وينبغي أنّ ننبّه هنا أيضاً أنّ زكاة الفطرة أيضاً مثل زكاة الأموال في أنّ لها مصارف مضبوطة كالفقراء والمساكين أو أنّ مصارفها نفس مصارف زكاة المال بعينها فليس المراد بكونها بيد وليّ الأمر أن تكون من أموال ولي الأمر مثل الأنفال ونصف الخمس بل المراد أنّها يجب أن تؤدّى بيده حتّى تكون مصارفها في مصارفها المقرّرة بيده المباركة.

ولم يتعرّض لحكمها من هذه الجهة كلّ مَن مضى كلامهم في زكاة الأموال وإنّما تعرّض له بعضهم بشرح ما يلي:

فأمّا القائلون بوجوب أداء زكاة الأموال إلى الإمام فقد عدّ أبو الصلاح الحلبي الفطرة في عداد ما وجب إخراجه إلى سلطان الإسلام. وأمّا القاضي ابن البرّاج فقد قال في المهذّب: وإذا كان الإمام (عليه السلام) ظاهراً وجب على مَن وجبت عليه الفطرة حملها إليه ليدفعها إلى مستحقّها، ولا يتولّى هو ذلك بنفسه، فإن لم يكن الإمام ظاهراً كان عليه حملها إلى فقهاء الشيعة ليضعها مواضعها لأنّهم أعرف بذلك[1]. ودلالته على وجوب دفع الفطرة أيضاً إلى الإمام إذا كان ظاهراً واضحة.

وأمّا الشيخ المفيد (قدس سرّه) في المقنعة فلم يتعرّض لهذا الفرع في خصوص زكاة الفطرة إلاّ أنّه لا يبعد دعوى شمول ما نقلناه عنه لزكاة الفطرة أيضاً، وذلك أنّ موضوع كلامه المذكور الزكاة والباب باب وجوب إخراج الزكاة إلى الإمام وعنوان الزكاة عنوان عامّ شامل لزكاة المال وزكاة الفطرة ويؤيّد إرادة هذا التعميم قوله في الباب السابق عليه...: ولا يجوز إخراج الفطرة إلى غير أهل الإيمان لأنّها من مفروض الزكاة[2]. فكون الفطرة من الزكاة المفروضة قد جعله دليلاً على عدم جواز إخراجها إلى غي أهل الإيمان، فالزكاة عنده عامة لكلا النوعين، وهكذا يؤيده أنه بعد باب وجوب إخراج الزكاة إلى الإمام عقد باباً آخر بعنوان «باب من الزيادات في الزكاة» وأورد فيه أخباراً مرتبطة بزكاة المال وأخباراً أُخر مرتبطة بزكاة الفطرة وهو شاهد آخر على شمول عنوان الزكاة للفطرة أيضاً[3].

فبالجملة: فالشيخ المفيد أيضاً يرى وجوب أداء الفطرة إلى الإمام.

وأمّا أبو المكارم ابن زهرة فقد فرّق في الغنية البحث عن زكاة الأموال وزكاة الرؤوس وذكر في زكاة الأموال وجوب حملها إلى الإمام كما مرّ ولم يتعرّض لوجوب ولا استحباب أداء زكاة الرؤوس إلى الإمام في البحث عنها.

كما أنّ شيخ الطائفة (قدس سرّه) القائل بوجوب حمل زكاة المال إلى الإمام في النهاية قال فيها في إخراج الفطرة: فإذا كان يوم الفطر فليخرجها ويسلّمها إلى مستحقّيها... وينبغي أن تحمل الفطرة إلى الإمام ليضعها حيث يراه، فإن لم يكن هناك إمام حملت إلى فقهاء شيعته ليفرّقوها في مواضعها، وإذا أراد الإنسان أن يتولّى ذلك بنفسه جاز له ذلك[4].

فهو كما ترى قد صرّح بجواز أن يتولّى المكلّف بنفسه إخراج الفطرة إلى مستحقّها إلاّ أنّه يستحب له حملها إلى الإمام.

هذا هو أقوال القائلين بوجوب أداء زكاة المال ابتداءاً إلى الإمام، فقال به في زكاة الفطرة أيضاً المفيد والحلبي وابن البرّاج ولم يقل به الشيخ في نهايته ولا ابن زهرة في الغنية.

وأمّا القائلون باستحباب دفع زكاة المال ابتداءاً إلى الإمام فقد قال مَن تعرّض لهذا الفرع بالاستحباب في زكاة الفطرة أيضاً:

وقد تقدّمت عبارة جمل العلم والعمل للسيّد المرتضى، وعبارة الشيخ في الخلاف، وهو (قدس سرّه) لم يتعرّض في المبسوط عند البحث عن زكاة الفطرة استحباب حملها إلى الإمام أصلاً، فهذا مفاد كلمات الأصحاب في الكتب الثلاثة.

وقال ابن حمزة في بحث زكاة الفطرة من الوسيلة: والأولى أن يحملها إلى الإمام إن حضر وإلى الفقهاء إن لم يحضر ليضعوها مواضعها، وإن قام بنفسه جاز إذا علم مواضعها[5].

وقال ابن إدريس في السرائر: وينبغي أن تحمل الفطرة إلى الإمام ليضعها في مواضعها حيث يراه، فإن لم يكن هناك إمام حملت إلى فقهاء شيعته ليفرّقوها في مواضعها فإنّهم أعرف بذلك، وإذا أراد الإنسان أن يتولّى ذلك بنفسه جاز له ذلك[6].

وقال المحقّق في الشرائع في مصرف الفطرة: وهو مصرف زكاة المال ويجوز أن يتولّى المالك إخراجها والأفضل دفعها إلى الإمام أو من نصبه ومع التعذر إلى فقهاء الشيعة.

وقال أيضا في المختصر النافع في مصرف الفطرة: وهو مصرف زكاة المال ويجوز أن يتولى المالك إخراجها، وصرفها إلى الإمام أو مَن نصبه أفضل، ومع التعذّر إلى فقهاء الإمامية.

وقال أيضاً في المعتبر في زكاة الفطرة: مسألة: يجوز أن يتولّى المالك صرفها إلى المستحقّ وهو اتفاق العلماء لأنّها من الأموال الباطنة، وصرفها إلى الإمام أو مَن نصّبه أولى، ومع التعذّر إلى فقهاء الإمامية فإنّهم أبصر بمواقعها...[7].

وقال العلاّمة في التذكرة: يجوز أن يتولّى المالك تفريق الفطرة بنفسه إجماعاً، أمّا عندنا فظاهر، وأمّا عند المخالف فلأنّها من الأموال الباطنة. لكن يستحبّ صرفها إلى الإمام أو نائبه، لأنّه أعرف بمواقعها، فإن تعذّر صُرف إلى الفقيه المأمون من فقهاء الإمامية لأنّهم أبصر بمواقعها ولأنّهم نوّاب الإمام (عليه السلام)[8].

وقال أيضاً في القواعد في زكاة الفطرة: ويتولّى التفريق المالك، ويستحبّ الإمام أو نائبه ومع الغَيبة الفقيه[9].

وقال في المنتهى في زكاة الفطرة أيضاً: ويجوز للمالك أن يفرّقها بنفسه بغير خلاف بين العلماء كافّة، أمّا عندنا فظاهر، وأمّا عند المخالف فلأنّها من الأمور الباطنة، ويستحب صرفها إلى الإمام أو مَن نصبه، لأنّه الحاكم وهو أعرف بمواقعها ولما رواه الشيخ عن أبي عليّ بن راشد قال: سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال: للإمام...[10].

والشهيد في الدروس لم يتعرّض في البحث عن زكاة الفطرة لمندوبية أو وجوب أدائها إلى الإمام أصلاً.

فهذه العبارات الّتي نقلناها واضحة الدلالة على جواز صرف المكلّف بنفسه للفطرة الواجبة عليه في مصرفها وعلى أنّ أداءها إلى الإمام أو مَن نصبه مندوب.

فلا ينبغي الريب في أنّ المشهور شهرة عظيمة أنّ أداء الفطرة إلى الإمام أو منصوبه مستحبّ وإنّما وجدنا القول بوجوب أدائها إلى الإمام من إطلاق كلام الشيخ المفيد ومن نصّ كلام أبي الصلاح الحلبي والقاضي ابن البرّاج.

ومع ذلك كلّه فالأقوى في النظر وجوب أدائها إلى الإمام ويمكن الاستدلال لها بالكتاب والسنّة.

أمّا الكتاب فبقوله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ بيان الاستدلال أنّه تعالى أمر نبيّه بأخذ الصدقة من أموالهم والأمر ظاهر في الوجوب والصدقة المالية هي المال الّذي يعطى لله تعالى، فغاية المطلب أن تكون منصرفة إلى ما وجب إعطاؤها، فزكاة الأموال وزكاة الفطرة كلتاهما صدقة مالية واجبة الأداء فإطلاق عنوان الصدقة في الآية المباركة يشملها فيكون أخذه للفطرة أيضاً واجباً عليه، وقد مرّ أنّ الإمام أيضاً يجب عليه ما وجب على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد ورد إطلاق الصدقة على زكاة الفطرة في روايات عديدة في كلام الأئمّة (عليهم السلام) وكلام الأصحاب بحيث يُعلم منها أن كون الفطرة صدقة أمر واضح في ألسنتهم وعندهم، ونحن نذكر أنموذجاً من القسمين:

1ـ ففي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: صدقة الفطرة على كلّ رأس من أهلك الصغير والكبير والحرّ والمملوك... الحديث[11].

2ـ وفي صحيح محمّد بن مسلم قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: الصدقة لمن لا يجد الحنطة والشعير يجزي عنه القمح والعدس [والسلت] والذرة نصف صاع من ذلك كلّه، أو صاع من تمر أو زبيب[12].

3ـ وفي صحيح عبد الرحمن بن الحجّاج قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن رجل ينفق على رجل ليس من عياله إلاّ أنّه يتكلّف له نفقته وكسوته أتكون عليه فطرته؟ فقال: لا، إنّما تكون فطرته على عياله صدقة دونه... الحديث[13].

4ـ وفي صحيح الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن رجل يأخذ الزكاة عليه صدقة الفطرة؟ قال: لا[14].

5ـ وفي صحيح عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله عن أبيه (عليهما السلام) قال: زكاة الفطرة صاع... ليس على مَن لا يجد ما يتصدّق من حرج[15].

6ـ وفي موثّقة إسحاق بن عمّار قال: قلت لأبي إبراهيم (عليه السلام): على الرجل المحتاج صدقة الفطرة؟ قال: ليس عليه فطرة[16].

7ـ وفي صحيح زرارة قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الفقير الّذي يُتصدّق عليه هل عليه صدقة الفطرة؟ فقال (عليه السلام): نعم، يعطي ممّا يتصدّق به عليه[17].

إلى غير ذلك من أخبار كثيرة، فالآية المباركة بإطلاقها تدلّ على وجوب أخذ وليّ الأمر لصدقة الفطرة أيضاً.

فإن قلت: إلاّ أنّ تطبيق عنوان آية الزكاة على هذه الآية المباركة ـ في صحيح عبد الله بن سنان الماضي[18] ـ ثُمّ بيان أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أعملها في زكاة الأموال ولهذا بعد مضي حول وجّه عمال الصدقة لأخذ زكاة أموال الناس كلّ ذلك يدلّ على أنّ الصدقة في الآية المباركة لا إطلاق لها بل إنّما تختصّ بزكاة الأموال.

قلت: إنّ المذكور في صدر الصحيح قوله (عليه السلام): «لمّا نزلت آية الزكاة ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ في شهر رمضان» فسمّى (عليه السلام) هذه الآية آية الزكاة، فتدلّ على أنّ المراد بالصدقة المذكورة فيها هي الزكاة، ثُمّ ذكر بعده تطبيقها من ناحية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) على زكاة الأموال وقيامه بأخذها، فغاية مدلوله أنّ الصدقة تنطبق على زكاة الأموال وليس فيه أيّة إشارة على انحصارها بها بل الآية آية الزكاة والنبيّ مأمور بأخذ الزكاة والزكاة كما تصدق على زكاة الأموال فهكذا زكاة الفطرة أيضاً زكاة كما ورد التعبير بها عنها في أخبار كثيرة نذكر نموذجاً منها:

1ـ ففي صحيحة زرارة وأبي بصير قالا: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنّ من تمام الصوم إعطاء الزكاة ـ يعني الفطرة ـ كما أنّ الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من تمام الصلاة لأنّه مَن صام ولم يؤدّ الزكاة فلا صوم له إذا تركها متعمّداً ولا صلاة له إذا ترك الصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إنّ الله قد بدأ بها قبل الصوم [الصلاة] فقال: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى﴾[19]. فترى إطلاقه (عليه السلام) الزكاة بقول مطلق على زكاة الفطرة وتفسيره لقوله تعالى ﴿تَزَكَّى﴾ بزكاة الفطرة.

2ـ وفي موثّقة السكوني بإسناده ـ يعني عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) ـ أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: من أدّى زكاة الفطرة تمم الله بها ما نقص من زكاة ماله[20].

3ـ وفي صحيح الفضيل بن يسار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أعَلى من قَبِل الزكاة زكاة؟ فقال: أمّا من قبل زكاة المال فإنّ عليه زكاة الفطرة، وليس عليه لما قَبِله زكاة، وليس على مَن يقبل الفطرة فطرة[21].

إلى غير ذلك من أخبار عديدة. وبالجملة: فصدق الزكاة على الفطرة أيضاً واضح فلا مجال للشبهة في دلالة الآية المباركة على المطلوب. ثُمّ إنّ غاية مدلول الآية أنّ أخذ صدقة الفطرة من الناس واجب على النبيّ والإمام، وقد مرّ استلزامه لوجوب أداء الأمّة فطرتهم إلى وليّ الأمر حتّى يتحقّق ما أوجبه الله تعالى مضافاً إلى أنّه بعد وجوب أخذها فلا محالة وليّ الأمر يقوم بصدد امتثال تكليفه ويطلب من الناس أداء زكاة فطرتهم إليه فيجب عليهم الأداء لوجوب إطاعة وليّ الأمر على الأمّة في أوامره. فالآية الشريفة بهذا البيان تامّة الدلالة على جميع المطلوب.

وأمّا السنّة فيدلّ على المطلوب صحيحة أبي عليّ ابن راشد ـ المروية في الكافي والتهذيب والمقنعة ـ قال: سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال: للإمام، قال: قلت: فأخبر أصحابي؟ قال: نعم مَن أدرت أن تطهّره منهم، وقال: لا بأس بأن تعطى وتحمل ثمن ذلك ورِقا[22].

وسند الحديث في غاية الاعتبار فإنّ أبا عليّ ابن راشد من عظماء الأصحاب وكان في غاية الجلالة والاعتماد وكان وكيلاً للإمام الحسن الهادي (عليه السلام) جعله في غاية التكريم له مكان نائبه العظيم حسين بن عبد ربّه، فالضمير في قوله: «سألته» راجع إلى الإمام الهادي (عليه السلام) ولا يتوهّم له إضمار، وقوله (عليه السلام) في جواب سؤاله الثاني: «نعم مَن أردت أن تطهّره منهم» دليل على أنّه من الإمام وفيه إشارة إلى قوله تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا﴾ فأفاد (عليه السلام) أنّ زكاة الفطرة أيضاً صدقة قد أمرنا الله بأخذها، وأدائها إلينا تطهير للأمّة، فالصحيحة شاهدة أيضاً على صحة ما قلناه في ذيل الآية الشريفة.

وكيف كان، فقد حكم الإمام (عليه السلام) بأنّ الفطرة للإمام ولو كنّا ونفس الصحيحة لقلنا بأنّها من الأموال الّتي جعلها الله لوليّ الأمر كالأنفال ونصف الخمس إلاّ أنّه لمّا كان مصرف الفطرة مصرف زكاة المال أو خصوص الفقراء والمساكين فلا محالة يراد منه أنّها بمنزلة ماله (عليه السلام) فيجب أن يؤدّى إليه وهو المطلوب.

ولا تنافي هذه الصحيحة ولا الآية المباركة الأخبار الكثيرة الدالّة على تجويز أن يعطي المكلّف نفسه زكاة فطرته للفقراء والمساكين وذلك لما مرّ في زكاة الأموال من أنّ هذا الوجوب إنّما هو إذا تصدّى الإمام (عليه السلام)  لإدارة أمور المسلمين وكان خارجاً وليّ أمرهم بالفعل، وهذه التجويزات إنّما كانت في زمن غصب مقامهم بيد الطواغيت الغاصبين، فتذكّر.

وقد يستدلّ لوجوب إعطاء الفطرة للإمام بمعتبر الفضيل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال كان جدّي (عليه السلام) يعطي فطرته الضعفة [الضعفاء] ومَن لا يجد ومَن لا يتولّى، قال: وقال أبو عبد الله (عليه السلام): هي لأهلها إلاّ أن لا تجدهم، فإن لم تجدهم فلمن لا ينصب، ولا تنقل من أرض إلى أرض، وقال: الإمام يضعها حيث يشاء ويصنع فيها ما رأى[23].

وموضع الاستدلال هي الفقرة الأخيرة فإنّه (عليه السلام) وإن حكى إعطاء جدّه وهو زين العابدين (عليه السلام) لفطرته وظاهره الفطرة المتعلّقة بشخصه الواجب أداؤها عليه فلا إطلاق لها، إلاّ أنّه (عليه السلام) قد تعرّض بعده لحكم الفطرة مطلقة، فحكم بأنّها لأهلها وبأنّها لا تنقل إلى أرضٍ أخرى، ثُمّ زاد بأنّ الإمام يضعها حيث يشاء، فالضمير فيه يرجع إلى مطلق الفطرة، ويدلّ على أنّ من شأن الفطرة أن تضع في يد الإمام (عليه السلام) ثُمّ هو يضعها حيث يشاء ويصنع فيها ما يرى، وهو عبارة أخرى عن وجوب إعطاء الفطرة للإمام (عليه السلام).

لكنّك خبير بأنّ غاية مدلوله أنّ الفطرة تقع في يد الإمام (عليه السلام) فإعطاء الفطرة له واقع في محلّه، أمّا وجوب إعطائها له (عليه السلام) فالحديث قاصر الدلالة عنه، بل لابدّ أن يعدّ الحديث في عداد الأخبار الدالة على جواز أن يجعل الفطرة في يد الإمام (عليه السلام) ليفعل بها ما هو حكمها الشرعي ويصرفها في مصرفها. وهي غير هذه المعتبرة خبران آخران:

أحدهما: صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع قال: بعثت إلى الرضا (عليه السلام) بدنانير من قِبل بعض أهلي وكتبت إليه أُخبره أنّ فيها زكاة خمسة وسبعين والباقي صلة، فكتب بخطّه: قبضت. وبعثت إليه بدنانير لي ولغيري وكتبت إليه: إنّها فطرة من العيال، فكتب بخطّه: قبضت[24]. وروى ذيله عن الفقيه مثله، وروى الذيل أيضاً الكليني إلاّ أنّه قال: قبضت وقبلت[25].

فسند الحديث في التهذيب ومن لا يحضره الفقيه صحيح، وفي سند الكافي بنان بن محمّد المجهول وأخوه عبد الرحمن وهو غير مذكور.

والصحيحة كما ترى تدلّ على أنّ الإمام (عليه السلام) كان يأخذ زكاة الفطرة، وقوله (عليه السلام) في نسخة الكافي: «قبلت» فيه دلالة على أنّ له شأناً إليهّاً في قبولها وهو مشير إلى أنّ أخذ الفطرة إليه.

ثانيهما: صحيحة أيّوب بن نوح بن درّاج ـ الّذي كان ثقة شديد الورع كثير العبادة وكان وكيلاً لأبي الحسن الهادي وأبي محمّد العسكري (عليهما السلام) ـ قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث (عليه السلام): إنّ قوماً سألوني [يسألوني ـ يب] عن الفطرة ويسألوني أن يحملوا قيمتها إليك وقد بعث إليك هذا الرجل عام أوّل وسألني أن أسألك فنسيت ذلك، وقد بعثت إليك العام عن كلّ رأس من عيالي [وقد بعث إليك العام عن كلّ رأس من عياله ـ يب] بدرهم على [عن ـ يب] قيمة تسعة أرطال [تمر ـ يب] بدرهم، فرأيك جعلني الله فداك في ذلك؟ فكتب (عليه السلام): الفطرة قد كثر السؤال عنها، وأنا أكره كلّ ما أدّى إلى الشهرة، فاقطعوا ذكر ذلك، و [قريب] اقبض ممّن دفع لها وامسك عمّن لم يدفع[26].

وهذه الصحيحة قد رواها الكليني في الكافي ونقلها عنه الشيخ في التهذيب وقد نقلها عنهما مع ضبط اختلاف النسختين، وقد نقلها الشيخ في ذيل العبارة الماضية عن مقنعة المفيد: «باب وجوب إخراج الزكاة إلى الإمام... إلى آخر ما قدّمناه»[27] وفي نقله لها ذيله شهادة على أنّ الشيخ أيضاً قد فهم من الباب المزبور تعميم الزكاة للفطرة أيضاً، وقد ذكر أيضاً هنا صحيح ابن راشد وذيل خير ابن بزيع الماضي وهما أيضاً في زكاة الفطرة، وكيف كان، فصاحب الوسائل أيضاً قد أخرج الصحيحة عن الكافي والتهذيب كليهما.

ودلالة الصحيحة على أنّ الإمام (عليه السلام) كان يأخذ الفطرة واضحة، فإنّ أيّوب بن نوح كان وكيلاً له، وقد أمره في ذيل الصحيحة بأخذها بقوله: «اقبض ممّن دفع لها» فأخذ وكيله أخذه (عليه السلام) وأمره بالأخذ من خصوص مَن يدفع بنفسه وبالإمساك عمّن لم يدفع إنّما هو لما أفاده قبله من قوله (عليه السلام): «الفطرة قد كثر السؤال عنها وأنا أكره كلّ ما أدّى إلى الشهرة فاقطعوا ذكر ذلك». وحاصله: أنّ اتضاح الأمر لدى عامّة الناس ووصوله إلى الدولة الجائرة يوجب ضيقاً عليه أو على الشيعة أكثر فلذلك فلا مجال معه لدعوة الشيعة إلى دفعها إلى الإمام أو وكيله بل اللازم أن يقطع ذكرها وتقبض ممّن دفعها بنفسه ويمسك عمّن لم يدفع، فلا يتوهّم أنّ في الصحيحة دلالة أو إشارة إلى عدم وجوب أدائها إلى الإمام. هذا مضافاً إلى أنّ دعوانا وجوب أداء الفطرة إلى الإمام إذا قام خارجاً بتدبير أمر الأمّة وتصدّى لأعمال الولاية.

فهذه الروايات الثلاث المعتبرات تدلّ بوضوح على أنّ الأئمّة (عليهم السلام) كانوا يأخذون زكاة الفطرة، ونفس أخذهم لها وإن لم يدلّ على وجوب أدائها إليهم إلاّ أنّه دليل على جوازه، وحينئذٍ فإذا كانوا أنفسهم أولياء أمر الأمّة فلهم ـ إذا رأوا فيه الصلاح ـ أن يأمروا الناس بدفع الفطرة إليهم (عليهم السلام) ويصير دفعها إليهم واجباً امتثالاً لأمرهم الواجب الإطاعة.

ثُمّ انّك بالتأمّل فيما بيّنّاه في زكاة الأموال تعرف أنّ أداء الفطرة إلى الإمام (عليه السلام) وإن كان واجباً إلاّ أنّه لا دليل على أزيد من وجوبه، وأمّا كون الأداء إليه شرط الصحّة فلا دليل عليه بل إطلاقات أدلّة وجوب الفطرة وصرفها في مصرفها الخاصّ بها تقتضي عدم الاشتراط. مضافاً إلى اقتضاء البراءة أيضاً له.

وأمّا قبول قول المكلّف إذا طلب الإمام أداءها إليه بل مطلقاً فقبول قوله إذا ادّعى عدم تعلّق وجوب الفطرة به أو ادّعى أداءها بنفسه فلا دليل خاصّة معتبر هنا، وقد عرفت أنّ مقتضى الأصل أيضاً عدم الوجوب وأنّ الاستصحاب يقتضي اشتغال ذمّته بها. نعم إنّ مرسلة الدعائم الماضية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه نهى عن أن يحلف الناس على صدقاتهم قال: «هم فيها مأمونون»[28] تعمّ صدقة الفطرة أيضاً، إلاّ أنّها غير معتبرة السند.

الخامس من الأموال التي بيد وليّ الأمر عوائد الموقوفات العامّة الّتي لا متولّي لها

وتوضيح الأمر أنّ الوقف إنّما هو حبس العين وتسبيل الانتفاع بها أو عوائدها، فإن كان الوقف على أشخاص خاصّة فلا محالة تكون العين الموقوفة مختصّة بهم فهم أنفسهم يتولّون أمرها إذا لم يعيّن الواقف لها متولّياً وإذا عيّن لها متولّياً فالمتولّي يتصدّى أمرها بمقتضى وظيفة التولية، وأمّا إذا كان الوقف على جهة عامّة كوقف عقار أو بستان لأن ينفق عوائده في سبيل الخير أو في تعزية المعصومين (عليهم السلام) أو في مصالح المساجد أو مسجد خاصّ فإن جعل لوقفه هذا متولّياً فأمر رعاية العين الموقوفة وأخذ عوائدها وإنفاقها حسب ما جعله الواقف على عهدة المتولّي، وأمّا إن لم يجعل لمثل هذا الوقف متولّياً أو مات متولّيه أو خرج عن صلاحية التولّي فأمر هذه الموقوفة بيد وليّ الأمر.

وممّا بيّنّاه تعرف أن ليس المراد من كون أمرها بيده أنّ عوائدها أو منافعها ملك لشخص وليّ الأمر كما في الأنفال ونصف الخمس بل إنّ عوائدها لابدّ وأن تنفق في نفس الموارد الّتي وقف الواقف العين الموقوفة لها إلاّ أنّ أمر هذه الموقوفة كلّه بيد وليّ الأمر، فمثلاً هو الّذي يؤجرها من شاء بأُجرةٍ يراها مناسبة ويأخذ أجرتها ويعيّن شخص المصرف الّذي تصرف العوائد فيها فربما تصرف عوائد الموقوفة لسبل الخير في بناء جسر أو إنشاء شارع داخل بلدة أو خارجها أو في إرسال جند إلى الجهاد أو الدفاع، فكلّ هذه المصارف تعيينها بيد وليّ الأمر، ولا نعني لزوم مباشرته بنفسه لأداء هذه الأمور بل هو المرجع الأصيل فربّما يوكله إلى نائب صالح.

وكون أمر عوائد هذه الأوقاف ـ بالشرح المذكور ـ بيده لم أقف على تعرّض الأصحاب له في كتاب الوقف ولا في مورد آخر إلاّ أنّه لا ينبغي الريب في إفتائهم به، كيف لا! ومن الأمور الدارجة في ألسن الفقهاء أنّ الأمور الحسبيّة بمعنى أمور يعلم أنّ الشارع المقدّس لا يرضى بإهمالها أبداً كتولّي أمر الأيتام وتصدّي أمر الموقوفات إذا لم يكن لليتيم قيّم ولا للموقوفة متولٍّ فهذه الأمور بيد الفقيه العادل، وهو لا يكون إلاّ لأنّ أمر هذه الأمور بيد الإمام (عليه السلام) وإنّما تصير إلى الفقيه لأنّه نائب عامّ عنه في غَيبته وهو ما ذكرناه.

قال سيّدنا الأستاذ الإمام الراحل (قدس سرّه) عند البحث عن اشتراط كون العوضين في البيع ملكاً طلقاً: فالخانات والمدارس وغيرهما ممّا جعلت لمصالح طائفة من المسلمين وكذا الأوقاف على الجهات أو على العناوين العامّة كالفقراء أو عامّة المسلمين إذا آل أمرها إلى الخراب فللوالي أو عليه حفظ منافعهم فيها وعدم إهمالها، فله أو عليه أن يبيعها أو يستبدلها... لأنّ الأوقاف لم تخرج عن الوقفية، فإذا كانت وقفاً على المسلمين وآل أمرها إلى الاضمحلال والتضييع فللوالي أو عليه ـ مع بسط يده أن يستبدلهما بما ينتفع به المسلمون كانتفاعهم بالأعيان الموقوفة، فلو خرّبت مدرسة أو خان يبيعها ويشتري مكانهما مكاناًَ آخر يجعله مدرسة أو خاناً حفظاً للمصالح العامّة[29].

وهذا الّذي أفاده من أنّ أمر الموقوفات العامّة بيد الوالي هو ما ذكرناه من أنّه إذا لم يكن للوقف العامّ الّذي له عوائد متولًّ خاصّ فأمره إلى الإمام وتولّي أمره من اختياراته ووظيفته المراقبة عنه وأخذ عوائده وصرفها في مصارفها الّتي جعلها الواقف مصرفاًَ لها. إلاّ أنّ سيّدنا الأستاذ (قدس سرّه) لم يخصّ ولايته بخصوص الوقف الّذي له عوائد بل أفاد أنّ كلّ ما جعلت من الموقوفات لمصالح المسلمين ممّا ينتفعون بها كالخانات والمدارس وإن لم تكن لها عائدة تصرف في مصالحهم فهي أيضاً بيد وليّ الأمر وهو الحقّ المطابق للتحقيق.

وعمدة الدليل على هذه الدعوى أنّ أولياء أمر المسلمين قد جعلهم الله تعالى أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهم بإذن الله تعالى وجعله وليّ أمر الأمّة بل قد عرفت ممّا أنّهم بأمر الله تعالى وجعله وليّ أمر كلّ مَن يعيش في لواء الدولة الإسلامية وإن كان غير مسلم كأهل الكتاب الّذين هم في ذمّة الإسلام، ولازم كونهم وليّ أمر الأمّة أن يكون بيدهم كلّ ما يرجع إلى الأمّة بمعنى أنّ ما يرجع إلى الأمّة فإليهم اختياره وعليهم أن يقوموا بما يرتبط به، فولايتهم على الأمّة تستتبع حدوث اختيار خاصّ بهم وتعلّق وظيفة عليهم وإلاّ لم تتحقّق ولايتهم، فليس لغيرهم من آحاد الناس هذا الخيار وليس لهم إهمال ما يتعلّق بالأمّة، ولازم ولايتهم أيضاً أن يكون كلّ ما يغرمون في هذه الموارد لازم الاتباع، كلّ هذه الجهات إنّما هي لأنّها لازم الولاية المطلقة على الأمّة. وقد ذكرناها فيما سبق وذكرنا أنّ ولاية أمر الأمم في الدنيا وإن لم تكن مستندة إلى جعل الله تبارك وتعالى فنفس الولاية عليهم تقتضي أن يكون بيد وليّ الأمر كلّ ما يرتبط بالأمّة فله الخيار وعليه الاهتمام وتصميماته متّبعة، فهكذا الأمر في الولاية على الأمّة إذا كانت بإذن الله تعالى ونصبه وجعله.

وهذا الوجه وجه قويّ تامّ وكما أشرنا إليه لم نجد دليلاً خاصّاً على المطلوب في الروايات إلاّ أنّه قد وردت أخبار متعدّدة في مساجد المسلمين الّتي قد عرفت أنّها أيضاً متّحدة الحكم مع الموقوفات ذوات العوائد، فقد وردت فيها روايات ربما تدلّ على أنّ أمرها يكون إلى وليّ أمر الأمّة.

1ـ فمن هذه الروايات ما رواه الكليني والشيخ بسندٍ صحيح عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بنى مسجده بالسميط ثُمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه وبناه بالسعيدة، ثُمّ إنّ المسلمين كثروا فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فزيد فيه، فقال: نعم، فأمر به فزيد فيه وبنى جداره بالأنثى والذكر، ثُمّ اشتدّ عليهم الحرّ فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فظلّل، فقال: نعم، فأمر به فأقيمت فيه سواري من جذوع النخل، ثُمّ طرحت عليه العوارض والخصف والأذخر، فعاشوا فيه حتّى أصابتهم الأمطار فجعل المسجد يكف عليهم، فقالوا: يا رسول الله لو أمرت بالمسجد فطيّن، فقال لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا عريش كعريش موسى (عليه السلام)، فلم يزل كذلك حتّى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكان [فكان ـ يب] جداره قبل أن يظلّل قامة، فكان إذا كان الفيء ذراعاً وهو قدر مربض عنز صلّى الظهر، وإذا [فإذا ـ يب] كان ضعف ذلك صلّى العصر، وقال: السميط: لبنة لبنة، والسعيدة لبنة ونصف، والذكر والأنثى [والأنثى والذكر ـ يب] لبنتان مخالفتان[30]. ورواه الوسائل عنهما، وعن الصدوق في معاني الأخبار بسندٍ صحيح أيضاً قال: «إلاّ أنّه ترك قوله: وبناء بالسعيدة فزيد فيه»[31].

فهذه الصحيحة كما ترى قد تضمّنت أنّ أمر ازدياد سطح المسجد النبوي وأمر تظليله كان بيد النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) فإذا وافق وأمر بزيادته زيد فيه، وإذا ضمّ هذا المعنى إلى أنّ أمر تطيينه أيضاً كان بيده ولذلك فإذا لم يوافق على تطيينه وأجابهم بقوله: «لا، عريش كعريش موسى (عليه السلام) بقي بلا تطيين كما أفاده (عليه السلام) في قوله: «فلم يزل كذلك حتّى قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)» فهم منه أنّ أمر تغيير سطح المسجد وسائر ما يرتبط به كان موكولاً إليه يزاد فيه ويظلّل إذا شاء ولا يطيّن إذا لم يشأ، وهذا هو الّذي نقوله من أنّ أمر مثل المسجد بيد وليّ الأمر.

2ـ ومنها ما رواه الكليني والشيخ (قدس سرهما) بسندٍ صحيح عن الحلبي قال: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) [سألته ـ يب] عن المساجد المظلّلة يكره الصلاة [القيام . يب] فيها؟ قال: نعم، ولكن لا يضرّكم فيها [الصلاة فيها ـ يب] اليوم، ولو قد كان العدل لرأيتم [أنتم ـ يب] كيف يصنع في ذلك... الحديث[32].

فقوله (عليه السلام) في الذيل: «ولو قد كان العدل لرأيتم كيف يصنع في ذلك» إشارة إلى زمن الولاية الإسلامية المحقّة، ويدلّ على أنّ أمر المساجد في زمن هذه الولاية يكون إلى وليّ الأمر فيجعلها كما ينبغي أن تكون، وهو ما نريد.

3ـ ومنا ما رواه الكليني والشيخ (قدس سرهما) عن عمرو بن جميع قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) [أبا عبد الله ـ يب، ئل] عن الصلاة في المساجد المصوّرة، فقال: أكره ذلك، ولكن لا يضرّكم ذلك اليوم، ولو قد قام العدل رأيتم [لرأيتم. يب] كيف يصنع في ذلك[33].

وهو في الدلالة مثل ما سبقه من صحيح الحلبي. إلاّ أنّ سنده ضعيف بضعف عمرو بن جميع وجهالة جميع آخر في السند.

4ـ ومنها ما عن إرشاد المفيد عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: إذا قام القائم لم يبق مسجد على وجه الأرض له شرف إلاّ هدمها[34].

دلّ الحديث على أنّ القائم (عليه السلام) وهو وليّ الأمر يهدم شُرَف المساجد الّتي لها شرف، وشُرَف جمع شُرَفة، وشُرفة القصر ما أشرف من بنائه، فإذا كان هو (عليه السلام) يهدم شَرَف المساجد فلا محالة يكون مراقباً للمساجد حتّى تكون على ما ينبغي، وهو ما ندّعيه. إلاّ أنّ سند المفيد إلى أبي بصير غير معلوم، فالحديث لا يخلو من مثل إرسال.

5ـ ومنها موثّقة السكوني المروية عن التهذيب ومن لا يحضره الفقيه عن جعفر عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) أنّ علياً (عليه السلام) مرّ على منارة طويلة فأمر بهدمها ثُمّ قال: لا ترفع المنارة إلاّ مع سطح المسجد[35].

وهي دالّة على مراقبته (عليه السلام) لوضع المساجد وهدمه لما لا ينبغي أن تكون عليه، والظاهر أنّه في زمن قيامه خارجاً بولاية أمر الأمّة، ففيه دلالة على المطلوب.

6ـ ومنها ما عن التهذيب وعلل الشرائع في المعتبر عن طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن عليّ (عليهم السلام): أنّه كان يكسر المحاريب إذا رآها في المساجد ويقول: كأنّها مذابح اليهود[36].

وهو في الدلالة مثل الموثّقة السابقة.

فهذه روايات معتبرة الإسناد إلاّ واحدة منها قد دلّت بما عرفت من البيان على أنّ المسجد لابدّ وأن يكون تحت اختيار وليّ الأمر.

إلاّ أنّ لقائل أن يقول: إنّ هذه الروايات ـ غير صحيح عبد الله بن سنان ـ إنّما تدلّ على أنّ وليّ الأمر يهدم ما كان في المساجد على غير الجهة المطلوبة في الشريعة، فأمير المؤمنين (عليه السلام) كان كذلك والقائم (عليه السلام) هكذا يفعل، وإذا كانت الولاية الحقّة العادلة فهكذا يكون الأمر فهذا المقدار يفعله وليّ الأمر والولاية الحقّة، وأمّا أنّ أمر المسجد بالمرّة بيد وليّ الأمر فلا دلالة في هذه الأخبار عليه.

وأمّا صحيحة عبد الله بن سنان فغاية مقتضاها أنّ أمر مسجد النبي كان بيده المباركة يزاد فيه ويظلّل إذا أراده ولا يطيّن إذا لم يرده، وأمّا أنّ هذه الكيفية تكون هي المطلوبة بتّاً في الشريعة في نفس ذاك المسجد بل في جميع المساجد فلا نسلّم دلالة الصحيحة عليه.

وبالجملة: فهذه الروايات لا تتمّ دلالتها على المطلوب فليكتف بما قدّمناه من اقتضاء القواعد.

ثُمّ إنّه يمكن أن يستدلّ لأصل المطلب من وجوب أن تكون الأوقاف العامّة الّتي لا متولّي لها لا سيّما ما كان منها ذا عائدة بيد وليّ الأمر بأنّ المستفاد من أخبار كثيرة معتبرة أنّ العين الموقوفة صدقة، وحينئذٍ فتدخل الأعيان الموقوفة في إطلاق قوله تعالى ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ فيجب أخذها على وليّ الأمر، وقد مرّ أنّ لازم وجوب أخذها عليه أن يجب على الناس أيضاً أداؤها إليه.

لكنّك قد عرفت انصراف الصدقة المذكورة في الآية الشريفة إلى ما يجب أن يتصدّق بها مثل زكاة المال والفطرة، فلا تعمّ مثل العين الموقوفة الّتي ليست بنفسها صدقة وإنّما تصير بالوقف صدقة، وكيف كان فليست صدقة واجبة فلا تعمّها الآية المباركة، والله العالم.

وبهذا المقدار نكتفي في البحث عن الأموال الّتي لوليّ الأمر سواء كانت ملكاً له كما في الأنفال ونصف الخمس أم جعلها الله تعالى لمصارف خاصّة وجعل مع ذلك أمرها بيده كما في النصف الآخر من الخمس وزكاة الأموال والفطرة وكما في الأوقاف العامّة على ما عرفت من الكلام فيها، فهذا هو القسم الأوّل من قسمي المنابع العالية للدولة والولاية الإسلامية.

ـــــــــــــــــــ

 [1] المهذّب: ج1 ص175.

 [2] المقنعة: ص252 و253.

 [3] نفس المصدر.

 [4] النهاية: ج1 ص442ـ443.

 [5] الوسيلة: ص131.

 [6] السرائر: ج1 ص471.

 [7] المعتبر: ج2 ص614.

 [8] التذكرة: ج5، ص 401، المسألة 304.

 [9] قواعد الأحكام: ج1 ص360.

 [10] المنتهى: ص542 س7 الطبعة الرحلية.

 [11] الوسائل: الباب 3 من زكاة الفطرة ج6 ص225 الحديث1.

 [12] الوسائل: الباب6 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص233 الحديث13.

 [13] الوسائل: الباب5 منها من أبواب زكاة الفطرة الحديث3.

 [14] الوسائل: الباب2 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص 223 الحديث1.

 [15] الوسائل: الباب2 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص223 الحديث2 و6.

 [16] نفس المصدر.

 [17] الوسائل: الباب 3 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص225 الحديث2.

 [18] قد مضى في ص224، وراجع الوسائل: الباب1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة ج6 ص3 الحديث1.

 [19] الوسائل: الباب1 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص221 و220، الحديث5 و4.

 [20] نفس المصدر.

 [21] الوسائل: الباب2 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص223 الحديث1.

 [22] الوسائل: الباب9 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص240 الحديث2، عن الكافي: ج4 ص174، والتهذيب: ج4 ص91، المقنعة: ص265.

 [23] الوسائل: الباب 15 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص250 الحديث3.

 [24] الوسائل: الباب35 من أبواب المستحقّين للزكاة ج6 ص194 الحديث6.

 [25] الوسائل: الباب9 من أبواب زكاة الفطرة ج6 ص161و162 الحديث1، الكافي: ج4 ص174.

 [26] الكافي: ج4 ص174، التهذيب: ج4 ص91، عنهما الوسائل: الباب9 من أبواب زكاة الفطرة الحديث3.

 [27] تقدّمت في ص249.

 [28] المستدرك: الباب33 من أبواب المستحقّين للزكاة ج7 ص134 الحديث1.

 [29] كتاب البيع: ج2 ص181ـ182، طبع مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام (قدس سرّه).

 [30] الكافي: باب بناء مسجد النبيّ ج3 ص295 الحديث1، التهذيب: باب فضل المساجد... ج3 ص262 الحديث58.

 [31] الوسائل: الباب9 من أبواب أحكام المساجد ج3 ص487 الحديث1.

 [32] الكافي: ج3 باب بناء المساجد... ص368 الحديث4، التهذيب: ج3 باب فضل المساجد ص253 الحديث15، عنهما الوسائل: الباب9 من أبواب أحكام المساجد ج3 ص488 الحديث2.

 [33] الكافي: ج3 ص369، التهذيب: ج3 ص259، عنهما الوسائل: الباب15 من أبواب أحكام المساجد ج3 ص493 الحديث1.

 [34] الوسائل: الباب المذكور الحديث4.

 [35] الوسائل: الباب25 من أبواب أحكام المساجد ج3 ص505 الحديث2.

 [36] الوسائل: الباب31 من أبواب أحكام المساجد ج3 ص510 الحديث1.