يقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: "وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة ، وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة، وتصور ملوك الفرنج والروم صورته في بيعها وبيوت عباداتها، وتصور ملوك الترك والديلم صورته على أسيافها، وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله.
وأضاف ابن أبي الحديد المعتزلي "فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره والتحريف عليه ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر، وتوعدوا مادحيه بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم يتضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عينا واحدة أدركته عيون كثيرة، وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها.
وقال أيضاً: (وإني لأطيل التعجب من رجل يخطب في الحرب بكلام يدل على أن طبعه مناسب لطباع الأسود، ثم يخطب في ذلك الموقف بعينه إذا أراد الموعظة بكلام يدل على أن طبعه مشاكل لطباع الرهبان الذين لم يأكلوا لحماً ولم يريقوا دماً، فتارة يكون في صورة بسطام بن قيس (الشجاع) ، وتارة يكون في صورة سقراط والمسيح بن مريم (عليهما السلام) الإلهي، وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة، ما قرأتها قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفا وعظة، أثرت في قلبي وجيباً، ولا تأملتها إلا وذكرت الموتى من أهلي وأقاربي وأرباب ودي، وخيلت في نفسي أني أنا ذلك الشخص الذي وصف الإمام ( عليه السلام) .
فقد حظي كلام الإمام علي ابيطالب ( ع ) بما لم يحظ به كلام غيره من البلغاء والعظماء من العناية التامة والاهتمام البالغ من قبل بقية الأدباء والشعراء على مر الأحقاب .
فتراهم على امتداد القرون بين جامع لحكمه، وراو ومحدث لخطبه، وحافظ لأقواله ومتأثر بأسلوبه وناظم لحكمه لأنه (ع) فتح أمام العلماء والأدباء جوانب فكريه واسعة وآفاق علميه غير متناهية فتوجهوا نحو كلامه، واخذوا معاني أقواله، ومباني ألفاظه وأخرجوها في أشعارهم، ولا أحسب احد من البلغاء على كثرتهم في الجاهلية والإسلام حظي كلامه من العناية مثل كلام الإمام علي (ع) فقد دونوه على عهده، وحفظوه في أيامه، وكتبوه ساعة إنشاده، وتداولوه فيما بينهم بعده كما سمعوه .
ولا غرابه إذا ما وجدنا أئمة الأدب وأحبار النظم والنثر وعلماء كلام العرب يندفعون نحو كلام الإمام ( ع ) ويرتشفون من مناهله العذبة وموارده ألرغده بعد إن وجدوا كلامه (ع) ينطق بكلام قد حف بالعصمة، ويتكلم بميزان ألحكمه كلام ألقى الله عليه المهابة فكل من طرق سمعه راعه فهابه، وقد جمع الله له بين الحلاوة والملاحة، والطلاوة والفصاحة، لم يسقط منه كلمه ولا بارت له حجة أعجزت الناطقين، إنها ألفاظ يشرق عليها نور النبوة وتحيِر الإفهاٌم والألباب.
إن كلام الإمام (ع) بكافه صوره و أشكاله وجوانبه دعامة قويه لتراث الحضارة الإنسانية وركيزة قويمة للشخصية الإسلامية لا تستأثر به قبيلة أو مجموعه دون أخرى، ولا يختص به أهل مله ونحله دون غيرها، ولا ينحصر في أهل مذهب دون غيرهم من أهل المذاهب، وإنما كان مرجعا حيا ونبعا فكريا متدفقا لكل البشرية والأجيال والقرون والأحقاب، وأصبح ينبوعا صافيا وثروة فكريه ومناعة علمية لكتاب اللغة العربية والمتطلعين إليها قديما وحديثا ينتهلون من لغته ويقتبسون من معانيه الوهاجة ومبانيه المستقيمة ما يقوم لهم فنهم وينمي من حصيلتهم في اللغة والأدب.
ولا عجب فالإمام علي (ع) ربيب بيت النبوة ومهبط الوحي والتنزيل وأقرب الحواريين إلى الرسول الأعظم (ص) وأول المؤمنين به منهم، فلابد أن يمسح فكره بقبس من فكر النبي محمد(صلى الله عليه وآله)، وأن يتأدب بأدب النبي المصطفى(صلى الله عليه وآله)، وأن تصبح خطبه فلذات من كبد الحقيقة، وآيات من وحي الحديث والسيرة، وقطعاً من سر القرآن وسحره.
وهنا لا عجب إن قلنا أنه خطيب لا كالخطباء وأديب لا كالأدباء سيرة وثقافة والتزاماً وروعة وعلماً، الأمر الذي يجعلنا نرى فرقاً شاسعاً وبونا بعيداً بينه وبين من سبقه وعاصره وجاء بعده من خطباء ما عدا النبي(صلى الله عليه وآله) الذي تتلمذ الإمام علي (ع) على يديه من هنا كانت عالمية الأمام وتخطيه حدود الزمان والمكان بحيث أصبح موضوعاً خصباً للباحثين العالميين غربيين وشرقيين ومستشرقين.. لما في تلك الشخصية الفريدة من مزايا خارقة ومواهب لا حصر لها.
لقد أنتج لنا إمامنا درةً من الدرر، وأعجوبة من العجائب من أولى مزاياها الفائقة إظهاره ما خفي على الباحثين والكتاب والأدباء الفضلاء من الكنوز الفكرية، تلك الكنوز الفكرية والمعارف العقلية والآثار القلمية التي جاءت متظافرة لتدعيم صرح الحق ورفع منارة العدل والأيمان .
قال أبو الحسن علي المسعودي المتوفى سنة ٣٤٦، في مروج الذهب(لم يلبس عليه السلام في أيامه ثوبا جديدا ولا اقتنى ضيعه ولا ريعا إلا شيئا كان له " بينبوع" مما تصدق به وحبسه والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبه يوردها على البديهة وتداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً ) .
الإمام علي ابيطالب (ع) عند الأدباء والمفكرين العالم:
خطابات وأقوال وكلمات القصار للإمام علي (ع) جمعت في كتاب نهج البلاغة وتعتبر من أبرز كتب العلم والمعرفة التي جذبت فكر الكثير من الكتاب والأدباء العالم.
الأدباء والمفكرون المسيحيون العالم كانوا السباقون في كتابة وفهم شخصية مولانا أبو الحسن (ع) العظيمة وإبعادها في سيرته ونهجه وما قدمه للإنسانية جمعاء، ومنهم المفكر والأديب المسيحي الشهير جورج جرداق جرجي زيدان وميخائيل نعيمة وعبد المسيح محفوظ وغيرهم في آثارهم النثرية والشعرية، حيثُ كان أبرزهم :
المفكر والأديب المسيحي الشهير جورج جرداق :
هو الكاتب اللبناني المعروف بشخصيته المحبة للخير والحق والتسامح أنحنى أجلالًا وإكبارا لشخصية أمامنا على بن أبي طالب (عليه السلام).
حيثُ تولع منذ الصغر بهذه الشخصية العظيمة حينما أهدى له شقيقه الأكبر كتاب ((نهج البلاغة)) وحثه على قراءته بكل جدية فهو حب ولع غُرس فيه اتجاه شخصية أمامنا ( ع).
وأستمر معه هذا الحب منذ دخوله الكلية البطريركية في بيروت حتى تخرجه منها مما حدا به الرجوع إلى قراءة نهج البلاغة من جديد والاعتماد عليه في بحوثه ودراسته حيث كان يدرس الأدب العربي والفلسفة العربية في بعض معاهد بيروت، وقد كان نتاج الإمام علي (ع) الأدبي والفكري مطلوب في المادتين ـ الأدب العربي والفلسفة العربية، كبرنامج مقرر ومقدّم هناك. وعلق جرداق على أهمية هذا الكتاب (نهج البلاغة) وموقعيتهُ في الفكر الإنساني واعتبره في القمة وان جميع القيم والمبادئ السامية التي سعى المفكرون وعلماء الاجتماع إلى إدراكها وإشعاع مفهومها لدى الآدميين عبر عشرات القرون يراها كلها في نهج البلاغة.
فقد عمد إلى الارتواء من هذا المنهل العظيم الذي تفيض منه إنسانية الإمام(ع) بكل عناصرها ودعائمها فهي عطاء وفير من فكر صاف وشعور عميق بمعنى الوجود الحقيقي ومنطلقا لبث الفضيلة بين الناس والدعوة إلى الأيمان والوحدانية.
يمكن الإشارة هنا أن جرداق عمق التقاء القواسم المشتركة بين الإسلام والمسيحية، واستكمالا منه في البحث في أعماق المعارف والخوض في منهجية متعلقة بمبادئه وسيرته والإحاطة بها وبكل أنصاف، واستدراكا لما أهمله المؤلفون بحق هذه الشخصية العظيمة، فقد ألف جرداق عدة مجلدات منها المجلد الأول بعنوان (علي وحقوق الإنسان) اثبت فيه بالدلائل القاطعة والبراهين الساطعة أن الإمام علي (ع) قد سبق مفكري العالم وأوربا في هذا المجال مجال حقوق الإنسان، والمجلد الثاني بعنوان (بين علي والثورة الفرنسية) أكد فيه سبق الإمام عليه السلام فلاسفة الثورة الفرنسية الكبرى العظام مبينا إن التقاء الإمام (ع) مع فلاسفة الإنسانيين الكبار في خط ومنهج مقارب بالرغم من سبق الإمام (ع) لهم مؤكدا على ذلك في مجلده الثالث بعنوان (علي وسقراط) إلى آخر سلسلته المؤلفة من ستة مجلدات وآخرها يحمل عنوان (روائع النهج).
كما ونرى إن استلهام الحقيقة من دوافع الحب والرغبة العميقة التي تأثرت بها نفس هذا المفكر الأديب العربي المسيحي ما هي إلا نزعة مشوقة في التعرف على شخصية الإمام الجليلة وعبقريته النادرة رغم اختلاف العقيدة والثقافة والفكر الذي يحمله إلا إن انجذابه لها تحقق بجزء بسيط في إيصال الفكرة التي كانت لدى الكثير من الناس عن الإمام علي (ع) انه أشبه بقديس مسيحي مشابها للقول والمنهج الذي سار عليه نبي الله عيسى (ع) ، وهذا ما نجده في التاريخ الأوربي للعصور الوسطى وما كتبوه في الآداب عن الأفكار والمعتقدات في العالم المسيحي أمثال المؤرخ والباحث الفرنسي البارون كاراديفو.
يمكن القول أن الفكر المسيحي هذا هو فكر منفتح و مستنير، وهو بلا ريب فكر قائم على تقبّل الآخر عليه، وهذا ما يجعل المفكّر المسيحي المعاصر أكثر حكمة في التعامل مع تاريخ المنطقة ،ونقصد بتأريخ المنطقة الإسلام.فالفكر المسيحي المعاصر في الشرق وخاصة في دولنا العربية والإسلامية فكر ملتزم بالكثير من القضايا الوطنية والقضايا الإنسانية العامة .
إنه فكر يدافع عن الوطن والأرض والكرامة وعن حرية الهوية وهو بذلك لا يختلف عن الفكر الإسلامي الأصيل إلا في بعض النقاط البسيطة .
وبما أن الفكر المسيحي المعاصر في شرقنا فكر أصيل وملتزم، كان لا بدّ لهذا الفكر الأصيل أن يبحث في أصالة هذه الأمة وفي جذورها وفي صيرورتها التاريخية، وهذا يعني أن يبحث المفكر المسيحي في الرسالة الإسلامية التي لعبت دوراً بارزاً وحاسماً في تاريخ المنطقة بأكملها، وربما أبعد من ذلك بكثير.
ولذلك فإن الأدباء والمفكرين المسيحيين في شرقنا العربي عموماً وقفوا موقف الدارس والباحث الحيادي في تحليلهم للكثير من الأحداث المفصلية الهامة في التاريخ ومسيرة الرسالة الإسلامية، وكانوا أقرب للأحكام الموضوعية والمنطقية النابعة من حب البحث عن الحقيقة في تقييمهم لأبرز الشخصيات المسلمة التي لعبت أدواراً حاسمة على مسرح التاريخ الإسلامي المحلي والإنساني العالمي .
الأستاذ حسن نائل المر صفي :
أستاذ الفن ومدرس البيان في كلية القرير الكبرى بمصر ولقد أحسن الوصف في مقدمة الشرح لنهج البلاغة بذكر ماهية ومزايا نهج البلاغة قائلاً : (فبهذه الخصال الثلاث – يعني جمال الحضارة الجديدة وجمال البداوة القديمة وبشاشة القرآن الكريم –... ولقد كان المجلي في هذه الحلبة علي (عليه الصلاة والسلام) ، وما أحسبنا أن نحتاج في هذا إلى دليل أكثر من نهج البلاغة، ذلك الكتاب الذي أقامه الله حجة واضحة على أن علياً (رضي الله عنه) قد كان أحسن مثال حي لنور القرآن الكريم وحكمته وعلمه وهدايته وإعجازه وفصاحتهً) .
عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين :
يتحدث كتابه (علي وبنوه) - وقد ذكر ما شمخ أمام علي من مصاعب - فيقول:(وجد علي نفسه.. صدق إيمان بالله، ونصحاً للدين، وقياماً بالحق، واستقامة على الطريق المستقيمة، لا ينحرف ولا يميل، ولا يُدهِن في أمر الإسلام في قليل ولا كثير، وإنما يرى الحق فيمضي إليه، لا يلوي على شيء، ولا يحفل بالعاقبة، ولا يعنيه أن يجد في آخر طريقه نجحاً أو إخفاقاً، ولا أن يجد في آخر طريقه حياة أو موتاً، وإنما يعنيه كل العناية أن يجد أثناء طريقه وفي آخرها رضى الله).
ويقول: (له فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين من التابعين ويؤمن بها أهل السنة، كما يؤمن له بها شيعته) .
المفكر الإسلامي الأستاذ عباس محمود العقاد :
يقول تحت عنوان (مفتاح شخصية الإمام علي): ( آداب الفروسية هي مفتاح هذه الشخصية النبيلة الذي يفض منها كل مغلق، ويفسر منها كل ما يحتاج إلى تفسير، وقد بلغت به نخوة الفروسية غايتها المثلى، ولاسيما في معاملة الضعفاء من الرجال والنساء،ولقد كان رضاه من الآداب في الحرب والسلم رضى الفروسية العزيزة من جميع آدابها ومأثوراتها ثم يقول: والإمام علي فارس لا يخرجه من الفروسية فقه الدين، بل هو أحرى أن يسلكه فيها، ولا تزال آداب الفروسية بشتى عوارضها هي المفتاح الذي يدار في كل باب من أبواب هذه النفس، فإذا هو منكشف للناظر عما يليه ويتابع قائلاً: وما استطاع أحد قط أن يحصي عليه كلمة خالف فيها الحق الصراح في سلمه وحربه، وبين صحبه أو بين أعدائه، وكان أبداً عند قوله: علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرك، على الكذب حيث ينفعك، وألا يكون في حديثك فضل على علمك، وأن تتقي الله في حديث غيرك .
ثم يقول: إن ثقافة الإمام(ع) هي: ثقافة العَلَم، المفرد، والقمة العالية بين الجماهير في كل مقام ،وإنها هي ثقافة الفارس، المجاهد في سبيل الله،يداول بين القلم والسيف، ويتشابه في الجهاد بأسه وتقواه.. لأنه بالبأس زاهد في الدنيا، مقبل على الله، وبالتقوى زاهد في الدنيا مقبل على الله، فهو فارس يتلاقى في الشجاعة دينه ودنياه وهو عالم يتلاقى في الدين والدنيا بحثه ونجواه .ثم يقول: كان علي المسلم حق، المسلم في عبادته، وفي علمه، وفي قلبه وعقله، حتى ليصح أن يقال، إنه ُطبِعَ على الإسلام وأن الدين الجديد لم يعرف قط أصدق إسلاماً منه، ولا أعمق نفاذاً فيه) .
المفكر العربي جبران خليل جبران :
أنه أنبه عباقرة هذا العصر فإنه يرى العظمة متألقة في ثلاثة من البشر يمثلون الكمال الإنساني، هم (نبي الله عيسى عليه وعلى نبينا وآله أفضل الصلاة والسلام ،والنبي محمد (ص )،والأمام علي (ع).
يقول في الأمام علي(ع): في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية، وجاورها، وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب به كان إعجاباً موثوقاً بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية.
ثم يقول:
مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته...
مات والصلاة بين شفتيه...
مات وفي قلبه شوق إلى ربه...
ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره، حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجوهر والحصى..
مات قبل أن يُبَلِغ العالم رسالته كاملة وافيه، غير أنني أتمثله مبتسماً قبل أن يغمض عينيه عن هذه الأرض .
مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم، وفي زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأن في ذلك، وهو أعلم .
لقد رأى المفكر جبران خليل جبران الكمال الإنساني بكل معانيه وأبعاده متجلياً في ثلاث من شخصيات العالم هم: نبي الله عيسى (ع )، والنبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والأمام علي (عليه السلام) .
والمفكر جبران يعتقد أن الأمام علي ( ع )هو أول عربي بعد رسول الله ( صلى الله عليه وآله) عرف الذات الأحدية، ولم يفارقها في حبه، وإخلاصه، وصدق سريرته، وفي خطبه النورُ الساطع الدليل على ذلك، وفي سلوكه الديني، والاجتماعي، والإنساني أيضاً.
والكاتب جبران يعتقد أن الذين أحبوا علياً ( ع ) قد لبوا دعوة فطرتهم السليمة التي لم تفسدها السياسة، وشهوات الدنيا الآثمة.
ويرى أيضاً أن الإمام علي(ع) مات شهيداً؛ شهيد عظمته الإنسانية ورقيه الروحاني وعقيدته الإسلامية الصافية.
وأنه أغمض عينيه الكريمتين عن هذا العالم، وأنوار الصلاة الرحمانية تسطع على شفتيه بهاءً ملكوتياً وأنه ترك هذا العالم قبل أداء رسالته القرآنية بسبب وجوده بين قوم أعشت قلوبهم الأحقاد الجاهلية وشهوة حب التسلط، فلم يقدروه حق قدره، فحاربوه، وحرموا البشرية من تحقيق أمانيه في الحرية والمحبة والإخاء، والمساواة، والعدل الاجتماعي والاقتصادي، تلك الأماني التي كان يريد أن يصبها على الناس أجمعين نعيماً فياضاً بالخير،والمرحمة، والبركات، والعيش البهيج الرغيد.
والأمام علي( ع ) في عقيدة جبران جوهرة بين الحصى، أي أنه تفرد بمعان جعلت منه الإنسان الكامل، وحقاً ما قاله نابغة الشرق جبران، فإن قريشاً أولت علياً حقداً أزرق لأنه قتل أعيان أبطالها في بدر، وأحد، والخندق .
الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي :
هو باحث ومفكر إسلامي كان قد ألف كتاباً عن الأمام علي (ع) أسماه (علي إمام المتقين) وفيه يتحدث المؤلف عن الشهيد الإمام علي بن أبي طالب تحت عنوان (جسد علي النبيل) وفيه يقول: جسد رجل لم تعرف الإنسانية حاكماً ابتلي بمثل ما ابتلى به من فتن، على الرغم من حرصه على إسعاد الآخرين، وحماية العدل، وإقامة الحق، ودفع الباطل.
ثم يقول: قبض الشهيد، واستقر في وعي الزمن، أنه كلما قيلت كلمة الإمام، فهو الإمام علي (ع) ، على كثرة الأئمة في الإسلام، وذلك، لأن ما أمتلكه من علم وفقه في الدين، وما أوتي من الحكمة، لم يتوفر قط لفقيه أو عالم، قبض الشهيد الرائع البطولة، الأسطوري، المثالي، واستقر في ضمير الزمن، أنه كلما نطق أحد باسم أمير المؤمنين فحسب، فهو الإمام علي بن أبي طالب أمير المؤمنين، على الرغم من كثرة الخلفاء في كل عصور الإسلام، ذلك أن علياً اجتمع له من عناصر القدرة وشرفها، واجتمع فيه من مقومات القيادة، ونبالتها، وشرفها، ما لم يجتمع قط لحاكم.
وهكذا كان، فريداً حقاً، عالماً، وحاكماً فسلام عليه إذ توارى جسده في التراب، وبقيت كلماته منارات إشعاع ومنابع حكمة ومثار عزائم وعدّة للمتقين والمساكين بعد كتاب الله، والأحاديث النبوية الشريفة، وسيظل القلب ينبض بما قال وتشرق به النفس ويزهو به العقل وكم من الكلمات المشرقة والمواقف المضيئة خلّفها الإمام ميراثاً للإنسانية كلها ودليلاً، ونبراساً ويستمر قائلاً:
عاش يناضل دفاعاً عن الشريعة والعدل والحق والمودة والإخاء والمساواة بين الناس، سلام عليه يوم قال فيه رسول الله (عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأتم التسليم: حيث قال (رحم الله علياً، اللهم أدر الحق معه حيث دار .
ودار الحق معه حيث دار، وما عاداه في حياته وبعد موته إلا البغاة، وفرسان الضلال، وعبيد الشهوات، وأهل البدع والأهواء .
الأديب العربي الكبير ( توفيق الحكيم ) :
وتمام المفأجاة هو أن الأديب العربي الكبير توفيق الحكيم قد أشار إلى علم الإمام وإلى سمو مكانته في الإسلام وأحقيته بالخلافة بعد رسول الله( صلى الله علبه وآله ) ويشير إلى هذه الحقيقة التاريخية في مسرحيته الشهيرة ( محمد رسول البشر ) والتي طبعت أول مرة عام ( ١٩٣٦) في القاهرة، وقد ذكر فيها على لسان الرسول المصطفى ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد نزول آية ( وَأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ ) أن( محمداً صلى الله عليه وآله و سلم) عرض رسالته السماوية الجديدة على جمع من الناس قائلاً لهم :
- ما أعلم إنساناً في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم بخير الدنيا و الآخرة .
- وقد أمرني ربي أن أدعوكم إليه ، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر وأن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم ؟
وبعد أن يصور الأديب ( الحكيم ) إحجام الحضور جميعاً عن مؤازرته ومناصرته على ذلك الأمرالعظيم ، يتقدم على (عليه السلام ) ليقول للرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بصوت عربي مبين :
(( أنا يا رسول الله عونك ، أنا حرب على من حاربت )) ، ولا داعي للتعليق على نتيجة إجابة علي (عليه السلام )لدعوة الرسول المصطفى (صلى الله عليه و آله وسلم) وكيف أن علياً (عليه السلام )قد بات فعلاً هو الأخ و الخليفة والوصي من بعده .
ولم يكن أثر المفاجأة الجديدة بأقل من أثر مفاجأة الأديب ( توفيق الحكيم ) .
تأثر الفكر الأوربي بنهج الإمام علي (ع ) وفكره السامي :
كان لفكر الأمام علي (ع) أثره الكبير على تيارات الفكر الأوروبي، وكذلك الحال بالنسبة للتيارات الفكرية الإنسانية في أوربا و أمريكا .
وعندما نقول ذلك ، فنحن لا نمنن الأوروبيين و لا الأمريكيين بذلك،لأن الإمام علياً عليه السلام في نهاية المطاف – كما قلنا سابقاً – إمام كوني وليس إماماً مُقتصراً في إمامته على المسلمين فحسب .
فمن الدروس التي أستوعبها الفكر إلأروبي والأمريكي عن الإمام علي (عليه السلام) على سبيل المثال ، شيئاً يسيراً يتعلق بالأديب والمفكر والفيلسوف الأمريكي ( إمرسون ) الذي كان بمثابة الأب الروحي لعملية استقلال أمريكا عن بريطانيا العظمى ، فقد كان هذا الفيلسوف الأمريكي (١٨٨٣-١٨٨٢) شديد التأثر بمبادئ الإمام علي (عليه السلام) الإنسانية و بمنظومته الفكرية الشاملة ، وقد حاول أن ينقل شيئاً من أفكار ومبادئ الإمام علي (عليه السلام ) إلى عقول و قلوب الشعب الأمريكي من خلال مقالاته وقصائده و مؤلفاته الفكرية الأخرى .
إن هذا الفيلسوف الأمريكي ( إمرسون ) الذي كان يؤمن أن كل إنسان هو باب ومدخل إلى العقل الكوني ، كان على صلة وثيقة بالإمام الكوني وبكل كلمة من كلماته الخالدة ، وقد صرح بذلك في مقالة له بعنوان ( الذات الحق).
وعندما اطلع ذلك الفيلسوف الأمريكي على كلمات حكيم الإسلام علي (عليه السلام ) تغير فكره وكيانه ، و كانت الومضة المضيئة لحياة هذا الرجل ومن الجدير بالذكر أن إمرسون هذا كان بالإضافة إلى كونه فيلسوفاً وشاعراً وأديباً ، كان أيضاً رجل دين عالي المقام في ( كنيسة بوسطن الموحدة ) .
وبالرغم من احترامه وتقديره لديانته وعقيدته المسيحية وللسيد المسيح (عليه السلام )، إلا إنه لم يقبل أن يفرض على عقله أي حصار أو حجرٍ فكري بحيث يمنعه من تقبل أي فكر نيّر يمكن أن يأتيه من الخارج . وعن هذه النقطة بالتحديد يشير الباحث الأمريكي( يان ريشار ) إلى حقيقة إن المسلمين الحق ، سليمي النية، يتخذون من علي( ع ) نموذجاً، كما لو أنه، حتى في القرن العشرين ، لا يزال أمثل صورة للنظام الإسلامي السياسي .
ويؤكد الباحث (ريشار) على أن نهج الإمام علي(ع) ورسالته الأخلاقية النبيلة قد استمر بعدهُ من خلال ابنه الإمام الحسين (عليه السلام )، ولذلك ، فإن (ريشار)يرى أن الإمام علي (عليه السلام )، والإمام الحسين (عليه السلام )، حاربا الظلم و العنف لدى الأمويين ، الذين كانوا ينسون الفضائل الاجتماعية و الأخلاقية للرسالة الإسلامية ، ويمارسون التحيُّز والمحاباة للأقرباء والأنصار، ممارسة شاملة .
ويشيرون أيضا إلى إنسانية التفكير وخيرية العمل وديمقراطية الحكم وإباحة الأرزاق للشعب وحده دون الوجهاء والزعماء والمستنفذين والمترهلين، في حين كان الأمويون من أبرز من يمثلون الملوك في التاريخ و ميلهم إلى الحكم الفردي الاستبدادي وخصائصهم في الاستئثار والاحتكار وجعل الأرض والناس منهبة لهم و عبيداً .
أما الفيلسوف الإنكليزي (كارليل) فقد كان متأثر بشكل كبير بفكر ونهج أمامنا علي ( ع ) حيث يُشير في كتابه (محمد المثل الأعلى) (ص٣٤) والذي قام بتعريبه الدكتور محمد السباعي بقوله (أما علي فلا يسعنا إلا أن نحبه ونعشقه، فإنه فتى شريف القدر، عالي النفس، يفيض وجدانه رحمة وبراً، ويتلظى فؤاده نجدة وحماسة، وكان أشجع من ليث، ولكنها شجاعة ممزوجة برقة، ولطف، ورأفة، وحنان) .
هذه عقيدة الفيلسوف الإنكليزي المسيحي في الإمام علي( ع ) إنه يؤكد أن حب علي ( ع )، أخذ من قلبه كل مأخذ ولكن، لماذا؟ لقد أكبره وأحبه لأنه وجد فيه الصفات الرفيعة المتألقة بأقداس الإنسانية ، فعلي(ع) قد استوى على قمة العظمة البشرية عِلماً ومكارمأً وأخلاقاً وفضائلاً وعلي يحتل الدرجات العُلى حَسَباً ونَسَباً وشَرفاً، فهو هاشمي أباً وأماً، والهاشميون ذؤابة المحامد في قريش خاصة والعرب عامة .
ومن المفكرين الأجانب الذين أحبوا بشكل كبير شخصية أمامنا ( ع )هو المفكر والفيلسوف الألماني المسلم ( غوته) فإن النمط الفكري ( لغوته ) والآثار الفكرية الهائلة التي خلفها وراءه قد فتحت أبواب الثقافة على مصراعيها أمام أدباء و مفكري أوروبا المسيحية كي يعيدوا حساباتهم عن الإسلام وعن رسالة نبينا ( محمد صلى الله عليه و آله و سلم) ، ومن ثم أن يحسنوا ظنهم بالرسول الكريم( صلى الله عليه و آله و سلم ) الذي جاء ليخرج الناس جميعاً من كهوف الظلام إلى مرابع النور والضياء .
حيث نرى أن غوته يصف الإمام علياً (عليه السلام ) في كتابه ( الشعر والحقيقة ) بالمؤمن الأول بالرسالة السماوية إلى جانب السيدة خديجة(ع) زوجة الرسول( محمد صلى الله عليه وآله و سلم )، ويصف غوته ذلك الإيمان المبدئي من الإمام علي (عليه السلام ) بأنه الانحياز الكلي والمطلق إلى رسالة الرسول (محمد صلى الله عليه وآله وسلم) .
ومن الجدير بالذكر الإشارة بكل فخر واعتزاز أن الكاتب الألماني غوته قد ألف مسرحيةً قصيرة تفيض رقة وعذوبة ، وتتناول تلك المسرحية دور الإمام علي (عليه السلام ) الإيماني إلى جانب زوجته الزهراء فاطمة (ع) بنت محمد (صلى لله عليه وآله ) في محاولتهما الصادقة و الدؤوبة لجعل الدين الجديد ينتشر خارج حدود القبيلة والعشيرة .
ولا بأس هنا في أن نذكر شيئاً منها ، كما ذكرتها الأستاذة ( كاترينا مومزن ) أستاذه الأدب الألماني في جامعة ستانفورد الأمريكية في كتابها القيم ( غوته والعالم العربي ) .
وقبل أن تذكر الأستاذة ( مومزن ) تلك المسرحية الموضوعة على لسان الإمام على (عليه السلام) وفاطمة الزهراء ( ع) هذين المؤمنين والمبشرين بقوة الرسالة الإسلامية القادمة بعزم وإصرار ، فقد علقت على تلك المسرحية القصيرة بقولها إن تلك المسرحية ( تصور النبي بوصفه هادياً للبشر في صورة نهر يبدأ بالتدقيق رقيقاً هادئاً ، ثم لا يلبث أن يجيش بشكل مطرد ويتحول في عنفوانه إلى سيل عارم ، وهي تصور اتساع هذا النهر وتعاظم قوته الروحية في زحفه الظافر الرائع ليصب أخيراً في البحر المحيط ، رمز الإلوهية ، وجاءت ( هذه المسرحية ) على شكل حوار يدور بين السيدة فاطمة ( ع) ابنة النبي ( صلى الله عليه وآله )، الحبيبة وزوجها علي(ع) الصحابي الشجاع .
ومن المهم ذكره مااشار إليه السكرتير العام لكتلة نُوّاب الوسط في مجلس الشيوخ الفرنسي ومدرّس مادة ( الإستراتيجيا ) في جامعة السور بون الأستاذ ( فرانسوا توال )،من أنّ الإسلام بمفاهيمه الرّوحية والعقائدية ، بما في ذلك التوصيات العلمية التي يدعو إليها ، لن يُفهم على حقيقته من قبل الغرب ما لم يَقرأ الغربُ الإسلام الحقيقي وينهل من نبعه الأساسي المتمثّل بفكر أهل بيت النبوّة ، ذلك الفكر المعروف في الغرب باسم الفكر الشيعي أو المذهب الشيعي،ويشير إلى أن العالم الإسلامي سيبقى غير مفهوم للغرب بشكله السياسي أو بشكله االأجتماعي الصحيح أو بشكل حوار الأديان إذا كان الغرب لا يعرف التشيُّع. فالتشيُّع هو البوّابة الرحبة للحوار السلمي بين الأديان والحضارات.
وما أشار إليه البطريرك ( إلياس الرابع ) ، البطريرك الأسبق للروم الأرثوذكس في إنطاكية وسائر المشرق .
ومن المعروف عن البطريرك المذكور عمق ثقافته وموسوعيتها ، هذا بالإضافة إلى اهتمامه الكبير والمتميز باللغة وبالأدب العربي تحديداً ، حيث أشار على إن كل مثقف عربي ، وكل كاتب عربي ، وكل شاعر عربي ، وكل خطيب عربي مدين للإمام علي (ع) ولايمكن أن يكون الكاتب عربياً أصيلاً إن لم يقرأ القرآن ونهج البلاغة قراءات عميقة متواصلة.
والجدير بالذكر موقف المستشرق الفرنسي ( هنري كوربان ) ، عندما أشار إلى أهمية كتاب ( نهج البلاغة) وأنه يأتي في الأهمية بعد القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة ، ليس على المستوى الإسلامي الشيعي فحسب ، بل على المستويين الإسلامي والعربي عموماً.
ولذلك ممكن القول إن الكثير من المفكرين والأدباء والباحثين يعتقدون اليوم أن كتاب(النهج البلاغة) من الآثار اللغوية والبلاغية العظيمة للإمام علي (عليه السلام) الذي أعطى اللغة العربية صيغتها النهائية وألبسها ثوب البلاغة البديع .
ولقد كان هناك عدد من المستشرقين أو الأدباء الغربيين الذين هاجموا الإسلام ورسالته ، وركزوا هجومهم على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلى خليفة الشرعي علي (عليه السلام) ، كما هو الحال عند الشاعر الإيطالي ( دانتي ) الذي ذكرناه في بداية هذا الفصل كمثال ونموذج لأولئك المتحاملين على الإسلام وعلى رموزه الحقيقة ، فإن هناك العديد من المفكرين والأدباء والباحثين لمسيحيين الذي دافعواعن الإسلام و عند رسالته الإنسانية التي حرص محمد صلى الله وعليه وآله و سلم وأهل بيته عليه السلام على تبليغها بصدقٍ وأمانةٍ على أكمل وجه .
تعليقات الزوار