نظام الحكم في الجمهورية الإسلامية في إيران
ومبانيه القانونية (*)
الدكتور حسين مهرپور
تمهيد
قبل الدخول في صلب الموضوع، لابد لنا من التطرق إلى بضع نقاط من باب التمهيد:
1 ـ ينبغي أن لا ننسى أن الإسلام يعنى بكل الأمور التي تخص الإنسان بجانبيها: المعنوي والمادي فهو لا يرى الحياة الإنسانية مقصورة على هذه الدنيا، ولا يرى حياته تنتهي بانتهاء الفترة يقضيها في الدنيا، بل يرى أن وراء هذه الحياة التي الدنيوية المادية حياة خالدة دائمة في الآخرة. والقرآن الكريم يصرح بذلك في آيات عديدة، من ذلك ما جاء في الآية (64) من سورة العنكبوت: {وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحَيَوانُ لو كانوا يعلمون}.
ففي الوقت الذي يبدي الإسلام عنايته بحياة الإنسان المادية الدنيوية، ويتخذ خطوات معينة لتنظيمها وإدارة شؤونها، ولا يحث على اهمالها، يرى الأصل هي الحياة الخالدة الدائمة في العالم الآخر، ويحذر الإنسان من نسيان كون حياته في هذه الدنيا إنما هي حياة عابرة وموقتة، وان هناك حياة خالدة تنتظره ولابد أن يتذكرها دائماً وان يهيئ نفسه ويعد عدته للانتقال إليها:
{وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين}.(القصص: 77)
2 ـ ان هدف الإسلام هو سعادة الإنسان، ولذلك شرع للوصول إلى ذلك الشرائع والقوانين، ولكنه لم ير سعادة الإنسان مقصورة على المصالح المادية الدنيوية التي ينعم بها في دار الدنيا فحسب، بل انه يرى سعادة الإنسان الحقيقية في توجهه العقلي وفي السير على طريق الاعتدال في تحقيق رغباته النفسية، وكذلك في رغباته المادية بحيث أنها لا تنسيه معرفة الله والعبودية له، بل تحمله على اكتساب المعارف الإلهية والأخلاق الحميدة الكريمة، والابتعاد عن الرذائل. يرى الإسلام أن في الإنسان تكمن جوانب عقلية، وانه بحسب فطرته الأولى النقية يتوجه إلى الله وإلى الفضائل المعنوية التي توصله إلى السعادة الأبدية:
{...فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله...}.(الروم: 30)
غير أن الإنسان قد يقع أسير أهواء نفسه وينهمك في تحقيق رغباته الدنيوية المادية، فيخرج عن طريق الاعتدال، وينسى الجوانب المعنوية، ويتراكم الغبار على الفطرة الربانية، وينحرف عن مسير الحق والعدل الكامل في ضميره النائم.
هاهنا ينبري أناس صالحون استطاعوا الحفاظ على جوانبهم العقلانية، ولم تستغرقهم أهواء النفس، بل احتفظوا بارتباطهم بالله ـ بالتعبير الديني ـ فينهضون لإرشاد الناس وهدايتهم ويدعونهم إلى مكارم الأخلاق والفضائل والمعارف الإلهية والتوجيه نحو العالم الأخروي الخالد: أي أنهم يعملون على إزالة الصدأ عن خزانة عقولهم والغبار عن فطرتهم الطاهرة، ويوقفونهم على حقيقتهم الإنسانية، بحيث أن الناس، بما يتهيأ لهم من الوعي والمعرفة والتوجه، يتبعون أولئك المصلحين ويتقبلون منه الدين الجديد الذي يعرضونه عليهم لكي يصلوا إلى السعادة الحقيقية الخالدة.
يقول الإمام علي (ع):
"...فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم آيات المقدرة...".
وهكذا، وعلى اثر قيام الصلحاء، حاملي الرسالات الإلهية، بارشادهم وهدايتهم، يثوب الإنسان إلى رشده، ويتقبل بكامل حريته ودون اكراه النظام الذي يدعو الأنبياء إليه، ويقيم قواعد إدارة حياته الشخصية والاجتماعية على أساسه:
{لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي، فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم}.(البقرة: 256)
3 ـ يرى الإسلام أن القواعد والأحكام الأصيلة التي تضمن للإنسان سعادته في هذه الدار الدنيا وفي الدار الآخرى قد عرضها الله عليه بواسطة أنبيائه. وعندما يعي عدد مناسب من الناس هذا الدين يتقبلون تعاليمه بإيمان قلبي عميق، يستطيعون أن يجعلوا من ذلك النظام حكومة تحكم مجتمعهم. ان هذه القواعد والأحكام قد شرعت لكي تدير شؤون المجتمع، ويكون الناس مسؤولين، بشكل من الأشكال، عن إجراء أحكامه. يقول رسول الإسلام الأكرم (ص).
(كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
وعليه، فان الحكومة التي تعنى بإعطاء الحق لفرد أو لمجموعة من الأفراد في أن يتسلطون على الآخرين ليست من الإسلام في شيء، فالإسلام يرى أن جميع الأفراد مسؤولون، وأن عليهم أن يضعوا أنفسهم يداً بيد لكي يقودوا المجتمع إلى السعادة والخير، وان يولوا عليهم من الصالحين من يتجلى فيهم الفهم والإدراك وطهارة الروح وخلوص النية وخدمة المجتمع.
لقد جاء في مقدمة دستور الجمهورية الإسلامية في إيران، ان "الحكومة، في المنظور الإسلامي، لا تقوم على أساس طبقي ولا سلطوي فردي أو جماعي. بل هي حاصل تبلور التطلعات السياسية لأمة تدين بدين واحد وينظمها فكر موحد، تعد نفسها للسير في طريق التحول الفكري والعقائدي نحو الهدف النهائي، وهو التحرك نحو الله".
وعلى هذا الأساس، فإن الحكومة، في نظر الإسلام، فيما تقوم به من إدارة امور المجتمع وتنظيم حياة الناس الاجتماعية، تعمل أيضاً على إيصال الناس إلى السعادة الحقيقية وتحثهم على التحلي بالأخلاق الفاضلة. إن زمان الحكم يكون بيد أفضل الناس وأكملهم، والذي يكون مرتبطاً بالله عن طريق الوحي، يأخذ عنه القواعد الأساس ويبلغها للناس، ويتشاور معهم ويستطلع آراءهم في الأمور العادية، ويقوم بإدارة المجتمع. ان مثل هذا الحكم يكون من جانب الله الذي هو الحاكم المطلق على عالم الوجود، كما يكون من جانب الناس أيضاً لأنهم هم الذين وصلوا إلى ذلك بعد توعيتهم وإرشادهم. وهكذا نجد أن الحكم الإلهي قد تحقق، كما نجد أن إرادة الله بأن يدير الناس شؤونهم قد تحققت أيضاً. وعلى هذا الأساس نجد أن المادة (56) من الدستور تقول:
"الحاكم المطلق على العالم وعلى الإنسان هو الله، وانه هو الذي جعل الإنسان حاكماً على مصيره الاجتماعي، وليس لأحد أن يسلب هذا الحق الإلهي من الإنسان، أو أن يستغله لمصلحة فرد أو افراد معينين. ان الشعب ينفذ هذا الحق الإلهي بموجب المواد التالية".
4 ـ ان الحكم الإسلامي أو إدارة المجتمع تكون، بنص القرآن، لنبي الإسلام (ص) في حياته، وقد دعا القرآن المسلمين إلى إطاعة رسول الله (ص): {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول...}(التغابن: 12) و{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله...}(آل عمران: 31) و{إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله...}(النساء: 105) و{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول...}(النساء: 59) وآيات اخر كثيرة بهذا الشأن.
من الأمور اللافتة للنظر هو أنه حتى في زمان النبي (ص) وحين كان الحكم بيده، فانه يتبين من الآيات القرآنية ان الناس كانوا هم المسؤولون عن هذه الحكومة، وان لهم أدوارهم في الحفاظ عليها والدفاع عنها وتنفيذ أحكامها. ان القرآن يخاطب عامة الناس بشأن ضرورة الجهاد واجراء أحكام الإسلام والحفاظ على الدين والمجتمع الإسلامي. لاحظ اللهجة الخطابية في الآيات التالية:
{وجاهدوا في الله حق جهاده...}(الحج: 78)
{...وجاهدوا في سبيله...}(المائدة: 35)
{...أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه...}(الشورى: 13)
بل أن الله يوصي النبي (ص) نفسه بالتشاور مع الناس فيقول:
{...وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله...}(آل عمران: 159)
وفي حرب (أحد)، بعد أن يصاب المسلمون بالهزيمة، وتشيع الشائعة بأن رسول الله (ص) قد استشهد، يصيب قلوب بعض المسلمين التردد ويحسبون أنهم بغياب النبي (ص) قد سقط التكليف عنهم وأنهم لم يعودوا مسؤولين عن الدفاع عن حياض الدين والحفاظ عليه، فيخاطبهم الله تعالى:
{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، أفإن مات أو قتل أنقلبتم على أعقابكم...}(آل عمران: 144).
يتضح من هذا كله، ان الإسلام والقرآن يعتبران الناس هم المسؤولون عن بقاء الدين والحكومة الإسلامية، وأن أحداً لا يمتاز عن أحد بهذا الشأن.
من المعلوم البديهي أن الله عز وجل قد عين النبي (ص) ليدعو الناس إلى دين الحق وليهديهم ويقودهم ويربيهم، وهو الذي يقوم بذلك مادام على قيد الحياة.
أما بعد النبي (ص) في غيبة الإمام ـ والأئمة في عقيدة الشيعة هم اثنا عشر إماماً، آخرهم الإمام المهدي (عج) الغائب وهم خلفاء النبي (ص) بموجب النصوص القرآنية والأحاديث الشريفة ـ فان على الناس أن يختاروا قائداً لهم طبقاً للسيرة النبوية الشريفة، وان يشكلوا حكومة تنفذ أحكام الشريعة الإسلامية الثابتة التي لا تتغير، على أن يحلوا مشكلاتهم الطارئة بالتشاور وبنية طلب الخير والصلاح بوضع القوانين التي تضمن تحقيقها.
5 ـ ان مشروعية القوانين الإسلامية تستند على الحق، بينما نجدها في المجتمعات المعاصرة الأخرى تستند على الأكثرية. فالحق عند الإسلام هو المعيار، وان القوانين الأساس المبنية على ذلك أتت من قبل الله على يد نبيه محمد (ص)، والأكثرية بذاتها ليست معياراً، إذ قد تكون وجهة نظر الأكثرية مطابقة للحق، وقد لا تكون. ففي حالات الجهل وفقدان الوعي والهادي والمرشد، وعلى أثر تسلط الثقافات الخاطئة وضمور المعنويات والأخلاق الفاضلة، تكون الأكثرية بعيدة عن الحق بعداً كبيراً، واقرب إلى الباطل قرباً كبيراً. عندئذ لا يمكن اعتبار رأي الأكثرية معياراً يعتد به، إذ انه يؤدي إلى ضرر الناس أنفسهم. يقول القرآن:
{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون}(المؤمنون: 71)
أو أنه يخاطب الناس قائلاً:
{واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم، ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليك الكفر والفسوق والعصيان...}.(الحجرات: 7)
فإذا ما ابتعدت الأكثرية عن الحق واتبعت ميولها وأهواءها الذاتية، أصبح من الضروري الاهتمام بارشادها وهدايتها حتى تفهم الحق وتتعرف عليه وتؤمن به، فتبادر إلى إقامة حكومة الحق. وهذا هو عمل الأنبياء والأولياء والصالحين والقائمين بالحق والعدل.
نظام حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران وأسسه القانونية
بعد تلك المقدمة التمهيدية ومعرفتنا بالمنظور الإسلامي للحكومة، نعود إلى نظام حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران لنرى كيف هو، وما هي المباني القانونية التي يستند إليه في شرعيته.
إذا ما أخذنا ما ذكرناه في المقدمة التمهيدية بعين الاعتبار، واستناداً إلى المباني الإسلامية المذكورة، نجد أن الحكومة الإيرانية، بموجب المادة الأولى من الدستور، جمهورية إسلامية تستند إلى إيمان الناس القديم بحكومة الحق والعدل القرآنية.
وبموجب المادة الثانية، يقوم هذا النظام على أساس الإيمان بالله الواحد، وبالنبوة، وبالمعاد، وبالعدل الإلهي، وبإمامة الأئمة الهداة الدينيين، وبكرامة الإنسان وقيمته السامية. وهدفه ـ بالاضافة إلى الاهتمام بحمله على التمسك بالأخلاق الفاضلة والعناية بسيره التكاملية نحو الله ـ هو ضمان القسط والعدل والاستقلال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتضامن الشعبي. وجاء في ذيل هذه المادة: ان اقامة هذا النظام جاءت بموجب رغبة الناس وإرادة أكثريتهم التي بلغت 98.2% من مجموع أصوات الذين كان لهم حق التصويت.
ففضلاً عن إقامة هذا النظام على المباني الشرعية الدينية، فانه فاز بأصوات أكثرية الناس بنسبة كبيرة جداً. إن الناس بمعرفتهم القديمة بالإسلام، وبنضالهم المرير الطويل في سبيل اقرار حكم الإسلام، منحوا ثقتهم لنظام قام على دعائم إسلامية ووضع على رأس منهاجه تحقيق الأحكام الإسلامية. وبناء على ذلك، فإن ظهور هذا النظام واستمراره، فضلاً عن كونه مستنداً إلى إرادة الشعب، فانه في وضع مناهجه وبرامجه وانشاء مؤسساته وسن قوانينه وتنفيذها، ووضع الموازين الإسلامية نصب عينه لئلا يتعداها، وإلا فانه يفقد شرعيته من حيث كونه قد ابتعد عن طريق الحق، وكذلك من حيث كونه قد خالف ارادة الرأي العام التي منحته القوة والرسمية والاعتبار.
وقد جاء في مقدمة الدستور: "...وانطلاقاً من المضمون العقائدي في خلق البنى والمؤسسات السياسية التي تعتبر قاعدة بناء المجتمع، فان الصالحين هم الذين يتحملون مسؤولية الحكم وإدارة البلاد: {... أن الأرض يرثها عبادي الصالحون}. وان التشريع الذي يكشف عن ضوابط الإدارة الاجتماعية يجري على محور القرآن والسنة. وبناء على ذلك فان اشرافاً دقيقاً وجاداً يقوم به العارفون بالإسلام من العدول الأتقياء الملتزمين (الفقهاء العدول) أمر حتمي ولازم".
ولهذا فقد لاحظنا ما جاء في المادة (56) من الدستور من كون الحاكم المطلق على عالم الوجود والإنسان هو الله، وهو الذي منح الإنسان حق تقرير مصيره الاجتماعي، أي ان السلطة والحكم مصدرهما: الشعب.
السلطات في الدستور
إن الأسس التي تقوم عليها الحكومة، أو كما تقول المادة (57) من الدستور، السلطات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية، التي تعمل تحت اشراف ولي الأمر أو القيادة. ان الاشراف على أعمال هذه السلطات الثلاث وارتباطها بالقيادة العليا يؤكد هذا الأمر بحيث يتضح ان هذا النظام يستمد شرعيته من اعتماد من جهة على الشرعية الإسلامية، وعلى آراء الناس من جهة أخرى. وقد اعد تركيب سلطات الحكم بحيث انها يجب أن تكون دائماً مستندة إلى إسلاميتها وإلى شعبيتها معاً لكي تكون قادرة على أداء واجبتاتها. وعلى هذا يمكن تقسيم السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية إلى أربعة أقسام:
1 ـ القيادة العليا.
2 ـ السلطة التشريعية.
3 ـ السلطة القضائية.
4 ـ السلطة التنفيذية.
ولابد من أن نضيف إلى هذه السلطات مجالس الشورى التي تستند إلى التعاون الجماهيري لتحقيق التقدم السريع في تنفيذ المناهج الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والصحية والثقافية والتعليمية وغيرها.
وفيما يلي نوجز واجبات كل سلطة من هذه السلطات:
1 ـ القيادة العليا:
يحدد الدستور واجبات القيادة وصلاحياتها. ولكل سلطة من السلطات الثلاث نوع من الارتباط بالقيادة، لأنها تكتسب شرعيتها من القيادة كما يتضح ذلك جيداً في شرح واجبات القيادة وصلاحياتها.
أما مقام القيادة نفسه فهو من جهة يستند إلى مبدأ إسلامي متفق عليه، هو أن: "مجاري الأمور بيد العلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه" وهو من جهة أخرى قد فاز بأكثرية الأصوات القاطعة.
إن الدستور يعين الشروط الواجبة توفرها في القائد وكيفية انتخابه وحدود صلاحياته. فقد جاء في المادتين الخامسة والتاسعة بعد المائة من الدستور: "إن من ينتخب لقيادة الأمة يجب أن يكون فقيهاً، عادلاً، واعياً لمقتضيات العصر، تقياً، شجاعاً، ومديراً، ومدبراً، ذا رؤية سياسية واجتماعية".
ولكن توفر كل تلك الشورط في شخص ما، لا يجعله يتصف بصفة القيادة، بل يجب، اضافة إلى ذلك، أن يكون معروفاً لدى أكثرية أبناء الشعب وأن تتقبل قيادته وتنتخبه. أي أنه لابد أن ينتخبه الجمهور بالأكثرية، بحيث ان عامة أبناء الشعب تكون قد عرفته قائداً ومرجعاً، وهذا الأمر مألوف في إيران، وبين المسلمين عموماً، والشيعة خصوصاً، إذ يبرز في كل فترة من الزمن شخص عالم، وفقيه، ومبرز، ومقبول لدى عامة الناس وأكثريتهم كقائد لهم، كما هي الحال في الوقت الحاضر بالنسبة للإمام الخميني، وفي الماضي بالنسبة لآية الله الحكيم، وآية الله البروجردي، وآية الله السيد أبو الحسن الإصفهاني وغيرهم. لذلك يرى الدستور إنه إذا لم يحرز أحد هذه الأكثرية، فإن (أعضاء مجلس الخبراء) ـ المؤلف من أشخاص لهم الخبرة في معرفة العلماء والفقهاء والأفاضل، وينتخبهم الشعب، وبذلك يعتبرون أنهم يمثلون الشعب ـ يقومون بالتشاور فيما بينهم لاستعراض الأشخاص الذين تتوفر فيهم الصفات والمؤهلات المطلوبة لمقام القادة، فيختارون واحداً، أو ثلاثة أشخاص، أو خمسة أشخاص، باسم: (مجلس القيادة)، ويعلنون أسماءهم على الجمهور.
نلاحظ هنا أن تعيين أو اختيار القائد ـ وهو أعلى سلطة في النظام الجمهوري الإسلامي ـ يتم في الواقع استناداً إلى رأي الجمهور.
1 ـ واجبات القيادة وصلاحياتها:
تعين المادة العاشرة بعد المئة من الدستور واجبات القيادة والصلاحيات المخولة لها، وترتبط هذه بكل من السلطات الثلاث؛ التشريعية والتنفيذية والقضائية.
أ ـ فيما يتعلق بعلاقة القيادة بالسلطة التشريعية؛ فهي التي تعين الأعضاء الفقهاء في (مجلس المحافظين على الدستور) وذلك بموجب الفقرة (1) من المادة (110) من الدستور. ولسوف نرى فيما يأتي كيف أن على مجلس الشورى الوطني أن يرسل بجميع ما يشرعه من قوانين إلى (مجلس المحافظين على الدستور) الذي يتألف من ستة أعضاء من الفقهاء وستة أعضاء من الحقوقيين، لكي يقوموا بعرض تلك القوانين على التشريعات الإسلامية ومواد الدستور لئلا تكون مغايرة لبعض منها. أن ابداء الرأي في مطابقة تشريعات مجلس الشورى الوطني لقوانين الإسلام أو في مخالفتها لها هو من واجبات الأعضاء الفقهاء في مجلس المحافظة على الدستور، وهم الذين تنتخبهم القيادة، بموجب هذه المادة والمادة (91) من الدستور.
ب ـ فيما يتعلق بعلاقة القيادة بالسلطة القضائية؛ فالقيادة هي التي تعين أعلى مقام في السلطة القضائية في البلاد (بموجب الفقرة 2 من المادة 110 من الدستور). والمقصود من أعلى مقام في السلطة القضائية هو: رئيس المحكمة العليا، والمدعي العام للدولة (بموجب المادة 162 من الدستور) وهما في الوقت نفسه عضوان في (المجلس الأعلى للقضاء) باعتباره أرفع سلطة قضائية في البلاد (بموجب المادة 157 من الدستور).
وبموجب الفقرة 6 من المادة 110 يكون العفو أو تخفيف المحكوميات من صلاحيات مقام القيادة، باقتراح من المحكمة العليا.
ج ـ فيما يتعلق بعلاقة القيادة بالسلطة التنفيذية؛ فإن القيادة العامة للقوات المسلحة تعود إلى مقام القيادة (الفقرة 5 من المادة 110 من الدستور).
هذه هي صلاحيات مقام القيادة التي وردت في هذه المادة. وما عدا ذلك من الأمور التي لا تخرج عن اطار مواد الدستور فقد أوكل تنفيذها إلى السلطات الثلاث الأخرى.
2 ـ السلطة التشريعية:
أعمال السلطة التشريعية قد أوكلها الدستور، بموجب المادة (58)، إلى مجلس الشورى الإسلامي الذي يتألف من النواب الذين انتخبهم الشعب.
وقد جاء في المادة (59) من الدستور أنه في المسائل المهمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية يجوز الرجوع إلى أخذ رأي الشعب مباشرة عن طريق الاستفتاء لمعرفة رأيه في القضية المعروضة عليه.
يبلغ عدد أعضاء مجلس الشورى الإسلامي 270 عضواً ينتخبهم الشعب انتخاباً مباشراً، ومن واجباته تشريع القوانين في جميع المسائل ضمن حدود الدستور. فحق وضع القوانين يعود لهذا المجلس، وليس لهذا المجلس نفسه أن يعهد بمهمة وضع القوانين إلى جهة أخرى، فرداً كانت أم هيئة، ولكنه في بعض الحالات الضرورية له أن يخول لجاناً خاصة من داخل المجلس حق وضع بعض القوانين التي تكون موقتة وتحت التجربة لفترة معينة (المادة 85 من الدستور).
والمجلس لا يتعطل، فالدستور يصرح أن البلاد يجب أن لا تبقى بدون مجلس في أي وقت من الأوقات. كما انه ليس لأي جهة الحق في حل المجلس.
يجب اطلاع الناس على وقائع المجلس وما يجري فيه من مناقشات، ولهذا تنص المادة (69) من الدستور على أن: "مناقشات مجلس الشورى الإسلامي يجب أن تكون علنية وان ينشر تقرير كامل عنها في الإذاعة والجريدة الرسمية ليطلع الناس...".
إن التحديد الذي وضعه الدستور على أعمال المجلس هو أن تشريعاته يجب أن لا تخالف مبادئ دين البلاد الرسمي وأحكامه والدستور. ولما كان هذا يتطلب نوعاً من التخصص والمعرفة، فقد أقام الدستور إلى جانب المجلس مجلساً باسم: (مجلس المحافظة على الدستور) يدرس تشريعات المجلس ويعطي رأيه فيها خلال عشرة أيام من حيث مطابقتها أو مخالفتها الدستور والأحكام الإسلامية. فإذا رأى أن التشريعات مخالفة، يكون على مجلس الشورى الإسلامي اعادة النظر فيها واصلاحها واعادتها مرة أخرى إلى مجلس المحافظة على الدستور لتجديد النظر فيها. ان هذا المجلس، كما قلنا، يتألف من اثنى عشر عضواً، ستة منهم من الفقهاء والمجتهدين من علماء الدين الذين تعينهم القيادة، والستة الآخرون من الحقوقيين الذين يقترحهم مجلس القضاء الأعلى على مجلس الشورى الإسلامي لعيطي رأيه في انتخابهم.
وفي موضوع مطابقة تشريعات المجلس مع الدستور يكون لجميع الأعضاء حق ابداء الرأي، ويؤخذ برأي الأكثرية. أما فيما يتعلق بانطباقها على الموازين الإسلامية، فان رأي أكثرية الفقهاء الستة هو الذي يؤخذ به.
3 ـ السلطة القضائية:
تقول المادة (61) من الدستور أن السلطة القضائية تمارس عملها عن طريق محاكم وزارة العدل التي يجب أن تتشكل طبقاً للموازين الإسلامية وتقوم بالنظر في الدعاوى والفصل فيها وتحفظ الحقوق العامة، ونشر العدالة وتحقيقها وتقيم الحدود الإلهية.
يؤكد الدستور استقلال القضاء وحياده وعدم خضوعه لسيطرة السلطة التنفيذية، كما يؤكد سلطة الحاكم، ولذلك فإن الدستور لا يعطي أهمية لدور وزير العدل باعتباره عضواً في الوزارة التي تمثل السلطة التنفيذية، بل يضع مسؤولية الأمور المتعلقة بالسلطة القضائية على عاتق (مجلس القضاء الأعلى) الذي يتألف من خمسة أعضاء منهم اثنان (رئيس المحكمة العليا والمدعي العام) تعينهما القيادة، والثلاثة الآخرون يتم انتخابهم عن طريق القضاة في البلاد. ويشترط فيهم جميعاً أن يكونوا من المجتهدين العدول.
وتحت اشراف هذا المجلس تتشكل هيئتان قويتان للنظر في شكاوى الناس على موظفي المحاكم ومخالفاتهم القانونية، الأولى هي: (محكمة العدل الإدارية) بموجب المادة (173) من الدستور، والأخرى هي: (هيئة التفتيش العام) التي تقوم بالإشراف على حسن إجراء الأمور التنفيذية وتنفيذ القوانين في الأجهزة الإدارية تنفيذاً صحيحاً (المادة 174 من الدستور).
4 ـ السلطة التنفيذية:
تقول المادة (60) من الدستور: "أن السلطة التنفيذية تمارس مهماتها عن طريق رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء والوزراء، باستثناء الشؤون التي هي من واجبات القيادة بموجب هذا الدستور...".
أعلى مقام في الدولة ـ بعد مقام القيادة ـ هو مقام رئيس الجمهورية، وهو رئيس السلطة التنفيذية، ويتم انتخابه بالانتخاب المباشر. إن الذي يرشح نفسه لرئاسة الجمهورية يجب أن تتوفر فيه شروط بموجب المادة (115) من الدستور. فهو فضلاً عن كونه يجب أن يكون إيراني الأصل ويحمل الجنسية الإيرانية، يجب أن يتمتع بماض حسن، وبالصدق والتقوى، وبحسن الإدارة والتدبير، وبالإيمان بمبادئ الجمهورية الإسلامية، ومجلس صيانة الدستور هو المسؤول من اعطاء رأيه في صلاحية من يتقدم بترشيح نفسه لهذا المنصب.
رئيس الجمهورية يرشح رئيساً للوزراء ويقترح اسمه على مجلس الشورى، وبعد أن يوافق عليه النواب، يصادق المجلس على تسنم المرشح مركز رئاسة الوزراء (المادة 124 من الدستور). ويبقى في هذا المنصب مادام متمتعاً بثقة المجلس (المادة 135 من الدستور). ويقوم رئيس الوزراء بترشيح وزرائه ويقدم أسماءهم إلى رئيس الجمهورية، وبعد موافقته، تقدم الأسماء إلى المجلس ليعلن ثقته فيهم (المادة 133 من الدستور). وعلى كل حال؛ لابد لمجلس الوزراء أن يطلب ثقة مجلس الشورى الإسلامي به قبل الإقدام على أي عمل أو في القضايا المهمة (المادة 87 من الدستور).
الوزراء، منفردون ومجتمعون في مجلس الوزراء، مسؤولون أمام مجلس الشورى فيما يتعلق بأداء واجباتهم، ولكل نائب الحق في أن يستجوب أي وزير في مجال وظيفته، وعلى الوزير المسؤول أن يحضر إلى المجلس خلال عشرة أيام للإدلاء بجوابه (المادة 88 من الدستور).
ويحق لعشرة من النواب ان يستوضحوا وزيراً أو مجلس الوزراء (المادة 89 من الدستور).
والنتيجة: دور الجمهور في إدارة شؤون البلاد بموجب الدستور.
يتضح مما سبق. أن نظام الحكم طبقاً لدستور الجمهورية الإسلامية قد أعد بحيث لا تتركز السلطة في يدي فرد أو في أيدي جماعة خاصة، إذ أن لرأي الجمهور وحضورهم في إدارة الدولة دوراً واضحاً في كل مجال.
فالقيادة تنتخبها أكثرية الناس، أو ينتخبها أعضاء هيئة الخبراء الذين يختارهم الناس أيضاً بالانتخاب. والقائد أو أعضاء مجلس القيادة متساوون أمام القانون مع سائر أفراد الشعب بموجب المادة (112) من الدستور، ولا يتمتعون بأي امتياز خاص، بل ان للمحكمة العليا أن تحقق في ملكية القائد أو أعضاء مجلس القيادة (بموجب المادة 142 من الدستور) للتأكد من عدم زيادتها بغير حق. كما أن مجلس الخبراء يقوم بإعلان انعزاله بعزله من منصبه إذا فقد أحد شروط أهليته لاشغال هذا المنصب، بموجب المادة (111) من الدستور.
والنواب في المجلس ينتخبهم أبناء الشعب مباشرة، فلهم حق التدخل في جميع شؤون البلاد والتحقيق فيها وابداء الرأي بشأنها (المادتان 76 و48 من الدستور). جلساتهم يجب أن تكون علنية وتذاع محاضر جلساتهم بالاذاعة وبالصحف لكي يطلع عليها الناس. وتشريعاتهم القانونية يجب أن لا تتعارض مع مواد الدستور ولا مع الموازين الإسلامية التي لها جذور عميقة في عقائد الناس، والتي من أجلها قاموا بثورتهم الشاملة.
ورئيس الجمهورية ينتخبه الناس بالأكثرية في انتخاب مباشر، ولا يجوز لشخص واحد أن يبقى في منصب رئاسة الجمهورية أكثر من دورتين، كما أن أعماله تكون تحت نظر مجلس الشورى والجهاز القضائي. وإذا ما تبين للمجلس ـ أي لممثلي الشعب مباشرة ـ انه غير كفء سياسياً، أو حكمت المحكمة العليا بأنه لا يؤدي واجباته كما يجب، يعزل بأمر من القيادة.
ورئيس الوزراء والوزراء الذين يمارسون الشؤون التنفيذية، عليهم أن يكونوا من جهة موضع تأييد رئيس الجمهورية، الذي ينتخبه الشعب مباشرة، وعليهم من جهة أخرى أن يحظوا بثقة نواب المجلس، كما تكون أعمالهم تحت اشراف ممثلي الشعب دائماً، وقد يطلبون للاستجواب أو للاستيضاح، وإذا ما لم يؤدوا واجباتهم كما ينبغي تعرضوا للسقوط.
وهناك حالات أخرى غير هذه يكون فيها تدخل أبناء الشعب في أمور المجتمع مضموناً في موارد الدستور وتحت عناوين أخرى. فالفقرة (8) من المادة (3) من الدستور تصرح باشتراك عامة الناس في تقرير مصيرهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.
والمادة السادسة من الدستور تقول: "يجب أن تدار شؤون البلاد اعتماداً على آراء الجماهير...".
والمادة السابعة من الدستور تستند إلى أقوال القرآن: {وأمرهم شورى بينهم} و{وشاورهم في الأمر} تكون هناك مجالس للشورى، كمجلس الشورى الوطني، ومجالس شورى في مراكز المحافظات والأقضية والقرى والمحلات وأمثالها هي مراكز لصنع القرارات.
والمواد 100 ـ 106 من الدستور تعين كيفية تشكيل هذه المجالس وواجباتها وصلاحياتها في مركز المحافظة والمدينة والقضاء، والمجالس العمالية والفلاحية والإدارية والتعليمية.
وفيما وراء كل هذه الأطر والمبادئ القائمة على أساس من الأحكام الإسلامية التي تعتبر جميع الناس مسؤولين بأزاء المسائل الاجتماعية وإدارة الحكومة الإسلامية والحيلولة دون المخالفة والانحراف والفساد، تأتي المادة الثامنة من الدستور لتجعل من الناس مشرفين حتى على أعمال الحكومة، وترى ذلك حقاً وواجباً لأبناء الشعب:
"في الجمهورية الإسلامية تكون الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مسؤولية جماعية ومتبادلة بين الناس، والناس نحو الحكومة. والقانون يحدد شروطها وكيفية اجرائها":
{والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر}.
(*) هذا المقال يتحدث عن تركيبة النظام من الدستور السابق للجمهورية الإسلامية قبل ادخال بعض التعديلات عليه والتي (قد يجد القارئ الكريم بعض الفرق بين ما هو مدون في هذا المقال ومنسوب للدستور وبين ما هو موجود على الأرض حاليا).
تعليقات الزوار