تأخذك الرهبة، وتفقد زمام الكلام، حين يكون الحديث عن مليكة الأكوان بضعة النبي الأعظم (ص)، تحاول الاقتراب من إدراك حقيقتها، ثم تعجز أمام عظمتها، وتعاود الكرّة مرة أخرى، علّك تبلغ المرام، فإذا أنت تسير إلى كل المعاني العالية بأطرافها المتمادية الأبعاد فوق قدرة العباد، وحيث كل الوجود الأقدس يطلب منك الإحاطة به وهي محال، وأنَّى لك أن تتخطى الحدود لتصل إلى معدن الجود، أو تقرأ ما خط على جبين الشمس بقلم النبوة: "فاطمة (ع) أفضل من السماوات والأرض"[1].

 

نقرأ معاً في فكر الإمام الخميني (رض) مقام الصديقة الزهراء (ع) من خلال أنفاسه الطاهرة وما سطّرته أنامله الشريفة ضمن العناوين التالية:

 

مقام لا ينال أو يعرف‏

يرى الإمام (قده) أن للمعصومين (ع) مقامين: الظاهر والباطن، وكلّما تحدث (قده) عن ذلك أكّد عجزنا عن الإحاطة بالأبعاد الظاهرية لهم (عليهم السلام)، فكيف الأبعاد الباطنية؟ يقول في معرض حديثه عن أمير المؤمنين (ع): "يجب علينا أن نأسف لأن الأيدي الخائنة والحروب التي أشعلوها ومثيري الفتن لم يسمحوا ببروز الشخصية الفذة لهذا الرجل العظيم في أبعادها المختلفة، فإذا كان الكثير من أبعاده الظاهرية خافياً عنا فكيف بالأبعاد المعنوية التي لا ينال معرفة حقائقها أحد من العالمين كما جاء في الأحاديث الشريفة"[2]، وعن الصديقة الطاهرة (ع) يقول: "إنني أعتبر نفسي قاصراً عن التحدث حول الصديقة الطاهرة سلام الله عليها[3] وفي الحديث: فمن ذا ينال معرفتنا أو بيان درجتنا أو يشهد كرامتنا أو يدرك منزلتنا؟ حارت الألباب والعقول وتاهت الأفهام فيما أقول.. جل مقام آل محمد عن وصف الواصفين ونعت الناعتين وأن يقاس بهم أحد من العالمين"[4].

ويعكس الإمام (قده) ذلك قائلاً: "إن مقام هؤلاء الأولياء أسمى وأرفع من أن تنال آمال أهل المعرفة أطراف كبرياء جلالهم وجمالهم وأن تبلغ خطوات معرفة أهل القلوب ذروة أعمالهم[5]. إن لأهل بيت العصمة والطهارة مقاماً روحانياً شامخاً في السير المعنوي إلى الله يفوق قدرة استيعاب الإنسان حتى من الناحية العلمية وأسمى من عقول ذوي العقول وأعظم من شهود أصحاب العرفان[6]. إن أرقى ما يصل إليه الذي يصف نبذة من مقام الولاية لهم هو كوصف الخفّاش الشمس المضيئة للعالم"[7].

 

الزهراء (ع) كائن ملكوتي‏

ليست الصديقة (ع) كباقي الخلق ولا امرأة عادية، وإنما في عالمها الباطني المعنوي كائن ملكوتي تجلّى في الوجود بصورة إنسان، وظهر على هيئة امرأة، بما اجتمع فيها من المظاهر الإلهية والأبعاد المعنوية والجوامع الملكوتية. يقول الإمام (قده): "إن مختلف الأبعاد التي يمكن تصورها للمرأة وللإنسان تجسّدت في شخصية فاطمة الزهراء (ع). لم تكن الزهراء امرأة عادية، كانت امرأة روحانية ملكوتية. كانت إنساناً بتمام معنى الكلمة.. حقيقة الإنسان الكامل، لم تكن امرأة عادية بل هي كائن ملكوتي تجلى في الوجود بصورة إنسان، بل كائن جبروتي ظهر على هيئة امرأة... غداً ذكرى مولد الكائن الذي اجتمعت فيه المعنويات والمظاهر الملكوتية، والإلهية والجبروتية والملكية والإنسية"[8].

 

جامعة خصال الأنبياء

إن جميع خصال النبيين والأولياء والصديقين (ع) ومقاماتهم التي بلغوها بما اشتملت عليه من مضامين مجتمعة في سيدة نساء العالمين (ع)، بل إن لها من الحالات في مقام القرب من الله تعالى ما لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل حيث قد وصلت إلى ما لم يصلوا إليه وهو الثابت للنبي (ص) والأئمة الأطهار (ع) دون غيرهم كما في روايات المعراج، "لو دنوت أنملة لاحترقت"[9]، وكما ورد عنهم (ع) "إن لنا مع الله حالات لا يسعها ملك مقرب ولا نبي مرسل"[10].

يقول (قده): "فمثل هذه المنزلة.. تصدق طبقاً للروايات على فاطمة الزهراء عليها السلام أيضاً، ولا يعني هذا أن تكون خليفة أو حاكماً أو قاضياً، بل هي شي‏ء آخر أبعد من الخلافة والحكومة والقضاء لذلك، فإن قولنا إن فاطمة لم تتولَّ الحكم أو الخلافة أو القضاء لا يعني تجريدها من منزلة القرب تلك أو أنها امرأة عادية أو شخص مثلي ومثلكم"[11].

 

"إنها المرأة التي تتحلى بجميع خصال الأنبياء... المرأة التي لو كانت رجلاً لكانت نبياً، لو كانت رجلاً لكانت بمقام رسول الله (ص)"[12].

 

نورها (ع) قبل الخلق‏

عن النبي الأكرم (ص): "إن الله خلقني وخلق علياً وفاطمة والحسن والحسين قبل أن يخلق آدم حين لا سماء مبنية ولا أرض مدحية ولا ظلمة ولا نور ولا شمس ولا قمر ولا جنة ولا نار"[13].

 

لذلك يقول الإمام (قده): "كان الرسول الأعظم (ص) والأئمة الأطهار (ع) أنواراً محدقين بالعرش قبل أن يخلق الله العالم كما تفيده الأحاديث المتوافرة لدينا، وجعل لهم من المنزلة والزلفى ما لا يعلمه إلا الله.. وهي تصدق على فاطمة الزهراء (ع) أيضاً"[14].

 

صاحبة الكتاب المهم‏

فيما جاء في الوصية الخالدة لإمام الأمة (قده): "نحن نفخر أن تكون منا المناجاة الشعبانية للأئمة (ع) ودعاء عرفات للحسين بن علي (ع) والصحيفة السجادية زبور آل محمد (ص) والصحيفة الفاطمية وهي الكتاب المهم من قبل الله تعالى إلى الزهراء المرضية (ع)"[15].

نوضح جذور هذا الأمر وأصوله على لسان الإمام الصادق (ع) في العنوان التالي.

 

مواردة الروح الأعظم‏

عن مولانا الصادق (ع) أنه قال: "عاشت فاطمة بعد أبيها خمسة وسبعين يوماً قضتهن في حزن وألم، وخلال هذه الفترة زارها جبرائيل الأمين وعزّاها بمصابها وأخبرها ببعض ما سيحدث بعد أبيها"[16].

من الجدير بالذكر أن الإمام الخميني (قده) يرى هذه الفضيلة للسيدة الزهراء (ع) أسمى الفضائل وأرقى المناقب في كل ما ذكر في حقها (ع) أو حاول أهل المعرفة استفادته من خلال الروايات المباركة، ويشرع بشرح الحديث المتقدم قائلاً: "يشير ظاهر الرواية إلى أن جبرائيل تردد عليها كثيراً خلال هذه الخمسة والسبعين يوماً، ولا أعتقد أن مثل هذا قد ورد بحق أحد غير الطبقة الأولى من الأنبياء العظام، فعلى مدى خمسة وسبعين يوماً أتاها جبرائيل وأخبرها بما سيحصل لها وما سيلحق بذريتها فيما بعد وكتب أمير المؤمنين (ع) ذلك.

... إن موضوع مواردة جبرائيل على شخص ما ليس بالموضوع الاعتيادي.. إن مثل هذا يستلزم تناسباً بين روح هذا الشخص ومقام جبرائيل الروح الأعظم.

.. وإذا ما كان هذا المعنى وهذا التناسب متحققاً بين جبرائيل وهو الروح الأعظم وأنبياء أولي العزم مثل رسول الله وعيسى وموسى وإبراهيم، فهو لا يتوفر لمن عداهم كما أنه لن يتحقق بعد الصديقة الزهراء لأي أحد... على أية حال إنني اعتبر هذا الشرف وهذه الفضيلة أسمى من جميع الفضائل التي ذكرت للزهراء رغم عظمتها كلها، وهي لم تتحقق لأحد سوى الأنبياء، بل الطبقة السامية منهم، وبعض من هم بمنزلتهم من الأولياء. نعم لم يتحقق لأحد مثل هذا وهو من الفضائل التي اختصت بها الصديقة فاطمة الزهراء"[17].

 

مفخرة الوجود ومعجزة التاريخ‏

بهذا العنوان اختتم الإمام (قده) بيانه بمناسبة يوم المرأة[18]، بكلمة جامعة قرأ في شخصيتها (ع) بعرفانه الحقيقي واتصاله الدائم بها وتجسيده في كل حياته ما دعت إليه وأرادته من الأهداف العظمى للإسلام العزيز، وقف نفسه على إرادتها ودار مدار رضاها لا يؤثر عليها سواها، فملأ من فيوضها كل وجوده إلى أن أسلم الروح إلى بارئها على حب فاطمة (ع) وهو يسمع النبي (ص) يقول لسلمان: "يا سلمان، من أحب فاطمة ابنتي فهو في الجنة معي، ومن أبغضها فهو في النار. يا سلمان، حب فاطمة ينفع في مائة من المواطن أيسر تلك المواطن الموت والقبر والميزان والصراط والمحاسبة"[19].

 

لا نفي حقها

إن بعد هذا التتبع لكلمات الإمام الخميني (قده) ومحاولة الاقتراب من فهم حقيقتها (ع) من خلاله لابد أن نختم في مقام بيان غاية ما يصل الإنسان إليه في إدراك مقاماتها بما قاله (قده)، وفيه كفاية عن الشرح والتطويل:

"أو لا يفي حقها من الثناء كل من يعرفها مهما كانت نظرته ومهما ذكر، لأن الأحاديث التي وصلتنا عن بيت النبوة هي على قدر أفهام المخاطبين واستيعابهم من غير الممكن صبُّ البحر في جرّة"[20].

------------------------------

[1] بحار الأنوار، ج‏15، ص‏10.

[2] منهجية الثورة، ص‏116.

[3] مكانة المرأة، ص‏25.

[4] مشارق أنوار اليقين، ص‏114.

[5] الأربعون حديثاً، ص‏597.

[6] م.ن، ص‏604.

[7] م.ن، ص‏597.

[8] مكانة المرأة في فكر الإمام الخميني (قده)، ص‏23.

[9] بحار الأنوار، ج‏18، ص‏382.

[10] الأربعون العلامة المجلسي، ص‏177، شرح الحديث 15.

[11] مكانة المرأة في فكر الإمام الخميني (ره)، ص‏21.

[12] م.ن، ص‏23.

[13] البحار، ج‏57، ص‏192.

[14] مكانة المرأة في فكر الإمام الخميني (ره)، ص‏21.

[15] الوصية الخالدة، ص‏8.

[16] أصول الكافي، ج‏2، ص‏355.

[17] مكانة المرأة في فكر الإمام الخميني (ره)، ص25ـ26.

[18] تاريخ البيان 14/4/1982، م.ن، ص‏21.

[19] البحار، ج‏27، ص‏116.

[20] مكانة المرأة في فكر الإمام الخميني، ص‏24.