المسألة الثالثة: هل أنّ موضوع الحكم في الأراضي المفتوحة عنوةً هو خصوص المُحياة من الأراضي فتكون الأراضي الموات من الأنفال وملكاً للإمام (عليه السلام)؟ أم موضوعه هو مطلق الأراضي حيّاً كانت أم ميّتة؟

قد صرّح بالاختصاص فيما مرّ من العبارات المحقّق في الشرائع والنافع والعلاّمة في القواعد والإرشاد والتذكرة والمنتهى، فراجع. وغيرهما وإن لم يصرّحوا به في عباراتهم الماضية إلاّ أنّ المستفاد من كلام كثير منهم ذلك.

وهذا بملاحظة أنّ المذكور في عباراتهم أنّ الأراضي منقسمة إلى أقسام أربعة أو ثلاثة مثلاً، فعدّوا الأرض المفتوحة عنوةً قسماً منها، وجعلوا في قبالها أراضي الأنفال قسماً آخر، ولا ريب في أنّ الأراضي الموات من مصاديق الأنفال كما مرّ الكلام فيها فيما مرّ.

1ـ فهذا الشيخ في زكاة النهاية بعد عدّ أرض مَن أسلم أهلها عليها وما أخذ عنوةً ـ وقد مرّت عبارتها فيهما ـ وعدّ أرض الجزية قال: والضرب الرابع كلّ أرض انجلى أهلها عنها أو كانت مواتاً فأحييت أو كانت آجاماً وغيرها ممّا لا يزرع فيها فاستحدثت مزارع فإنّ هذه الأرضين كلّها للإمام خاصّة ليس لأحد معه فيها نصيب...[1].

فهو (قدس سرّه) وإن قيّد الموات المذكور فيه بقيد «فأُحييت» وهكذا قيّد ما لا يزرع فيها بقيد «فاستحدثت مزارع» إلاّ أنّ من المعلوم أنّ هذا الضرب الرابع هو الأنفال من الأراضي بقرينة ذكر «كلّ أرض انجلى أهلها عنها» وذكر «أو كانت آجاماً» ولمّا كان من الواضح أنّ الموات من الأراضي مطلقاً من الأنفال فلا مفهوم للتقييد بالإحياء أو باستحداث مزارع.

وقد عرفت أنّ عبارة الشيخ في آخر كتاب الزكاة من المبسوط مثل عبارته في زكاة النهاية.

2، وقد أشرنا إلى أنّ الشيخ في كتاب البيع من النهاية ذكر الأقسام الأربعة وجعل رابعها الأنفال؛ وعبارته هكذا: ومنها أرض الأنفال، وهي كلّ أرض انجلى أهلها عنها من غير قتال والأرضون الموات ورؤوس الجبال والآجام والمعادن قطائع الملوك، وهذ  ه كلّها للإمام خاصّة يقبّلها مَن شاء بما أراد ويهبها ويبيعها إن شاء حسب ما أراد[2].

ودلالة عبارته هنا على ما ذكرنا أوضح، فإنّه لم يقيّد الموات بقيد وزاد عليه رؤوس الجبال والآجام وقطائع الملوك، وجعل عنوان هذا القسم أرض الأنفال، وكلّ منها دليل على أنّ الأرض الموات مطلقاً للإمام (عليه السلام) وأنّ أرض الموات عنوان خاصّ في مقابل المفتوحة عنوةً.

3ـ وقال أبو الصلاح الحلبي في الكافي ـ بعد تقسيم أراضي المحاربين إلى أقسام خمسة ـ مرّ ذكر بعضها ـ: فأمّا أرض الأنفال فقد تقدّم بعينها فهي للإمام ليس لأحد من الذرّية ولا غيرهم فيها نصيب[3].

وقوله (قدس سرّه): «قد تقدّم بعينها» إشارة إلى ما مرّ منه في فصل في الأنفال، حيث قال: فرض الأنفال مختصّ بكلّ أرض لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركابٍ وقطائع الملوك والأرضون الموات وكلّ أرض عطّلها مالكها ثلاث سنين ورؤوس الجبال وبطون الأودية من كلّ أرض والبحار والآجام وتركات مَن لا وارث له من الأموال وغيرها[4].

وبيان دلالته واضح ممّا قدّمنا ابتداءاً وذيل عبارة النهاية المذكورة آنفاً.

4ـ وقال القاضي ابن البرّاج في كتاب الخمس من المهذّب في باب أحكام الأرضين وتقسيمها إلى أربعة أقسام: ثانياً الأرض المفتحة بالسيف عنوةً... ورابعها الأنفال قال: «باب ذكر أرض الأنفال، كلّ أرض انجلى أهلها عنها، وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب إذا سلّمها أهلها من غير قتال، وكلّ أرض باد أهلها، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام، وصوافي الملوك وقطائعهم ما لم يكن غصباً، وكلّ أرض كانت آجاماً فاستحدثت مزارع، أو كانت مواتاً فأُحييت، فجميع ذلك من الأنفال، وهي للإمام (عليه السلام) خاصّة دون غيره من سائر الناس، وله أن يتصرّف فيها بالهبة والبيع وغير ذلك من سائر أنواع التصرّف حسب ما يراه...[5].

وبيان دلالته أيضاً يعرف ممّا سبق وما عدّ مقابلاً للأرض المفتوحة عنوةً هي أرض الأنفال، فلا يضرّ بالمطلوب تقييد الموات المذكور فيه بقوله: «فأُحييت» فلعلّه لمكان أنّ خصوصه المناسب لأنّ يذكر أنّه ملك الإمام دون الموات الّذي لا ربّ له، وكيف كان فبعد أن تكون الأرض الموات الّتي هي الأرض الخربة مطلقاً من الأنفال فيكون مدلوله عبارته أنّ كلّ أرض كانت من الأموال فهي ملك لشخص الإمام لا يشاركه فيها أحد من الناس، وهو المطلوب.

5ـ وقال ابن زهرة في كتاب الجهاد من الغنية ـ بعد ذكر الأرض المفتتحة عنوة بالسيف ـ: وأمّا أرض الصلح فهي أرض الجزية... فذكر حكمها ثُمّ قال: وأمّا أرض الأنفال ـ وهي كلّ أرض أسلمها أهلها من غير حرب، أو جلوا عنها، وكلّ أرض مات مالكها ولم يخلف وارثاً بالقرابة ولا بولاء العتق، وبطون الأودية، ورؤوس الجبال، والآجام، وقطائع الملوك من غير جهة غصب، والأرضون الموات ـ فللإمام خاصّة دون غيره، وله التصرّف فيها بما يراه من بيع أو هبة أو غيرهما...[6].

فقد ذكر أرض الأنفال عدلاً للمفتوحة عنوةً، وعدّ من مصاديقها الأرضين الموات، وهي عامّة، فيدلّ على أنّ الأرض الموات مطلقاً للإمام (عليه السلام).

6ـ وقد جعل أبو الحسن الحلبي في كتاب الجهاد من إشارة السبق إلى أرض الأنفال عدلاً للمفتتحة عنوةً بالسيف قائلاً: وأمّا أن تكون من الأنفال وهي كلّ أرض خربت أو باد أهلها... فكلّها للإمام القائم مقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا تصرّف فيها لأحد سواه[7].

فالأنفال عدل ومقابل للمفتوحة عنوةً، وقد عدّ منها كلّ أرض خربت، وهي عبارة أخرى عن الأرض الموات، فالمستفاد من عبارته أنّ الأرض الموات ليست من المفتوحة عنوةًَ الّتي هي لجميع المسلمين بل هي خاصّة بالإمام (عليه السلام).

7ـ وقد ذكر الكيدري في الفصل السابع من زكاة إصباح الشيعة ـ بعد ذكر حكم كلّ أرض أسلم أهلها عليها طوعاً وكلّ أرض صالح الإمام أهلها عليها وكلّ أرض أُخذت بالسيف ـ فقال: وأراضي الأنفال تُذكر بعد[8].

ثُمّ وفى بوعده في الفصل الحادي عشر من زكاته فقال: الفصل الحادي عشر في الأنفال، الأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها وكلّ أرض لم يوجف عليها بخيلٍ ولا ركاب، وهي ما انجلى أهلها، وكلّ أرض أسلمها أهلها بغير قتال، ورؤوس الجبال، وبطون الأودية، والآجام، والأرضون الموات الّتي لا أرباب لها، وصواف الملوك وقطائعهم الّتي كانت في أيديهم على غير وجه الغصب و... كان كلّ هذا للإمام القائم مقام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)...[9].

فهو (قدس سرّه) كما ترى جعل أراضي الأنفال عدلاً ومقابلاً للأرض المأخوذة بالسيف، ثُمّ فسّر الأنفال بأمور وجعل منها الأرضين الموات الّتي لا أرباب لها، فلا محالة تكون هي من الأنفال وملكاًَ للإمام القائم مقام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم).

8ـ وقال ابن إدريس في باب أحكام الأرضين من السرائر ـ بعد تقسيمها إلى أربعة أقسام وذكر حكم أرض أسلم أهلها عليها طوعاً وما أخذ عنوةً بالسيف، وأرض الجزية ـ: والضرب الرابع كلّ أرض انجلى أهلها عنها أو كانت مواتاً فأحييت أو كانت آجاماً وغيرها ممّا لم يزرع فيها فاستحدثت مزارع فإنّ هذه الأرضين كلها للإمام خاصّة ليس لأحد معه فيها نصيب[10].

فعدّ لهذه الأراضي في قبال ما اخذ بالسيف دليل على أنّها ملك للإمام (عليه السلام) لا للمسلمين بل ليس لأحد معه (عليه السلام) فيها نصيب، نعم موضوع كلامه الموات الّتي أحييت أو ما لم يزرع فيها فاستحدثت مزارع ولا يشمل الموات بالفعل وليس فيه عنوان الأنفال، اللّهم إلاّ أن يقال: إنّ عنوان «كلّ أرض انجلى أهلها عنها» يهدي إلى أنّ مصبّ كلامه الأنفال الّتي منها كلّ أرض انجلى عنها أهلها فلا محالة يكون الموات مطلقاً منها والتقييد بالإحياء أو كونه مزرعة إنّما هو لأنّ غيره لا يرغب فيه لاسيّما في تلك الأزمنة السالفة.

ويدلّ أيضاً على قوله (قدس سرّه) بأنّ موات أراضي الكفّار للإمام أنّه بعد ذلك قسّم البلاد قسمين: بلاد الإسلام وبلاد الشرك، ثُمّ قسّم أراضي بلاد الشرك قسمين عامراً وغامراً فقال: وأمّا الغامر في بلاد الشرك ـ وفسّر الغامر بالخراب ـ فعلى ضربين: أحدهما لم يجر عليه ملك لأحد والآخر جرى عليه ملك والذي لم يجر عليه ملك أحد فهي للإمام خاصّة لعموم الأخبار[11].

فهو (قدس سرّه) قد تعرّض لموات بلاد الشرك وصرّح بأنّ ما لم يجر عليه منه ملك أحد فهو للإمام (عليه السلام) واستدلّ له بعموم الأخبار، وحيث إنّ من الواضح أنّ أخبار الموات لم ترد في خصوص بلاد الشرك بل موضوعها الأرض الخربة والموات فلازم كلامه أنّ عموم الأخبار وإطلاقها يشمل الموات الّذي يكون في بلاد الكفّار ولا اختصاص له ببلاد الإسلام، فيدلّ على أنّ الأراضي الموات مطلقاً ملكٌ للإمام (عليه السلام) وتختصّ المفتوحة عنوةً بغير الموات.

هذا كلّه حول كلمات الأصحاب في مقام البحث عن الأراضي المفتوحة عنوةً، وقد عرفت أنّ مقتضاها أنّ الموات من الأراضي للإمام وأنّ المفتوحة عنوةً الّتي هي ملك للمسلمين هي خصوص الأراضي العامرة.

ولو أغمض عن كلماتهم هاهنا لأمكن أن يقال: إنّ إطلاق كلامهم عند عدّ الأنفال أنّ الأرض الموات منها وللإمام (عليه السلام) يقتضي أن الموات مطلقاً للإمام سواء كان في بلاد الإسلام  أو بلاد الكفر، فإنّ كلامهم هناك في مقام بيان أنّ قسماً خاصّاً من الأراضي ـ أعني الموات منها ـ يكون في شرع الإسلام للإمام (عليه السلام)، وبالطبع لا يختلف الأمر في هذا الحكم بين وقوعها في أي أجزاء عالم الأرض.

ومن جميع ما ذكرنا يتبين أنّه لا يوجد في المسألة خلاف بين الأصحاب ودعوى الإجماع على أنّ الموات وقت الفتح للإمام (عليه السلام) كما في الرياض[12] والجواهر ليست ببعيدة، بل قال فيه صاحب الجواهر: «بلا خلاف أجده بل الإجماع بقسميه عليه»[13] فادّعى عليه الإجماع المحصّل.

إلاّ أنّ الإنصاف أنّه لا مجال للإستدلال به بالاجماع لعدم كشف اتفاقهم عن رأي المعصوم (عليه السلام) بعد قوة احتمال أن يكون مستندهم الأخبار، فاللازم هو البحث عن مقتضى الأخبار فنقول:

 إنّ اللازم علينا أوّلاً ملاحظة الروايات الّتي استدلّ بها على أنّ الأرض المفتوحة عنوةً لكي يتبيّن أنّ لها إطلاقاً يقتضي أن الأرض الموات أيضاً للمسلمين أم ليس لها هذا الإطلاق بل تختصّ بخصوص الأراضي العامرة الّتي بأيدي الكفّار.

فموضوع الحكم في مصحّح أبي بردة بن رجا[14] وخبر محمّد بن شريح[15] هو أرض الخراج، وواضح أنّ الخراج لا يوضع إلاّ على أرض تكون عامرة تزرع ويؤخذ بعنوان الخراج نصيب من حاصلها، فلا محالة تكون مُحياة غير موات، واحتمال شمولها للموات الّتي يحدث فيه الزراعة أوّل مرّة بعيد جدّاً عند العرف الناظر فيهما، فهذان الخبران لا إطلاق لهما.

كما أنّ موضوعه في صحيح البزنطي عن الرضا (عليه السلام) وفي خبره وخبر صفوان عند قوله (عليه السلام): «وما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالّذي يرى كما صنع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر قبّل أرضها ونخلها»[16] وإن كان ما أخذ بالسيف يمكن أن يقال بشموله للموات أيضاً، إلاّ أنّك عرفت الآن أنّ التقبيل له دليلٌ على أنّها عامرة يؤخذ من حاصلها نصيب ويؤكده التنظير لها بفعل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بخيبر وبأنّه قبّل أرضها ونخلها، فإنّ من الواضح أنّ التقبيل هناك كان على البساتين المشتملة على النخل والأراضي البياض الّتي كانت تزرع، فلا إطلاق لهذين الخبرين أيضاً.

ومثلهما بل أوضح منهما في الاختصاص صحيحة يعقوب بن شعيب الماضية[17] فإنّ موضوع حكمها بأنّ صاحب الأرض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنّه وليّ أمر المسلمين هو أرض خيبر الّتي قد عرفت أنّها كانت عامرة بأرضها ونخلها.

وكما أنّ موضوع هذا الحكم في خبر حمّاد بن عيسى في قوله (عليه السلام): «والأرضون الّتي أخت عنوةً بخيلٍ وركابٍ فهي موقوفة متروكة في يدي مَن يعمرها ويحييها ويقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحقّ الخراج النصف أو الثلث أو الثلثين...»[18] وإن كان «الأرضون الّتي أخذت عنوةً...» ربما يتخيل أنّها عامّة للموات من الأراضي أيضاً إلاّ أنّه تخيّل غير مستقيم، وذلك (أوّلاً) لأنّ تعبيره في حكمها بقوله: «فهي موقوفة متروكة في يدي مَن يعمرها» لمكان عنوان تركها في أيديهم دليلٌ على أنّ هذه الأرضين قبل أن تؤخذ كانت بأيديهم يعمرونها ويحيونها، فتترك على ما كانت فلا محالة هي أراضي عامرة محياة و (ثانياًَ) لأنّ جعل الخراج عليها نصف حاصلها دليل كما عرفت على أنّها لها حاصلاً يؤخذ جزء منه بعنوان الخراج فلا محالة تكون عامرة. و(ثالثاً) لأنّ ذيل هذا الحديث قد حكم ، كما يأتي إن شاء الله ـ بقول مطلق بأنّ الموات من الأراضي وكلّ أرض لا ربّ لها للإمام (عليه السلام) فهو شاهد اختصاص هذه الأراضي المأخوذة عنوةً بغير الموات.

نعم موضوع الحكم بأنّها للمسلمين في صحيح الحلبي[19] عن أبي عبد الله (عليه السلام) أو الحكم بأنّها فيء للمسلمين كما في خبر أبي الربيع الشامي[20]

بنقل التهذيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) هو السواد أو أرض السواد، وقد مرّ أنّ السواد هو العراق ولفظه مطلق يعمّ الموات والعامر منها وإن كان يحتمل دعوى انصرافه إلى خصوص ما كانت مُحياة يزرعونها ويؤدّون بعض حاصلها خراجاً عنها لبعد نظر الحديثين إلى ما كانت مواتاً لا يرغب ولا نظر إليها أحدن فتأمّل.

هذا خبر أبي الربيع بنقل التهذيب، وأمّا نقل الصدوق في الفقيه فهو هكذا: ولا يشتري [لا تشتري ـ خ ل] من أراضي أهل السواد شيئاًَ... الحديث» فموضوعه أراضي أهل السواد، ولا يبعد دعوى انصرافها إلى ما كانت بأيديهم يعمرونها ويحيونها وتكون منصرفة جدّاً عن الموات.

فهذا هو مقتضى النظر في روايات أستند إليها في الحكم بأنّ الأرض المفتوحة عنوةً ملكٌ للمسلمين أو بأنّ حاصلها يصرف في مصالح المسلمين، وقد تحقّق أن لا إطلاق لجلّها إلاّ لصحيح الحلبي الواردة في أرض السواد على تأمّل فيه.

ثُمّ لو سلّم أنّ هذا إطلاقاً يقتضي أن يكون الموات من المفتوحة عنوةً أيضاً ملك للمسلمين فلابدّ لنا من النزر في الروايات الدالّة على أن موات الأراضي من الأنفال وهي للإمام فهل لها عموم يقتضي بأنّ كلّ أرض موات حتّى ما كانت قد وقعت اليد عليها بالفتح عنوةً ملك للإمام (عليه السلام) ليكون عمومها قرينة على تقييد إطلاق أخبار الأرض المفتوحة عنوةً؟

فلنذكر من هذه الروايات أنموذجاً لعلّها تهدينا إلى الحكم الإسلامي الواقعي:

1ـ ففي صحيح حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الأنفال ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب أو قوم صالحوا أو قوم أعطوا بأيديهم وكلّ أرض خربة وبطون الأودية فهو لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو للإمام من بعده يضعه حيث يشاء[21].

2ـ وفي صحيح محمّد بن مسلم ـ المروي عن تهذيب الشيخ ـ عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه سمعه يقول: إنّ الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم أو قوم صولحوا وأعطوا بأيديهم وما كان [فما ـ يب] من أرض خربة أو بطون أودية فهذا كلّه من الفيء والأنفال لله وللرسول، فما كان لله فهو للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) يضعه حيث يحبّ[22].

3ـ وفي صحيح آخر لمحمّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: الفيء والأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء وقوم صولحوا وأعطوا بأيديهم وما كان من أرض خربة أو بطون أودية: فهو كلّه من الفيء فهذا لله ولرسوله، فما كان لله فهو لرسوله يضعه حيث شاء، وهو للإمام بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)... الحديث[23].

فهذه الصحاح الثلاثة قد صرّحت بأنّ كلّ أرض خربة أو ما كان من أرض خربة فهي للرسول وبعده للإمام صلوات الله عليهم، والصحاح في مقام تقسيم الأراضي وذكر أنواعها وفي مقام بيان أنّ أيّ نوعٍ منها من الأنفال، فبيّنت أنّ هذا النوع ـ أعني كلّ أرض خربة ـ هو من الأنفال ويكون كغيره من مصاديق الأنفال ملكاً للإمام (عليه السلام)، وتدلّ دلالة واضحة أنّ غير الإمام إذا كان له ملك من الأرض فلا محالة هو غير الأرض الخربة، ومن الواضح أنّ الأرض الخربة عبارة أخرى عن الأرض الموات، فتدلّ هذه الصحاح أنّ ملك المسلمين من الأراضي المفتوحة عنوةً أيضاً غير الأرض الموات، فتكون دليلاً على تقييد إطلاق أدلّة المفتوحة عنوةً.

4ـ ومن قبيل هذه الصحاح ما رواه حمّاد بن عيسى في خبره المرسل الطويل عن العبد الصالح (عليه السلام) فقال فيه: وله بعد الخمس الأنفال، والأنفال كلّ أرض خربة باد أهلها وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب، ولكن صالحوا صلحاً وأعطوا بأيديهم على غير قتال، وله رؤوس الجبال وبطون الأودية والآجام وكلّ أرض ميتة لا ربّ لها الحديث[24].

فهو (عليه السلام) في أوّل هذه الفقرات تعرّض للميتة بالعرض الّتي باد أهلها وعدّها من الأنفال وملكاً للإمام (عليه السلام)، وصرّح أخيراً بأنّ كلّ أرض ميتة لا ربّ لها فهي للإمام (عليه السلام)، وهو بالبيان الّذي قدّمناه ذيل الصحاح يدلّ على أنّ كلّ أرض ميتة لا يكون لها وعليها ربّ يدير أمرها وهو عبارة أُخرى عن الميتة بالأصالة ولعلّها تشمل ما لا يعلم لها ربّ أصلاً أيضاً فهي ملك خاصّ بالإمام (عليه السلام) ومقتضاه تقييد إطلاق أخبار الأراضي المفتوحة عنوةً كما عرفت.

بل إنّ في هذا الخبر نكتة خاصّة هي أنّه في الفقرات السابقة تضّمن كما تقدّم أنّ الأرضين الّتي أخذت عنوةً بيد الوالي ويكون خراجها مصروفاً في مصلحة عامّة المسلمين ليس لنفسه من ذلك قليل ولا كثير. فبعد تقديم هذه الفقرات في الأراضي المأخوذة عنوةً إذا عقبها قوله: «وله... كلّ أرض ميتة لا ربّ لها فهذا العموم التالي قرينة متصلة توجب تقييد إطلاق تلك الفقرات السابقة، وتكون هذه المرسلة كالصريح في اختصاص الأراضي المأخوذة عنوةً الّتي هي وعوائدها للأمّة الإسلامية بخصوص الأراضي غير الموات كما قدّمنا إليه الإشارة.

ويوجد في روايات أنّ الميتة كلّها روايات أخر بذلك المضمون تقتصر بما ذكرناه عن ذكرها.

فتلخّص أنّ مقتضى الأدلّة أنّ ما للمسلمين من الأراضي المأخوذة عنوةً هي خصوص العامر منها وأنّ الموات ـ كما أفاد الأصحاب ـ ملكٌ للإمام (عليه السلام).

تكملة: إنّ الذي قد بحثنا عنه وإن كان خصوص الأرض الموات إلاّ أنّ الظاهر أنّ الحكم المذكور غير مختصّ بها بل يعمّها وكلّ أرض تعدّ من الأنفال كأرض انجلى عنها أهلها وكبطون الأودية والآجام. وهذا التعميم مستفاد من كلام الأصحاب ومن أخبار الباب.

أمّا كلمات الأصحاب فلأنّ مجرّد التقييد للأرض المفتوحة عنوةً بالمُحياة وإخراج الموات عنها ـ كما في عبارة المحقق والعلاّمة ـ وإن لم يدلّ على العموم المذكور بداهةً إلاّ أنّ جعل الأراضي الّتي هي من الأنفال في قبال المفتوحة عنوةً في كلامهم، بل وإطلاق الأراضي المعدودة من الأنفال لكل تلك الأراضي عند بحثهم عن مصاديق الأنفال دليلٌ واضحٌ على أنّ هذه الأراضي تعدّ من الأنفال وملكاً للإمام وإن كانت ممّا وقعت اليد عليها بالفتح عنوةً.

وأمّا أخبار الباب فلما عرفت من عدم انعقاد إطلاق معتنىً به في أدلّة الأراضي المفتوحة عنوةًَ حتّى يشمل تلك الأراضي أيضاً، ولو سلّم لها إطلاق مّا فأخبار عدّ مصاديق الأنفال الّتي منها تلك الأراضي كما تقتضي تقييد تلك الأدلّة بالنسبة للأرض الموات فهكذا تقتضي تقييدها بالنسبة لهذه الأراضي حرفاً بحرف.

المسألة الرابعة: هل المأخوذ عنوةً الّتي كانت للمسلمين هي خصوص الأرض والعقار والبساتين؟ أم يعمّها وكلّ ما لا ينقل من الدور والأمكنة التجارية والمصانع وغيرها؟

إنّ جملة من العبارات الماضي نقلها عن أصحابنا الأخبار كان موضوعاً الأرض كالمقنعة للمفيد والنهاية لشيخ الطائفة في الزكاة والبيع وكزكاة الخلاف وكتاب السير منه وزكاة المبسوط وخمس المهذّب وزكاة السرائر وأصباح الشيعة وكنافع المحقّق في توابع كتاب الجهاد وكالمنتهى في البحث عن أحكام الأرضين من جهاده وكالإرشاد في هذا المبحث أيضاً وككافي أبي الصلاح عند البحث عن مغانم المحاربين في كتاب الجهاد وكالمراسم في كتاب الخمس.

كما أنّ الموضوع في بعضها الآخر كالشيخ في كتاب الفيء وقسمة الغنائم ما لا يمكن نقله ممثلاً بالدور والعقارات والأرضين والبساتين وادّعى على أنّه لجميع المسلمين إجماع الفرقة وأخبارهم، وهكذا بلا دعوى الإجماع عبارة إشارة السبق وشرائع المحقّق وقواعد العلاّمة وتذكرته ودروس التمهيد، وكلّ هذه العبارات ـ ما عدا الخلاف ـ في كتاب الجهاد.

وكما أنّ الموضوع في باب الغنائم من مهذّب بن البرّاج وجهاد الغنية وفي باب قسمة الفيء وأحكام الأسارى من السرائر هو ما لم يحوه العسكر وواضح أنّه يشمل الأرض وغيرها.

وبملاحظة موارد بحثهم والعناوين المذكورة في كلماتهم لا يبعد دعوة أن لا خلاف بينهم في أنّ ما لم يحوه العسكر ممّا لا ينقل فهو غنيمة لجميع المسلمين، وقد ادّعى عليه الإجماع الشيخ في كتاب الفيء وقسمة الغنائم.

وأمّا الدليل عليه فقد عرفت أنّ القاعدة الأولية عدم جواز أخذ ملك الغير بغير إذن منه وأدلّة الاغتنام على خلاف هذه القاعدة، وبالتأمّل في الأدلّة الّتي ذكرناها في الأراضي المفتوحة عنوةً تعلم أنّ الموضوع فيها هي الأراضي. نعم الأدلّة الحاكية لاغتنام خيبر كصحيح البزنطي وخبره مشتركاً مع صفوان[25] هي أنّ نخل خيبر أيضاً كانت من جملة الغنائم، فيستفاد شمول الحكم للبساتين والأشجار أيضاً.

وأمّا شمول الحكم لغيرها ممّا لا ينقل كدور السكنى وأمكنة التجارة فله أحد الطريقين.

أحدهما: دعوى إلغاء الخصوصية عن الأراضي والبساتين والأشجار إلى كلّ ما لا ينقل من أموال المحاربين، وليست هذه الدعوى ببعيدة.

والثاني: الاستدلال بما رواه الشيخ في التهذيب بإسناده الصحيح عن الصفّار عن عليّ بن محمّد القاساني عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقريّ عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في در الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك، فقال: إسلامه أسلامٌ لنفسه ولولده الصغار وهم أحرار، وولده ومتاعه ورقيقه له، فأمّا الولد الكبار فهم فيء المسلمين إلاّ أن يكونوا أسلموا قبل ذلك، فأمّا الدور والأرضون فهي فيء ولا تكون له لأنّ الأرض هي أرض جزية لم يجر فيها حكم الإسلام وليس بمنزلة ما ذكرناه لأنّ ذلك يمكن احتيازه وإخراجه إلى دار الإسلام[26].

وسند الحديث إلى الصفّار الثقة عظيم القدر صحيح، والظاهر أنّ علي بن محمّد القاساني هو عليّ بن محمّد بن شيرة الّذي عن النجاشي «أنّه كان فقيهاً مكثراً من الحديث فاضلاً، غمز عليه أحمد بن محمّد بن عيسى وذكر أنّه سمع منه مذاهب منكرة، وليس في كتبه ما يدلّ على ذلك، فقد شهد له بأنّه فقيه فاضل مكثر من الحديث وحكى أنّ غمز أحمد بن محمّد عليه إنّما هو سماع مذاهب منكرة منه ثُمّ زاد كالجواب عنه بأنّه في كتبه ما يدلّ عليه. والظاهر أنّ هذا القدر من الثناء كافٍ في كونه معتبر الحديث، ومجرّد سماع مذاهب وصفها ابن عيسى بأنّها منكرة لاسيّما مع قول النجاشي بأنّه ليس في كتبه ما يدلّ على ذلك لا يوجب قدحاً فيه.

والقاسم بن محمّد هو الاصبهاني أو القمي ولم يرد فيه توثيق صريح ولا تضعيف. نعم قد وقع في طريق من لا يحضره الفقيه إلى الزهري وإلى سليمان بن داود المنقري وإلى حفص بن غياث، وهو ـ استناداً إلى ما ذكره الصدوق في مقدّمة الفقيه من ضمان اعتبار ما يرويه فيه ـ نحو توثيق له، فتأمّل.

نعم سيلمان بن داود المنقري قد وثّقه النجاشي وحفص بن غياث، قال فيه الشيخ ـ على ما عن فهرسته ـ: «أنّه عامّي المذهب له كتاب معتمد» وكفى له بالاعتماد عليه.

فالمتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ اعتبار سند الحديث غير بعيد ولعلّ فتوى الأصحاب في مسألتنا بمضمون ذيله أقوى من شهرة عملية توجب أيضا اعتباره. بل إنّ مضمون الحديث مذكور في كلمات الأصحاب في بحث الأسرى من كتاب الجهاد وقد ذكروا أنّ مدركه هذا الحديث.

وفي الرياض أنّه لا خلاف فيه. وفي الجواهر: بلا خلاف أجده. وفيهما أنّ الحديث منجبر بعمل الأصحاب[27]. فلا ريب في اعتبار سنده.

وأمّا دلالته فموضع الاستدلال به هي فقرته الأخيرة، أعني قوله (عليه السلام) في ذيله: «وليس بمنزلة ما ذكرناه، لأنّ ذلك يمكن احتيازه وإخراجه إلى دار الإسلام» وبيانه: أنّه (عليه السلام) قد حكم في صدر الحديث بأنّه إذا أسلم الكافر من أهل الحرب في دار الحرب ثُمّ ظهر المسلمون على دار الحرب فحكم بأنّ ولده ومتاعه ورقيقه له يعني أنّها لا تصير من غنائم المسلمين، ثُمّ صرّح أخيراً بأنّ الدور والأرضين فيء وأرض الجزية تكون للمسلمين، وعلّل التفريق بينهما في الحكم بقوله: «لأنّ ذلك... إلى آخره». وحاصله: أنّ المتاع والرقيق أموال يمكن احتيازها وإخراجها إلى دار الإسلام والدور والأرضون لا يمكن إخراجها إلى دار الإسلام، فكانت أمتعته ورقيقه ملكاً لنفس هذا الّذي أسلم والدور والأرضون بما أنّها لا يمكن إخراجها إلى دار الإسلام صارت فيئاً للمسلمين وملكاًَ لهم، فيدلّ دلالة كلّية على أنّ كلّ ما لا يمكن احتيازه ونقله إلى بلد الإسلام فهو فيء للمسلمين، وهو المطلوب.

فالدور والأرضون مذكورتان في متن الحديث وأنّهما فيء للمسلمين، وذيله يدلّ على أنّ كلّ ما لا ينقل فهو فيء للمسلمين، وقد جعل موضوع فتوى الأصحاب أيضاً في بحث الأسرى عنوان ما لا ينقل.

المسألة الخامسة: هل يشترط في الأرض المأخوذة عنوةً أن تؤخذ من الكفّار فإذا كان القتال مع البغاة من المسلمين وغلب جيش الإسلام عليهم فلا تؤخذ أراضيهم بل تجعل بأيدي أنفسهم أو ورثتهم؟

ظاهر كلمات الأصحاب الاشتراط، وذلك يستفاد من موضعين من كلماتهم:

أحدهما: من ملاحظة أنّهم قد قسّموا الأراضي أقساماً ثلاثة أو أربعة أو أكثر، فذكروا قسماً منها الأرض الّتي أسلم أهلها عليها وقسماً آخر في مقابله الأرض الّتي أخذت بالسيف عنوةً، وأقساماً أخر، فجعل الأرض الّتي أسلم أهلها عليها مقابلة وقسيماً للأرض المأخوذة عنوةً دليل على عدم إسلام أهل القسم الثاني وإلاّ لانتفت المقابلة والقسيمية.

وعليه، فيستفاد هذا الاشتراط من مقنعة المفيد، ونهاية الشيخ في باب أحكام الأرضين من كتاب الزكاة وفي باب بيع المياه والمراعي وحريم الحقوق وأحكام الأرضين من كتاب بيعه، ومبسوطه في آخر كتاب الزكاة، والكافي لأبي الصلاح الحلبي في كتاب الجهاد منه، والمراسم في كتاب الخمس، والمهذّب في كتاب الخمس أيضاً، وجهاد الغنية، وجهاد المراسم والسرائر في باب أحكام الأرضين من زكاته وزكاة إصباح الشيعة، ومن الشرائع والمختصر النافع، ومن منتهى العلاّمة وقواعده وإرشاده وتذكرته، فإنّ عبارة جميعهم بالكيفية المذكورة، مضافاً إلى أنّ الموضوع في الغنية غنائم، من خالف الإسلام من الكفّار، وموضوع كلام التذكرة في الأرض المفتوحة عنوةً ما يملك بالاستغنام من الكفّار ويؤخذ قهراً بالسيف، كما أنّ موضوع كلام السرائر في باب قسمة الفيء وأحكام الأسارى من كتاب الجهاد كلّ ما غنمه المسلمون من المشركين فالحاصل: أنّ المستفاد من كلمات مَن تقدّم في بابنا هذا اشتراط الكفر في مَن يؤخذ منه الأرض المفتوحة عنوةً هذا هو الموضع الأوّل.

وثانيهما: أنّهم صرّحوا بعدم اغتنام غير ما حواه عسكر البغاة هو شامل لأموالهم غير المنقولة أو بعدم اغتنام أراضيهم وذلك عند التعرض لأحكام القتال لهم.

1ـ فقال السيد المرتضى (قدس سره) في الناصريات ـ شرحاً لقول الناصرـ «يغنم ما احتوت عليه عساكر أهل البغي»: هذا غير صحيح لأنّ أهل البغي لا يجوز غنيمة أموالهم وقسمتها كما تقسّم أموال أهل الحرب، ولا أعلم خلافاً بين الفقهاء في ذلك، ومرجع الناس كلّهم في هذا الموضع إلى ما قضى به أمير المؤمنين (عليه السلام) في محاربي البصرة، فإنّه منع من غنيمة أموالهم، فلمّا روجع عليه في ذلك قال: أيّكم يأخذ عائشة في سهمه؟![28].

فقد أفتى بعدم جواز اغتنامهم مطلقاً حتّى ما في عسكرهم، واستدل بفعل الأمير (عليه السلام) والأموال شامل لأراضيهم المملوكة بالضرورة، وقد ادّعى على عدم الجواز أنّه لا يعلم حلافاً بين الفقهاء وظاهره جميع فقهاء الإسلام لا خصوص أصحابنا الأعلام.

2ـ وقال الشيخ في باب قتال أهل البغي والمحاربين من النهاية: كلّ مَن خرج على إمام عادلٍ ونكث بيعته وخالفه في أحكامه فهو باغٍ وجاز للإمام قتاله ومجاهدته... ويجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حوى العسكر ويقسم على المقاتلة حسب ما قدّمناه وليس له ما لم يحوه العسكر ولا له إليه سبيل على حال[29].

3ـ وقال في كتاب الباغي من الخلاف: ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه والانتفاع به ويكون غنيمة يقسم في المقاتلة، وما لم يحوه العسكر لا يتعرّض له ـ ثُمّ نقل عن الشافعي وأبي حنيفة ردّ ما حواه العسكر على البغاة، ثُمّ قال: ـ دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم...[30].

4ـ وقال في كتاب قتال أهل البغي من المبسوط: إذا انقضت الحرب بين أهل العدل والبغي إمّا بالهزيمة أو بأن عادوا إلى طاعة الإمام... وروى أنّ علياً (عليه السلام) لمّا هزم الناس يوم الجمل قالوا له: يا أمير المؤمنين ألا تأخذ أموالهم؟ قال (عليه السلام): لا، لأنّهم تحرّموا بحرمة الإسلام فلا يحلّ أموالهم في دار الهجرة... وقد روى أصحابنا أنّ ما يحويه العسكر من الأموال فإنّه يغنم، وهذا يكون إذا لم يرجعوا إلى طاعة الإمام، فأمّا إن رجعوا إلى طاعة الإمام فهو أحقّ بأموالهم[31].

فهو (قدس سرّه) في كتبه الثلاثة قد جزم بعد جواز اغتنام ما لم يحوه العسكر من أموالهم، وهو يقتضي كما عرفت أن لا تؤخذ أراضيهم الّتي لا محالة ليست ممّا حواه العسكر، فإنّ المراد بما حواه هو الأموال المنقولة الّتي صرّح بتقسيمها بين المقاتلة في النهاية والخلاف، وتردّده المترائي من المبسوط في جواز اغتنام ما حواه العسكر وعدم جوازه لا يضرّ بما نحن بصدده كما هو واضح.

5ـ وقال القاضي ابن البرّاج في باب مَن يجب جهاده من كتاب الجهاد من المهذّب مَن يجب جهاده على ثلاثة أضرب:... ثالثها [وهم البغاة ممّن انتمى إلى الإسلام] على ضربين: أحدهما له فئة يرجع إليها، والآخر لا فئة له. والذي له فئة يرجع إليها... يغنم أموالهم الّتي يحويها العسكر فقط ولا يجوز سبي ذراريهم ولا أخذ شيءٍ من أموالهم الّتي لا يحويها العسكر. والذي لا فئة له... يغنم أموالهم الّتي في العسكر دون غيرها[32].

ودلالته على المطلوب واضحة غير محتاجة إلى البيان.

6ـ وقال ابن حمزة في كتاب الجهاد من الوسيلة ـ بعد تفسير الباغي بأنّه كلّ مَن خرج على إمام عادل ـ في بيان أحكام البغاة: وما حواه العسكر من المال فهو غنيمة، وما لم يحوه فلأهله[33].

ودلالته واضحة كما عرفت.

7ـ وقال أبو الحسن علاء الدين الحلبي في كتاب الجهاد من إشارة السبق: ولا يغنم من محاربي البغاة إلاّ ما حواه الجيش من مالٍ أو متاعٍ وغيرهما فيما يخصّ دار الحرب لا على جهة الغصب[34].

ودلالته كسابقه، والظاهر أنّ المراد بما يخصّ دار الحرب لا على جهة الغصب أنّ المغتنم خصوص أموال أنفسهم الّتي أتوا بها دار الحرب، وأمّا ما غصبوه فهو لا محالة يردّ إلى مالكه ولا يغنم.

8ـ وقال السيد أبو المكارم ابن زهرة في كتاب الجهاد من الغنية: ويغنم من جميع مَن خالف الإسلام من الكفّار ما حواه العسكر وما لم يحوه من الأموال والأمتعة والذراري والأرضين، ولا يغنم ممّن أظهر الإسلام من البغاة والمحاربين إلاّ ما حواه العسكر من الأموال والأمتعة الّتي تخصّهم فقط من غير جهة غصب دون ما عداها[35].

ودلالته على المطلوب صريحة، بقرينة ذكر الأرضين في أموال مَن يقابلهم من محاربي الكفّار.

9ـ وقال الكيدري في كتاب الجهاد من إصباح الشيعة: ولا يغنم ممّن أظهر الإسلام من البغاة والمحاربين إلاّ ما حواه العسكر من الأموال والأمتعة الّتي تخصّهم فقط من غير غصب دون من عداها[36].

ودلالته أيضاً واضحة غنية عن البيان.

10ـ وقال ابن إدريس في باب قتال أهل البغي والمحاربين من جهاد السرائر ـ بعد نقل قول الشيخ ونقل قول السيّد المرتضى في الناصريّات بأنه لا يجوز غنيمة أموالهم ـ: قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب الصحيح ما ذهب إليه السيد المرتضى (رضي الله عنه) وهو الّذي اختاره وأُفتي به؛ والذي يدلّ على صحّة ذلك ما استدلّ به (رضي الله عنه)، وأيضاً فإجماع المسلمين على ذلك، وإجماع أصحابنا منعقد على ذلك، وقد حكينا في صدر المسألة قول شيخنا أبي جعفر الطوسي (رحمه الله) في كتبه، ولا دليل على خلاف ما اخترناه[37].

ودلالته واضحة جدّاً كما مرّ ذيل نقل كلام السيّد، وزاد هو عليه دعوى انعقاد إجماعنا على عدم الاغتنام.

11ـ وقال المحقّق في كتاب الجهاد من الشرائع ـ في مسائل الركن الرابع الّذي هو في قتال أهل البغي ـ: الثانية لا يجوز تملّك شيء من أموالهم الّتي لم يحوها العسكر، سواء كانت ممّا ينقل كالثياب والآلات أو لا ينقل كالعقارات لتحقّق الإسلام المقتضي لحقن الدم والمال، وهل يؤخذ ما حواه العسكر ممّا ينقل ويحوّل؟ قيل: لا، لما ذكرناه من العلّة، وقيل: نعم، عملاً بسيرة عليّ (عليه السلام)، وهو الأظهر.

12ـ وقال في كتاب الجهاد من المختصر النافع: النظر الثاني فيمن يجب جهادهم، وهم ثلاثة: الأوّل البغاة... ولا تؤخذ أموالهم الّتي ليست في العسكر، وهل يؤخذ ما حواه العسكر ممّا ينقل؟ فيه قولان: أظهرهما الجواز، وتقسّم كما تقسّم أموال الحرب.

ودلالة كلامية على المطلوب واضحة.

13ـ وقد تعرّض العلاّمة (قدس سرّه) لهذه المسألة في كثير من كتبه:

ألف: فقال في كتاب الجهاد من القواعد ـ في ذكر المطلب الخامس في أحكام البغاة ـ: كلّ مَن خرج على إمام عادل فهو باغٍ... ولا تملك أموالهم الغائبة وإن كانت ممّا تنقل وتحوّل، وفي قسمة ما حواه العسكر بين الغانمين قولان أقربهما المنع[38].

ب: وقال في كتاب الجهاد من الإرشاد ـ في ذكر المطب الثاني في أحكام أهل البغي ـ: كلّ مَن خرج على إمام عادلٍ وجب قتاله على مَن يستنهضه الإمام أو نائبه على الكفاية ويتعيّن بتعيين الإمام... ولا يملك أموالهم الغائبة، وفيما حواه العسكر ممّا ينقل ويحوّل قولان[39].

ج: وقال في جهاد التذكرة ـ في فصل قتال أهل البغي ـ: أموال أهل البغي الّتي لم يحوها العسكر لا تخرج من ملكهم ولا تجوز قسمته بحال، أمّا ما حواه العسكر من السلاح والكراع والدوابّ والأثاث وغير ذلك فللشيخ قولان...[40].

د: وقال في جهاد المنتهى ـ في المقصد الثامن الّذي هو في قتال أهل البغي ـ: قد وقع الإجماع على أنّ مال أهل البغي الّذي لم يحوه العسكر لا يخرج عن ملكهم ولا يجوز قسمته بحال، واختلف علماؤنا في أموالهم الّتي حواها العسكر من سلاح وكراع وخيل وأثاث وغير ذلك من الأموال...[41].

وعباراته في كتبه الأربعة دالّة على المطلوب، فإنّ الأموال الّتي لم يحوها العسكر أو أموالهم الغائبة تعمّ ما لا ينقل أيضاً، بل إنّ قوله في القواعد: «وإن كانت ممّا تنقل وتحوّل» يجعله صريح الشمول لما لا ينقل، كما أنّ قوله في الإرشاد: «وفيما حواه العسكر ممّا ينقل ويحوّل قولان» مفهومه أنّ الأرض الّتي يقع الحرب فيها إن كانت ملك البغاة فلا تؤخذ منهم. والحاصل: أنّ دلالة عباراته على المطلوب واضحة.

14: وقال الشهيد في الدروس ـ في قتال البغاة ـ: ولا تقسّم أموالهم الّتي لم يحوها العسكر إجماعاً... وما حواه العسكر ـ إذا رجعوا إلى طاعة الإمام ـ حرام أيضاً...[42].

فهو (قدس سرّه) وإن صرّح بعد تقسيم أموالهم ولعلّه يجتمع مع كون ما لا ينقل منها ملكاً لجميع المسلمين كسائر الأراضي المفتوحة عنوةً إلاّ أنّ قوله في تلوه: «وما حواه العسكر... حرام أيضاً» دليل على أنّ مراده بعدم قسمة أموالهم الغائبة أنّ هذه الأموال حرام كحرمة ما حواه العسكر وإلاّ لم يكن للإتيان بلفظة «أيضاً» مجال، وعليه فدلالة عبارته أيضاً على المطلوب تامّة.

فتحصّل من ملاحظة كلماتهم: أنّه لم يفت أحد منهم بجواز أخذ أراضي البغاة بل ادّعى الشيخ في الخلاف على انعقاد إجماع الفرقة على أنّه لا يتعرّض لأموالهم الّتي لم يحوها العسكر، وادّعى العلاّمة في المنتهى الإجماع على أنّه لا يخرج عن ملكهم ولا يجوز قسمته بحال، وقريب منهما عبارة الدروس.

ولعلّه لمثل هذا قال في الرياض: ولا يؤخذ أموالهم ـ أي البغاة ـ مطلقاً كانت لهم فئة أم لا، بل خلاف في الأموال الّتي ليست في العسكر، بل عليه الإجماع في التحرير والمنتهى والمسالك والروضة وغيرهما، وهو الحجة[43].

وأيضاً قال في الجواهر ـ ذيل قول المحقّق في المسألة الثانية والذي تقدم تحت رقم 11 بعدم الجواز ـ: بلا خلاف أجده في شيء من ذلك، بل في المسالك: هو موضع وفاق بل في صريح المنتهى والدروس ومحكي الغنية والتحرير الإجماع عليه، بل يمكن دعوى القطع به[44].

هو وضع الأقوال في المسألة، وبعد ذلك فاللازم مراجعة الأدلّة فنقول:

قد يستدلّ لعدم جواز أخذ أراضيهم بالإجماع كما هو ظاهر الشيخ في الخلاف وظاهر الرياض بل والجواهر، إلاّ أنّه محلّ نقاش لأنّه محتمل المدرك جدّاً، كما عطف عليه في الخلاف: «أخبارهم» وذكر الرياض والجواهر أخبار يستدلّ بها، وبعد احتمال استناد الأقوال إلى الروايات لا يمكن كشف الحكم الواقعي به.

وأمّا الأخبار فالكلام عن مدلولها ينبغي أن يكون بعد التنبّه لنكتة أنّ القاعدة الأولية تقتضي بقاء ملك الأشخاص ولاسيّما المسلمين على ملكهم وأن لا يجوز تملّكها ولا التصرّف فيها إلاّ بطيبة أنفسهم، فإنّ مدلول قولهم (عليهم السلام): «لا يحل مال امرئٍ مسلم إلاّ بطيبة نفسه» وإن كان موضوعه المسلم إلاّ أنّه قاعدة عقلائية في مال كلّ مالك، فإذا اقتضت القاعدة بحكم الاستصحاب بقاء أموالهم على ملكهم فيترتب عليه أنّ التصرّف فيها من دون طيب أنفس مالكها غير جائز سيّما إذا كان مالكها مسلماً كما هو المفروض في البغاة، فمقتضى القاعدة الأولية أن لا يجوز اغتنام أموالهم منقولة أو غير منقولة.

وبعد ذكر هذه النكتة نقول: إنّ النظر في الأخبار تارةً يكون إلى الروايات الواردة في الأراضي المفتوحة عنوةً من حيث إنّه هل لها عموم يشمل أراضي البغاة؟ وأخرى إلى الأخبار الواردة في خصوص أموال البغاة.

أمّا الروايات الواردة على مثل عنوان الأراضي المفتوحة عنوةً فليس لها إطلاق بيّن حكم أراضي البغاة، وذلك أنّ موضوع عدّة منها أرض السواد أو أرض أهل العراق كما في صحيح محمّد الحلبي وخبر أبي الربيع وصحيح محمّد ابن مسلم الماضيات[45]، وواضح أنّها أرض العراق الّتي أخذت من الكفّار، كما أنّ موضوع صحيحة يعقوب بن شعيب الماضية[46] في أرض خيبر وهي مأخوذة من اليهود، وكما أن الموضوع في مرسل حمّاد بن عيسى الأرضون الّتي أخذت عنوةً فقد فرض أخذها عنوةً ولا يدلّ على أنّ أيّ الأرضين كذلك، فلا إطلاق ولا عموم نافع له، وكما أنّ الموضوع في عدّة من الأخبار كمصحح أبي بردة بن رجا وخبر محمّد بن شريح الماضيين[47] أرض الخراج وهو إنّما يدلّ على أنّها أرض يؤخذ منها الخراج من غير دلالة على أنّها أيّ الأرضين.

بل إنّ ظاهر صحيح البزنطي وخبر البزنطي وصفوان بن يحيى الماضيين[48] اختصاص أرض الخراج بما تؤخذ من الكفّار، وذلك أنّ موضوع الكلام فيهما الخراج وما سار به أهل بيته (عليهم السلام) ففصّله (عليه السلام) بين أرض مَن أسلم طوعاً وأرض أخذت بالسيف وقال: إنّ الأولى تترك في يد مالكه والثانية تؤخذ وأمرها إلى الإمام كما أخذت أرض خيبر وكان أمرها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فالمستفاد من التقسيم أنّ مورد الخراج وموضوعه أرض مَن كان كافراً ولم يسلم طوعاًَ بل أخذت أرضه بالسيف، فلا يبعد استظهار أنّ موضوع الخراج هو خصوص أراضي الكفّار كأرض خيبر.

فهذه الروايات لا عموم فيها يقتضي جواز أخذ أراضي البغاة بل أنّ فيها ما يدلّ على أرض الخراج هي خصوص ما يؤخذ بالسيف من الكفّار.

وأمّا الأخبار الخاصّة فهي على طوائف عديدة:

1ـ فطائفة منها تدلّ على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) في حرب الجمل قد آمن من ألقى سلاحه أو أغلق بابه من البغاة. ففي معتبر أبي حمزة الثمالي: قلت لعليّ بن الحسين (عليهما السلام): إنّ علياً (عليه السلام) سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل الشرك، قال: فغضب ثُمّ جلس ثُمّ قال: سار والله فيهم بسيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الفتح، إنّ علياً (عليه السلام) كتب إلى مالك وهو على مقدّمته في يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل ولا يقتل مدبراً ولا يجيز على جريح، ومَن أغلق بابه فهو آمن، فأخذ الكتاب فوضعه بين يديه على القربوس من قبل أن يقرأه ثُمّ قال: اقتلوهم، فقتلهم حتّى أدخلهم سكك البصرة، ثُمّ فتح الكتاب فقرأه، ثُمّ أمر منادياً فنادى بما في الكتاب[49].

فهو (عليه السلام) قد نقل ما فعله الأمير (عليه السلام) بهؤلاء البغاة بعد أن غلب عليهم وأنّه (عليه السلام) كتب فيهم: «مَن أغلق بابه فهو آمن» فحكم بأنّه على أمن. ولا يبعد دعوى أنّ إطلاق الأمن أن لا يتعرّض لنفسه ولا لأهله وذراريه ولا لمثل داره وأرضه وأمواله، فهذه الرواية المعتبرة تدلّ على عدم أخذ أرض البغاة إذا كفّوا عن الحرب.

وفي خبر حفص بن غياث عن أبي عبد الله عن أبيه الباقر (عليهما السلام) في حديث طويل يذكر فيه الأسياف الخمسة الّتي بعث الله بها محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ عند ذكر السيف المكفوف الّذي على أهل البغي ـ قال (عليه السلام): وكانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين (عليه السلام) ما كان من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل مكّة يوم فتح مكّة، فإنّه لم يسب لهم ذريّة وقال: مَن أغلق بابه فهو آمن، ومَن أغلق بابه ومَن ألقى سلاحه (أو دخل دار أبي سفيان ـ الخصال) فهو آمن، وكذلك قال أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم البصرة نادى: لا تسبّوا لهم ذريّة ولا تجهزوا [ولا تتمّوا ـ خ ل] على جريح ولا تتبعوا مدبراً، ومَن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن... الحديث[50].

ومضمون هذا الخبر أيضاً مضمون معتبر أبي حمزة الماضي، ويؤيّد دلالة إطلاقهما على أنّه لا يغنم أراضيهم أنّه (عليه السلام) صرّح بأنّ سيرته يوم الجمل هي نفس سيرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل مكّة يوم فتحها، وذلك أنّ من المعلوم أنّ أهل مكة لم يؤخذ منهم أرضهم ولا أموالهم، فلا محالة يقتضي وحدة السيرتين أن لا يؤخذ من بغاة حرب الجمل أيضاً شيء.

وحكمه (عليه السلام) بأنّ مَن ألقى سلاحه أو أغلق بابه في حرب الجمل مذكور في روايات عديدة:

ففي خبر شريك قال: لمّا هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تتبعوا مولّياً ولا تجيزوا على جريح، ومَن أغلق بابه فهو آمن[51].

وفي مرسل تحف العقول عن أبي الحسن الثالث (عليه السلام) ـ في توضيح ما أورده يحيى بن أكثم من أنّ علياً (عليه السلام) يوم الجمل لم يتبع مولّياً ولم يجز على جريح، ومَن ألقى سلاحه آمنه، ومن دخل داره آمنه. ـ قال: «فإن أهل الجمل قتل إمامهم ولم تكن لهم فئة يرجعون إليها، وإنّما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين ولا مخالفين ولا منابذين، رضوا بالكف وعنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم والكفّ عن أذاهم إذ لم يطلبوا عليه أعواناً[52]. فالكفّ عن الأذى أيضاً بإطلاقه يقتضي عدم اغتنام أموالهم وإلاّ فأخذ مالهم مصداق لا يراد الأذى عليهم، فإطلاقه كإطلاق الأمن يقتضي عدم اغتنام المال.

وفي خبر الدعائم: روينا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه سار في أهل الجمل ـ لمّا قتل طلحة والزبير وقُبض على عائشة وانهزم أصحاب الجمل ـ نادى مناديه: لا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مدبراً، ومَن ألقى سلاحه فهو آمن[53].

وفي خبر محمّد بن بشير الهمداني المروي في كتاب الكافئة في إبطال توبة الخاطئة الّذي ألّفه الشيخ المفيد أنّ في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى أهل الكوفة: أمّا بعد، فإنّا لقينا القوم الناكثين... فلمّا هزمهم الله أمرت أن لا يتبع مدبر... ولا يدخل دار إلاّ بإذن وآمنت الناس[54]. فتوصيفه القوم المحاربين بالناكثين دليلٌ على أنّ المراد بهم أهل الجمل الّذين بايعوه ثُمّ نكثوا البيعة فآمنهم والنهي عن دخول دارهم إلاّ بإذن شاهدٍ على عدم التعرّض لأموالهم الّتي لم يحوها العسكر.

وفي حديث حبّة العرني المروي عن أمالي المفيد: فلمّا كان يوم الجمل... فولّى الناس منهزمين، فنادى منادي أمير المؤمنين (عليه السلام): لا تجيزوا على جريح ولا تتبعوا مدبراً، ومَن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن[55].

وفي خبر محمّد بن الفضيل بن عطا ـ المروي أيضاً عن أمالي المفيد ـ عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن محمّد ابن الحنفية قال: كان اللواء معي يوم الجمل... ثُمّ أمر مناديه فنادى: لا يدفف على جريح ولا يتبع مدبر، ومَن أغلق بابه فهو آمن[56].

وفي خبر أبي بصير ـ المروي عن غَيبة النعماني ـ قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لمّا التقى أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل البصرة نشر الراية ـ راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ـ  فتزلزلت أقدامهم، فما اصفرّت الشمس حتّى قالوا: آمنّا يا ابن أبي طالب، فعند ذلك قال: «لا تقتلوا الأسراء ولا تجهزوا على جريح ولا تتبعوا مولّياً ومن ألقى سلاحه فهو آمن ومَن أغلق بابه فهو آمن»[57].

وفي خبر الأصبغ بن نباتة ـ المروي عن تفسير فرات بن إبراهيم الكوفي ـ... إنّا بمّا هزمنا القوم (أهل البصرة) نادى مناديه (منادي أمير المؤمنين (عليه السلام)): لا يدفف على جريح ولا يتبع مدبر، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، سنّة يستنّ بها بعد يومكم هذا...[58].

فهذه الأخبار العديدة تحكي أنّه (عليه السلام) لمّا غلبه الله على أهل الجمل آمن مَن ألقى سلاحه أو دخل وأغلق بابه، وقد عرفت أنّ إطلاق الأمن يقتضي أن لا يتعرّض لأخذ أموالهم الّتي لم تكن معهم في العسكر، فيدلّ على أنّ دورهم وأراضيهم بل وسائر أموالهم لا تغنم منهم. هذه هي الطائفة الأولى من الأخبار.

2ـ وهنا طائفة أخرى تدلّ على أنّه (عليه السلام) في حرب الجمل بعد غلبته ردّ إلى البغاة أموالهم، ففي معتبر مسعدة بن زياد ـ المروية عن علل الشرائع ـ عن جعفر بن محمّد عن أبيه (عليهما السلام) قال: قال مروان بن الحكم: لمّا هزمنا عليّ (عليه السلام) بالبصرة ردّ على الناس أموالهم؛ مَن أقام بيّنة أعطاه ومَن لم يقم بيّنة حلّفه. قال: فقال له قائل: يا أمير المؤمنين أقسم الفيء بيننا والسبي. قال: فلمّا أكثروا عليه قال: أيّكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه؟! فكفّوا[59]. وقد رواه صاحب الوسائل عن التهذيب وقرب الإسناد بسند غير معتبر أيضاً.

فسند الحديث إلى الإمام (عليه السلام) معتبر، ومروان بن الحكم وإن كان غير ثقة إلاّ أنّ ظاهر نقل الإمام عنه أنّه بصدد الاعتماد عليه فيكون معتبراً، وما ذكره من فعله (عليه السلام) كالصريح في أنّه لم يأخذ أموالهم الّتي لم يحوها العسكر بل لعلّ ظاهره أنّه ردّ عليهم ما أخذوه وهو شامل لما حواه العسكر، إلاّ أنّه ليس كلامنا الآن فيه.

3ـ وهنا طائفة تدلّ على أنّه لم يتعرّض يوم الجمل لغير ما حواه العسكر: ففي حديث رواه صاحب الدعائم في كتاب شرح الأخبار عن موسى بن طلحة بن عبيد الله الّذي كان مَن أسر يوم الجمل قال: وكان عليّ (عليه السلام) قد أغنم أصحابه ما أجلب به أهل البصرة إلى قتاله، ولم يعرض لشيء غير ذلك، وخمّس ما أغنمه ممّا أجلبوا به عليه، وجرت بذلك السنّة[60].

فقوله: «ولم يعرض لشيء غير ذلك» دالّ على عدم اغتنام غير ما حواه العسكر، ولعلّ قول «وجرت بذلك السنّة» من مؤلف الكتاب، فدلالته على المطلوب تامّة وإن كان الناقل غير ثقة.

وفي حديث رواه صاحب دعائم الإسلام بقوله: ـ روينا عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه لما هزم أهل الجمل جمع كلّ ما أصابه في عسكرهم ممّا أجلبوا به عليه فخمّسه وقسّم أربعة أخماسه على أصحابه ومضى، فلمّا صار إلى البصرة قال أصحابه: يا أمير المؤمنين اقسم بيننا ذراريهم وأموالهم قال: ليس لكم ذلك... وما أجلبوا به واستعانوا به على حربكم وضمّه عسكرهم وحواه فهو لكم، وما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض الله لذراريهم... الحديث[61].

وظاهره كما ترى أنّه إنّما يغنم ويؤخذ خصوص ما في عسكرهم وأمّا غيره فلا يتعرّض ولم يتعرّض له، فهو أيضاً دالّ على المطلوب.

فهذه الطوائف الثلاث من الروايات ـ وفيها أخبار معتبرة مضافاً إلى استفاضتها الموجبة للاطمئنان بصدق مضمونها المشترك فيه ـ تدلّ على أنّه (عليه السلام) لم يأخذ الأموال الّتي لم يحوها عسكر بغاة حرب الجمل ويدخل في هذه الأموال الأراضي والدور ومثل دكّتهم ومحل كسبهم وتجارتهم، فتدلّ على ما هو المطلوب من استثناء البغاة وعدم اشتراكهم مع الكفّار.

ولعلّ إلى مثل هذه الروايات يشير إلى ما مرّ من كلام السيد المرتضى في الناصريّات من قوله: «مرجع الناس كلّهم في هذا الموضع إلى ما قضى به أمير المؤمنين (عليه السلام) في محاربي البصرة، فإنّه منع من غنيمة أموالهم، فلمّا روجع عليه في ذلك قال: أيّكم يأخذ عائشة في سهمه».

بل إليها تشير وتؤيّدها أيضاً صحيحة حريز عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لو لا أنّ عليّاً (عليه السلام) سار في أهل حربه بالكفّ عن السبي والغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاءاً عظيماً. ثُمّ قال: والله لسيرته كانت خيراً لكم ممّا طلعت عليه الشمس[62].

فإنّ الظاهر أنّها إشارة إلى مثل حرب الجمل بل لعلّها مختصّة به فإنّها حرب وقعت بينه وبين البغاة وغلبه الله تعالى عليهم وبقي منهم جمعٌ يكون مظنةً ومورداً لسبيهم وأموال يمكن اغتنامها فكفّ (عليه السلام) عن السبي والاغتنام وصارت سيرته مرجعاً لأهل الجور من الخلفاء والطغاة، فكانت سيرته خيراً لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس.

وبالجملة: فكلّ حروب الأمير (عليه السلام) كانت مع البغاة إلاّ أنّ في حرب صفين لم يحصل مورد للسبي والاغتنام وفي حرب نهروان لم يبق منهم أحد ولا مال، فحرب الجمل هو المصداق المنحصر لهذه الصحيحة أو المتيقّن منها، ففيها أيضاً دلالة على المراد وتأييد لتلك الأخبار الماضية.

وهنا رواية أخرى رويت عن كتاب الكافئة للشيخ المفيد عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لعبد الله بن وهب الراسبي ـ لمّا قال في شأن أصحاب الجمل: إنّهم الباغون الظالمون الكافرون المشركون ـ قال (عليه السلام): أبطلت يا ابن السوداء، ليس القوم كما تقول، لو كانوا مشركين سبينا أو غنمنا أموالهم وما ناكحناهم ولا وارثناهم[63].

دلّت بمفهوم «لو» الشرطية أنّه (عليه السلام) لم يغنم أموال أهل البصرة لأنّهم لم يكونوا مشركين، فهي أيضاً متحدة المضمون لما سبقها من أخبار الباب. نعم الرواية بنفسها ضعيفة السند بعدم علمنا بسند المفيد إلى عمرو بن شمر وبضعف عمرو.

فهذه الأخبار الكثيرة دلّت على أنّ الأمير (عليه السلام) لم يغتنم ما عدا ما حواه العسكر من أموال البغاة في حرب الجمل.

إلاّ أنّ هنا طائفتين أخريين من الروايات:

إحداهما: ما ربما يدل على أنّ ما وقع من أمير المؤمنين (عليه السلام) كان منّاً منه (عليه السلام) على أهل البصرة، وإلاّ كان اغتنام أموالهم له (عليه السلام) جائزاً، ولذلك تُحمل جميع الروايات الماضية على أنّها متعرّضة لأمرٍ يجوز اختياره لوليّ الأمر إذا كان هنا مقتضٍ للمنّ، ومع عدمه فالحكم هو الاغتنام.

1ـ فمن هذه الروايات صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) الماضية الذكر آنفاً، فإنّ قوله (عليه السلام) في فقرتها الأخيرة: «والله لسيرته كانت خيراًَ لكم ممّا طلعت عليه الشمس» لاسيّما إذا جعل جنب الروايات الآتية الأخر يستفاد منه أنّ الاغتنام كان جائزاً له لكنّه لم يغتنم لما كان يعلمه من أحوال شيعته فيما يأتي:

2ـ ومنها موثّقة أبي حمزة الثمالي [بناءاًَ على أنّ الحكم الواقع في السند هو الحكم بن الأيمن الخيّاط، كما في بعض نسخ التهذيب وكما في جامع الرواة، والحكم الخيّاط ثقة بقرينة رواية ابن أبي عمير بلا واسطة عنه] قال: قلت لعليّ بن الحسين (عليهما السلام): بما سار علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟ فقال: إنّ أبا اليقظان كان رجلاً حادّاً (رحمه الله) فقال: يا أمير المؤمنين بما تسير في هؤلاء غداً؟ فقال (عليه السلام): بالمنّ، كما سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل مكة[64].

فالحديث وارد في حرب الجمل كما يشهد لفظ «سار» الواقع في سؤال أبي حمزة فإنّ الظاهر أنّ سيرة المسؤول عنها هي سيرته في حرب الجمل الّتي كانت مبدأ لعمل الطغاة بعده، مضافاً إلى أنّ أبا اليقظان وهو عمار بن ياسر (رحمه الله) صار شهيداً في حرب صفّين ولم يقع من الأمير (عليه السلام) في غد اليوم من صفّين منّ على بغاته فلا محالة هو حرب الجمل، وقد عبّر عن فعله (عليه السلام) بهم بالمنّ، والمنّ دليل على أنّه كان يجوز لع تركه كما عرفت، فيدلّ على جواز الاغتنام إذا لم يكن هنا موجب المنّ.

3ـ ومثلها ما عن دعائم الإسلام عن عليّ (عليه السلام) أنّه سأله عمّار حين دخل البصرة فقال: يا أمير المؤمنين بأيّ شيءٍ تسير في هؤلاء؟ قال (عليه السلام): بالمنّ والعفو كما سار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل مكة[65].

ولعلّ هذا الخبر هو نفس رواية أبي حمزة ودلالته واضحة كما مرّ.

4ـ ومنها رواية أبي بكر الحضرمي قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لسيرة عليّ (عليه السلام) في أهل البصرة كانت خيراًَ لشيعته ممّا طلعت عليه الشمس، إنّه علم أن للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته، قلت: فأخبرني عن القائم (عليه السلام) يسير بسيرته؟ قال (عليه السلام): لا: إن علياً (عليه السلام) سار فيهم بالمنّ لما علم من دولتهم، وإنّ القائم (عليه السلام) يسير بخلاف ذلك السير لأنه لا دولة لهم[66].

والمذكور منه (عليه السلام) في صدر الرواية وإن كان تعليل خيرية السيرة بعدم ابتلاء شيعته بالسبي فلعلّه يحتمل انحصار نظره إلى خصوص ترك السبي إلاّ تبديله في الذيل بقوله: «سار فيهم بالمنّ» شاهد على أنّ النظر إلى مطلق ما فعل بهم، فيشمل ترك اغتنام أموالهم أيضاً ويكون دالاً على المطلوب.

5ـ ومثلها رواية الحسن بن هارون بيّاع الأنماط قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) جالساً فسأله معلّى بن خنيس أيسير الإمام [القائم ـ خ ل] بخلاف سيرة عليّ (عليه السلام)؟ قال (عليه السلام): نعم، وذلك أنّ علياً (عليه السلام) سار بالمنّ والكفّ لأنّه علم أنّ شيعته سيظهر عليهم، وإنّ القائم (عليه السلام) إذا قام سار فيهم بالسيف والسبي، لأنّه يعلم أنّ شيعته لن يظهر عليهم من بعده أبداً[67].

ودلالتها على المطلوب واضحة كما مرّ بيانها آنفاً.

6ـ ومثلهما ـ بل لعلّها نفس ما رواه الحسن بن هارون ـ رواية الوليد بن صبيح المنقولة عن كتاب درست بن أبي منصور قال: سأل المعلّى بن خنيس أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: جعلت فداك حدثني عن القائم (عليه السلام) إذا قام يسير بخلاف سيرة عليّ (عليه السلام)؟ قال: فقال له: نعم. قال: فأعظم ذلك معلّى وقال: جعلت فداك ممّ ذلك؟ قال: فقال (عليه السلام): لأنّ علياً (عليه السلام) سار بالناس سيرةً وهو يعلم أنّ عدوّه سيظهر على وليّه من بعده، وأنّ القائم (عليه السلام) إذا قام ليس إلاّ السيف، فعودوا مرضاهم واشهدوا جنائزهم وافعلوا، ولا فعلوا فإنّه إذا كان ذلك لم تحلّ مناكحتهم ولا موارثتهم[68].

فهذه الرواية أيضاً كما مرّ البيان فيما سبق دالة على أنّ فعله (عليه السلام) بالبصرة كان ناشئاً عن المنّ فتدلّ على جواز الاغتنام إذا لم يكن موجب للمنّ كما في زمن القائم (عليه السلام).

7ـ ومنها رواية عبد الله بن سليمان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ الناس يروون أنّ علياً (عليه السلام) قتل أهل البصرة وترك أموالهم، فقال: إنّ دار الشرك يحلّ ما فيها وانّ دار الإسلام لا يحلّ ما فيها، فقال (عليه السلام): إنّ علياً (عليه السلام) إنّما منّ عليهم كما منّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على أهل مكّة، وإنّما ترك عليّ (عليه السلام) لأنّه كان يعلم أنّه سيكون له شيعة وأنّ دولة الباطل ستظهر عليهم، فأراد أن يقتدى به في شيعته، وقد رأيتم آثار ذلك هو ذا يسار في الناس بسيرة علي (عليه السلام)، ولو قتل عليّ (عليه السلام) أهل البصرة جميعاً واتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالاً، لكنّه منّ عليهم ليمنّ على شيعته من بعده[69].

ودلالتها على المطلوب واضحة، وهي قرينة أيضاً على صحّة ما استفدناه من الروايات السابقة.

8ـ ومنها ما عن دعائم الإسلام عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: سار عليّ (عليه السلام) بالمنّ والعفو في عدوّه من أجل شيعته، كان يعلم أنّه سيظهر عليهم عدوّهم من بعده فأحبّ أن يقتدى به مَن جاء من بعده به فيسير في شيعته بسيرته ولا يجاوز فعله فيرى الناس أنّه تعدّى وظلم[70].

ومدلوله سيّما بملاحظة أشباهه واضحة، وفيه دلالة على المطلوب كما بيّنّاه.

9ـ ومنها ما رواه الكليني في روضة الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قلت: ﴿وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ـ إلى قوله:ـ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ﴾ فقال (عليه السلام): الفئتان إنّما جاء تأويل هذه الآية يوم البصرة وهم أهل هذه الآية وهم الّذين بغوا على أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان الواجب عليه قتالهم وقتلهم حتّى يفيئوا إلى أمر الله، ولو لم يفيئوا لكان الواجب عليه فيما أنزل الله أن لا يرفع السيف عنهم حتّى يفيئوا ويرجعوا عن رأيهم؛ لأنّهم بايعوا طائعين غير كارهين، وهي الفئة الباغية كما قال الله تعالى، فكان الواجب على أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يعدل فيهم حيث كان ظفر بهم كما عدل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أهل مكّة، إنّما منّ عليهم وعفا، وكذلك صنع أمير المؤمنين (عليه السلام) بأهل البصرة حيث ظفر بهم مثل ما صنع النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأهل مكّة حذو النعل بالنعل[71].

فقد جعل فعل الأمير (عليه السلام) بأهل البصرة منّاً عليهم وعفواً عنهم فيدلّ على أنّه كان له أن لا يمنّ فيأخذ أموالهم ويسبيهم لكنّه ترك ومنّ عليه لمّا ذكر في الأخبار الأخر الماضية من السرّ.

فبالجملة: أنّ هذه الطائفة المستفيضة من الأخبار الّتي بعضها بنفسه أيضاً معتبر السند تدلّ على جواز اغتنام أموال البغاة إذا ظفر بهم، وإنّما تركه عليّ (عليه السلام) لموجب المنّ فإذا علم موجبه أخذ أموالهم أيضاً بالاغتنام.

وهذه الأخبار كشرح وبيان للطوائف الماضية الدالّة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يغتنم من أموالهم غير ما حواه العسكر، فيجمع بين جميع الأخبار بما ذكرناه ولا معارضة في النهاية بينها أصلاً.

والظاهر أنّه لا بأس بالأخذ بهذا المعنى الّذي هو مقتضى الجمع بين الأخبار، ولعلّ الأصحاب الّذين قالوا بعدم جواز اغتنام مثل أراضيهم فهموا من الطائفة الأخيرة من الروايات اختصاص الجواز بالإمام القائم (عليه السلام) لعدم تصوّرهم لحدوث دولة عادلة قبل ظهوره الشريف، وإلاّ يقولوا هم أيضاً بجوازه، والعلم عند الله العليم.

هذه هي الطائفة الأولى من الأخبار، وقد عرفت أنّ مفادها جواز اغتنام أموال البغاة بالعنوان الأوّلي، إلاّ أنّه إذا علم أنّ لهم في الزمن الآتي دولة يظهرون بها على جيش الإسلام وكان الكفّ عن اغتنام أموالهم موجباً لأن يكفّوا هم أيضاً عن اغتنام أموال جيش الإسلام في الزمن الآتي فيكون هذا العلم عنواناً ثانياً ربما يوجب الكفّ عن اغتنام أموالهم، إلاّ أنّه مع ذلك فإن اغتنم أموالهم لكان جائزاً كما وقع في بعض النصوص الماضية. نعم إذا علم أنّه لا يكون لهم في الآتي دولة كما في زمن القائم (عليه السلام) فلا مجال لهذا الكفّ بل لا يبعد أنّه إذا علم بعدم التأثير في كفّهم فلا وجه للكفّ أيضاً.

بل لا يبعد أن يقال بأنّه يستفاد من هذه الأخبار حكم اغتنام أموال البغاة الّذين لهم بعد قائد يدعوهم إلى البغي والطغيان، فإنّ حرمة أموالهم ليست أزيد ممّن ليس لهم قائد لقتله كما قتل طلحة والزبير، إلاّ أنّه مع ذلك إذا كان فيه احتمال أن يغلب دولتهم وكانوا بحيث يكفّون عن اغتنام أموال جيش الإسلام الأصيل إن كفّ عن اغتنام مالهم فهذا الاحتمال أو العلم يكون عنواناً ثانياً يوجب الكفّ عن اغتنام أموالهم.

وهنا طائفة ثالثة من الأخبار المتعرّضة لحكم خصوص هذا القسم الآخر من البغاة، ومن وهذه الطائفة خبر أبي بصير المروى في كتاب الهداية للحسين بن حمدان الحضيني وهو حديث طويل في قصّة أهل النهروان، وفي ذيله أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لهم: وأمّا قولي بصفّين: اقتلوهم مولّين ومدبرين ونياماً وايقاضاً وأجهزوا على كلّ جريح، ومَن ألقى سلاحه فاقتلوه، ومَن أغلق بابه فاقتلوه، وأحللت لكم سبي الكراع والسلاح وسبي الذراري، وذاك حكم الله عزّ وجلّ، لأنّ لهم دار حرب قائمة وإماماً منتصباً يداوي جريحهم ويعالج مريضهم ويهب [يعفو] لهم الكراع والسلاح ويعيدهم إلى قتالكم كرّة بعد كرّة، ولم يكونوا بايعوا فيدخلون في ذمّة البيعة والإسلام، ومَن خرج من بيعتنا فقد خرج من الدين وصار ماله وذراريه بعد دمه حلال[72].

فقد حكم في الفقرات الأخيرة بالصراحة بأنّ أموال هؤلاء البغاة ـ الّذين هم مسلمون إلاّ أنّهم لم يبايعوا الإمام الحق ـ حلال فتغنم إذا ظهر المسلمون عليهم، وقد قال قبل هذه الفقرات: «وذاك حكم الله عَزّ وجَلّ» فهذه الحلّيّة هي الحكم الأوليّ الإسلامي لأموالهم اللّهمّ إلاّ أن يطرأ عنوان ثان مثل ما مرّت في الأخبار السالفة يوجب رفع اليد عن اغتنام أموالهم إلاّ أنّ سند هذه الرواية غير معتبر.

وقد روى عن العلاّمة في المختلف أن ابن أبي عقيل أرسل عن أمير المؤمنين (عليه السلام) رواية في حرب الجمل قال فيها: «إنّ دار الهجرة حرمّت ما فيها وإن دار الشرك أحلت ما فيها» وقد يتوهم أن اطلاق دار الهجرة شاملة لجميع ديار المسلمين حتّى مثل الشام فتدلّ الرواية على حرمة أخذ أموال بغاة صفّين.

لكنّك تعلم أنّ مثل خبر أبي بصير الماضي يكون كالمفسّر لهذه المرسلة ويكون قرينة على أنّ دار الهجرة هي دار قبل أهلها بيعة الإمام كأهل البصرة فيعامل معهم معاملة غير الناكثين ولا يؤخذ أموالهم بالشرح الماضي ذكره، وأمّا مَن لم يبايع الإمام فلا يدخل في ذمّة البيعة والإسلام. مضافاً إلى أنّه مرسل لا اعتبار به.

فالمتحصّل من جميع الأخبار: أنّ اغتنام أراضي البغاة إذا غلب أهل الحق عليهم جائز سواء بقي لهم قائد أم لا، إلاّ أنّه لو كانت هنا مصلحة أقوى فوليّ الأمر ربما كف عن الاغتنام كما فعله أمير المؤمنين (عليه السلام).

ـــــــــــــــــــــــــــ

 [1] النهاية ونكتها: ج1 ص447.

[2] النهاية ونكتها: ج2 ص220.

[3] الكافي في الفقه: كتاب الجهاد ص259 و170.

[4] نفس المصدر.

[5] المهذب: ج1 ص183.

[6] الغنية: ص204.

 [7] إشارة السبق: ص145.

[8] إصباح الشيعة: ص122.

[9] إصباح الشيعة: ص128.

[10] السرائر: ج1 ص478.

[11] السرائر: ج1 ص480ـ 481.

 [12] الرياض: ج7 ص549.

[13] الجواهر: ج21 ص169.

 [14] الوسائل: الباب71 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص118 الحديث1، وقد مرّ لفظه في ص287.

 [15] الوسائل: الباب21 من أبواب عقد البيع ج12 ص275 الحديث9، وقد مرّ لفظه في ص290.

[16] الوسائل: الباب72 من جهاد العدوّ الحيدث2و1.

[17] مضت في ص300، أخرجها الوسائل في الباب 10 من أبواب المزارعة ج13 ص213 الحديث2.

[18] الوسائل: الباب41 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص84 الحديث2، وقد مضى الحديث في ص292.

[19] الوسائل الباب21 من أبواب عقد البيع ج12 ص274 الحديث4، وقد مضى الحديث في ص286.

[20] الوسائل: الباب21 من أبواب عقد البيع ج12 ص274 الحديث5، وقد مضى الحديث في ص289.

[21] الوسائل: الباب 1 من أبواب الأنفال ج6 ص364 الحديث1، وقد مضى في ص4و14.

[22] الوسائل: الباب1 من أبواب الأنفال ج6 ص367و368 الحديث10 و12.

[23] الوسائل: الباب1 من أبواب الأنفال ج6 ص367و368 الحديث10 و12.

[24] الوسائل: الباب1 من أبواب الأنفال ج6 ص365 الحديث4.

[25] الوسائل: الباب1 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص120 الحديث1و2، وقد مضى الحديثان في ص290 و291.

[26] التهذيب: ج6 ص151، عنه الوسائل: الباب43 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص89 الحديث1.

 [27] الرياض: ج7 ص543، الجواهر: ج21 ص143.

[28] الناصريات: ص443.

[29] النهاية: ج2 ص11ـ12.

[30] الخلاف: ج5: ص346 المسألة 17.

  [31] المبسوط، ج7 ص266.

[32] المهذّب: ج1 ص481.

[33] الوسيلة: ص205.

[34] إشارة السبق: ص144.

[35] الغنية: ص203.

[36] إصباح الشيعة: ص299.

[37] السرائر: ج2 ص15ـ19.

[38] قواعد الأحكام: ج1 ص522.

[39] إرشاد الأذهان: ج1 ص351ـ 352.

[40] التذكرة: ج9 ص424 المسألة 251.

[41] المنتهى: ج1 ص988.

 [42] الدروس: ج2 ص42 درس132.

[43] الرياض: ج7 ص467.

[44] الجواهر: ج21 ص339.

[45] قد مضت في ص 286و289و287.

[46] قد مضت في ص288.

[47] قد مضيا في ص278و290.

[48] قد مضيا في ص 290و291.

[49] الوسائل: الباب 24 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص55 الحديث2.

[50] الوسائل: الباب5 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص16 الحديث2.

[51] الوسائل: البا24 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص55 الحديث3.

[52] تحف العقول: ص480، عنه الوسائل: الباب24 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص55 الحديث4.

[53] مستدرك الوسائل: الباب22 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص51و52 الحديث 1و2و3و4.

 [54] مستدرك الوسائل: الباب22 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص51و52 الحديث 1و2و3و4.

[55] مستدرك الوسائل: الباب22 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص53 الحديث3و4.

[56] مستدرك الوسائل: الباب22 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص53 الحديث3و4.

[57] مستدرك الوسائل: الباب22 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص53 و54 الحديث5و7.

[58] مستدرك الوسائل: الباب22 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص53 و54 الحديث5و7.

[59] علل الشرائع: باب نوادر العلل ص603 الحديث69، (عنه وعن التهذيب وقرب الإسناد) الوسائل: الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص58 الحديث5.

[60] المستدرك: الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص57و56 الحديث5و1.

 [61] المستدرك: الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص57و56 الحديث5و1.

[62] الوسائل: الباب25 من أبواب جهاد العدو ج11 ص59 الحديث8.

[63] المستدرك: الباب24 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص64 الحديث7.

[64] الوسائل: الباب25 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص58 الحديث4.

[65] المستدرك: الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص57 الحديث3.

 [66] الوسائل: الباب25 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص56 الحديث1.

[67] الوسائل: الباب25 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص57 الحديث3.

 [68] المستدرك: الباب23 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص58 الحديث8.

[69] الوسائل: الباب25 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص58 الحديث6.

[70] المستدرك: الباب23 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص57 الحديث4.

[71] الكافي: ج8 ص252، عنه المستدرك: الباب24 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص66 الحديث17.

 [72] المستدرك: الباب23 من أبواب جهاد العدوّ ج11 ص60 و61 الحديث9و10.