المرحوم الشيخ محمد مهدي الآصفي

في تحديد صلاحيات الحاكم الاسلامي في عصر الغيبة يجب أن نعلم أن الحاكم يملك كافة الصلاحيات التي يملكها النبي (ص) أو الامام في مجال الحكومة والادارة.

وليس هناك اختلاف في الصلاحيات التي يملكها النبي (ص) او الامام فيما يتصل بالحكومة والصلاحيات التي يملكها الحاكم الاسلامي في عصر الغيبة.

فما يجوز للنبي (ص) والإمام من التصرف في أموال المسلمين، وتكليفهم بما تتطلبه المصلحة الاسلامية من عمل فيما يتعلق بشؤون الحكومة والادارة، يجوز للحاكم الاسلامي في عصر الغيبة من دون تفاوت.

فيحق للحاكم أن يفرض المصلحة الاسلامية من الضرائب على أموال المسلمين، كما يحق له أن يدعوهم الى الجهاد او الدفاع عن حريم الوطن الاسلامي، او الدخول في سلك الاعمال العسكرية للتدريب والتهيؤ للحرب، أو أي شيء آخر تتطلبه المصلحة الاجتماعية، وإن كان ذلك يؤدي احياناً إلى التضييق على بعض الافراد بصورة فردية، أو مصادرة حرياتهم في بعض القضايا التي تتعلق بالمصلحة الاجتماعية.

فان للمصلحة الاجتماعية الاولوية على حق الفرد في الحرية، كما أن للمصلحة الاجتماعية الاولوية إذا ما تعارضت مع المصلحة الفردية. وحق الفقيه في ممارسة هذه الاعمال في عصر الغيبة ينحدر من حق النبي والامام في ذلك في عصر الرسالة والامامة.

فان الادلة التي تثبت ولاية النبي (ص) والامام فيما يتعلق بمهام الدولة والحياة الاجتماعية، تثبت ذلك للفقيه الحاكم في عصر الغيبة من دون فرق. واذا كان الأمر كذلك فإن من الطبيعي جداً أن تنتقل كافة الصلاحيات والسلطات التي كان يملكها النبي أو الامام فيما يتعلق بالولاية والحكم الى الفقيه الحاكم في عصر الغيبة.

هذه من ناحية، ومن ناحية أخرى فكما يملك الحاكم في عصر الغيبة صلاحيات النبي (ص) والامام فيما يتعلق بشؤون الولاية والحكم كذلك يجب على المسلمين الانقياد للحاكم والطاعة له، كما كان يجب للرسول واولي الامر من قبل.

فان وجوب طاعة النبي واولي الامر في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الامر منكم}(1) لم يثبت للنبي وأولي الامر ـ الأئمة (ع) ـ الا من حيث ولايتهم على المسلمين. فان طاعة النبي واولي الامر في الآية الكريمة لا تعني طاعتهما فيما يبلغان من احكام الله وشرائعه. فان هذه الطاعة هي طاعة لله وليست طاعة للنبي واولي الامر.

وطاعة النبي واولي الامر هي الانقياد لهما فيما يتوليانه من شؤون الولاية العامة، وفيما يأمران به من الجزء المتغير من النظام، الذي يملك أمره الحاكم، ويقرره حسب ما تقتضيه المصلحة الاجتماعية، وفي ضوء من الاحكام الثابتة من هذا الدين.

واذا كان الامر كذلك، وكان وجوب طاعة الرسول واولي الامر من ناحية ولايتهما على المسلمين، فإن تولي الفقيه للحكومة الاسلامية عندما يكون بصورة مشروعة، يقتضي وجوب طاعته والانقياد له بالملاك المتقدم نفسه من دون تفاوت.

ولسنا نريد ان نغض الطرف عن قيمة النبوة او الامامة، ونجعلهما في مستوى واحد مع حكومة الفقيه وولايته، فان النبي (ص) او الأئمة (ع) بالاضافة الى ولايتهم على المسلمين ومكانتهم من الحكم الاسلامي يمتازون عن سائر الناس بما خصهم الله تعالى به من قربه ورضوانه.

وسوف نستعرض فيما يلي اهم الادلة على صلاحيات الحاكم الاسلامي في عصر الغيبة وسلطاته، التي ذكرنا انها نفس الصلاحيات والسلطات التي يملكها النبي (ص) أو الامام فيما يتعلق بشؤون الولاية والحكم. وهذه الادلة على ثلاثة اصناف:

1 ـ أدلة التنزيل.

2 ـ الادلة العامة في الولاية.

3 ـ أدلة اخرى.

 

1 ـ ادلة التنزيل:

ولا نحتاج الى أن نبحث كثيراً عن الادلة التي تدل على تنزيل الفقهاء منزلة النبي والأئمة فيما يتعلق بشؤون الحكم والادارة؛ فقد وردت جملة من الاحاديث الصريحة في هذا التنزيل كقوله (ع): "العلماء ورثة الانبياء". وقوله (ص) "اللهم ارحم خلفائي" حيث اعتبر الفقهاء خلفاء له.

وان هذه الوراثة والخلافة ظاهرة في الحاكمية والسلطان التي هي من شؤون النبي (ص) والامام، فان الحيثية التي يمكن فيها الوراثة والخلافة من شؤون النبي والامام، والتي تفهم من كلمة الوريث والخليفة هي الولاية والحكم.

وان كلمة الخليفة والوريث لو كانت ترد على نحو (علي خليفتي) أو (علي وريثي) لما كنا نتعدى في فهمها مسألة الولاية والحكم.

فاذن هذه النصوص الشرعية الواردة في شأن الفقهاء صريحة في تنزيل الفقهاء منزلة الانبياء والائمة فيما يتعلق بالحكم والولاية، واعتبارهم حكّاماً بعد الأئمة المنصوص عليهم، في عصر الغيبة، من قبل الله تعالى.

والاسلام حينما ينزل الفقهاء منزلة النبي في الحكومة والولاية لابد ان يمنحهم نفس الصلاحيات والامتيازات التي منح الأئمة من حيث هم حكام وولاة على الناس.

فمن دون انتقال هذه الصلاحيات الى الحكام المسلمين لا يصح أن يقال لهم ورثة وخلفاء للأنبياء.

فأدلة التنزيل إذن، وحدها كافية للحكم بأن الصلاحيات والامتيازات الشرعية التي اثبتها الشارع للنبي والأئمة من حيث هم حكام وولاة على المسلمين تنتقل للفقهاء من بعدهم ممن يلون امر الامة ويحكمونها.

 

2 ـ الادلة العامة في الامة:

وبالاضافة الى أدلة التنزيل وردت نصوص اخرى صريحة في حق الفقيه في الحكم وصلاحياته في مجال الولاية والحكم، وهي نصوص ذات دلالة صريحة ـ من حيث المجموع ـ في اثبات ولاية الفقيه وصلاحياته وسلطاته فيما يتعلق بالحكم والولاية؛ وذلك كقوله (ع): "واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة احاديثنا فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله"، وقوله (ع): "مجاري الامور والاحكام على ايدي العلماء بالله الامناء على حلاله وحرامه". وغير ذلك من النصوص الصريحة في ذلك.

 

3 ـ ادلة اخرى:

ولا يقتصر الدليل في صلاحيات الحاكم الاسلامي في عصر الغيبة على ما تقدم من النصوص؛ فمع غض النظر عن هذه النصوص، لا يسعنا ايضاً الا ان نقول بوجود هذه الصلاحيات للحاكم الاسلامي في عصر الغيبة. فإن طبيعة التشريع الاسلامي طبيعة حاكمية تدعو الى اقامة حكم اسلامي، وليست مسألة الحاكمية غريبة عن طبيعة هذا الدين ومناهجه، وإنما هي شيء من صميم هذه الرسالة وجوهرها.

وإذن فلابد أن يمنح التشريع الاسلامي للحاكم الاسلامي هذه الصلاحيات في مجال الحكم والادارة والولاية.

فليس من الممكن ان يمارس الحاكم الاسلامي في حكومة اسلامية قائمة بالفعل مهام الحكم والادارة دون أن تكون له هذه الصلاحيات؛ فليس الحاكام الاسلامي كالحاكم الديمقراطي يستمد سلطانه وسلطاته من الامة. فان النظرية الاسلامية لا تعترف بمثل هذا السلطان للأمة، ليس فيما يتعلق بقضايا الحكم والادارة وحسب وإنما في كل شأن آخر من شؤون الفرد والمجتمع.

وإذا لم يكن للامة ان تمنح الحاكم الاسلامي مثل هذا السلطان في الحكم والادارة، فلابد ان يكون التشريع الاسلامي قد منح الحاكم هذه الصلاحيات ليتأتى له أن يمارس مهامه في الحكم والادارة ويضطلع بمسؤوليته في تنسيق الحياة الاجتماعية وتطوير المجتمع والعناية بسلامته واستقراره.

وهذا مما يؤيد شرعية صلاحيات الحاكم فيما تتطلبه مهمة الحكم والولاية.

 

نصوص فقهية

وهناك جمع من الفقهاء يذهبون الى وجود مثل هذه الصلاحيات للحاكم الاسلامي في عصر الغيبة.

يقول الشيخ النائيني عند البحث عن مقبولة عمر بن حنظلة وارتضاء دلالتها على ولاية الفقيه: "فان الحكومة ظاهرة في الولاية العامة؛ فان الحاكم هو الذي يحكم بين الناس بالسيف والسوط"(2).

ويقول في موضع آخر: "وبالجملة، المقصود من اثبات الولاية للفقيه هو اثبات ما كان للاشتر وقيس بن سعد بن عبادة ومحمد بن ابي بكر ونظرائهم (رضوان الله تعالى عليهم) ولا اشكال في أنه كان لهم اجراء الحدود واخذ الزكوات جبراً والجزية ونحو ذلك من الامور العامة، فراجع"(3).

 

سلطات الحاكم الاسلامي في عصر الغيبة

1 ـ سلطة الافتاء:

لا شك من ناحية فقهية في صلاحية الفقيه للافتاء؛ وهو القدر الذي يتفق عليه الفقهاء. وقد وجدنا فيما تقدم من النصوص ما فيه الدلالة الكافية على ذلك، ولا نحتاج الى إعادة الاستدلال مادامت المسألة موضع اتفاق الفقهاء.

ونعني بالافتاء استخراج الحكم الشرعي من ادلته، وهو ما يسمى بعملية الاستنباط والاجتهاد.

ومن الطبيعي أن هذه العملية ليست تشريعاً، وليس لأحد حق التشريع، وأنما للفقيه فقط حق ممارسة استخراج الحكم الشرعي من مصادره وأدلته، دون أن يضيف اليه أو ينقص منه شيئاً. وحق الافتاء حق عام لعامة الفقهاء الذين تتوفر فيهم شروط الافتاء، ولا يتعين الافتاء في واحد من الفقهاء الذين تتوفر فيهم شروط الافتاء كما ذكرنا في الحكم.

ولا مانع من أن يتوزع المسلمون في التقليد على عدد من المجتهدين، فتقلد كل طائفة منهم مجتهداً فيما يتعلق بأحكامه وتكاليفه.

وليست الفتاوى التي يصدرها المجتهد نافذة على غير مقلديه.

اذن فليس توحيد الفتوى ووحدة المجتهد المفتي شرطاً في الدولة الاسلامية، كما لا يجب على المسلمين تقليد الحاكم الاعلى، ولا تنفيذ فتاواه، لو لم يكونوا مقلديه… وانما يجب عليهم تنفيذ ما يصدره من احكام في شرح يمر علينا قريباً.

 

2 ـ سلطة القضاء:

وأما السلطة القضائية فلا خلاف بين الفقهاء في انها من شؤون الفقهاء وسلطاتهم، ولا نريد ان نستعرض النصوص الشرعية التي تمنح الفقهاء هذا الحق مادامت المسألة غير خلافية بين الفقهاء.

وكما يملك الفقيه الحق في القضاء بين الناس فيما يختلفون فيه، كذلك له الحق في ممارسة الاعمال التي تتعلق بالقضاء كأخذ المدعى به من المحكوم عليه وحبس الغريم، والتصرف في بعض الامور الحسبية كحفظ مال الغائب والصغير، وغير ذلك من شؤون القضاء.(4)

وكما لم يكن حق الفتوى خاصاً بواحد من الفقهاء وإنما كان يحق لكل فقيه جامع للشرائط أن يمارس الافتاء، كذلك القضاء ومتعلقاته يحق لكل فقيه ممن تتوفر لديه شروط القضاء أن يمارسها ويعمل في حقلها.

ولكن لمّا كان القضاء من المسؤوليات المهمة في الدولة، وكان تتوقف عليها سلامة البلاد واستقرارها، وكان جهاز القضاء من اهم الاجهزة واكثرها حساسية؛ كان من الضروري ان تشرف الدولة على تنظيمه وتنسيق أجهزته، وكان من حق الحاكم في ظرف وجود سلطة إسلامية حاكمة أن يتولى الاشراف على سير القضاء في البلاد وينصب ويعزل القضاة في الاطراف، كلما استدعت الحاجة. وبذلك يدخل القضاء بشكل من الاشكال تحت اشراف الحاكم ونظره.

ولا نريد الخوض في تفصيلات البحث عن سلطة الفقيه القضائية وحدود هذه السلطة، فإن بامكان القارئ ان يرجع في ملاحقة ما يتعلق بذلك الى كتاب القضاء من الموسوعات الفقهية.

 

3 ـ السلطة التنفيذية:

نعني بالشؤون التنفيذية الامور التي يضعها الحاكم موضع التنفيذ، ويعمل في تنفيذها وتحقيقها في المجتمع مما تتوقف عليه المصلحة الاجتماعية او تستوجبه مما يتعلق بشؤون الولاية والحكم وإدارة البلاد. وذلك كالشؤون المالية والعمرانية والاقتصادية والصحية والثقافية والعسكرية وغيرها.

والتعبير عن سلطة ممارسة هذه الشؤون في الحكومة الاسلامية بالسلطة التنفيذية ـ وان كان لا ينطبق تماماً على المقصود من هذه الكلمة في المصطلح السياسي الحديث ـ أقرب الى المدلول الاسلامي منه الى أي تعبير آخر؛ فهي سلسلة من الاعمال والمشاريع والتنظيمات التي يضعها الحاكم موضع التنفيذ والاجراء، ويطلب من الحاكم تحقيقها في المجتمع.

ويستخدم الحاكم الاسلامي في تنفيذ هذه المشاريع والاعمال أجهزة الحكومة وافرادها وإمكاناتها وأموالها، ويكون له الاشراف التام على كل الاجهزة التي تتولى القيام بهذه الاعمال في البلاد.

ومن الطبيعي أن اجهزة الدولة تتوزع على هذه الشؤون والمشاريع حسب تخصصها، في تنظيم يشبه التنظيم الوزاري الحديث، حتى تستطيع ممارسة السلطة التنفيذية التي يرأسها الحاكم الاسلامي في مختلف حقولها واطرافها.

وبعكس سلطة الافتاء، التي ذكرنا عنها أنه لا يشترط فيها توحيد الجهة المصدرة للفتوى، يشترط في السلطة التنفيذية توحيد الحاكم، ولا يمكن ان يرأس السلطة اكثر من حاكم واحد في الوطن الاسلامي فيما اذا كان يمكن اقامة حكومة اسلامية واحدة.

واما عند عدم وجود دولة اسلامية فإن لكل فقيه ان يتولى ما يمكن توليه من شؤون الولاية والحكم.

والفارق بين السلطة التنفيذية والافتاء، فيما اشترطناه من توحيد الحاكم في السلطة التنفيذية دون الافتاء، هو أن الفتوى إلاّ ينفذ الا على مقلدي المفتي، وليس شرطاً ان يجتمع المسلمون على تقليد شخص واحد، دون الاحكام التنفيذية التي يصدرها الحاكم، فهي تنفذ على المسلمين كافة ويجب على كل المسلمين امتثال الاحكام التي يصدرها الحاكم في انقياد وطاعة. كما ان الحكم يعتبر ناقضاً للفتوى دون العكس.

وفي ظرف وجود حكومة اسلامية أو إمكان اقامتها ليس من الممكن ان يكون هذا الحق لعامة الفقهاء وان يكون لكل فقيه هذا النفوذ الواسع والشامل في الحكم، فان ذلك يؤدي الى اضطراب وقلق في صفوف الامة وفي اجهزة الدولة.

فان من الضروري توحيد الحاكم في الدولة الاسلامية لأن طبيعة الشمول والعموم الذي يصف به الاسلام حكم الفقيه يتنافي مع اعتبار حكم اكثر من فقيه واحد في الوطن الاسلامي او في اقليم واحد في حالة وجود الدولة الاسلامية.

وشؤون الولاية والحكم على نوعين:

منها ما نعلم مشروعية وجودها ورغبة الشارع في تحققها بغض النظر عن وجود الحاكم وعدمه.

ومنها من يفهم من ادلتها ان الشارع قد اناط مشروعية وجودها بحكم الحاكم وامره.

ويصطلح على القسم الاول من الشؤون التنفيذية احكام "الحسبة". ويطلق على القسم الثاني من الشؤون التنفيذية احكام "الولاية العامة".

وفيما يأتي سوف نبحث عن كل من أحكام الحسبة واحكام الولاية العامة في حدود ما يتسع له صدر هذا الحديث.

 

1 ـ احكام الحسبة:

ويقصد من الامور "الحسبية" ما يعلم مشروعية وجوده من قبل الشارع بغض النظر عن وجود الحاكم الاسلامي وهيئة الحكومة الاسلامية. يقول الشيخ الانصاري في تحديدها:

"الامور التي يكون مشروعية ايجادها في الخارج مفروغاً عنها، بحيث لو فرض عدم الفقيه كان على الناس القيام به كفاية"(5).

وهي بذلك تشمل كافة المرافق الحيوية التي يأمر الشارع بها ويرغب في ايجادها وتحقيقها، كالمشاريع العمرانية، والصحية، والثقافية، ودوائر التفتيش، والرقابة العامة على الاسواق والاسعار، ودوائر البلدية، والشرطة، والتموين، والتجارة، والاقتصاد، والصناعة، والتربية، والتعليم، والارشاد، وغير ذلك من الاعمال والمشاريع التي يأمر الشارع بايجادها ويرغب في تحقيقها، بغض النظر عن وجود حكومة اسلامية [أو لا].

وكلمة (الحسبة) مأخوذة من الحساب، وهي اسم مصدر من الاحتساب. ووجه التسمية في ذلك ان هذه الاعمال يأتي بها المكلفون حسبة ـ لله تعالى ـ أي يحتسبون أجرهم وثوابهم في ذلك على الله؛ فهي بذلك تشمل كل اعمال البر والخير فيما تتوقف عليه سلامة الحياة الاجتماعية واستقرارها، ومما يرغب الشارع في تحقيقه في الحياة الاجتماعية على أية حال.

فنطاق الامور الحسبية إذن أوسع من نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليست تنحصر في نطاق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما يرى ذلك بعض الباحثين في الحسبة(6)، وانما تشمل الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعمال البر والخير التي يتوقف عليها نظام الحياة الاجتماعية وسلامتها، والواجبات الكفائية، وكلما نعلم بمشروعية وجوده من دون ان يكون متوقفاً على حكم الحاكم وامره.

والتكليف بمباشرة هذه المهام والاشراف عليها يخص الحاكم الاسلامي عند وجود دولة اسلامية، نظراً إلى الادلة الشرعية التي تثبت ولاية الفقيه على الشؤون والمشاريع العامة، مما تتوقف عليه سلامة المجتمع واستقراره، بالاضافة الى ما ينشأ عادةً من تدخل اكثر من جهة واحدة في الشؤون والاعمال العامة ـ في ظرف وجود دولة اسلامية ـ من فوضى واضطرابات في صفوف الامة وفي اجهزة الدولة.

وبعكس ذلك حين يتولى الحاكم العام الاشراف على الامور الحسبية وتنسيقها وتوزيعها على دوائر مختلفة من ذوات الاختصاص في المسؤوليات المنوطة بها، فان المجتمع ينعم بكثير من النظم والاستقرار في حياته، وتتحقق أغراض الشارع في ذلك أكثر من أي وقت آخر.

وأما اذا لم تكن هناك دولة اسلامية فالفقهاء العدول هم اولى الناس بذلك، والقدر المتيقن من المخاطبين بهذا التكليف، وعند عدم تيسر ذلك تنتقل الاوامر الى عدول المؤمنين ومنهم الى عامة المكلفين.

يقول الشيخ النائيني في تعليقته على المكاسب:

"وبالجملة، الامور التي يعلم من الشرع مطلوبيتها في جميع الازمنة ولم يؤخذ في دليلها صدورها من شخص خاص، فمع وجود الفقيه هو المتعين للقيام بها؛ إما لثبوت ولايته عليها بالادلة العامة، او لكونه هو المتيقن من بين المسلمين، او لئلاّ يلزم الهرج والمرج. فيعتبر قيام الفقيه به مباشرة او باذنه او استنابته، ومع تعذره فيقوم به سائر المسلمين"(7).

وبذلك تعتبر الامور الحسبية من واجبات الحاكم الاسلامي ومسؤولياته عند وجود دولة اسلامية، ومن واجبات الفقهاء عامة عند فقدان الدولة الاسلامية، ومن واجب المسلمين بشكل اعم عند فقدان الفقهاء.

 

2 ـ احكام الولاية العامة:

ونقصد من احكام الولاية العامة، ما يفهم من دليلها مشروعية وجودها بأمر الحاكم وحكمه، وهي الاحكام التي يربطها الشارع بالسلطة الاسلامية الحاكمة كالجهاد، وإجراء الحدود في التشريع الاسلامي، وفرض الضرائب المالية كلما اقتضت المصلحة الاسلامية ذلك، وعزل الولاة ونصبهم، وكلّ ما تقتضيه المصلح الاجتماعية من عمل يتوقف مشروعيته على حكم الحاكم وامره.

وقد لا يكون المصطلح وافياً بهذا المعنى، ولكننا حيث حددنا المقصود من المصطلح فليس من المهم بعد ذلك أن يفي هذا المصطلح بهذا المعنى وفاءً تاماً ام لا.

وبذلك يتضح الفرق بينها وبين الامور الحسبية، حيث ان الامور الحسبية، كما سبق أن شرحنا ذلك، لا تتوقف مشروعية وجودها على وجود الحاكم وأمره، بعكس أحكام الولاية العامة التي يربطها الشارع بالحاكم الاسلامي وجهاز الدولة الاسلامية.

 

الفرق بين الحكم والفتوى

وقد جرت العادة على تسمية الاوامر التي يصدرها الحاكم فيما يتعلق بشؤون الولاية بـ (الحكم). وكلمة (الحكم) تأتي هنا في قبال (الفتوى)، وتختلف عن الفتوى في طبيعته ـ وآثاره ـ. فالفتوى اخبار عن الحكم الشرعي يقوم به الفقيه بناءً على المستندات الفقهية التي يملكها في الكشف عن حكم الشارع في قضية ما، بينما الحكم ليس إخباراً عن حكم الشارع، وانما هو انشاء للحكم يقوم به الفقيه الحاكم.

ويختلف الحكم عن الفتوى من حيث الاثر ايضاً، فإن الحكم ينفذ على كافة المسلمين، ويجب عليهم امتثاله فيما اذا كان الحاكم صالحاً للحكم، وفيما اذا لم يكن المكلف يعلم بالقطع بخطأ الحاكم في حكمه، دون فتوى الفقيه حيث لا ينفذ الا على مقلديه دون غيرهم.

وكما ان الفتوى ينقض بالحكم ولا ينقض الحكم بالفتوى، فان الغرض من الحكم المنع من حدوث الفوضى في المجتمع، وتوحيد المجتمع في رأي واحد وحكم واحد.

واذا كان الفتوى يَنقُض لم ينقطع الفوضى في المجتمع لاختلاف المجتهدين في الرأي غالباً واختلاف مبانيهم في الفتوى.

والفتوى ليس حجة في الموضوعات، اذ ليس للمفتي إلا أن يخبر عن الاحكام الشرعية الثابتة. والمقلد هو الذي ينظر في الموضوعات. وأمر تشخيص الموضوعات موكل الى نظر العرف دون المجتهد.

وذلك بعكس الحكم، حيث يكون حجة في الموضوعات، فينفذ حكم الحاكم في ثبوت الهلال وحرية شخص وكفر شخص وكون ارض مسجداً وغير ذلك.

واذا حكم الحاكم بحرية شخص فلا يجوز شراؤه واسترقاقه. واذا حكم بكون ارضٍ مسجداً فلا يجوز بيعه او شراؤه او هبته وغير ذلك، كما اذا حكم بثبوت هلال شوال فلا يجوز صوم ذلك اليوم. وقد ورد في كلمات بعض الفقهاء اختصاص الحكم بموارد الخصومة(8). وليس ذلك بصحيح لتعلق الحكم بثبوت الهلال وبالحدود وبغير ذلك من الامور التي لا تقع مورداً للخصومة، ولا تعرض على القضاء.

ولا يسعنا المجال هنا لشرح الحكم وتوضيح الفرق بينه وبين الفتوى أكثر مما ذكرنا.

وبإمكان القارئ ان يرجع الى الموسوعات الفقهية في استيضاح اكثر لمعنى الحكم والفرق بينه وبين الفتوى (9) على ان المسألة ليست محررة تحريراً وافياً في الكتب الفقهية بشكل يرضي الباحث.

 

حق الفقيه في الحكم ونفوذ حكمه

وهاتان المسألتان متلازمتان بلحاظ الادلة التي تثبت كلاً منهما؛ فان النصوص الشرعية التي تتكفل إثبات حق الفقيه في الحكم تفي في الوقت نفسه بإثبات نفوذ حكمه ووجوب الانقياد له، ولا يمكن التفكيك بين المسألتين من حيث الادلة المثبتة لكل منهما. ولا نريد ان نعيد استعراض الادلة التي تثبت حق الفقيه في الحكم ونفوذ حكمه على المسلمين، وانما نريد ان نشير هنا فقط الى التلازم بين هاتين القضيتين في الادلة المثبتة لكل منهما، وأنه لا يمكن التفكيك بينهما بلحاظ الادلة المثبتة لأي منهما.

فان هناك نصوصاً صريحة في ذلك كقوله (ع) في التوقيع الشريف:

"واما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم، وانا حجة الله".

وقوله (ع) في مقبولة عمر بن حنظلة: "ينظران من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا، وعرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فإني قد جعلته عليكم حاكماً".

وقول الامام امير المؤمنين (ع): "مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حرامه وحلاله".

وغير ذلك من النصوص الشرعية الصريحة في اثبات ذلك.

وهذه النصوص كما تتكفل إثبات حق الفقيه في الحكم تثبت كذلك نفوذ حكم الحاكم ووجوب امتثاله على المسلمين من دون فرق.

 

توحيد السلطات الثلاث في عصر الغيبة

ومما تقدم من حديث يتضح أن للحاكم الاسلامي في عصر الغيبة الحق في ممارسة كل من الافتاء والقضاء والشؤون التنفيذية الاخرى.

وقد قدمنا في ذلك من الادلة ما يكفي لاثبات حق الفقيه الحاكم في ممارسة هذه السلطات الثلاث في ظرف وجود الحكومة السلامية، وعند عدم وجود سلطة اسلامية حاكمة.

وكل ما في الامر من فرق بين هذين الظرفين أنه عند عدم وجود سلطة اسلامية يكون لكل فقيه عادل الحق في ممارسة هذه السلطات في الحدود الممكنة، بينما لا يثبت عند وجود دولة اسلامية حق الممارسة الفعلية للسلطات الثلاث بصورة مطلقة الا للفقيه الذي تعين حاكماً على المسلمين.

وأما ما عداه من الفقهاء فليس لهم إلا الحق في ممارسة الافتاء والقضاء في بعض الحدود وبإشراف من الحكومة.

واما الحكم، وهو ما أسميناه بالسلطة التنفيذية، فلا يثبت لكل فقيه ما لم يتعين حاكماً على المسلمين.

وبذلك فإن السلطات الثلاث تجمع في الحاكم الاسلامي في عصر الغيبة، ويعتبر حاكماً في كل من السلطة التنفيذية والقضائية والافتاء، على تفصيل في هذه السلطات.

اما فيما يتعلق بالفتوى فلا تكون فتاوى الحاكم نافذة الا على مقلديه دون غيرهم من المقلدين والمجتهدين. واما فيما يخص السلطة القضائية فان له حق ممارسة القضاء وحق الاشراف على سير القضاء ونصب القضاة وعزلهم، كما سبق ان اشرنا الى ذلك، وكما كان يصنع أئمة اهل البيت (ع). وأما فيما يتعلق بالسلطة التنفيذية فان الاحكام التي يصدرها الحاكم وسلطته تعتبر نافذة على المسلمين كافة، كما تعتبر ناقضة لفتاوى المجتهدين ايضاً فيما لو اختلف الحكم عن الفتوى.

 

سلطات الحاكم بين الجزء الثابت والجزء المتغير من الشريعة

تتحدد سلطات الحاكم الاسلامي بين الجزء الثابت والجزء المتغير من الشريعة؛ فلا يستطيع الحاكم ان يخرج في تصرفاته عن فلك الاحكام الشرعية الثابتة بحال من الاحوال. غير ان ذلك لا يعني أن هذه الاحكام الثابتة من الشريعة تضيق برأي الحاكم وتصرفاته النابعة عما تقتضيه المصلحة الاجتماعية او الظروف الطارئة والمتجددة في الحياة الاجتماعية؛ فقد ترك الاسلام للحاكم مجالاً واسعاً لتصرفاته النابعة عن رأيه الخاص، وعما تتطلبه الظروف والحاجات الوقتية… على مساحة واسعة من الاحكام الشرعية الثابتة.

وللحاكم في هذا المجال ملء الحرية في استعمال رأيه اذا كان نابعاً عن المصلحة العامة، وعن متطلبات المحيط.

وهذا المجال الذي تركه الاسلام للحاكم في اصدار الاحكام والتعليمات السياسية والادارية فيما تقتضيه لا يمكن أن يخرج، كما ذكرنا، عن فلك الاحكام الشرعية الثابتة على أي حال.

فيدخل إذن في تكوين مثل هذه الاحكام عاملان رئيسيان: الاحكام الشرعية الثابتة التي يدور رأي الحاكم في فلك منها، والمصلحة العامة التي ينبع عنها رأي الحاكم وتعليماته وأحكامه.

بينما الاحكام الشرعية الثابتة لا تكون نابعة عن غير المصادر الشرعية المعروفة.

فقوله تعالى: {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وانفسكم في سبيل الله}(10)،

وقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم}(11)، من الاحكام الشرعية الثابتة التي لا يعتريها التغيير والتبديل على أي حال.

وعلى مساحة من هذا الحكم الشرعي الثابت بالكتاب الكريم يعطي الاسلام مجالاً واسعاً للحاكم في تحديد زمن الحرب، وفي تحديد نوع السلاح الذي يجب التدريب عليه، وفي سوق المسلمين القادرين الى التدريب العسكري والى الحرب ومواجهة العدو، واختيار التنظيم والموقف العسكري الافضل، وفرض الضرائب المالية على المتمكنين وكميتها… كل ذلك يدخل في نطاق الجزء المتغير من النظام، والذي يختلف في ظرف اجتماعي عن ظرف اجتماعي آخر، ويكون من حق الحاكم أن يعطي رأيه في كل ذلك في حدود المصلحة الاجتماعية ومتطلبات المحيط.

ولا يكاد يخرج الحاكم في كل ذلك عن فلك الحكم الشرعي الثابت المتقدم.

وقد كانت تسمى من قبل هذه الاحكام المتغيرة والتي يملك الحاكم فيها الاختيار التام في حدود المصلحة الاسلامية بـ(الاحكام السلطانية)، ويقصدون بها الاحكام التي تتقوم برأي السلطة الحاكمة النابع من شروط المحيط ومتطلباته.

 

تطبيقات حديثة

وفي التأريخ الاسلامي الحديث وقبل قيام الجمهورية الاسلامية في ايران، ورغم عدم وجود حكومة اسلامية في الوطن الاسلامي، وعدم وجود قواعد منظمة تعمل في تنفيذ الاحكام التي يصدرها الفقهاء… وجد عدد من الفقهاء الكبار الذين استعملوا صلاحياتهم في هذا الجانب، واصدروا احكاماً سياسية واقتصادية، واستجابت لهم القواعد الشعبية كل الاستجابة، ونفذت تنفيذاً كاملاً من قبل الجماهير، بشكل اذهل المستعمرين، حيث لم يكن يخطر لهم على بال ان يكون للفقهاء كل هذا النفوذ وكل هذه السلطة على نفوس الأمة، بعد محاولات الاستعمار الكثيرة في عزل الامة عن علمائها وقادتها الحقيقيين.

ومن أبرز هذه الحوادث حادثة تحريم استعمال التبغ (التنباك) في ايران من قبل فقيه العصر الزعيم الاسلامي المعروف الميرزا محمد حسن الشيرازي رحمه الله.

فقد منح الشاه في ايران في تلك الفترة امتياز انتاج وبيع التبوغ لشركة بريطانية لعدة سنوات، في قبال كمية كبيرة من المال، كان الشاه بحاجة اليه في وقته.

وعرف الزعيم الشيرازي (رحمه الله) ان هذه الشركة الانجليزية واجهة لشبكة جاسوسية بريطانية، وعمل استعماري واسع في ايران، فحرم شراء واستعمال التبوغ في ايران، واصدر بذلك حكماً.

وما إن اصدرت المرجعية هذا الحكم في وقته وبلغ الناس، حتى امتنع المسلمون في ايران بكافة طبقاتهم من استعمال التبوغ، ورغم الجهود الكبيرة التي بذلتها الشركة البريطانية في استعمال التبوغ وكسر المقاطعة الشعبية الواسعة، فان المقاطعة ظلت قائمة، حتى اضطر الشاه الى الغاء المعاهدة التي عقدها مع الشركة البريطانية.

ولا تخص الاحكام السلطانية الحكام والامراء في عصر الغيبة؛ فقد كان النبي (ص) والائمة يمارسون هذا الحق في مجال الاحكام المتغيرة، وذلك في نطاق من الاحكام الشرعية الثابتة.

ويدخل في الاحكام السلطانية هذه ـ او الأحكام المتغيرة ـ كل التطويرات التي تجري في المجال العسكري والاداري والسياسي وغير ذلك من جوانب الحياة الحديثة.

وللحاكم الاسلامي أن يجري تغييرات كبيرة في المجال الاداري والعسكري والسياسي في حدود ما تتطلبه المصلحة الاجتماعية، وفي الحدود التي لا تخرج عن فلك الاحكام الشرعية الثابتة بمقتضى هذا الحق، ويجب على الامة مطاوعة الحاكم الاسلامي في كل هذه التنظيمات، والانقياد له من دون قيد وشرط.

وبذلك تكون التعليمات والأحكام السلطانية التي يصدرها الحاكم الاسلامي فيما يتعلق بالحياة الاجتماعية نافذةً على المسلمين، ان كانت في حدود المصلحة الاجتماعية والاحكام الاسلامية الثابتة.

 

مرونة جهاز الحكم والادارة في المجتمع الاسلامي

ومثل هذه الصلاحيات التي يمنحها الاسلام للحاكم الاسلامي من شأنها ان تمد الجهاز الحاكم والاداري في المجتمع الاسلامي بمرونة كبيرة تجعلها صالحة للاستمرار ابداً، مادامت تتفاعل مع كل مصلحة تتجدد في الحياة الاجتماعية، وكل حاجة تحدث في اوساط المجتمع؛ فلا يكون الجهاز الحكومي في المجتمع الاسلامي جهازاً منطوياً على نفسه، بعيداً عن مؤثرات الحياة الاجتماعية، ومعزولاً عن العوامل الفاعلة التي تغير الحياة… وإنما يتفاعل باستمرار مع الأحداث الاجتماعية، وما يتجدد من الحاجات والظروف نتيجة لهذه المرونة الكبيرة التي أودعها الاسلام فيه.

(الهوامش)

(1) النساء: 59.

(2) منية الطالب في حاشية المكاسب، تقريراً لأبحاث الشيخ النائيني، تأليف الشيخ موسى الخوانساري: ص 331.

(3) المصدر نفسه: ص 328 ـ 329.

(4) ومما يدل على حق الفقيه في ممارسة القضايا والمهام التي تتعلق بالقضاء وشؤون الولاية العامة ان القضاة المنصوبين من قبل الخلفاء في عصر الامويين والعباسيين كانوا يمارسون مثل هذه الاعمال، وكانت السلطة الحاكمة في ذلك الوقت تخولهم ممارسة هذه المهام.

ولما كانت هذه الحكومات غير معترف بها من قبل أئمة اهل البيت (ع) لانحرافها عن خط الحكم الاسلامي كان الأئمة (ع) يمنعون المؤمنين من مراجعة هؤلاء فيما يحدث بينهم من خلاف، ويأمرونهم بمراجعة القضاة الذين ينصبونهم هم، باعتبارهم أصحاب الحق الشرعي في السلطة.

وطبيعة المقابلة بين قضاة البلاط والقضاة المنصوبين من جانب اهل البيت (ع)، والمنع عن مراجعة اولئك والأمر بالرجوع الى هؤلاء، تقتضي أن يناط الى القضاة المنصوبين من قبلهم (ع) كافة المسؤوليات التي كانت منوطة بقضاة البلاط. وذلك حتى يتأتى لهؤلاء القضاة أن يسدوا الحاجات التي كان يسدها أولئك القضاة.

والمسؤوليات التي كانت تناط بقضاة البلاط من قبل الخلفاء كانت تتناول القضاء والشؤون المتعلقة بالقضاء وبعض شؤون الحسبة والولاية العامة.

ويدل على ذلك الخبر التالي المروي عن الامام الباقر (ع) بوضوح:

روي في الكافي عن محمد بن اسماعيل بن بزيغ قال: مات رجل من اصحابنا ولم يوص، فرفع أمره الى قاضي الكوفة، فصير عبد الحميد القيم بماله، وكان الرجل خلّف ورثة صغاراً ومتاعاً وجواري؛ فباع عبد الحميد المتاع، فلما أراد بيع الجواري ضعف قلبه عن بيعهن، إذ لم يكن الميت صير اليه وصيته، وكان قيامه منها بأمر القاضي. قال: فذكرت ذلك لأبي جعفر (ع) وقلت له: يموت الرجل من اصحابنا ولا يوصي الى احد، ويخلّف جواري، فيقيم القاضي رجلاً منا ليبيعهن، او قال يقوم بذلك رجل منا فيضعف قلبه. فما ترى في ذلك؟ قال: اذا كان القيم به مثلك او مثل عبد الحميد فلا بأس. (وسائل الشيعة، كتاب التجارة. الباب 16 من ابواب عقد البيع وشروطه).

(5) المكاسب للشيخ الانصاري، بحث الولاية.

(6) الدولة ونظام الحسبة: تأليف محمد مبارك: ص 72.

(7) منية الطالب: ص 329.

(8) قال الشهيد رحمه الله في القواعد، في قاعدة الفرق بين الفتوى والحكم: "ان الحكم انشاء اطلاق او الزام في المسائل الاجتهادية وغيرها مع تقارب المدرك منها، مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش".

وخص بذلك الحكم بموارد الحكومة، وليس ذلك بصحيح كما ذكرنا في المتن. وفي كلام الشهيد رحمه الله مواضع اخرى [قابلة] للمناقشة لا يهمنا التعرض لها هنا.

(9) من المصادر المفيدة في هذه المسألة كتاب القضاء للعلامة الكني: ص 201 ـ 252.

(10) التوبة: 41.

(11) الانفال: 60.