحمة المطلقة، الى حيث العفو المطلق، إلى حيث لا يظلم أحد، إلى حيث العدالة. لكن يا رب لا تعاملني بعدلك، لأني مذنب غارق في الجهل، يا من سبقت رحمته غضبه. سبحانك كل نعمة منك والأشياء إليك تعود. والحمد لك أن عرّفتنا بنفسك وجعلتنا من أمة رسولك (صلواتك عليه وعلى آل بيته) وجعلت أرزاقنا بيدك، وسترت عيوبنا برحمتك في الدنيا، فنسألك أن تسترها يوم الحساب يوم تكشف الأسرار، وأنت الراحم فإليك فوّضت أمري، وعليك توكلت، فعرفني معنى التوكل، وأعوذ بك وألوذ فعرّفني معنى الاستعاذة. حسبي فأكفني كل أمرٍ أهمّني في الدنيا والدين، واقضي حاجاتي يا رب العالمين. يا ربّ يا ربّ يا ربّ إليك ومنك وعليك تقوم الأشياء. وأنت مسبّب الأشياء بغير سبب، وفّقنا لكل شيء يرضيك، ووفّقني لعمل ذلك الشيء. واهدني إلى الحق ووفّقني لاتّباعه.

إلهي اجعلني من المسلّمين وليس من المعاندين. رب لا تجعلني ممن يبغضون النور يا خالق النور وخالق الرسل أدعوك دعاء من لا وسيلة له الاّ الدعاء. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد الهداية واهدنا إلى الهداية بحق الرسول الأكرم. يا ربّاه يا ربّاه يا ربّاه سبحانك يا ربّ، أعوذ بك من الشيطان والنفس الأمّارة بالسوء اللّذان يلاحقاني حيثما أذهب ويتربصان لي في كل الأمور. ولا حول ولا قوة إلا بك يا رب، فأعوذ بك منهما فأعذني وأعنّي. يا مجيب المضطر أجب دعائي وابعد عنّي الشيطان والنفس الأمّارة، واقبل أعمالي خالصةً لك يا رب واقبلها ووفّقني للطاعة يا أكرم الأكرمين. يا قابل السحرة، يا غافر الذنب للمذنبين إليك رجعت وتبت فعرّفني كيف أتوب، حسبي الخالق من المخلوقين».

وقال (رحمه الله تعالى) ردّاً على رسالة كتبها له أحد أصدقاءه هذا نصّها:

 

بسمه تعالى

ليكن عملك في سبيله سبحانه ولا تفرح؛ لأنك حقّقت ما تريد، أو لأنك أشعت بأنك على حق، ولاحظ الحق في كل عملك، وليكن عملك له وحده جلّ شأنه ولا تحكم بالغيب.

وقال (رحمه الله) في رسالة موجّهة لأمه وهي من الشعر الحُر:

أُمّاه جال بخاطري أن الفراق غداً قريب

لا بدّ يا أُمّاه من يوم يفارق كل ذي حبٍّ حبيبه

فالصبر يا أمّ البسيه ولا تري الأعداء حزناً أو نحيباً

الصبر ثم الصبر مهما كان يا أمّاه صعب

فالحزن لا يمحو القضاء ولن أعود إذا غدا جسمي تريباً

روحي لخدرك يا أُمّاه والثديين والكفين ارفعيها

للدعاء والشعر انثريه

أُمّاه ارفعي كفك للدعاء، فإن ظنّك لن يخيب

قولي إلهي بحمله وخروجه كرهاً وبالإكرام ربّي وبالحليب

بكلّها اقسم عليك، وبالحسين ورضيعه وبنحره

وبجسمه المرمى السليب

إن ابني الراحل قد راح عن الدنيا غريب

فيا إلهي بالغريب، ارحم إلهي من عصاك فجسمه

الناحل لا يقوى على النار اللهيبة

أوصيكِ يا أُمّاه بالكلّ بالأطفال والأولاد خيراً

أوصيكِ بالنسوان يا أُمّاه لا يكشفن ستراً

فوحقّ فاطمة البتول الفخر كل الفخر أن يلزمن خدراً

إن الحياة وضيعة وإن بدت في أعين الحمقاء جميلة

كذا الذنوب على القلوب تميتها فتغدو خاوية عليلة

وقال في كلام آخر موجّه إلى أمّه وهو في صورة شعر حُر أيضاً إليك نصّه: ــ

أُمّاه إن قالوا لكِ إن ابنك انتقل

ضاقت به الحياة فارتحل

لا تجزعي أُمّاه إن أنا قتلت لا تجزعي

استغفري لي الإله إني عَبرة في صدرك الحنون

فإن ارادت الخروج اكتميها يا أم واسترجعي

بكائك يحرمني النوم يقضُّ مضجعي

كوني كما كانت بكربلاء زينب العقيلة

بالشام في مجلس الطغاة في العراق في الرحلة الطويلة

حوادث مصائب ثقيلة

تزلزل الجبال تفتّت الصخر الأصم

صامدة واثقة باللّه ثابتة جليلة

إلى اللقاء أبي وأمي إخوتي إلى اللقاء

أقاربي حتى العدى والأصدقاء

إلى اللقاء غداً لنا لقاء

يوم يوقف الجميع ويكشف الغطاء

الدماء في الطريق مشاعل الرجال

وروحهم قناديل تضيء درباً اسمه الشهادة

ليفهم الجميع أننا عصابة الحق نعشق الشهادة

نعشق الحروب لأنها عبادة

ولا نخاف الموت لأنه هو الذي نريد

قلوبنا أقوى من الحديد

نصارع الكلام بالسيوف إن وجد

وإن شحّ السلاح بالجريد

ولا نخاف الأسلحة لأنها حديد

نحن عبيد الناصر وهم لمن عبيد؟

عبيد الشيطان لشهوة البشر

عبيد للنفوس إنهم يعبدوا الفلوس

ألهتهم الكؤوس

فقد غدت أجسادهم كهيئة البشر وفعلهم وحوش

وكل همّهم كيف تملأ الكروش

استعمروا الأراضي واستعبدوا الأيادي وأنشأوا العروش

هاهم القرود في البلاد أعلنوا الفساد

هدموا المساجد وفي محلها أنشأوا المعابد

لا لله ..للشيطان أنشأوا المعابد

هيهات ها قد أصبحت على رؤوسهم مقابر

في أفغان في العراق في لبنان دُورهم أصبحت مقابر

وإننا للحق أصبحنا عساكر

على مدى التاريخ وفي صراع الحق والظلام هناك للحق عساكر

ليعلم يزيد إن الحسين لم يمت لأنه الحق لأنها الحقيقة

الحق لا يزول الحق باقٍ باقٍ

ماذا ستفعلوا غير السجن والتعذيب؟ لن أنثني بالسجن والتعذيب، اقتلوا أبي وأمي اقتلوا الأقارب

لن يفيد السمّ أيها العقارب

ونظل على الدرب الطويل نحارب

احرقوا بيتي وهجّروني

فكل أرض كربلاء وكربلاء أرض الإباء

أرض الدماء والفداء والسيوف

اقتلوني فكلّنا خلقنا للحتوف

وإن أبت أنوف

وإنما نحن في الحياة كالضيوف

والموعد القيامة

ستعلنوا الندامة حيث لا تفيد

ويحمل الحق الجيل الجديد

ويثأر للكرام في دار البلاء

لا استكانة لا سلام لا صلح، لا حياة لإبليس وجنده الجبانة، لا سلام

 

«وصية الشهيد»

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الغرّ الميامين، وبعد:

هذا ما أوصى به عبد الله وابن عبده نزيه ناجي علي الحجّاج بعد الإقرار لله سبحانه وتعالى بالوحدانية والعدالة، ولمحمد (صلى الله عليه وآله) بالنبوة والخاتمية، ولعلي (عليه السلام) وأولاده المعصومين الحسن بن علي، والحسين بن علي، وعلي بن الحسين، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، وموسى بن جعفر، وعلي بن موسى، ومحمد بن علي، وعلي بن محمد، والحسن بن علي، والخلف الحجة المهدي بن الحسن (عليهم السلام) بالخلافة والإمامة، وأنهم حجج الله على عباده وأمناءه في بلاده، وأن الجنة حق، والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور وإليه المرجع والنشور انه اذا حضرتني الوفاة فليفعل بي ما يفعل بإخواني المؤمنين من واجبات الاحتضار، والغسل، والتكفين، والصلاة، والدفن، وأن يكون دفني في مدينة قم المقدسة، وأن تقام الفاتحة على روحي ثلاثة أيام رجالاً ونساءً، وأن يتصدّق عني بمائة ريال ليلة الدفن، وان يصام عني شهراً، وان يحج عني بيت الله الحرام حجة الاسلام، وعهدت في تنفيذ وصاياي هذه إلى…، فإن بقي من الثلث شيء فلينفق في مصالح الجمهورية الاسلامية في إيران بقيادة الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني (أدامه الله).

وأخيراً فإني أحمد الله إذ وفّقني لهذا الطريق وهو الجهاد في سبيله، الذي قال فيه إمام المتقين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام): «الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أولياءه» وأوصى جميع المؤمنين ونفسي بتقوى الله ونظم أمرهم، والسير في خط أهل البيت وخط ولاية الفقيه الذي هو امتداد لولاية أهل البيت (عليهم السلام) المتمثل في زعيم الأمة الإسلامية، ومؤسس الجمهورية، نائب الإمام الحجة (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) آية الله العظمى الإمام السيد روح الله الموسوي الخميني (متع الله المسلمين بطول بقائه الشريف)، وأوصي والدتي بأن لا تحزن ولا تبكي إذا أنا حظيت بالشهادة، بل تفخر بأنها سقت شجرة الإسلام بدم أحد أبناءها، وشاركت نساء بيت النبوة في تقديم أفلاذ أكبادهن ضحايا في سبيل الله ونصرة أبي عبدالله الحسين (عليه السلام).

أمي وأبي اغفرا لي تقصيري في حقّكما، إن حقّكما لا يُوفّى مهما عملت لكما، ووالله إن فراقكما صعب ولكن لا بد من الفراق إن عاجلاً أو آجلاً.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

 

الموصي

نزيه ناجي علي الحجّاج

حرر بتاريخ 27 شوال 1404ﻫ

وهناك وصية أُخرى كتبها قبل استشهاده بقليل ويتنبأ فيها بذلك وجدت في جيبه بعد استشهاده (رحمه الله) ، والذي يبدو أنه كتبها قبل الهجوم بقليل، واللطيف أنه يذكر فيها شهادته، إذ يقول فيها: «الحمد لله الذي ختم لنا بالشهادة» وإليك نصّها:

«أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كما شهد الله لنفسه، وأشهد أن محمداً رسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن علياً وصيه بالحق، وأن الأئمة المعصومين (عليهم السلام) حجج الله تعالى على الخلائق (صلوات الله عليهم أجمعين) واللعنة على أعدائهم إلى يوم الدين.

الحمد لله الذي ختم لنا بالشهادة. إخواني اتقوا الله في كل شيء ينصركم في الدنيا والآخرة، اني مطلوب سنة وشهرين صلاة قضاء وخمسة عشر يوماً صوم قضاء.

الرجاء إبراء الذمّة من الجميع. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

أبو محمد القمي