وفي أسرهم مجاهدون
الشيخ أكرم ذياب
لقد أسس الإسلام في مختلف أنحاء الحياة الإنسانية للارتقاء وتحقيق السعادة الدنيوية والأخروية، وبرزت في تعاليمه الغاية الأسمى وهي لقاء الله... وانطلاقاً من ذلك التأسيس برز دور المجاهد في سبيل الله الذي يمثل النموذج الأبرز في تحقيق هذه الغاية والوصول إلى الله.
فالمجاهد العاشق للقاء الله تعالى يرقى عبر أقصر الطرق وأرفعها درجة، لا يرقى إليها أي عمل إنساني، من خلال التضحية والإيثار والفداء والتخلي عن ملذّات الدنيا. حتى غدا ما يُقدِّمه هو أقصى ما يملكه الإنسان في مستويات البِرّ والإحسان وهو الروح الإنسانية كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "فوق كلّ ذي بِرٍّ بِرّ، حتى يُقتل المرء في سبيل الله فليس فوقه برّ"1.
* أبعاد الشخصية الجهادية
إنّ هذه الإضافة (في سبيل الله) التي برزت عند ذكر الجهاد والمجاهدين أنتجت فهماً تجاوز معنى القتال إلى أبعادٍ تتجلى فيها الصفات الإنسانية المتصلة بالإرادة الإلهية، فكان المجاهد في سبيل الله إنساناً مرتبطاً بأبعاد ثلاثة:
1- الارتباط بالباري (جل وعلا) الذي يمثل الغاية الأسمى وطلب لقائه.
2- البعد الفردي المتصل في صياغة الشخصية الإيمانية الجهادية.
3- البعد الإنساني المرتبط بالتفاعل مع المحيط الاجتماعي: الأهل، والأقرباء، والأصدقاء والجيران... وكل من ارتبط بهم بنسيج اجتماعي.
ولا شك أن البعد الثالث يُعتبر بعداً رئيساً من أبعاد الشخصيّة الجهاديّة نظراً للتأثير الذي يتركه على المجتمع لجهة الجذْب والدفع، ولأجل ذلك استطاعت القوّة الجاذبة في الإمام الحسين عليه السلام أن تحفظ هذا الدين انطلاقاً من الأبعاد العظيمة التي تمثّلها هذه الشخصيّة الفريدة من نوعها في التّاريخ من خلال نسجها الاجتماعي التّفاعلي مع مَنْ حولها لتُقدّم أعظم صور التضحية والفداء والإيثار الملازم للهداية والرّحمة والعبادة والخضوع لله ومحبّة عباد الله... وهذا هو معنى الارتباط بالله.
* روح المجاهد
المجاهد في سبيل الله يسلك طريق القتال والمواجهة انطلاقاً من رفض الظلم والاستبداد، ومن خلال الثورة على المفاهيم المخالفة للإرادة الإلهية والعمل على تثبيت المفاهيم والقيم التي تجسد الخط الإلهي الذي رسمه الأنبياء والأئمة عليهم السلام في طريق جهادهم الطويل والشاق.
فالمجاهد ليس قاتلاً لا يفهم إلا لغة العنف ولغة الدم، وإنما المجاهد روح إنسانية ارتبطت روحه، حتى في أصعب لحظات المواجهة والقتال، بالرّحمة وحبّ عباد الله.
والمجاهد تتوسّل روحه الثوريّة الرّفض للظلم وتطلب إقامة دولة العدل الإنساني.
فلا جهاد (في سبيل الله) مع الظّلم، والخيانة، وكذب الحديث وسوء الأمانة، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "لا تنظروا إلى كثرة صلاتهم وصومهم، وكثرة الحجّ والمعروف، وطنطنتهم بالليل، ولكن انظروا إلى صدق الحديث وأداء الأمانة"2. وهذا الإمام الصادق عليه السلام يخبرنا عن حال جدّه أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: "انظر ما بلغ به عليّ عليه السلام عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فالزمه؛ فإنَّ عليّاً عليه السلام إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بصدق الحديث وأداء الأمانة"3.
* البعد الإنساني
إن المجاهد في سبيل الله ثائر على ذاته، داعٍ إلى الله بجهاده ومسلكه قبل أن يدعو إليه بالكلمة والسيف. فعن إمامنا الصادق عليه السلام أنّه قال: "كونوا دعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع"4.
ولأجل ذلك نعلم أن المجاهد في سبيل الله ليس محارباً يقطع الطريق على الناس ويقتل الأبرياء ويشهر سلاحه لإخافتهم وترويعهم لأنّ ذلك إفساد في الأرض، وبحسب تعريف المحقق الحلي رحمه الله: "المحارب كل من جرّد السلاح لإخافة الناس، في برّ أو بحر، ليلاً كان أو نهاراً، في مِصر وغيره"5. وعلّق عليه بعض الفقهاء بقولهم: "ولو واحد لواحد على وجه يتحقق به صدق إرادة الفساد في الأرض". وهذا الفعل مصداق لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (المائدة: 33).
المجاهد في سبيل الله ينطلق في أفعاله من الإيمان بالله وبرسوله وما جاءت به الشرائع السماوية ويتصرف وفق المصالح الإلهية بعيداً عن المصالح والمكتسبات الشخصية، قال تعالى في سورة آل عمران: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ (آل عمران: 173 ـ 174).
* الأسرة في حياة المجاهد
أما الأسرة فهي أحد الأجزاء العضوية في حياة المجاهد، وتشكل العنصر الأساس من عناصر التفاعل الإنساني في حركته الجهادية، الأب والأم والأبناء يتفاعلون كل بحسب دوره وما أعدّ له في التشريع الإلهي.
فالأم التي استطاعت أن تترجم جهادها بحسن التبعل وتمكّنت بحسن تدبيرها لمنزلها وحياطة أولادها ورعايتهم وتحملها عناء غياب زوجها المتكرر تحمل المسؤوليات غير المباشرة، تشكل حلقة عظيمة من حلقات الجهاد نظراً لانعكاسها على حياة المجاهد في تأمين الأمان الأُسَري، ما يُساعد المجاهد في أداء مهامه الجهادية بعيداً عن القلق والاضطراب العاطفي.
والأبناء الذين سلكوا طريق الاستقامة والبرّ بالوالدين ونبذوا طريق الانحراف كانوا عوناً وسنداً لوالدتهم في ظل غياب والدهم المجاهد في سبيل الله، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: "أربع من سعادة المرء أن تكون زوجته صالحة وأولاده أبراراً وخلطاؤه صالحين وأن يكون رزقه في بلده"6.
ولكن يأتي الدور الأبرز للمجاهد في سبيل الله في الالتفات والحذر لتكون المواجهة التي يخوضها ضد الظلم في الخارج مقترنة بالتربية الحسنة وحسن المعاملة داخل المنزل وتأمين لوازم الحياة الاجتماعية المفروضة على كل رب أسرة.
* المسؤوليات الملقاة على عاتق المجاهد
وهنا نشير إلى أن ما جاءت به الروايات في عموم الحديث عن الأسرة ووظائف كل من الآباء والأمهات والأبناء يشمل المجاهد وأسرته ولا يختلف أمره عن أمرهم، إلا أن المسؤوليات الملقاة على عاتق المجاهد وأسرته تتسع للظروف الصعبة التي يُعانيها خصوصاً لجهة غيابه عن منزله لفترات معتد بها. وهنا، تقع المهمة الكبرى على عاتق المجاهد الصالح المربي من خلال التحلّي في الدرجة الأولى بالقدرة على ترميم ما أحدثه الغياب القصري عن المنزل وذلك من خلال ما يلي:
1- إعطاء الوقت اللازم للعائلة لتأمين احتياجاتها المنزلية المختلفة وتأمين سبُل العيش خلال فترة وجوده معها.
2- مشاركة الزوجة في جزء من المسؤوليات والتي كانت على عاتقها طيلة فترة غياب الزوج أثناء أدائه لمهامه الجهادية.
3- التعرّف إلى كافة أنشطة الأبناء والاطلاع منهم على أحوالهم التفصيلية ومساعدتهم في تجاوز الصعاب والمشاكل.
4- التعويض العاطفي عن الغياب واحتضانهم وتأمين الإحساس بالأمان لهم ليبقى ملازماً لهم حتى في لحظات الغياب.
5- اعتبار الأسرة أولوية في تعاطيه ومعاملاته أثناء إجازته المقتضبة، والتخلي عن كل ما من شأنه الابتعاد عن الوظيفة التربوية الأساس.
6- التنبه لخطر الإفساد والانحراف الذي قد تتعرض له الأسرة ومعالجته من خلال التوجيه الديني في التنبيه للواجبات وترك المحرمات.
7- مشاركة الأسرة في الأنشطة والمراسم العامة خصوصاً في المساجد والمناسبات الدينية.
والروايات التي أشارت إلى كل هذه الوظائف هي كثيرة ولا مجال لذكرها في هذه المقالة.
نسأل الله تعالى التوفيق والنصر لمجاهدينا الأبرار.
1. وسائل الشيعة(آل البيت)، الحر العاملي، ج15، ص 17.
2. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج68، ص9.
3. الكافي، الكليني، ج2، ص104.
4. الوافي، الفيض الكاشاني، ج4، ص327.
5. شرائع الإسلام، المحقق الحلي، ج4، ص958.
6. كنز العمال، المتقي الهندي، ج11، ص93.
المصدر: مجلة بقية الله
تعليقات الزوار