هذا سؤال جيد ومفيد، والشيء المهم الذي أريد أن أذكره هو أننا يجب أن نجد قدوتنا خلال مسيرة حياتنا هذه يجب أن نبحث بأنفسنا عن القدوة المناسبة لا أن يجدها الآخرون لنا فيجب أن نمعن النظر بالشخصيات التي تحيطنا ونفكر فيها، منَ مِن هذه الشخصيات تصلح لأن تكون قدوتنا الحقيقية؟ وأنا أعتقد أنه من السهولة على الشباب وخاصة الذين لهم معرفة بحياة الأئمة عليهم السلام أن يجدوا قدوتهم الحقيقية، لأن الظفر بالقدوة ليس بأمر صعب على المسلمين. فهناك الكثير من الشخصيات الإسلامية التاريخية تصلح لأن تكون قدوة ومثلاً للإنسان فها أنتِ قد ذكرت إسم الزهراء عليها السلام وأنا أريد أن أذكر شيئاً وجيزاً عن حياة الزهراء (ع) ليكون شروعاً حول حياة الأئمة (ع) ليتسنى لكم الإمعان والتدبر بحياتهم الطاهرة الكريمة.

فأنت شابة تعيشين في فترة زمنية تتميز بتطورها العلمي والصناعي والتقني وتتمتع بحضارة مادية متطورة، فعندما تأخذين قدوتك من شخصية قد عاشت قبل 1400 سنة كيف يمكنك أن تتأسي بهذه الشخصية؟ وفي أي مجال تقتدين بها؟ هل تأخذين بعين الإعتبار كيف كانت تذهب إلى الجامعة؟ أو كيف كانت تفكر بمسائل العالم السياسية؟ طبعاً هذه المجالات لا يمكن أن تؤخذ بعين الإعتبار، بل هناك مميزات خاصة شخصية لكل إنسان يجب عليكِ أن تميزيها وتقتدي بها, مثلاً: كيف يتصرف الإنسان عندما يواجه بعض الأحداث المحيطة به؟ قد تكون الأحداث المحيطة بالإنسان في عصر الكومبيوتر والمترو والقطار وقد تكون في عصر آخر غيره، إن المهم هو كيف يواجه الإنسان الأحداث التي تحيطه وماذا يكون موقفه فهل ينظر إليها بجدية واهتمام أم يمر عليها مرور الكرام.

وأيضاً مقدار الإهتمام بالأمور والإحساس بالمسؤولية تجاه الأمور تختلف من واحدٍ إلى آخر وذلك باختلاف تطلعات الشخص إلى المستقبل وباختلاف النفسيات والعقائد التي يحملها كل شخص.

لذا فالإنسان الذي يُريد أن يتخذ من شخصية معينة قدوة يتأسى بها يجب عليه أن يلاحظ ويميز الخطوط العريضة والميزات المهمة لهذه الشخصية ويسير عليها وأنا قد ذكرت مسألة وموضوعاً خلال محاضراتي السابقة أريد أن أتطرق إليه مرة أخرى خلال اجتماعنا هذا وهي أن السيدة الزهراء (ع) خلال المقاطعة الإقتصادية التي أقامها كفّار قريش ضد المسلمين في شعب أبي طالب(ع) لم تكن تتجاوز سن السادسة أو السابعة من عمرها" حسب اختلاف الروايات في ولادتها عليها السلام" تلك الفترة أي فترة المقاطعة الإقتصادية كانت من أصعب الفترات التي مرت على المسلمين في صدر الإسلام.

حيث أعلن الرسول صلى الله عليه وآله دعوته بين الناس والتجأ إليه الكثير ممن كانوا حوله خاصة الشباب والموالين حيث اعتنقوا الدين الإسلامي الحنيف، مما أدى بكفار قريش وصناديدها المتمثلين بأبي لهب وأبي جهل.. وغيرهم أن يفكروا في إبعاد الرسول وأعوانه خارج المدينة ليتخلصوا من وجودهم وتحركهم داخل مكة وفعلاً تمت هذه الخطة المشؤومة حيث أبعدت عشرات العوائل ومن بينهم الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته الأطهار عليهم السلام وكان من بين المبعدين أبو طالب رضي الله عنه وذلك على الرغم من زعامته ومنزلته في قريش.

خرج المسلمون خارج المدينة يبحثون عن مكان يأويهم وصدفة كان لأبي طالب(رض) مِلكٌ يبعد عدة كيلومترات عن مكة المكرمة وكان بشعب أبي طالب(شعب يعني شق، حيث كان المكان كشق في الجبل ولهذا سمّي بشعب) . التجأ المسلمون إلى هذا الشعب وقضوا فيه ثلاث سنين كاملة متحملين حرارة الشمس الساطعة في النهار وبرودة الليل القارصة في المساء، تحمّلوا ألم الجوع والعطش، كانت هذه الفترة من أصعب الفترات التي مرت على الرسول صلى الله عليه وآله لأن دوره (ص) لم يكن دور قيادي وإداري محض يتضمن إدارة هذه المجموعة المبعدة من المسلمين فقط وإنما كان يجب عليه تبرير أعماله للمسلمين الذين ابتلوا بهذه المحنة الصعبة بسببها؛ لأنكم تعرفون عندما تكون الأوضاع والظروف جيدة ومساعدة يزداد داعي الإيمان عند الملتفين حول القيادة والآخذين بأوامرها وأما إذا ما نزلت المحن والمصائب تتزلزل العقيدة ويبدأ بالتراجع عن المبدأ، وطبعاً نحن لا نستطيع أن نعمم هذه الحالة على الجميع لأن أصحاب الإيمان الحقيقي لا تؤثر عليهم محن الزمن ومشكلاته، وعلى كل حال كان الرسول صلى الله عليه وآله هو الذي يتحمل هذه المحن والمشاكل حيث فقدَ الرسول صلى الله عليه وآله في تلك الفترة الحرجة حاميه ومدافعه الوحيد أبا طالب(رض) وبعد أسبوع من هذه الحادثة المؤلمة فقدَ الرسول صلى الله عليه وآله قرين حياته ومؤنسها السيدة خديجة عليها السلام فبقي وحده يجابه مصاعب الحياة ومشكلاتها.

وأنا لا أدري هل صادف أن ترأستم مجموعة معينة وتحملتم مسؤوليتها لتعرفوا ماذا تعني تحمّل المسؤولية؟ أو كيف يكون موقف الإنسان حرجاً في تلك الظروف؟ أو لتدركوا دور السيدة الزهراء عليها السلام في تلك الفترة الصعبة التي مرت على الرسول صلى الله عليه وآله.

إنّ التاريخ مليء بهذه المواقف التي يمكن للإنسان أن يتعرف عليها خلال تدبّره لصفحات التاريخ، ولكن ومع الأسف لم يُخصص الباحثون صفحات وفصول خاصة تبين هذه المواقف وعظمتها.

كانت السيدة الزهراء عليها السلام في تلك الفترة الحرجة التي مرت على الرسول صلى الله عليه وآله كالأم والمداوي والمستشار لأبيها، لهذا أُطلق عليها لقب أُم أبيها، حيث أُطلق عليها هذا اللقب العظيم وهي لم تتجاوز سن السادسة أو السابعة من عمرها لأن الزهراء في تلك الفترة كانت تتمتع بتكامل عقلي ونمو جسدي وروحي كالفتاة البالغة إثنتي عشر سنة في وقتنا الحاضر لأن الفتاة وكما تعلمون يكون رشدها وتكاملها الروحي والجسدي في البيئة الحارة أسرع مما هي عليه في المحيط والبيئة الباردة.

فهذا الإحساس بالمسؤولية وهذا التحمل والصبر الذي كانت تتمتع به الزهراء عليها السلام ألا يمكن أن يكون أسوة وقدوة لمن يتأسى ويقتدي بها؟! ألا يمكن أن يكون موقف الزهراء عليها السلام وهي تعبئ قواها وقدراتها الكامنة من أجل تخفيف عبء المشاكل التي تواجه الرسول صلى الله عليه وآله وبعد أن بلغ الخمسين أسوة وقدوة لكل شابة وشاب؟! فكل هذه الأمور مهمة...

أما الموقف النموذجي الآخر من مواقف الزهراء عليها السلام هو موقفها كزوجة وحُسن تبعلها، فالبعض يعتقد أن حُسن التبعل يكون في إدارة البيت وتنظيفه وتهيئة الطعام المناسب للزوج فالمرأة مثلاً يجب أن تهيأ وتُعد كل شيء لتوفر الراحة اللازمة لزوجها عند رجوعه إلى المنزل بعد مشقة العمل اليومي، لكن هذا الإعتقاد إعتقاد قاصر ومحدود لأن حُسن التبعل يتضمن معاني أوسع وأعمق مما يعتقده هؤلاء فنحن إذا ما أخذنا حياة الزهراء عليها السلام عندما دخلت بيت زوجها لم تكن تتجاوز سن التاسعة من عمرها، وكانت السنين التسع التي عاشتها كزوجة, سنين حافلة بالحروب والغزوات العديدة حيث ذكر المؤرخون ما يقارب ستين حرباً خاضها المسلمون في تلك الفترة، وكان للإمام علي عليه السلام السهم الأكبر فيها وخلال فترة غياب الإمام علي عليه السلام عن البيت والعائلة لأداء مسؤوليته الجهادية في جبهات القتال كانت السيدة الزهراء عليها السلام تدير شؤون البيت وعلى أتم وجه، حيث كان الإمام علي عليه السلام كثيراً ما يغيب عن البيت ولمدة طويلة وذلك واجبه الشرعي حيث كانت ثغور المسلمين بأمس الحاجة إلى شجاعته وقدرته.

أما الوضع الاقتصادي والمعيشي للإمام علي عليه السلام والسيدة الزهراء عليها السلام لم يكن وضعاً مساعداً ومناسباً كما جاء في القرآن الكريم {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا}.

فحياة السيدة الزهراء والإمام علي عليهما السلام كانت تعلوها سمات الفقر على الرغم من كون الزهراء عليه السلام إبنة زعيم الأمة الإسلامية ورسولها المختار صلى الله عليه وآله كانت الزهراء عليها السلام تتمتع بدرجة رفيعة من الإحساس بالمسؤولية حتى جعلها تُهيئ كل وسائل الراحة لزوجها وتحفظه وتحصنه من علائق الدنيا وزينتها المتمثلة بالأهل والعيال وكانت تعطيه القوة والزخم، فالإنسان لا يستطيع أن يقوم بهذه المسؤولية إلاّ إذا كان يتمتع بسمو روحي وتعالي نفسي، فتربيتها الرفيعة لأطفالها هو دليل على إقتدارها وتعاليها وإحساسها بالمسؤولية، ولا يستطيع أحد أن يبرر التربية الإسلامية القوية والسمو الأخلاقي للحسن والحسين عليهما السلام بكونهما إمامين خُلقا من نور الإمامة وأصلها، لأن السيدة زينب عليها السلام لم تكن إماماً معصوماً حيث استطاعت الزهراء عليها السلام أن تزرع في نفس إبنتها السيدة زينب عليه السلام أصول وتعاليم الدين الإسلامي خلال التسع سنوات التي قضتها كزوجة في بيت زوجها: حيث أن الزهراء عليها السلام لم تعش مدة طويلة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله.

إذن كل شاب وكل ربة بيت أو كل من هي مشرفة على تحمل مسؤولية إدارة البيت تستطيع أن تتأسى بحياة السيدة الزهراء عليها السلام وحسن تبعلها عليها السلام فجميع هذه الأمور تؤخذ بعين الإعتبار ومهمة للغاية.

إذا ما لاحظنا المرحلة التي تلت وفاة الرسول صلى الله عليه وآله كيف استطاعت الزهراء عليها السلام وهي لم تتجاوز سن الثامنة عشر أو الأربع والعشرون من عمرها " على اختلاف الروايات في تاريخ ولادتها عليها السلام أن تنطق بهذه الخطبة الغرّاء التي لازال التاريخ يردد كلماتها على مر العصور والأزمنة؟! كيف استطاعت وعلى الرغم من تراكم المحن والمشاكل أن تحضر المسجد وتنطق بهذه الكلمات العجيبة؟ والتي استطعنا أن ندرك شيئاً من عظمتها وفصاحتها لتبحرنا في فن الخطابة والكلام.

لقد اشتهر العرب بارتجال الشعر وبديهية حفظه، حيث كانت تقام الاجتماعات والنوادي الشعرية ويجتمع الناس لاستماع الشعر وتدوينه بحيث كان بإمكان الشخص أن يُدوّن ثمانين من قصيدة شعرية وذلك بعد سماعها مباشرة، وبهذه الطريقة دُوِنت الخطب والأحاديث حتى بقيت إلى يومنا هذا. وفي نفس الوقت هناك الكثير من الخطب والأحاديث وحتى الأشعار أهملها التاريخ ولم يكن لها أثر يذكر، ولهذا نستطيع أن نقول أن الخطب والأحاديث التي تترك أثرا ووقعاً كبيراً تبقى تتناقلها الألسن والأقلام عبر العصور المتمادية، فهذه خطبة الزهراء عليها السلام وبعد مرور 1200 سنة تقريباً لازال التاريخ يتناقلها لعظمتها وبلاغتها بحيث يقف الإنسان خاضعاً أمام فصاحتها العجيبة، وبرأيي أن الشابة تستطيع أن تأخذ من هذا الموقف العظيم للزهراء عليها السلام قدوة وأسوة لها.

فطبعاً التقصير يرجع إلينا نحن المسؤولين والتصدي للأمور، لا أقصد التقصير في شؤون الدولة وإداراتها وإنما أقصد التقصير في طرح الأمور المعنوية والدينية وتوضيحها وجعلها في متناول أيدي هذا الجيل الفتي، ولكن أنتم أيها الشباب تستطيعون أن تعبئوا طاقتكم وقدراتكم في هذا المجال، فهذه حياة الأئمة المعصومين عليهم السلام مليئة بالمواعظ والحكم... الخ

فحياة الإمام الجواد عليه السلام هي خير قدوة وأسوة يستطيع الشباب أن يتأسوا ويقتدوا بها فالإمام عليه السلام وبهذه المنزلة الرفيعة العالية عندما فارق الحياة لم يكن يتجاوز سن الخامسة والعشرين من عمره فكان وفي جميع مراحل حياته (الصبا والطفولة والشباب) موضع إجلال واحترام وتقدير حتى من قبل النظام الحاكم في ذلك الزمان فكل هذه الأمور نستطيع أن نقتدي بها.

وزماننا الحاضر لا يخلوا أيضاً من الأسوة الحسنة والنموذج الصالح، فهذا الإمام الراحل(رض) وهؤلاء الشهداء وقوات التعبئة والمجاهدون هم خير أسوة وخير نموذج للقدوة الصالحة، ومجتمعنا الحاضر أيضاً لا يخلو من نماذج حية لازالت تعيش بيننا تستطيع أن تكون مثلاً أعلى ونموذجاً صالحاً للشخصية الإسلامية، ولكن طبيعة الإنسان تصبو دائماً إلى ذكر الشهداء والماضين لتتخذهم أسوة وقدوة في مسيرة الحياة هذه.

ففي أيام الحرب المفروضة كان الكثير من الذين تركوا قراهم ومدنهم من عامة الناس الذين يكتنزون قدرات ومواهب كامنة ولكن النظام الملكي المقبور لم يستطع أن يُنمّي هذه القدرات ويبرزها إلى الساحة العملية آنذاك، وفي ظل النظام الإسلامي الحاكم إستطاع هؤلاء الناس أن يفجّروا هذه الطاقات والقدرات الكامنة فنجدهم إلتحقوا بجبهات القتال وقدموا خدمات عظيمة للإسلام فمنهم من تصدى قيادة الجيش ونال درجة الشهادة الرفيعة بعد مبارزة وجهاد مديد. فلدينا الكثير من هذه النماذج والشخصيات المضحية، فقبل عدة سنين إطلعت على ذكريات تصف جبهات القتال وكانت تحمل عنوان(قائدي) حيث نقلوها في كراسات صغيرة كانت تحكي قصة الملاحم البطولية لقواد الجيش وضباطه، فهذه أيضاً تستطيع أن تكون مثلاً أعلى ونموذجاً حياً للقدوة الصالحة.

وأيضاً لدينا الكثير من الشخصيات العلمية والأدبية والفنية والرياضية تستطيع أن تكون نموذجاً صالحاً ومثلاً حياً للقدوة الصالحة لما تتمتع من منزلة رفيعة في أوساطنا الاجتماعية.

ومن الأمور المهمة والتي يجب أن تؤخذ بعين الإعتبار في انتخاب القدوة والمثل الأعلى هي التقوى حيث تعتبر التقوى من الأمور الأساسية والمهمة لما لها من الأثر البالغ في الحياة الدنيوية والأخروية حيث ذكرت لمحة مختصرة من أهمية التقوى في حياة الإنسان خلال حديثي قبل قليل ولهذا أرجو أن تأخذوا التقوى معياراً مهماً في مسألة انتخاب الأسوة والقدوة الصالحة خلال مسيرتكم هذه لأنها من الأمور التي يمكن للإنسان أن يغض النظر عنها أو يهملها.

 

من كتاب اللقاء المفتوح