الأستاذ نبيل علي صالح
تمهيد ضروري
أثارت نظرية ولاية الفقيه، التي انطلقت في الواقع السياسي والاجتماعي الإسلامي المعاصر بعد انتصار الثورة الإسلامية في ايران، وإقامتها للحكم والدولة الإسلامية وفق مذهب أهل البيت (ع) في تأكيده الشرعي (الديني) على ضرورة وجود ولي يسعى إلى تشكيل حكومة إسلامية يكون فيها (هذا الولي) الحاكم الفعلي على الأمة الإسلامية، أقول: أثارت هذه النظرية «الفقهية السياسية» الكثير من الجدل والتساؤل حول مختلف الجوانب والعناصر المكونة لها، والمتفرعة عنها في طبيعة حجمها الفكري والسياسي، وطريقة اقرارها، والصلاحيات التي تعطيها للولي الفقيه في ممارسته لمسؤوليات استلام السلطة وإدارة البلاد، وتولي المهام الحكومية (على مستوى العلاقة التي تربطه بالمجتمع ومختلف الشرائح والمواقع الاجتماعية والتيارات السياسية العاملة في داخله) وأيضا في طبيعة الأحكام والضوابط الفكرية والعملية (الشرعية) التي تتحرك مفاعيلها، في إطار الواقع، من خلال ضرورة وجود حكومة إسلامية في عصر الغيبة (غيبة الإمام الثاني عشر "عج") تعمل على نقل تلك الأحكام والتصورات والمفاهيم السياسية والدينية الفقهية، بشكل مباشر وغير مباشر، إلى ساحة الحياة عبر أنظمة الدستور الإسلامي ومواده.
وإذا كانت نظرية ولاية الفقيه قد شكلت حاليا النظرية الوحيدة المتكاملة والناضجة التي تمكنت من ايجاد مواقع قوية لها في الواقع الإسلامي المعاصر، في طبيعة تحديدها الحاسم لأصول النظام السياسي الشرعي ومرتكزاته في عصر غيبة الإمام المنتظر "عج"، فإن ذلك لا يعفي أصحابها والمنظرين لها من الوقوف المتأني الواعي أمام تلك التساؤلات والاشكاليات التي أثارها، ولايزال يثيرها، الكثيرون حول تلك النظرية، ومحاولة البحث والتحقيق فيها من جديد، والإجابة الجادة المسؤولة عنها.
ضمن هذا الاطار تأتي دراستنا هذه لتسلط الضوء على معنى مصطلح ولاية الفقيه، وبيان المقصد الحقيقي من البحث فيها، وبالتالي إنجاز مختلف عناصرها ومعطياتها، والعمل على تطبيقها في دولة الإسلام المعاصرة التي أسمح لنفسي بأن أطلق عليها «دولة المشروع الإسلامي النهضوي».
ونحن عندما نؤكد على أن ايران، اليوم، تشكل قاعدة أساسية للمشروع الحضاري النهضوي الإسلامي فإننا نرى، بطبيعة الحال، أن هناك علاقة جوهرية وجذرية قأئمة بين نظرية ولاية الفقيه، باعتبارها المعتقد الفكري والسياسي، والمكوّن الفقهي الشرعي لمشروع الإسلام في ايران وبين مشروع النهضة الإسلامي الذي شكل الإنجاز الإسلامي في ايران أحد أهم معالم حضوره المميز، واطلالته البهية على ساحات العصر والحياة الراهنة. ولذلك سنعمل، في هذه الدراسة، على ايضاح هذه العلاقة الوطيدة بينهما وابرازها من خلال بحثنا عن عناصر هذه النهضة الحضارية ومفرداتها ومزاياها عند الإمام الخميني (قده).
أولاً: معنى ولاية الفقيه
تعني الولاية في أي أمر، وبخاصة في القضايا والأمور الاعتبارية، الحق الشرعي في تولي ذلك الأمر، والقيام بمسؤولياته، والالتزام الطوعي بمقتضيات وجوده وامتداده في ساحة الحياة، والسعي الحثيث الصادق والدؤوب باتجاه اصلاحه وتقويمه إذا استلزمت بنيته الذاتية ذلك. وبذلك تكون «ولاية الأمر» عبارة عن الالتزام الطبيعي بالاشراف والقيام بالمسؤولية، والتعهد بأداء الخدمات اللازمة في سبيل اصلاح شؤون الأمة وأحوال العباد ومواقع البلاد بكل تفرعاتها وامتداداتها الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية، بحيث يقوم (ذلك التعهد والتصدي للأمر) على مبادئ شرعية رسالية تضع ولي الأمر(المتصدي لمسؤولياته الرسالية في الأمة) في موقع خدمة الناس، وحفظ النظام وإقامته بكل اخلاص وصدق وأمانة، ليكون هذا الولي، من خلال ذلك، مسؤولا عن أدائه السياسي والديني أمام الله تعالى، وكذلك أمام الأمة والجماهير الواسعة. وبالإضافة إلى ضرورة توفر شرط الحصول على مواقع رسالية علمية عالية في الفقه والفكر الإسلامي، وامتلاك المعلومات والمعطيات اللازمة المتعلقة بأوامر الشارع في ما يخص قيادة الأمة واستلام مهام الولاية فيها، بوصفه عاملا أساسيا مسبقا في مسألة صلاحية الاضطلاع بمقام القيادة، فإنه لابد من توافر شرط آخر يتكامل مع الشرط الأول في ذلك، وهو القدرة النفسية والعملية على إدارة حياة الأمة والمجتمع وشؤونهما.
وإذا كانت مسألة الحكم والنظام والقيادة هي التي تمحور الحديث حول فكرة الولاية، في سياق ضرورة وجود الحكومة الإسلامية التي تعني إدارة حياة الناس على وفق شريعة الله، وتنظيمها على أساس الإسلام، فإننا نجد أن تعريف ولاية الفقيه يجب أن يأتي هنا منسجما مع تلك المقدمات، من خلال كونها نظرية دينية وسياسية إسلامية ترتكز على أساس وجود نظام إسلامي، يقف على رأسه فقيه عالم عادل يتولى إدارة الحياة على أساس الأنظمة والقوانين المشرعة إسلاميا (التي تنظم علاقات الإنسان المتنوعة)، المطلوب إقامة الحياة البشرية على أساسها في عصر غيبة الإمام المنتظر (عج)، أي أن يكون مرجع الحكم في هذا العصر، وولاية الشؤون العامة في المجتمع من سياسة واقتصاد وحرب وسلم وشؤون اجتماعية و..، بيد الفقيه العادل العامل ضمن شكل إسلامي معين للحكم الذي يديره من خلال واقع البلد والأمة بأفضل شكل وصيغة ممكنين، توفر للأمة أجواء العمل المنتج الذي يخدم قضاياها وأهدافها على طريق التطور والتقدم، ويسمح لأفرادها بالمشاركة في الحياة العمومية بكل وعي واختيار وحرية، بما في ذلك ممارستهم للنقد الواعي البناء الذي ليس له غاية سوى تسليط الضوء على مواقع الخطأ، وبالتالي العمل على تصحيحها.
ونحن عندما نتحدث عن ولاية الفقيه، فإننا نريد بها، حصرا، الجانب التشريعي الذي يضع الفقهاء العدول في مستوى التشريع والتنظيم، وتقديم القوانين اللازمة للاشراف على إدارة المجتمع الإسلامي، من حيث كونهم المرجعية الحقيقية في تحديد الحكم الشرعي، واستكشافه، واستنباطه، وتوجيه الأمة، من خلال حق الأمر والنهي، للعمل والالتزام به. والمصادر الإسلامية المعروفة تحفل بالكثير من النصوص والروايات والأحاديث التي تبين حدود علاقة المسلم بنفسه وغيره، وعلاقة الأمة الإسلامية بسواها من الأمم والحضارات المختلفة المنتشرة على امتداد ساحة الحياة البشرية، كما أنها تبين أحكام الشرع في الزواج والطلاق والميراث والعقود والتجارة... (إلى غير ذلك مما يهم المجتمعات الإنسانية)، وتلزم المسلم بالاحتكام والخضوع لشرع الله: {ومن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون}[المائدة:44]. هذا الشرع وتلك الأحكام التي تحتاج إلى هيئة تديرها وتمارس صلاحيات تنفيذها، وسلطة (حكومة إلهية صالحة وعادلة) تعمل بضروراتها بهدف تحقيق أهداف الإسلام العليا، وانتظام معيشة أبنائه وكسبهم داخل الأمة الإسلامية.
إلى هنا نحن لم نطرح التحديد الفقهي الحقيقي لنظرية ولاية الفقيه، باعتبار أن لها حدودا قد تتسع وتضيق تبعا لسعة الرأي الفقهي (الخاص بهذا الفقيه أو ذاك) وضيقه. لكن معظم المؤمنين بخط ولاية الفقيه، تحديدا، يقولون بالولاية المطلقة التي يتولى فيها الولي الحكم بين الناس، كما ذكرنا سابقا، بقضاياهم العامة في جوانب السياسة والاقتصاد والاجتماع و.. الخ، ويصدر أوامره ليلزم الأمة، من خلال المصلحة الإسلامية العليا، بضرورات (أوامر) عملية معينة بقطع النظر عن هذه الأوامر. . ويملأ الفراغات التشريعية الناتجة عن تغيرات الزمان والمكان، والمتصلة بالنظام العام في ما جعله الشارع منطقة لولي الأمر، وغير ذلك من الأمور والمسائل المرتبطة بحركة الأمة ونموها وسلامتها وتطورها وتكاملها على خط الإسلام المحمدي الأصيل.
ثانيا: أدلة ثبوت ولاية الفقيه
يتقوم الوجود النظري لولاية الفقيه، بحسب آراء الكثير من منظريها والقائلين بها، بالأمور التالية:
الهدف من التشريع (قيام حكومة إسلامية عادلة):
فقد أنزل الله تعالى دين الإسلام على الرسول (ص) من أجل أن يكون دين الحياة الخالد والشامل (لكل مفاصلها ومواقعها) الذي ينظم أحوال الناس المختلفة، فلا يحتاجون معه إلى شي ء، ويقيم لهم أسس العدل الذاتي والموضوعي، فلا يخضعون معه إلى ظلم.. وطالما أن الهدف الأساسي من بعثة النبي الكريم (ص)، وكذلك كل الأنبياء والرسل (ع)، هو إقامة العدل بين الناس، فلا يمكن، والحال هذه، أن ينفذ الدين الإسلامي أحكامه، ويطبق قوانينه وتشريعاته إلا من خلال وجود قيادة كفوءة رشيدة وعادلة، لأن ترك الأمور يؤدي إلى الفوضى، والرجوع إلى الشورى لم تثبت سلامته الحاسمة بعد. لذلك لم يبق أمام الأمة والفقهاء إلا سلوك طريق ولاية الفقيه العادل والمؤتمن على العباد والبلاد. ثم أن خط الولاية للنبي (ص) وأهل البيت (ع) لا يمكن أن تنتهي معالمه وعناوينه ومظاهره المتألقة بمجرد حصول غيبة الإمام المهدي (عج)، بل لابد من أن يكون لها تجذر وامتداد في ساحة الحياة. من هنا تمثل الولاية للفقهاء العدول استمرارا لخط الأئمة (ع) في أخلاقهم، وسلوكهم، وطريقتهم في العمل، وأسلوبهم في الدعوة والتزام الإسلام من جانب، كما تمثل، من جانب آخر، البديل (الطبيعي والمنطقي) عن حركة الأئمة (ع) في غيابهم، ولكن من دون أن يكون (هؤلاء الفقهاء) معصومين، لأن العصمة لا مدخلية لها في ذلك، لأنها تتصل بطبيعة تأدية العمل الإسلامي الرسالي، في ضرورة المحافظة القصوى على سلامة الخط الفكري الإسلامي في حياة الناس بالمستوى النظري أساسا.
يقول الإمام الخميني في كتابه (الحكومة الإسلامية): «تولي أمر الحكومة بحد ذاته ليس مرتبة ومقاما، وإنما مجرد وسيلة للقيام بوظيفة الأحكام، وإقامة نظام الإسلام العادل.. يقول أمير المؤمنين (ع) لابن عباس عن نفس الحكومة: «ما قيمة هذا النعل؟»، فقال ابن عباس: لا قيمة لها. فقال (ع): «والله لهي أحب إليّ من أمرتكم إلا أن أقيم حقا (أي أقيم قانون الإسلام ونظامه) أو أدفع باطلا» (أي القوانين والأنظمة الجائرة والمحرمة). إذاً، فنفس الحاكمية والإمارة مجرد وسيلة ليس إلا».
ويقول (رض) في موقع آخر من كتابه: «الأئمة والفقهاء العدول مكلفون بالاستفادة من النظام والتشكيلات الحكومية من أجل تنفيذ الأحكام الإلهية، وإقامة النظام الإسلامي العادل، والقيام بخدمة الناس. الحكومة بحد ذاتها بالنسبة لهم لا تعني سوى المشقة والتعب. لكن ما العمل؟! إنهم مأمورون بالقيام بالوظيفة. فمسألة «ولاية الفقيه» هي مسألة تنفيذ مهمة والعمل بالتكليف».
2ــ النصوص الشرعية:
ومعظمها من الأحاديث الكثيرة، الواردة في مجال تثبيت حاكمية الفقهاء العدول (بمعان وطرق وآليات متعددة)، نختار منها ما يلي:
أ ــ روي عن رسول الله (ص) أنه قال: «اللهم ارحم خلفائي »، قيل: يا رسول الله، ومن خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون بعدي يروون حديثي وسنتي...».
ب ــ قول الرسول (ص): «العلماء ورثة الأنبياء». و«الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا»، قيل: يا رسول الله، وما دخولهم في الدنيا؟ قال: «اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم».
ج ــ ما روي عن الإمام علي (ع): «مجاري الأمور والأحكام على أيدي العلماء بالله، الأمناء على حلاله وحرامه». ويشمل معنى كلمة «مجاري الأمور» كل شؤون الناس في المجتمع.
د ــ ومنها ما روي عن الإمام الكاظم (ع): «إن المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصون سور المدينة لها».
هــ ــ ومنها ما روي عن صاحب الزمان (عج): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وإنا حجة الله..».
3 ــ ضرورة وجود قيادة حاكمة (تشكيل الحكومة الإسلامية):
يعطي الجو العام الذي يحيط بعمل الفقيه، في نطاق الأحكام والواجبات الشرعية الملقاة على عاتقه، قناعة راسخة لدى هذا الفقيه أو ذاك بأنه لابد من وجود قيادة تحكم مسيرة الأمة وتوجهها نحو تحقيق أهدافها الإسلامية العليا التي لا تخضع لأمزجة البشر وأهواء الناس بما يشكل استكمالا حقيقيا لمسيرة الإمامة في الأمة التي يفترض بقيادتها تلك أن تملك وضوح الرؤية في الشرعية التي تحكم الواقع، وتقوده إلى الفلاح والصلاح من خلال المعرفة الواعية والعميقة والشاملة للشريعة، والخبرة الواسعة لآفاق الحياة من حولها.
وفي هذا المجال، يذكر الفقهاء في بحوثهم ودراساتهم الإسلامية أدلة ثلاثة (عقلية وشرعية) على ضرورة تشكيل حكومة إسلامية في عصر الغيبة:
أ ــ أحكام الإسلام تستلزم الحكومة:
فالأحكام الشرعية الإسلامية لم تأت من أجل أن يقوم المبلغون والعلماء بإيصالها إلى المكلفين فقط، بل لابد من وجود جهة اشرافية، إذا صح التعبير، تقوم بتبليغ الأحكام وتعمل، في الوقت نفسه، على تنفيذها، وتوجيه حركة الفرد والأمة باتجاهها بما يتناسب مع مفاهيم الإسلام ومبادئه.
ليتحقق هذا الهدف الكبير جاءت مسألة «ضرورة إقامة الحكومة الإسلامية» وإيجاد مؤسسات وهيئات تنفيذية على يد الرسول (ص) والأئمة (ع).. وهذه الضرورة لم ترفع حتى الآن، بل على العكس من ذلك، لقد زادت وتائرها في عصر غيبة الإمام الحجة (عج)، باعتبار أن الأحكام والتشريعات الأساسية لم تتغير بتقادم الزمن، ولم تسقط عن الاعتبار.
ب ــ حفظ نظام الناس وتأمين حقوقهم ومصالحهم:
لا تتحقق مسألة حفظ النظام العام للأمة (أية أمة) إلا بوجود حكومة ومؤسسات تنفيذية تقوم باخراج التشريعات الإسلامية إلى حيز التطبيق. والأمة الإسلامية ليست بعيدة عن هذا الهدف الكبير.. من هنا جاءت ضرورة تشكيل حكومة إسلامية عادلة تعمل على حفظ نفوذ المسلمين، وحمايتهم، وتأمين مصالحهم، ورعاية حقوقهم وإعراضهم. وهذه الحاجات الواضحة للمجتمعات الإسلامية لا يعقل تركها من الحكيم، الصانع، الخالق، المدبر، اللطيف بعباده، الرؤوف بهم، ولا يعقل أن يتركهم بعد غيبة ولي الأمر (عج) مضطربين متزلزلين، لا نظام يجمعهم، ولا عدل ينشر بينهم، من دون حماية، ولا وسيلة يركنون إليها لتلبية تلك الحاجات، لا سيما وأن الغيبة ربما تمتد لسنين متمادية، ولعلها تطول، والعياذ بالله، إلى مئات السنين (والعلم عنده تعالى)، فهل يعقل من حكمة الباري الحكيم إهمال الأمة الإسلامية وعدم تعيين تكليف لهم؟ وهل يرضى الحكيم تعالى بالهرج والمرج واختلال النظام، ام هل يرضى لهم بأن يذوبوا في سائر المجتمعات التي يعيشون فيها، وأن يتخلوا بالتالي عن دينهم وإسلامهم وشرعهم، ولم يأت بشرع قاطع للعذر لئلا تكون للناس عليه حجة إذا انقادوا لغير دين الله في حياتهم الاجتماعية والسياسية المحتاجة إلى حكومة ووال؟! إن هذا الأمر لا يتعقل على الإطلاق. فالمشرع الحكيم قد جعل سبيلا لنا، وكل ما علينا فعله هو أن نفتش عن هذا السبيل.
ج ــ آيات القرآن وأحاديث الرسول (ص) والأئمة (ع):
يوجد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ضرورة وجود نظام عام يجمع الناس على الحق، ويرفع عنهم الخلاف والتناحر والتوتر، ويحقق لهم العدل والرحمة والسعادة. ومن الطبيعي ألا يكون تحقيق تلك الأهداف، التي هي أهداف النبوة والإمامة، ممكنا في الواقع العملي دون وجود ولاية دينية شرعية يتولاها أناس محددون (أولو الأمر)بالاسم والصفات، لأن هداية الإنسان إلى كماله وسعادته لا يكون إلا من خلال نداء الفطرة في داخله أو من خلال أمر آخر خارج عنه يعمل على توجيه مسيرة الإنسان والمجتمع نحو كماله الممكن له. ويبدو لنا أن هذا الأمر الخارجي لا يمكن أن يرتكز على المبادئ والقيم التي توصلت إليها تجارب الإنسانية والمجتمعات البشرية عبر تاريخها الطويل، أي أنه لا يمكن الركون إلى الإنسان وحده لكي يقرر مصيره ويدير شؤون حياته المختلفة، ويحقق العدل لوحده وبنفسه (باعتبار أن الإنسان ظلوم جهول وكفور)، حتى وإن كان التشريع موجودا عنده، فإن مجرد وجوده لا يكفي لرفع الاختلاف والتناقض، لذلك لابد من وجود حكومة عادلة تقف على رأس قيادة الأمة، وتقوم بأداء مهام رفع الخلاف وإقامة العدل بين الناس. وأما الروايات فكثيرة، وهي على قسمين، كما يؤكد أحد الباحثين:
القسم الأول: ما دل على أن كل ما يحتاج إليه العباد قد شرع الله فيه تشريعا. ويستفاد في هذا القسم من الروايات: أن الله قد شرع تشريعا ما في ما نحتاجه في حال الغيبة. يقول الإمام الصادق (ع): «إن الله تبارك وتعالى أنزل في القرآن تبيان كل شيء حتى والله ما ترك الله شيئا يحتاج إليه العباد حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن ألا وقد أنزل الله تعالى فيه». يقول (ع) ــيضا نقلا عن أمير المؤمنين علي (ع): «الحمد لله الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بينت للأمة جميع ما تحتاج إليه».
يعلق الإمام الخميني(قده) قائلا: «وأي حاجة كالحاجة إلى تعيين من يدبر أمر الأمة ويحفظ نظام بلاد المسلمين طيلة الزمان ومدى الدهر في عصر الغيبة، مع بقاء أحكام الإسلام التي لا يمكن تنفيذها إلا بيد والي المسلمين وسائس الأمة والعباد».
القسم الثاني: ما دل على ضرورة الإمامة في حياة الناس من حيث حفظ النظم ورفع الاختلاف، وان هذه الضرورة لا تنحصر بزمان دون آخر. يقول الإمام علي (ع): «فرض الله الايمان تطهيرا من الشرك... إلى أن يقول: والإمامة نظاما للأمة».
ويقول الإمام الرضا (ع) في ما رواه الشيخ الصدوق في علل الشرائع وعيون أخبار الرضا (ع) بسنده عن الفضل بن شاذان: «فإذا قال: فلم جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم قيل: بعلل كثيرة: منها: أن الخلق لما وقفوا على حد محدود وأمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك ولا يقوم إلا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي والدخول في ما حظر عليهم، لأنه إن لم يكن ذلك كذلك لكان ــحد لا يترك لذته ومنفعته لفساد غيره، فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد، ويقيم فيهم الحدود والأحكام.
ومنها: إنا لا نجد فرقة من الفرق ولا ملة من ملل بقوا وعاشوا إلا بقيم ورئيس لما لابد لهم من أمر الدين والدنيا، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه ولا قوام لهم إلا به فيقاتلون به عددهم، ويقسمون به فياهم، ويقيم لهم جمعتهم وجماعتهم، ويمنع ظالمهم من مظلومهم.
ومنها: أنه لو لم يجعل لهم إماما قيّما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة، وذهب الدين، وغيرت السنة والأحكام، ولزاد فيه المبتدعون، ونقص منه الملحدون، وشبهوا ذلك على المسلمين، لإنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحاتهم. فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول لفسدوا على نحو ما بيّنا، وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والايمان، وكان في ذلك فساد الخلق اجمعين».
وبذلك يتضح أن العقل والشرع متفقان تماما على ضرورة إقامة الحكم الشرعي الإسلامي العادل، وبذل أقصى الجهد النفسي والعملي من أجل تحقيقه على أرض الواقع. الآن، وبعد أن ثبت سابقا أنه لابد من قيام حكومة إسلامية عادلة تحافظ على نظام الأمة، وترعى مصالحها وشؤونها الحياتية المختلفة، وتدافع عنها وعن أرضها وحقوقها وفق الإسلام.. فإنه يطرح السؤال التالي: هل يحق لأي شخص أن يكون حاكما وواليا على بلاد الإسلام والمسلمين.. أم أن هناك شروطا ومواصفات حددها الشارع المقدس لمن يريد استلام هذه المسؤولية الرسالية الرفيعة؟! وإذا كان الأمر كذلك فما هي هذه الشروط الواجب توفرها في ولي المسلمين؟!:
أ ــ أن يكون الولي عالما بالقانون الإسلامي والتشريعات الفقهية الإسلامية.
ب ــ أن يكون حائزا على شرط العدالة (التقوى والورع) التي يظهر من خلالها حرصه الشديد على الالتزام الشخصي العميق والتقيد التام بكل الأنظمة والأحكام الإسلامية، باعتبار أن الفقيه، كما يؤكد الإمام الخميني (قده)، ينهض بكل ما نهض به الرسول (ص) لا يزيد ولا ينقص شيئا، فيقيم الحدود كما أقامها الرسول، ويحكم بما أنزل الله، ويجمع فضول أموال الناس كما كان ذلك يمارس على عهد الرسول (ص)، وينظم بيت المال، ويكون مؤتمنا عليه. وإذا خالف الفقيه أحكام الشرع، والعياذ بالله، فإنه ينعزل تلقائيا عن الولاية لانعدام عنصر الأمانة فيه، فالحاكم الأعلى في الحقيقة هو القانون، والجميع يستظلون بظله.
ج ــ أن يمتلك الكفاءة الفكرية والعملية الإسلامية التي تؤهله لإدارة شؤون الأمة وقيادتها نحو المواقف الأفضل والأقوى، من حيث سلامة النتائج المستوحاة على مستوى تحقيق المصالح الإسلامية العليا.
د ــ أن يكون مثقفا بالمعنى الحياتي العام، أي أن يمتلك الوعي الإسلامي الفعال بشؤون الساعة، سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وحتى أمنيا. وأن يكون على اطلاع كامل بما يدور في حركة الواقع العالمي من أحداث ومتغيرات، وما يستجد من أمور ومواقع جديدة. لأن ذلك يساعده كثيرا على فهم الأحداث، ويعطيه الحكمة المطلوبة في اتخاذ القرارات السليمة، وسلوك المواقف المناسبة.
ولذلك فإن الفقيه، حتى في داخل دائرته الفقهية، لا يستطيع أن يبتعد عن قضايا العصر، لأنه لابد له من مواجهة الأسئلة والإشكاليات الكثيرة التي تدور في الساحة العامة، والتي قد تكون مطروحة من قبل مقلديه والمؤمنين بنهجه وخطه في الولاية بالذات، حول القضايا السياسية، وحول الموقف من قضايا الانتخاب، والجهاد، والعلاقة مع الحكم الجائر، مما لا يمكن أن يجيب عليه هذا الفقيه من دون اطلاع ووعي ودراية كاملة بالواقع المعاش. ويضاف إلى ذلك أن طبيعة التزام الفقيه بالإسلام كله، على مستوى الطرح الروحي والمفاهيمي الذي يطل على جميع قضايا الحياة الراهنة الذاتية والموضوعية، يجعل الحاجة إلى وعي الفقيه بأحوال العصر ضرورية وماسة باعتبار القاعدة الموجودة عنده، وهي أنه «ما من واقعة إلا ولله فيها حكم»، الأمر الذي يفرض عليه الاهتمام بالجانب الواقعي في الفقه، المتصل بأوضاع الحياة المستجدة التي يواجهها مجتمعنا الإسلامي، وللملتزمين بالإسلام وفقهاء التقليد.. وعن هذا الموضوع الحيوي كتب آية الله السيد محمود الهاشمي (رئيس السلطة القضائية في إيران) يقول: «ومنها: فهم الثقافة والأمور الفكرية والحقوقية المعاصرة إلى حد ما. ففي اعتقادي أن هذا الموضوع له تأثير كبير في الاعلمية والاستنباط الأفضل في المسائل المستحدثة، أو المسائل القديمة التي تطرح على المجتمع في صور جديدة، ويبتلى بها المجتمع في شكل جديد، مثل مسائل البنك، ومسائل الاقتصاد الإسلامي، ومسائل القضاء في الإسلام، والكثير الكثير من المسائل الأخرى المهمة التي يواجهها الإنسان في المجتمع الذي يريد أن يطبق فقه الإسلام، وهذه المسائل الفقهية وإن لم تبلغ من حيث الكمية قدر المسائل الفرعية في الطهارة والصلاة وأمثالهما، ولكن عدم الإلمام بالمسائل اليومية، وآراء الخبراء في الموضوع، قد يلقي بظلاله على المفهوم في بعض الأحيان. إن عدم الإلمام قد يوجب الوهن الكبير في الاستنباط، واستظهار الفقيه في مثل تلك المسائل». ونحن عندما نتحدث عن خصائص الفقيه الحائز على مسؤولية الولي الفقيه، والمستلم لمهامها الإدارية المختلفة، فإنه حري بنا أن نتحدث أيضا عن دور الأمة في الحكومة الإسلامية من حيث هو دور ايجابي منتج لعلاقة وثيقة، ورابطة متينة بين الحكم والشعب، ولا يقتصر (هذا الدور) فقط على تقديم النصيحة للقيادة، أو القيام بواجب الرقابة على أفعالها.. بل يتعداه إلى ما يلي:
1ــ انتخاب الحاكم الإسلامي، في مواقع التنفيذ والاشراف، والكشف عنه من خلال التدقيق في مواصفاته الخاصة التي اشترطها الشارع المقدس في الحاكم أو تعيينه (وقد ذكرناها سابقا)، وهذا هو أهم دور تقوم به الأمة. ومن هنا يمكن أن نفهم أن علاقة الطاعة بين الأمة والحاكم إنما هي من خلال توفر هذه الشروط في الحاكم من ناحية، وهي علاقة واجبة وملزمة على الأمة عند توفرها من ناحية أخرى.
2ــ ممارسة الدور الرقابي على الحكم الإسلامي القائم، وبخاصة الدور المرتبط بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ هذا الدور الواجب الذي يصل إلى درجة «الواجب العبادي» عند بروز الانحراف عن قيم العدل والحق.
3ــ سلوك طريق مقاومة الحكم القائم عندما تصل به الأمور إلى مرحلة الانحراف عن الخط الإسلامي، وإعلان الجهاد ضده مهما كانت الشعارات التي يطرحها.
4ــ مناقشة الحاكم في طروحات الحكم والإدارة بما يضمن تحقيق مصلحة البلاد الإسلامية العليا، والدخول معه في حوار موضوعي، مباشر وغير مباشر، (عبر الهيئات والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية المختصة)، من أجل تقديم النصيحة والمشورة له من خلال المعرفة، وتراكم الخبرة والاختصاصات النوعية التي تملكها الأمة في مختلف المجالات والميادين، وكذلك المشاركة المثمرة في توجيه السلطة القائمة وتقويم اعوجاجها وتصحيحه من خلال اتباع طريق النقد البناء القائم على اعتبار الدولة (بجهازها التنفيذي على وجه الخصوص) خادمة للشعب، ومنفذة غاياته وطموحاته التي تتماشى أساسا مع الأهداف والمصالح الإسلامية العليا.
5 ــ تولي تشخيص الشؤون الحياتية ذات الطابع الخدمي في حياتهم العامة وإدارتها، مثل القضايا الصحية والتعليمية والخدمات العامة، وغيرها من الشؤون ذات العلاقة بتفاصيل حياة الناس معيشتهم.»
ثالثا: ولاية الفقيه.. والمشروع الاستنهاضي الإلهي
(ضمانة التحرير والانبعاث المتجدد)
على امتداد جبهة الصراع الحضاري الراهن بين نموذجين حضاريين مفترقين في المنطلقات التوجهات والأهداف، وحتى في الطروحات والمبادئ والمفاهيم النظرية والعملية، جاء الإمام الخميني إلى عمق الواقع الدولي رافعا راية مشروع الخلاص والإنقاذ من خلال طرحه لمشروع الحكومة الإسلامية الرشيدة ونظرية ولاية الفقيه، ومعلنا استئناف المسيرة الظافرة للأمة الإسلامية باتجاه تحقيق ذاتها وهويتها وشعاراتها ومبادئها السامية التي فارقتها مرغمة لمدة طويلة من الزمن.
وما كان للإمام (قده) أن ينجح في نهضته الحضارية لولا اهتمامه البالغ وحرصه الأكيد على إظهار القدرات والطاقات الحقيقية الكامنة في الذات الإسلامية الأصيلة، وإخراجها، بوعي وثقة وإيمان، من حيز القوة النظرية إلى ساحات الفعل العملي المتحرك، والعودة بها من جديد إلى تنظيم رؤية سياسية واجتماعية تستطيع، في نهاية القرن العشرين، أن تعود إلى المسرح السياسي والاجتماعي العالمي بعد أن أصاب اليأس الكثيرين الذين اعتقدوا أن الإسلام هو دين الماضي البعيد، وليس دين الحاضر والمستقبل.. أو أن الإسلام هو دين ينظم العبادات، ولا علاقة له بالشؤون الاجتماعية والسياسية.
من هنا يأتي اعتقادنا الجازم بأن اعتماد النهضة الإسلامية الخمينية كعنوان أساسي لتطبيق الحاكمية الإلهية قد فتح المجال، على أوسع نطاق، لاستثارة كفاءات الأمة وقدراتها جميعها وتحفيزها، ودفعها بقوة باتجاه المشاركة الإرادية الكثيفة والفعالة في نهضة الإسلام من جديد، وتحملها لمسؤولياتها التاريخية.
إذاً، ثمة علاقة جوهرية موجودة بين نظرية ولاية الفقيه وقيام حكومة إيران الإسلامية على أسسها ومرتكزاتها وبين استنهاض عموم قوى الأمة، تؤكد، من جانب، على مساهمة هذه النظرية بفعالية منقطعة النظير في إنجاز هذا النصر الحاسم لأمة الإسلام جميعها، ومن جانب آخر تؤكد على أن حضور الأمة في تقرير مصيرها بنفسها، وعودتها إلى ينابيع الإسلام الأصيلة هو الذي أضاف بعدا جديدا على ذلك النصر، وفرض معادلة إسلامية «جديدة قديمة» على الساحة، وهي: أنه بدون الأمة يغيب البعد الأساسي في القيادة وولاية الأمر.. إنه الشعب والجماهير الواسعة.
ضمن هذا السياق تأتي الولاية لتؤكد بشكل عملي على أنها ضمانة حقيقية لتحرير الأمة من قيود الاستبداد والتخلف والسكون الروحي والفكري، وإيقاظها من سباتها العميق الذي سيطر عليها فترة طويلة من الزمن، وتركيز طاقاتها الهائلة باتجاه الفعل الإبداعي والحضاري. وبالمقابل كان تحرر الأمة وتحملها لمسؤولياتها التاريخية ضمانة لتعزيز دور الولاية.
إذاً، ثمة معادلة متوازنة بين الأمة والولاية، بين تطور الأمة ونهضتها الإسلامية وبين ولاية الفقيه فيها. فالولاية والأمة ترتبطان الواحدة مع الأخرى، ولا انفكاك بينهما ما دامت الحاكمية الإلهية لا تعني وجود السلطان الجائر، أو الملك العضوض، أو الثيوقراطية، وادعاء الحق الإلهي المقدس، وما دام تحرك الأمة هو ليس تحرك شعب مسلوب الإرادة تلعب به الأهواء والمصالح ضد دينه ومصالحه وفطرته وحسه السليم. وطالما أننا نتحدث عن دور الأمة النوعي، وقدرتها اللامتناهية في سياق علاقتها الوثيقة بمشروع النهضة الإسلامي المرتكز على نظرية ولاية الفقيه، لا يمكننا أن نغفل عن بعض الكتابات الحركية التي انطلقت إلى ساحتنا مؤخرا، من بعض الإسلاميين ومن غيرهم، لتشكك بالأمة، وتوجه لها الاتهامات والإدانات، وتنعتها بأبشع الصفات (كالمروق، والجاهلية، والتخلف... الخ)، وقد أفضى هذا التشكيك والتجني المقصود إلى اهتزاز العلاقة بين القائلين به وبين الجماهير، ووصل الأمر تقريبا إلى حد انهيار حالة التواصل بينهما، وانكفاء هذه الجماهير عن ساحة العمل لتتقوقع داخل همومها ومشاغلها الذاتية.
لكننا عندما نعود إلى الخطاب الإسلامي عند الإمام الخميني الذي انطلق فيه من خلال ولاية الفقيه، نجده يعيد الثقة وحالة التواصل التي كانت مفقودة مع الجماهير من خلال إيمانه العميق بدور الإنسان الأساسي في إحداث عملية التغيير الاجتماعي.
والواضح أن الإمام قد نجح، من خلال انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران، ليس فقط في إعادة مد جسور التواصل الواعي والعقلاني مع الأمة، من خلال فتح المجال أمام جماهير الأمة لتعبر عن تكوينها التاريخي، ومشاعرها الإسلامية، ومركبها الحضاري الخاص الذي تشكل في اطار نسقها الحضاري، وتجاربها، وخبراتها النفسية والفكرية المختلفة المتراكمة عبر تاريخ طويل من السلم والحرب، والتقدم والتأخر، واليسر والعسر... ولكنه نجح أيضا نجاحا باهرا في إطلاق فاعلية هذه القدرة النوعية الكامنة، والاستفادة القصوى من زخمها القوي من أجل تحقيق النهوض الإسلامي المعاصر وإنجازه في إقامة أول دولة إسلامية حديثة على قاعدة ولاية الفقيه التي استطاع فيها علماء الدين أن يحققوا للأمة، من خلال تفاعلهم العميق مع الجماهير في أمانيها وأهدافها الطموحة، الاستقلال، وفك الارتباط بالخارج، وكسر حلقات الاستلاب والتبعية لهذا المحور أو ذاك، وتعزيزهم لذلك الودّ بينهم وبين الأمة.
وبهذا المعنى العميق لطبيعة العلاقة الرائدة التي يجب أن تقوم بين الأمة وقياداتها العلمائية الجماهيرية يقدم الإمام الخميني النموذج العقلاني الواعي لطبيعة العلاقة التي يجب أن يقيمها العلماء والمفكرون الإسلاميون مع جماهير الأمة، وهي علاقة يجب ألا تكون فوقية أو استعلائية تشكك بقوى الأمة، وتوجه لها سهام النقد الجارح غير الموضوعي، لتثبط عزيمتها عن العمل والإنتاج.. ولكنها علاقة تكاملية لابد من أن تتوغل عميقا لتتأمل التكوين النفسي والنسيج التاريخي للأمة لتستفيد منها وتستثمرها على صعيد تحقيق أهدافها ومبادئها العالية، لأن هذا الأمر وحده هو الذي يمكن الأمة، التي تمتلك قدرة لا متناهية، من الانتصار.
ولا ننسى هنا، ونحن نحلل أبعاد العلاقة وعناصرها بين ولاية الفقيه وبين استنهاض الأمة وتحررها، ونظهرها، أن نبحث في الطرح الفكري الإسلامي الأصيل للإمام الخميني (قده) الذي ربط، إلى جانب ولاية الفقيه، وعدها ضمانة التحرر وتحقيق الاستقلال والنهوض، بين الوحدة والنهضة، لتكون العلاقة بين العناصر الثلاثة (الولاية، النهضة، الوحدة) مترابطة ومتكاملة على مستوى النظرية والتطبيق. والواضح أن التجربة العملية لتلك العلاقة قد نجحت بنسبة كبيرة جدا، في اثبات صحة مقولاتها النظرية، واستطاعت خلال العقدين الماضيين أن تستنهض الأمة، وأن تصنع ثورة، وتكون دولة ومجتمعا، وتبني صرحا حضاريا وعزا ومجدا في إيران... فكيف ولماذا حصل هذا الانتصار؟! وما هو المضمون الحقيقي للعلاقة بين الولاية والنهضة والوحدة؟!..
لقد ركز النص الوحدوي الخميني، في سياق وعيه لإشكاليات المشروع النهضوي الإسلامي وهمومه، على أن هناك مشاكل أساسية لم تأخذ بعد موقعها الصحيح المميز في الوعي الإسلامي المعاصر، تقف أمام مسيرة الحركة الوحدوية والنهضوية الإسلامية، وتتجلى في النقاط التالية:
1ــ انطفاء الطاقة الروحية الكامنة في الذات الإسلامية وركودها.
2ــ تمركز عقدة الخوف المصطنع (من الآخر) في نفوس المسلمين.
3ــ التبعية والاستلاب وفقدان الشعور العملي الملتهب بالهوية الروحية والثقافية.
لقد أدت تلك العوائق مجتمعة إلى إصابة المسلمين بعقدة الإحساس بالحقارة والدونية بين أمم العالم، الأمر الذي أفضى لاحقا إلى تكبيل إرادتهم، وشلهم عن الحركة والعطاء، وبالتالي انكفاء الأمة عن الإنتاج والإبداع، بل وحتى عن مجرد التأمل والتفكير بتغيير الأوضاع المتردية القائمة، لأن بناء الإنسان معنويا، وتقوية إرادته ووعيه الذاتي بالإسلام، وشعوره العميق بهويته المفقودة، مع وجود مشروع هادف ومتكامل البنى والعناصر والإمكانات، هو الذي يشكل القاعدة الصلبة، والمرتكز التكويني الحقيقي، كما ذكرنا سابقا، لإطلاق القدرات الكامنة للإنسان المسلم وإثارتها، وتركيز طاقاته باتجاه الفعل الخارجي المبدع، بعد تحريره من قيود الخوف الوهمي المصطنع والمضخم في الدوائر الظالمة (محليا وعالميا).. وهذا ما يؤكد عليه إمامنا الخميني (رض) في نصوص كثيرة تفيض بمعاني النهضة الواعية، وتكشف النقاب عن أهمية الطاقة الروحية الإنسانية ودورها في مواجهة تعقيدات الواقع، وأزمات الحياة الإسلامية الراهنة.. يقول (قده): «إن من أعظم الخيانات أن يجعلوا طاقتنا الإنسانية متخلفة، ويحولوا دون إصلاحها ونموها». وهذه هي مهمة الإسلام الأساسية في أنه «يربي الإنسان ليكون إنسانا في جميع الحالات»، لأن بناء الإنسان الصالح والواعي من الداخل هو الركيزة الحقيقية لبناء العالم الخارجي.. «يمكن لإنسان صالح واحد أن يربي عالما بأكمله، ويمكن أن يجر إنسان فاسد طالح العالم إلى الفساد».
والواضح أن اكتمال الإنسان السليم لا يتم إلا بالقضاء التام على الشعور المرضي بالخوف من الآخر. هذا الخوف الذي لا يزال يتحكم بنفسية الإنسان المسلم ويسيطر عليها. ونحن نعتقد، في هذا الإطار، أن بعض الأنظمة السياسية القائمة التي توزعت في منطقتنا اثر خريطة سايكس بيكو، ومعاهدات الاستقلال، تساهم مساهمة فاعلة في ممارسة النهج النفسي الضاغط ذاته الذي مارسه الاستعمار قبلها، وأراد من خلاله تحطيم نفسيات الشعوب المستضعفة، وقتل إرادة النهوض والاستقلال والحرية لديها عبر ممارسة أساليب القمع والكبت والقهر، واتباع سياسة كم الأفواه، وكتم الأنفاس، وملاحقة الصلحاء والمعارضين، وانتهاك كرامات الناس بطريقة منهجية وقانونية منظمة.
من هنا جاء تركيز الإمام الخميني في نهضته الوحدوية الرائدة على تحرير الإنسان، وتطهير الشعور من هواجس الخوف، وتأكيده على ضرورة أن تتجه جهود المخلصين في أي بلد صوب الشعوب وعموم الناس لتهديم مرتكزات الهيبة الزائفة للقوى السلطوية الظالمة المحلية والعالمية، وإعادة الثقة بالذات الإسلامية... يقول الإمام الخميني (قده): «عليكم أن توقظوا أبناء الأمة التي ركزوا في ذهنها خلال سنوات متطاولة عدم إمكان معارضة أمريكا أو الاتحاد السوفيتي (السابق)، ولازالت هذه الدعاية راسخة في الأذهان.. عليكم أن تفهموا الجماهير أن هذا الأمر ممكن، وخير دليل على ذلك ما وقع في إيران».
والأمر لا يقف عند حد الخوف من الآخر، بل يتكرس بشكل أكبر وأوسع من خلال عقدة الانبهار الأعمى بجميع ما هو أجنبي أو بالتحديد «غربي»، والاستهانة، إلى درجة الاستهزاء المستفز، بجميع ما هو شرقي وعربي أو بالتحديد «إسلامي». وقد تأطرت هذه العقدة في الواقع الإسلامي المعاصر من خلال تأثيراتها السلبية على الوعي، وفي السلوك الاجتماعي والسياسي العربي والإسلامي أيضا، حيث أدت إلى إيجاد فصل حاد وخطير بين القدرة والطاقة التي توافرت عند المسلمين، وبين واقعهم المنقسم والمفكك من خلال قعود المسلمين أنفسهم عن العمل، وانتظارهم السلبي لكل شيء من عالم الغرب، كما وأشاعت (تلك العقدة) بعض المفاهيم الاستلابية التي عطلت ممكنات الحركة، وعمقت الإحساس الجامد بالأمر الواقع الراهن الذي انغرست فيه، بقوة، الأنظمة السياسية التغريبية بمختلف اتجاهاتها، وتياراتها، ومرجعياتها الفكرية التي أوصلت مسيرة الأمة إلى الغايات والأهداف نفسها التي رغبت بتحقيقها الإدارات السياسية الغربية في واقعنا الإسلامي. وهنا يعبر الإمام الخميني عن هذه العقدة، ويتابع آثارها النفسية والسلوكية، في نصوص كثيرة نختار منها النص التالي: «نسي المسلمون الشرقيون مفاخرهم كلها ودفنوها.. نسبوا كل شيء إلى الغرب.. نقلوا الينا كل موضوع من الغرب..
لقد نسينا أنفسنا حقا وجلسنا مخلوقا غريبا في مكاننا!». ونقرأ في نص آخر للإمام الراحل رؤيته الموضوعية الخاصة بتجاوز تلك العقدة، وتحرير المسلم من نتائجها وتراكماتها التاريخية السلبية التي لا تزال تتكدس بعضها فوق بعض حتى الآن، وذلك من خلال:
ا ــ تحقيق الانتماء الرسالي الفعال إلى الدائرة الإسلامية (العودة إلى الذات الأصلية).
ب ــ التمرد على الضغوطات الغربية، ووجوب مواجهتها ومقارعتها (بحسب الواقع والإمكانات).
ج ــ تحقيق الحسم السياسي والاجتماعي الداخلي (تغيير أنظمة التبعية والتغريب والاستلاب).
د ــ البدء الفوري بإجراءات إحلال النظام الإسلامي كبديل للأنظمة القائمة.
يقول (رض): «يتوجب على الأشخاص الموجودين في البلاد الإسلامية، من أولئك المعتقدين بالإسلام الذين تنبض قلوبهم من أجل شعوبهم، ويريدون خدمة الإسلام، يجب أن ينهض كل واحد منهم ببعث شعبه من الداخل لكي تعثر شعوبهم على ذاتها التي افتقدتها، ذلك أن الشعوب التي فقدت ذواتها فقدت في الحقيقة بلادها».
ويبدو أن تحقيق الاستقلال الروحي والفكري، بوصفه شرطا أوليا مسبقا لتحقيق الاستقلال السياسي والتنموي والحضاري من خلال العودة إلى الذات، ووعي طبيعة متغيرات الحياة وتحولات الواقع الداخلي الذاتي والموضوعي، يشكل عند إمامنا الراحل(قده) المعادل النفسي البديل الذي يقضي على المحتوى النفسي للعقدة، ويجهز عليها، ليحل محله الاعتزاز بالانتماء والهوية مكان الاعتزاز بالغرب والشوق إليه وإلى حمل. على أننا نلاحظ، في هذا المجال، أن وعي الأمة هويته لذاتها وحضارتها لا تقوم، في أطروحة الإمام (قده)، على بدائل مفتوحة على نهايات غير محسومة لا عد لها ولا حصر، وإنما شرط الاستعادة هو أن تتم بالإسلام المحمدي الأصيل (ولاية الفقيه) الذي يعتبره إمامنا النظام العقلاني الموضوعي البديل عن أنظمة القهر والظلم والتبعية التي ساهمت، بحكم تبعيتها واستلابها وتماهيها مع الذات الاستعمارية الغربية، في زيادة حالة الفشل والإفلاس لمشاريعها السياسية والتنموية، وذوبان الهوية، وترسيخ الأنماط التبعية للمركز والمحور الغربي، الأمر الذي جعل هذه الظواهر وغيرها، مجتمعة، تساهم في تعميق إحساس الشعوب الإسلامية المستضعفة بالعجز عن التغيير المنشود، مادام شعورها ملتهبا بضرورة الالتحاق والذوبان الكامل بالغرب كمشروع إنقاذي وحيد.
وبالنظر إلى ذلك استطاع الإمام الخميني (رض) تحقيق نهضة إسلامية راشدة وناضجة، أكسبت الإسلام المعاصر قوة محركة ودافعة باتجاه تجسيد قيم الرسالة الإسلامية ومبادئها على أرض الواقع المعاش، في محاولة جادة ومسؤولة لإعادة الحياة، وبث الروح في طروحاته الرسالية التي كاد الزمن يضعها طيّ الكتمان والنسيان. كما وأثبت، في الوقت نفسه، أن الفكر الاجتماعي الإسلامي قادر، بل هو المؤهل حصرا، على قيادة السفينة إلى بر الأمان، لأنه يمتلك، كما أكدنا سابقا، ديناميات الحركة والتحول الذاتي الخاص بالدوافع الروحية والعملية لمشاعر جميع العرب والمسلمين وإراداتهم على طريق التحرير والتنمية والتحديث.
لكن هذا الإسلام العظيم الذي يزودنا بكل هذه التجربة والمرجعية التاريخية الفنية، ويمتلك تلك القوى والديناميات المحركة للفعل والإبداع الحضاري، لازال في بداية حركته حتى بعد أن تشكلت له قاعدة استراتيجية غنية في إيران اليوم، وهو يواجه حاليا تحديات كبرى داخلية وخارجية، ولذلك فإذا لم نعمل على تحويله، بهدوء وحكمة، إلى مشروع عام لجميع الناس فإنه سيبقى عاجزا ومحدودا في آفاق ضيقة، يلجأ إلى اتباع سلوكية التبرير والتسويغ التي لا يمكن أن تبني له قوة جديدة في عالمنا المعاصر، الأمر الذي سيفقده تدريجيا مقدرته الحقيقية على طرح نفسه بوصفه مشروعا تغييريا وإنسانيا عالميا لجميع الدوائر الحضارية الإنسانية.
من هنا كان لزوما علينا أن نوثق الصلة أكثر، كما نؤكد دائما، بين الاجتماع الديني والسياسي، ليكون الدين مسؤولا مسؤولية مباشرة عن حياة جميع الناس وهمومهم (صغيرة كانت أم كبيرة). وهذا الأمر لن يجد له طريقا في مسارات الواقع المختلفة إذا لم نبتعد عن اعتبار الدين مجرد أمور روحية طقوسية بعيدة عن قيم الشرع ومبادئ الإسلام، وحاكميته الإلهية في ضرورة احتواء الديني للاجتماع والسياسة.. احتواء الوعي والحكمة والتوازن. وهذا الأمر، في تصوري، ضروري وحيوي جدا للنهوض بواقع الإسلام والمسلمين اليوم، لأنه يستجيب للعلاقة العضوية الكائنة بين الدين والتاريخ والشريعة من ناحية، وبين الزمان والمكان من ناحية ثانية، بما يؤدي طبيعيا، كما يقول بعض المثقفين، إلى «دينية الحكم وفقهنة السلطة »، وبالتالي نفي أية امكانية عقلية أو شرعية لسلطة مدنية خارجة عن المحتوى الديني الشرعي، اللهم إلا إذا خرجنا عن منظومة المفاهيم والتصورات الحضارية الإسلامية إلى منظومات فكرية أخرى ترجع إلى أنسقة حضارية ومعرفية مغايرة للأولى.
من هنا يبدو لنا أن تركيز الإمام الخميني (قده) على المكانة العالية للحكومة الإلهية والولاية المطلقة، يفضي بالضرورة إلى إبراز الدور المنوط، أساسا، بالسلطة الدينية. وهذه العلاقة العضوية تجعل من غير الممكن أن يتشكل اجتماع سياسي شيعي من دون دور أساسي وحقيقي للولي الفقيه الذي يقف على رأس السلطة، والذي يعد شرط الاستقرار البناء ولهيكل السياسي الإسلامي الشيعي، إضافة إلى كونه شرطا أساسيا لتوازن الدور المجتمعي للإسلام المحمدي الأصيل. ولا شك بأن الطريق نحو تحقيق تلك الأهداف ليست سهلة لأن الزمن يمر بسرعة، ونحن لا نزال نقف، بالرغم من تحقيق بعض الإنجازات الإسلامية الطموحة، في المواقع المتأخرة، ونعيش حالة من السكون والاسترخاء والكسل في عالم متحرك يضج بالأصوات النافرة والناشزة، حيث لا مكان فيه إلا للإنسان (أو المجتمع أو الأمة) الذي يتحرك، ويقدم، ويضحي. لقد أدخلت تحولات الحياة الصاخبة التي نعيشها حاليا كثيرا من الأنماط والمفردات الجديدة، كميا ونوعيا، على مفاهيم الحياة القديمة ومبادئها، واستبدلتها بمفاهيم عمل وأنظمة وقيم جديدة بين الناس والأمم. والأهم من ذلك كله هو أنه قد حدث خرق كبير وعميق، غير مدروس، في نوعية القيم والثقافات والمبادئ التي كانت حاكمة، ومازال بعضها الآخر حاكما. وهذا ما يتطلب منا نحن المسلمين، بطبيعة الحال، أن نكون على قدر التحدي والاستجابة المتأنية والواعية لجميع هموم العصر واشكالياته وتحدياته، على مستوى مقابلة تلك التحديات بمفاهيم وقيم إسلامية أصيلة قادرة على إثبات جدارتها في ساحة الحياة. لقد بدأ الإمام الخميني (رض) المسيرة، وعلينا نحن أن نستكملها بالسير على الطريق بحذر وهدوء وثبات، ولاشك بأن هناك كثيرا من العواصف والرياح العاتية التي ستكون بانتظارنا هنا وهناك. لذلك فالمطلوب هو النزول إلى أرض الواقع، والبدء بإجراءات العمل الجدي على جميع المستويات والأصعدة. لأن من يعمل بإخلاص وصدق ومسؤولية عالية أمام الله تعالى، وأمام الأجيال الطالعة سيصل، بالرغم من وجود تلك العقبات العظيمة، إلى مبتغاه في نهاية المطاف.
إذاً.. المهم أن ننطلق بالعمل من الآن.. فهل نبدأ بالسير على تلك الطريق.. أم ننتظر؟!..
{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
تعليقات الزوار